
بيت الأمساخ
رواية
2015
اقتباسات من الكتاب
طفل من السماء
من السماء نــزل ضيف على هذه القرية قبل ربع قرن !
روح من السماء؟!
في بيت الحاج سعد الدين مولود؛ فالجيران سمعوا صراخه. وإن لم يكن من السماء فمن أين؟ زوجة الحاج توفاها الله من زمان دون أن تنجب ؛ حتى لو لم تمت لكانا زوجين عجوزين، إلا أن يقول الله شيئاً آخر .
أكثر من جار حلف، مع تحفُّظٍ يقيه نار جهنم إن كذب، أنه سمع في الليل أصواتاً غريبة لا تُسمَع إلا في المناسبات الخطيرة. وبعضهم تذكّر أنه رأى بين اليقظة والمنام عموداً من النور يتوجه من السماء فيستقر في دار الحاج. و بعضهم تذكر أصواتاً في نومه عزاها إلى الشيطان ولكنه الآن اكتشف أمرها. كلهم رأوا أو سمعوا ما لا يدرون كيف يصفونه؛ شيء ليس مثل بقية الأشياء، شيء نوراني، سماوي؛ اللهم إنك على كل شيء قدير !
وانتشرت البشرى في الفجر. واتسعت الحكاية: شوهد الطفل ينــزل من منارة الجامع محفوفاً كالشهداء والأولياء ببياض ناصع. وسُمعت أصوات من جهة الغابة ولكنها غيرُ الأصوات المخيفة التي تُسمع عادة. ونــزل مع الطفل خدمٌ يحملون طعامه وقماطه...
والحاج من جهته لم يُخْفِ ما نــزل به: طفل ملائكي يشع النور منه. غير أنه لم يفصِّل أكثر من هذا، ولم يسأله أحد عن تفصيلات الموضوع. إلا أنّ الجيران بخاصة، وأهل القرية بعامة، عرضوا كل خدمة ممكنة على الحاج الذي اكتفى بشكرهم: } أعطى كل شيء خَلْقَه ثم هدى {
...
وعلى هذا المكان نــزل قبل زهاء تسعين عاماً فوج من المهاجرين رماهم الله من أرضٍ بعيدة غريبة، أرضٍ باردة دائمةِ المطر والثلج. ولأنها كثيرة الماء والخير والشجر، كانت قليلة الحظ. كان شعباً صغيراً لا حول له أمام الذئاب والتماسيح التي تتربص به كطفلٍ يدخل السوق وجيوبه ملأى بالنقود فيخدعه بعضهم ويسطو عليه آخرون، غير أنهم في النهاية يسلبونه ما معه. هذا الشعب البائس على بسالته، الذي قاوم الغزاة مئات السنين فأبيد أكثره، وغرق أكثر الباقين في البحر، ومات أكثر الباقين من الجوع والمرض رغم اطمئنانهم أن الله لا يقطع أحداً، كان نصيبه أن يُهجَّر إلى جوار شعب ليس أسعد حظاً، شعبٍ آخر لعبت بمصيره أهواء الدول العظمى فتقاسمت أرضه وقررت بالوكالة القسرية عنه مصيره. وكان نصيبه أن يهجَّر إلى أرضٍ تعاقب عليها فاتحون متنوعون. ولم ترتح فيها أي مجموعة عرقية حتى غدت في النهاية مراعي تتنازعها القبائل المجاورة.
أخرِجوا من ديارهم: وراءهم قوة مدمرة لا تقبل بأقل من الأرض الخالية، وأمامهم صديق خبيث يعدهم بأرض العسل واللبن، ويحذرهم من الإقامة في دار الكفر مادامت أرض الله واسعة؛ ألم تكن الهجرة شبه ركن من أركان الإسلام؟ ! وفد المهاجرون إلى هذه القرية وذهب غيرهم إلى قرى أخرى ومع كل أسرة كيس من الذرة الصفراء تقتات به إلى الموسم القادم، وقلة منهم جلبوا معهم بعض ما ينفعهم وقت الشدة، وأقلُّ من القلة أنقذ من اللصوص وقطاع الطرق القليلَ الذي معه.
كانت الأقباء المتوزعة على أنحاء القرية صدمة كبيرة لهم لأنه لا مأوى آخر لهم على الأقل في الوقت الحاضر حتى يفرجها الله، اعتصر قلوبَهم،وهم يرونها من بعيد فاغرةَ الأفواه كالعالمِ السفلي، عالمِ الأموات في أساطير اليونان، إحساسٌ غامض بالقلق، بالنحس. لا بد أن مخلوقات أخرى سكنت هذه الكهوف في غياب الإنس، وهل هناك ما هو أنسب لها من هذه الأماكن المهجورة مئات السنين. تفقَّد رجال المهاجرين الأقباء معاً للمرة الأولى. وهم يشعرون برهبة بل بخوف لم يجرؤ أحد على الإفصاح عنه. توقفوا على مداخلها، كانوا يقرؤون جميعهم الآيات القليلة التي يحفظونها ولا تنقطع أفواههم عن البسملة. ومع ذلك جرت الأمور طبيعية في كل الأقباء إلا قبواً واحداً.
كانت شبكةُ عناكب ضخمةٌ منسوجةً بإحكام على الباب، وفي وسطها عنكبوت ضخم أفزع الجميع وأجبرهم على التراجع. لم يكن من الصعب على عدة رجال أن يقتلوا عنكبوتاً ولكن أحداً لم يجرؤ. نظر بعضهم من خلال الشبكة إلى الداخل: صخرةٌ منتصبة تسد المدخل بعد الشبكة، لم يلحظ أحد في البداية أنها مختلفة عن سواها من آلاف الصخور المتناثرة في البرية،غير أن الغريب وجودها هنا على مدخل قبو كان يؤوي بشراً أو مواشي. لجم خوف غير غامض أقدام الرجال، ولم يقدر أحد أن يكظم خوفه. هتف لهم هاتف أن ابتعدوا. فتوقفوا رافعين نبرة الدعاء والآيات التي على الشفاه.
خفف الخوفَ من هذه الأقباء أن كل بضع أسرٍ اضطرّت في البداية أن تسكن معاً في قبو واحد بانتظار أن تنفرج أحوالهم ويستقل بعضهم عن بعض. كانت أقباء بلا نوافذ تقريباً، مظلمة ليلاً ونهاراً. لا يعرف المرء، وخصوصاً بعد قرون من الهجر، ماذا يتربص له فيها ولا سيما في الليل. دَعْكَ من أمطار الشتاء التي تدخل إليها من أكثر من مكان؛ باختصار: حتى أضرى الوحوش وأضرى الجن ما كان ليجرؤ على أن ينام فيها ليلة.
ماذا كانوا يفترشون في لياليهم، بل في شهورهم الأولى وماذا كان يغطيهم؟ كيف ناموا وسط هذه المخلوقات الغريبة على الأرض القذرة بروث البهائم التي كانت تلجأ إليها، على الأرض التي تركت هذه المخلوقات عليها آثارها. وكيف عقدوا هدنة معها؟ بالصلوات والأدعية والتسبيح؟ بالاستعاذة والبسملة،والهلهلة، والسبحلة؟ بشجاعة خارقة جعلتهم يدفعون ثمنها غالياً من أرواحهم، بروح جماعية تجعل المرء يموت مطمئناً؟
الحاج سعد الدين واحد من الأطفال الذين جاؤوا من بلاد الروملي إحدى مقاطعات بلغاريا. يكاد يذكر تلك البلاد التي كانوا يصفونها بأنها، بعد القفقاس، أرضُ العسل واللبن. يذكر طرفاً من العزّ الذي عاشوا فيه بضع عشرة سنة يحميهم الأتراك ويحمونهم في نفس الوقت. أرض غنية بكل شيء: بالماء، بالشجر، بالغابات، بالزرع. وأهلها كانوا تحت تصرفهم وتصرف الترك، ولكن المؤامرات والتواطؤات الدولية قذفتهم في هجرة ثانية، فوجدوا أنفسهم مرة أخرى يضعهم العثمانيون في مواجهة قوم آخرين، في بلاد أخرى تماماً لا يربطها ببلادهم الأصلية وبالروملي إلا الإسلامُ الجديد عليهم، وبردُ الشتاء والقليلُ من الغابات، والكثيرُ من عدم الارتياح الذي أبداه نحوهم جيرانهم. ولما لم يكن عندهم أوّلَ استقرارهم هنا إلا كيس ذرة لن تكون كسلال النبي عيسى وجدوا أنفسهم في مواجهة عدو ليس جديداً جداً: الجوع.
شكوا ربهم وإلى ربهم: الغربةُ، والطردُ من مكان إلى مكان، وآلاف الضحايا على الطرق وآلاف الأسر التي تشتتت في أوقات الخطر. ثم إذا بنا نجد أنفسنا جائعين ولا أحد يسمعنا! ماذا كان ذنبنا؟ هل قتلنا مؤمناً أم... ثم يتذكرون ﴿ وكم من قرية... ﴾ فيتوبون إلى الله باكين. ولكن ما العمل، وكيف إقناع الأطفال أن الله لا ينسى أحداً من عباده، }ولا تقتلوا أولادكم من إملاق{ وهم جائعون؟
ولما كانوا في الأصل قبائل، والقبائل من كل الأجناس يجمعها أنها تعتاش على الغزو إن لم تجد غيره، كان يُفترض أن يسلكوا هذا الطريق. وكان أقرب الغنائم إليهم القرى والقبائل التي تعيش إلى جوارهم، والتي لم ترتح إليهم سنوات طويلة؛ وكيف ترتاح وهي ترى جسماً غريباً يستقر في مراعيها؟ ولكنهم بالقياس إلى جيرانهم كانوا نقطة في بحر. وفي حكايتنا هذه لم يلبث سعد الدين أن اختفى من القرية في ظروف غامضة. واكتشفوا ، ولكن بعد سنين من اختفائه ، أمراً خطيراً : اقتحم أحدهم القبو المحروس بشبكة العنكبوت وبالتمثال.
وكل هذه المعلومات في الحقيقة لا تعدو أن تكون أقاويل وحكايات خفية في المجالس.
...
الحمد لله على الإسلام والسكنى في بلاد الشام.
فقدنا أرضنا، ولكن الله عوضنا ببلاد في دار الإسلام، ليس حولك أعداء من الكفار، والعداوات التي نشبت مع بعض الجيران تفهّموها إذ لا تعدو نــزاعات من النوع الذي ينشب حتى بين الإخوة، ولكنهم في النهاية مسلمون مثلُنا مثلُهم. تحولت الحرب بينهم وبين جيرانهم إلى ما يشبه المناوشات وحرب الخنادق: قتيل من وقت إلى آخر يغدر به أحدهم بعيداً عن نصرة أهله، أو خلاف على قطعة أرض أو مرعى ينتهي ببعض الضحايا، غير أن الأمر هان مما كان عليه سابقاً. استقروا في ديارِهم الثانية ديارِ الشام، ديارِ الإسلام.وكان على الحياة أن تعود إلى دورتها الاعتيادية: أن يتزوج الرجال والنساء، ويفتحوا بيوتاً جديدة لهم، أو على الأقل غرفة جديدة ينتجون فيها الأولاد الذين هم ضمانة استمرارهم. الحق أن بعض القبائل، دَعْكَ من الأُسر، تكاد تنقرض من كثرة الحروب والهجرات والغرق أو الإغراق في البحر. فضّل بعض المهاجرين أن ينتحروا، فردياً أحياناً، وجماعياً أحياناً، على أن يستسلموا ويسلموا نساءهم للعدو. قفز بعضهم من رؤوس الجبال، واستسلم آخرون للموت على الأرض عطشاً وجوعاً دون أن يعلم بهم إلا بعض من أرّخ لهجرتهم. وصفوا أمهات ميتات ما يزال أطفالهن يمصون أثداءهن الجافة. وشوهدت أمهات يحتفظن، على سطح السفينة، بأطفالهن الموتى إشفاقاً عليهم أن يرميهم الجنود العثمانيون في البحر، يرجون الله ألا تفوح روائحهم فيرميهم الحراس العثمانيون إلى الأسماك. تشتتوا في موانئ البحر الأسود وانفصل الأخ عن أخيه والولد عن أبيه. بيع بعضهم وبعضهن إلى قصر السلطان ليكونوا جنوداً لخليفة المسلمين، وحريماً له.
ولكن البكاء على الأطلال لا يملأ البطون. اعتادوا على طبيعة الأرض والمناخ. عرفوا متى يزرعون ومتى يحصدون في هذه البيئة الجديدة. عرفوا الأشجار التي تصلح لها هذه الأرض.عرفوا مواعيد المطر والثلج. عرفوا ماذا يخزنون لمواشيهم. وهاهم يتعاونون جداً فيما بينهم. بعض الأعمال تحتاج إلى أن يجتمع أكثر من عامل أو عدة عمال إذ يجب أن ينتهي العمل في اليوم نفسه فيفزع الأقارب والجيران إلى ما يسمونه "العمل المستعار " وهو عمل طوعي قد يُكافأ عليه بعمل مقابل، وربما بفطور أو غداء، ولا سيما فطور البَرَك الخاص بهم. أصبح لكلٍ منهم حسب التوزيعات العثمانية قطع أرض متفاوتة الجودة في أماكن متفرقة، هذه تصلح للزراعة وتلك للرعي والأخرى للحش. وأصبح لكل أسرة بيدر قريب من تخوم القرية. وهاهم يعودون شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه الحياة الاعتيادية. جلبوا معهم من القفقاس طبخاتهم الفقيرة والأثيرة معاً: جلبوا " الباستة " المصنوعة من دقيق الذرة الصفراء المحمَّسة، وهو طعام ما كانوا، ولا سيما المسنين، يستغنون عنه لأنه سريع التحضير وسهل المضغ، بل لا يحتاج البتة إلى إعمال الأسنان. لا يحتاج إلا إلى قليل من الماء المغلي ليصبح كالعجين ثم ينقُبون وسطه ويضعون فيه ما عندهم، من اللحم أو الدهن، أو الزبدة، وأحياناً من البصل المقلي فحسبُ. وجلبوا " الباستة " الأخرى التي تصنع من البرغل - استعملوه بديلاً للأصل الذي ليس هنا - والذي يؤكل إلى جانبه لحم الدجاج وعصيدة مصنوعة من حسائه ومن طحين القمح. جلبوا خبز الذرة الصفراء المخبوز على صينية، وجلبوا وجلبوا...
ثم بعد أن امتلأت البطون تحرك شيء أو أشياء أخرى في نفوسهم: كان عليهم أن يتزوجوا، وينجبوا وإلا انقرضوا كغيرهم. ولم يكن الزواج ممكناً في هذه الكهوف الشيطانية، ولا كان الجن مستعدين لأن يشاركهم الإنس مساكنهم مزيداً من الوقت، فخرج الإنس منها إلى سطح الأرض. بنوا بيوتاً من الحجر الذي لا أكثر منه عندهم وإن لم يكونوا يتقنون استعماله كالأسلاف الذين عاشوا قبلهم في قريتهم؛ رصفوها كيفما اتفق، المهم ألا تسقط فوق رؤوسهم، وسقفوها بالخشب الذي تعلوه طبقة من الطين يجب أن تُدحل جيداً قبل كل شتاء فمطر الجولان لا يرحم رغم نعومته الخادعة التي تنفذ إلى أعماق الأعماق.
...
الحاج سعد الدين السابق ذكره، والذي كان طفلاً في الأيام الأولى للهجرة، ،والذي تعلم من بعض بالغي قريته السطو على بعض الجيران لملء البطون الفارغة، غدا الآن شاباً يدعوه داعيه إلى امرأة ! ولما لم يكن عنده ما يغري امرأة، أيَّ امرأة،إلا ما"... " اختفى من القرية فجأة كما سبق، ولم يسمع أحد بمكانه ولا عرف عنه شيئاً باستثناء بعض الشائعات التي تزعم أنه أصبح،على رأس عصابة،لصَّ مواشٍ محترفاً. اختفى ومعه أفّاق من الذين حملتهم الهجرة إلى غور الأردن فمات أكثرهم من الحر والملاريا، وهرب أقلهم إلى بلاد أخرى، وكان منهم رجل نسي الناس اسمه ولازمه لقب السكران. هذا السكران الدائم، ولا يعرف أحد من أين يأتي بالشراب إن لم يكن هو يصنِّعه على يديه، جاب الآفاق.كان الوحيد فيما يزعمون، الذي خرج من بيته في القفقاس على حصانه ووصل عليه إلى بلاد الشام عبر تركيا. لم يكن معه إلا هذا الحصان الذي لا يهمّ من أين حصل عليه، وكم مرّةً غيّره، وعبَر كل هؤلاء الناس واستطاع أن يحافظ على حياته وحياة حصانه. ولكن أكان يسكر آنذاك؟ الأرجح لا؛ فالذين يعرفونه في حياته الأولى يرفضون هذا الاحتمال البتة، ويعزون هذا الإدمان إلى ظروفه الشخصية التي عاشها بعد الهجرة. إذن كان قادراً على أن يتفاهم مع كل الناس وأن ينتصر عليهم بالقوة أو بالسياسة.
لم يطل الأمر بالمهاجرين المساكين أن دعا داعي الجهاد إلى سفر برلك: يا ساتر من تلك الأيام. دعا داعي الجهاد في أرجاء السلطنة العثمانية: الكفار أعداء الله ورسوله يهاجمون ديار الإسلام.وانتشر البوليس العسكري العثماني في القرى وجنّد كل من يستطيع أن يحمل بارودة. نجا القليل ممن افتدوا أنفسهم بالمال. اختفى الرجال من القرى والمدن، وحل الجوع محلَّهم. يروي الرواة أن الناس كانوا يسقطون في الشوارع أمواتاً من الجوع، وأن عربات الحكومة كانت تحمِّل العشرات والمئات منهم كل صباح إلى حيث لا يدرون، ولا أحد يسأل عنهم ولا يدري مصيرهم. انتشرت في كل بلاد الشام مجاعة لم تستثن حتى المحاربين على الجبهات. استدعي كل من في سن الحرب والعمل إلى الحرب، بعضهم إلى بغداد، والمحظوظون منهم توقفوا به عند قناة السويس. وانقطعت أخبارهم. ذهبوا إلى جهاد أعداء الله. ماتوا جوعاً وقهراً من الضباط الأتراك وهم يجاهدون في سبيله.
...
الحاج سعد الدين، خلافاً لما ظن بعضهم واتهموه به، وهذا ما لم يستطع أحد من رفاقه أن يرويه لأنه لم يُقدَّر لأحدهم متابعة حياته التي وهبها له الله، لبى نداء الجهاد ككل أبناء جلدته، ولماذا تركوا بلادهم إن لم يكن من أجل الدين الحنيف، تحركت فيهم غريزة القتال الموروثة عن آبائهم. ساروا أكثر من شهر فانتهى بهم المطاف إلى مكانٍ ما يسمونه بغداد. لم يُقيَّض لأكثرهم أن يرى عدواً يمشي على رجلين، دعك من أن يحاربه. حاربوا تحت راية الدولة العثمانية المهزومة قبل الحرب عدوين غيرَ منظورين: الجوعَ والمرض: بغال الذخيرة" الجبخانه "، لها الحق في العلف، دون الجنود الذين ليس لهم إلا أوراق الأشجار،إن وجدت... وفي يوم ما، سارحاً في خنادق القتال البغيضة، وقد استنجد بكل الأنبياء والملائكة عسى أن يرسل أحدهم له عدواً يصرعه أو يصرعه، كما كان يروي أبوه وجدُّه، عدوّاً على حصان أو على رجلين، عدواً مثلُه مثلُه، متقززاً من الطبيعة الوقحة التي لا يهتز لها جفن مما يحصل لأبناء آدم،اكتشف أن بعض رفاقه في السلاح كانوا يقتاتون على روث البغال !
كانوا يترصدون اللحظة التي تجود فيها البغال بالروث الدافئ ليتسابقوا إلى ما فيه من حبات الشعير اللماعة القليلة التي عجزت بطون البهائم عن هضمها فيستخرجونها حبةً حبةً ويمسحونها بعناية. ثم يرتجلون مطحنة حجرية يضعون أسفلها أسمال أحدهم فيطحنونها بعناية حتى إذا تجمع من الطحين ما يملأ الكف عجنوه وخبزوه على الحجر الحار أرغفة صغيرة جداً.
مهما سمع الحاج من حكايات الحرب لم يسمع أن آدمياً استنجد بالبغال لتطعمه من روثها.في هذه اللحظة حمل الحاج سعد الدين نفسه وغادر المعسكر إلى مفترق طريقين: الموت جوعاً أو الوقوع في أيدي دوريات الجيش العثماني، وكلاهما أهون من روث البغال. لم يكن وحيداً، التقى في الطريق بالعشرات من أمثاله، بعضهم يلبس كيساً من الخيش، وبعضهم يستر عورته بأي شيء كيفما اتفق. يجتمعون أحياناً ثم يفترقون: يكثرون إلى أن يحصد عزرائيل قسماً منهم فيتضاءلون. يرون شجرة خضراء في طريقهم فيعرّونها كسربٍ من الجراد. يحاذرون المرور بالمناطق المأهولة خوفاً من الوشاة وقُطاع الطرق، ويلمع في بطونهم الخاوية في الوقت نفسه أمل واهن أن يطعموهم شيئاً. يُشفق عليهم بعض من يمرون على قراهم أو خيامهم فيرمون إليهم شيئاً ولا يجرؤون أن يُدخلوا أحداً منهم بيوتَهم فالبهائم أنظف منهم وآمَنُ ولا سيما في زحمة الأمراض التي تفتك بالجميع: قطعة قماش أو كيس تبن بالٍ وكسرة خبز، ثم ما يكادون يجتازونهم حتى يظهر لهم من يسلبونهم هذه الأشياء البالية. وكان عليهم أن يتجنبوا، ما أمكن، التجمعات البشرية الكبيرة، ولم تكن كثيرة على كل حال، خوفاً من دوريات العثمانيين التي لا ترحم.
لا يذكر الحاج ( لاحقاً) سعد الدين كم يوماً سار في الصحراء , وكم مرة شلَّحوه لباسه وقطعة الخبز العزيزة. صار الأمر مألوفاً، ولم تبق فائدة من أي محاولة للمقاومة فاللصوص أقوى عدداً وسلاحاً.وهم لا يهاجمون إلا والنصر مضمون. إلى أن وصل مع طلائع الفجر إلى حمص أحد مراكز الجيش المهزوم. هنا كان الخطر حقيقياً، وما كان يملك هو أو أحد رفاقه أي وسيلة لستر عورته، دعْك من هوية الجندي المهزوم.قضى الحاج ( لاحقاً) نهاره في مستنقع خلقه الله في هذه اللحظة لأجله يتنفس من قصبة طويلة ويبعد ثعابين الماء ومخلوقاته الأخرى بما تبقّى من قوة الإصرار على الحياة حتى جنَّ الليل.
كان الأمر في الليل، وهو يتسلق سور القيادة إلى حيث يقيم صاحبه أصعب مغامرةٍ، أصعب من التراشق من وراء الخنادق، وأصعب من مسير الأيام والليالي وإهانات الضباط. تسلق السور بكل ما تبقى له من قوة، وتسلل من بين الحراس المتهالكين هم أيضاً جوعاً. وجد نفسه أمام عدة أبواب يجب أن يكون صاحبه وراء أحدها. كان لا يزال بإمكانه على كل حال أن يبطح أي جندي أو ضابط ريثما يسدد إليه سلاحه. ولكن وبلطف الله الذي لا ينسى عباده، اقتحم الباب المطلوب.
لن يجد صاحبُه كاتبُ رسائل القائد، صعوبة كبيرة في مهر إجازة رسمية للحاج سعد الدين بختم قائده، إجازة تسمح للجندي المهزوم، ولكن بعد أن كساه بلباس لائق،أن يتنقل بكل اعتداد في كافة أرجاء دار الإسلام.
....
وفي هذا المكان، أعني في مرج النجيل وبيت الأمساخ المجاور له، ولكن ليس بالضرورة في هذا الزمان، يروون أنَّ شاباً خنق فتاة في البركة واختفى.
ولكن متى جرى هذا؟ ومن هما الشاب والفتاة؟ ولماذا فعل هذا؟ لا يتفق راويان على رواية واحدة. يعود زمان الحكاية عند بعضهم إلى عصر الرومان الذين يسمونهم هنا "الناس القدماء " دون تحديد جنسيتهم لأنهم ما كانوا حين استوطنوا هذا المكان سمعوا باسم الرومان. وجدوا كثيراً من آثار تدل على أن أحداً عاش هنا؛ أكانوا مثلنا أناساً برؤوس وأرجل وأيدٍ؟ أكانوا في أحجامنا أم عمالقة أم أقزاماً؟ بيضاً أم سوداً؟ أجيب عن بعض الأسئلة بسهولة إذ عثروا في بعض الأقباء على بقايا تقول إنهم كانوا أمثالنا. عمروا المكان. جمعوا مياه الأمطار في مصانع، ومددوا مجاري لها إلى البيوت. وصقلوا الأحجار البازلتية القاسية وبنوا منها بيوتهم وإسطبلاتهم، وبنوا أقباء استعملوها لما لا يعرفون. ورسموا صوراً للحيوانات وللناس ولأشياء لم يعرفوها على بعض الجدران، ونحتوا على بعض الحجارة أشكالاً وكتابات لم يكن من الصعب قراءتها لو احتفظوا بها إلى وقت آخر. وجدوا أحجاراً مقطَّعة جاهزة للبناء مدفونة كأنما خزّنوها لهم، أعني المهاجرين. لماذا سكنوا هنا، ومن أين جاؤوا؟ وأين ذهبوا، ولماذا اختفوا؟ أكانوا مهاجرين أيضاً؟ كل هذه أسئلة كانت تطرح وتنسى لأنهم كانوا يبحثون في الأيام والسنين الأولى عن مسكن وطعام فحسب. ثم اختفى كثير من هذه الآثار إما تحت البيوت الجديدة أو في أثنائها.
وتعود حكاية الشاب والفتاة عند غيرهم إلى زمن متأخر حين خطف بدوي واحدة من نساء شيخه وهرب بها، وأقاما في هذا المرج والغابة سنوات يقتاتان بما يجدانه في الغابة من نبات وحيوان، ويلجأان إلى هذا النبع حين يعطشان. وفي أحد الأيام ضبطتهما اللعنة التي تطاردهما منذ أن فعلا فعلتهما وهما غافيان على المرج فخنقت الفتاة ولم يُعرف مصير الشاب.
ويصل بعضهم بالزمان إلى عصر أحد الإقطاعيين في المنطقة، فيجعل، كما العادة، البنتَ بنتَ الإقطاعي، وأحياناً زوجة غامضة له، والشاب ابن سائسه. بل يربط كثير من أهل المنطقة في قرارة نفسه شخص الإقطاعي بالحاج سعد الدين الذي استطاع بقوة علاقاته مع هذا وذاك أن يطفئ الموضوع ويُخرس الألسنة، وخاصة بعدما أصبح من كبار المحسنين وبنى الجامع على نفقته الخاصة. ويختلق الخراصون نهايات عجيبة للحكاية كأنْ يُشاهَد الشاب يتنقل في الغابة في منتصف الليل شِبه عار، وينام بين القبور، ويقتات بما لا يتصوره الناس قوتاً. وتطور الأمر إلى أن غدا الشاب في غمضة عين جنياً، وليس مستبعداً أن يكون كذلك من بدايته، تطير روحه كأبناء جنسه فوق الينابيع والمقابر والأشجار العملاقة.
على رأس التل يقوم مزار لا يختلف جداً عن المزارات الكثيرة في سورية: بناء مقبَّب بالجير الأبيض، وسطه قبر يعلوه طربوش مغربي أحمر مجلل بقماش أخضر. ويُسدل عليه ستار أخضر أيضاً. وللمزار حارس نهاري، أما ليلاً فلا. وللمزار زوار يتبركون به ويتوسلون، وخصوصاً في المناسبات الدينية: كل من له مشكلة في الحياة الدنيا.وللمزار أخيراً تاريخ لا يتفق عليه اثنان، ولا يعرفه إلا الله ومن بناه أول مرة.
ولكن هذا المزار يتميز بأمرين: أشجار بلوط وبطم أزلية عملاقة، تصدر أصواتاً مريعة من العالم الآخر كلما عصفت بها الريح، وهي هنا على هذا الارتفاعِ وصفاءِ الجو والقربِ من البحر لا تني عن العصف، وتملأ النفس رهبة غيبية إذا صعد المرء، ولا سيما وحيداً،إلى قبة المزار ليسمع بالإضافة إلى حفيف الأوراق صوت احتكاك الأغصان بالقبة كأن ملائكة هائلة تنظف بريش أجنحتها ظهر المزار. وبئر ماء عميقة لا يكاد يجرؤ أحد على النظر في قاعها، دعك من الشرب منها، محفورة في أعلى نقطة في التل أمام المزار. أما الأشجار فكان الزوار يزينون أغصانها كلما جاؤوا بعصابات خضراء أيضاً.
ارتبطت حكاية العاشقين أيضاً بالمزار. ولا سيما أن الأصوات التي تُسمَع في أكثر الليالي، حتى في الليالي الهادئة جداً، في المرج وما حوله كانت تفسَّر بأنها أصوات العاشقين أو أحدهما. وإلا فمن أين تأتي؟ ولماذا لا تُسمَع في كل الليالي؟ أيكون الشيخ صاحب المزار هو الفتى العاشق ؟ كل شيء ممكن في حكايات الحب والجن. وفي جميع الأحوال يعتقد أهل المنطقة كما الجاهليون أن الهامة، وهي الطائر الذي خرج من رأس الفتاة أو الفتى القتيل أو من كليهما لايني يصرخ طوال الليالي طالباً إنصاف العاشقين.وتحولَ المرج والغابة القريبة منه إلى مسكن لروحي العاشقين لا يجرؤ أحد، حتى المتشددون في الدين، على التحدث عنهما بسوء رغم الحكاية التي تتهمهما بما لا يتقبله القرويون، سواءٌ كانوا متدينين أم لم يكونوا.
...
زياد، حسب الشهادات الرسمية، هو الابن الوحيد للحاج سعد الدين ، غير أن الأم ظلت لغزاً على كل أهل القرية، أو أن بعضهم يتستر على الحكاية. طبعاً هناك اسم ما في شهادة الميلاد: عائشة أو فاطمة أو... غير أن زياداً لم يرها ولم يعرف شيئاً عنها. ثم كان الناس يفكرون في سرهم: أما كان باستطاعة الحاج في عصر الفوضى تلك أن يسجل أي اسم؟ والمهم أنّه ابن الحاج؛ وإلا ما احتفظ به الحاج.
ومع ذلك فالنسوة اللواتي أتيح لهن رؤية الولد دققن في ملامحه،وبحثن عن التفصيلات وقارنّها بالحاج دون أن يستطعن الجزم. ولكن مع الزمن بدأت أبوته تتأكد إذ يزداد يوماً بعد يوم شبهاً بالحاج سبحان الخالق الناطق: القامة الطويلة، والوجه الطويل النحيل، والأنف المعقوف قليلاً، ولكن المفارقة كانت بين سمرة وجهه وعينيه الزرقاوين اللتين تخفيان،كما يخفي الأب، سرَّ أم الولد.
عينان زرقاوان في وجه أسمر؟! لم يخْفَ على أحد أن أمه ليست من هذه القرية ولا من هذه المنطقة. فليس في هذه المنطقة مثل هذه الملامح.العِرق، ولا سيما العرق القوي لا يختفي حتى في أجيال. الوحيد الذي يمكن أن يعرف الحقيقة في تصور أهل القرية هو السكران غير أنك حتى لو سقيته برميل خمر وروى لك كل تفاصيل حياته وخطاياه لما باح لك بسرِّ أي إنسان؛ فكيف إذا كان هذا الإنسان هو الحاج سعد الدين.
وسببُ توقُّعِ الناس أن سرَّ الحاج وابنه زياد في بئر السكران هو أن الحاج، بعد أن رحلت زوجته عن العالم، وقبل أن يحمل لقب الحاج، كان يتسرى، على ذمة الناس، أستغفر الله العظيم، بصحبة السكران الذي لا أحد يعرف مداخل هذا الأمر ومخارجه مثله. كلما سألوا السكران، حتى بعد ما مات الحاج، وألحوا عليه،غضب رغم ندرة غضبه وأجاب:
- وهل كنت أشتغل قواداً !
حاشَ لله، رغم كل رذالاته الأخرى، أن يشتغل قواداً. غير أن الثابت في تصور أهل القرية هو أن الحاج كان يرافق السكران في جولات ليلية غامضة بين جيران القرية الأقارب والأباعد. وربما غابا أياماً بحجة صفقات تجارية. وقد يكون الحاج تزوج في إحدى تلك الزيارات امرأة ما ثم تخلى عنها لسبب غامض، ربما حرصاً على الميراث ألا يذهب إلى أغراب يساكنون أهل القرية. لا بأس في هذا فكلنا من لحم ودم وعلى سنة الله ورسوله.ولكن من يدري إن كان الطفل وليد نــزوة عابرة أجبرت الحاج أن يلتقطه. غدا التثبت من الحقيقة مستحيلاً في العمر الذي بدأ فيه زياد يتساءل عن أمه فالحاج مغلق القلب، والسكران الذي ضبطوه يوماً، بعدما ساءت علاقته بالحاج، وقد همّ - لعنه الله - أن يتبول من على منارة جامع الحاج، طردوه شر طردة من القرية، وهو من شدة السكر غيرُ عابئ إلا بالبطحة يرجوهم ألا يكسروها.ثم حذا الجوار حذوهم فانقطعت أخباره.
إذن كل ما في حياة زياد من خصوصية هو حياة قصيرة في منــزل سلوى. كان بين الحاج وأم سلوى نوع قرابة غامضة لا يدركها جيل زياد تماماً، ولكن قرأ عنها، يسمونها " الأتاليك " يُفهم منها أن الحاج أو أباه الذي كان هناك في موطنه الأصلي أيضاً غنياً أُرسِلَ وهو طفل إلى بيت أقرباء لأم سلوى، والأخيرون فقراء أو متوسطو الحال، وربي هناك عدة سنوات على شيء من الضنك والبعد عن الأم والأب. وأسرة الأتاليك اكتسبت، بالإضافة إلى بعض المعونات المادية طبعاً، نوعاً من الاعتداد الاجتماعي بهذه القرابة. وكان الطفل الذي ينشأ في أسرة أتاليك يصبح بمثابة الابن لها من حيث المحارم، لا من حيث الوراثة.
إذن كانت أم سلوى إليه بمثابة عمة. ولم تكن أماً لأن هذا النظام اندثر منذ ترك القوم ديارهم الأصلية وانعدمت الظروف التي أنشأتها. يذكر زياد على نحو غامض أنه كانت في البيت إلى جانبه طفلة تصغره قليلاً، ومثل كل الإخوة كانت بينهما المشاحنات التقليدية رغم أن أم سلوى حريصة دائماً أن تميزه من غيره. ثم يذكر أنه أعيد إلى بيت أبيه، بيت العز،بحجة أنه لا يجوز أن يبقى أكثر في كنف أسرة غير أسرته. إلا أن العارفين يقولون إن أم سلوى لم تعد قادرة على احتواء هذا الطفل ذي التصرفات الغريبة.
من البداية يزعمون أن الطفل ولد بسنّين بارزتين حاولت أم سلوى إخفاءهما عن الناس القليلين الذين أتيح لهم أن يروا الولد، وهو أمرٌ، وإن لم يكن بالخطير حتى لو كان صحيحاً،يتقزز منه الناس، ولا تحبه أم سلوى طبعاً رغم أنه لم يرضع من صدرها. ثم مشى الطفل ولما يكمل شهره السادس، مشى وكأنه خرج من رحم أمه متمرناً على المشي. كان منظره يركض في أرجاء الدار الواسعة ويتسلق الأدراج والأحجار مخيفاً؛ فلم تكن قادرة على اللحاق به تاركة ابنتها التي كانت ترضعها. وبدأ كل ما في البيت من نظام خلقته يهتز مع هذا الطفل الذي - اللهم استرنا - لا يشبه الناس. وبدأت عيناه الزرقاوان تشعان نظرات حادة يعتقد بعضهم أنها كنظرات الوحوش ليلاً.
وفي الثالثة من عمره كان يتكلم من دون أن يفهم أحد من كلامه شيئاً. كلاماً ليس من جنس " بابا " و " ماما"، ولا المناغاة المألوفة عند الأطفال ، بل من نوع الكلام الذي كانت تتمتم به البصارات اللواتي يمسحن المنطقة في مواسم الخير يزوجن العذارى والعازبين على هواهن وهواهم، كلام كان مقبولاً من أفواه النساء البالغات، ولكنه مخيف من فم ابن الثالثة.
كل هذه الظواهر أمكن تحملها إلى أن بدأ الجنّ يرجمون أرض الدار بالحجارة كل ليلة.
في البداية كان صعباً تفسير الأمر، وكان من الأسهل أن يُعزى إلى مصادفة ما. غير أن الأمر تكرر، ثم صار شبه يومي، ثم تجاوز الفِناء إلى سطح البيت نفسه. لم يكن من السهل إقناع الحاج بادئ الأمر غير أن الوقائع لا تُدحض. إذن أرجوك يا حاج أنا امرأة شبه وحيدة، وأخاف على ابنتي، أن تجد حلاً للولد.
...
لا حلَّ إلا بالتخلص من هذه الخربة !
هكذا أشار العارفون بشؤون الدين والجن على الحاج.
لماذا لم ينتبه الحاج كل هذه السنوات، رغم كل المبرّات التي فعلها لأهل قريته ولغيرهم إلى بناء جامع؟!
ماذا ينقص الحاج ليبني مكان الخربة جامعاً فيتخلصَ من الجن الذين استوطنوها منذ رحل سكانها الأوائل قبل الميلاد أو زمن الفتوحات، ويريح الناس من شرورهم، ويكسب الحاج نفسه بيتاً في الجنة؟
لم يكن ينقصه إلا أن يجلب البنائين المهرة من لبنان. لم يثق في بنائي بلدته الذين ما تعلموا بناء الحجر إلا قبل سنوات، والذين أقصى ما يستطيعون بناءه إسطبل للبهائم، وفي أحسن الأحوال " خُشّة " لأبناء آدم !
لم يكن البناؤون المسيحيون يعرفون شيئاً عن موضوع الخربة، أو ربما كانوا معتادين على ترميم مثل هذه الخرائب فما أكثرها في بلادهم وبلادنا ! وفي بضعة شهور انتصب مكان الخربة المريعة جامع فخم من البازلت الأزرق اللماع مسقوف بالقرميد المستورد من مرسيليا. وانتصبت على سطح الجامع منارة حلزونية شاهقة يُرقى إليها من داخل الجامع طبعاً. وأنشئت صُفّة خاصة بالنساء، ومقصورة غير كبيرة للمسنين والذين يودون تلاوة القرآن قبيل الأذان.وغرفٌ صغيرة لمن يحب أن يعتكف في العشر الأخير من رمضان، ودورات مياه وغرفة لمبيت أبناء السبيل، وفُرشت الأرض بالسجاد النفيس، ونُصبت مدفأة خشبية ضخمة للشتاء... باختصار: كل ما يغري الناس، حتى كفارهم، بالصلاة، ويزرع شوكة في عيون الجن الخبثاء.
وافتتح الجامع يوم جمعة بما يليق ببيت من بيوت الله أسسه الحاج، وألقيت خطبة مدوية معدة لهذه المناسبة من الخطب التقليدية المحفوظة بين دفات الكتب الصفراء ، أضاف إليها الخطيب ارتجالاً دعوات حارة للأولياء الأقارب والأباعد والصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. ولم ينس بدعائه الحاج صاحب الأيادي على القرية بل المنطقة. وشاركت الخراف والعجول بأرواحها ودمائها في هذه المناسبة الجليلة، وعُمِّد باب الجامع الجليل بالدم. وهكذا صار للقرية جامع تفاخر به جوامع المدينة، ويتسع وقت الحاجة لأهل القرية جميعهم.
لم يكن الجن الذين أجبروا على ترك خربتهم مؤقتاً راضين عما جرى؛ فما إن انقضت بضعة أيام حتى رجعوا ينغصون على المصلين صلاتهم. يقول بعضهم: كان ينبغي أن تترك لهم هم أيضاً حرية التعبد فيه إلى جانب الإنس فيخصص لهم ركن في الجامع، ربما كان فيهم بعض المؤمنين أو آمن بعضهم بهذه المناسبة. ولكن من ذا الذي يجرؤ أن يصلي وإلى جانبه جني إلا أن يكون أعمى أو أصمّ أو واحداً مثلهم. ورجعوا ينشرون، من حين إلى حين، لا تعرف ما مناسباتهم، وهذه هي المشكلة، الرعب في نفوس المارّة والقلائل الذين باتوا ليلتهم فيه. وهكذا لم يلبث المصلون أن انفضوا عنه، واقتصر رواده الدائمون على ثلاثة انعقد بينهم وبين سكان الخربة الأصليين نوع ألفة أو معاهدة حسن جوار صامتة. وعلى كل حال ماذا يفعل الجن بأعرجين وكفيف؟! يقضون نهاراتهم الشتائية المشمسة على مسطبة حجرية قريبة يتدفؤون على شمس الجولان اللذيذة، ونهاراتهم الصيفية يبتردون ببردها المنعش، حتى إذا حان وقت الصلاة قام أحدهم فأذّن على عتبة الباب من دون حاجة إلى اعتلاء المنارة إذ لن يلبي أحد نداءه، وتبعه الآخران فأمّهما وصلَّوا جماعة.
في أيام الجمع والأعياد وحدها كان الحاج يدعو أحد خطباء القرى المجاورة، لا يهمّ، فكلهم يقرؤون الخطب نفسها من كتاب يضم بين دفتيه اثنتين وخمسين خطبة. يختلف أداء الخطيب وطبقة صوته ومقدار انفعال الجمهور معه، ما بين خطيب لا يسمع هو نفسُه صوتَه إلى خطيب يهز أركان القرية حتى يُبكي النساء في البيوت.
ما مضت سنتان أو أقل على بناء الجامع مكان الخربة حتى رجعت مشكلة الولد الشقي بل تفاقمت: الولد الآن يعي كل ما حوله: ينظر نظرات مخيفة إلى أم سلوى المسكينة التي لا حول لها ولا قوة إزاءه . يؤذي سلوى التي تصغره قليلاً. ومع كل صوت أو سلوك غير مألوف تتجه أصابع الشك إليه. حتى عندما تخشخش فأرة في أهراء الحبوب أو يسقط فرخ طائر من الشجرة أو تصفر الريح في ليالي الجولان المجنونة يتهمونه. بل كلما مرض أحد من الأولاد بخاصة نصح كتّاب الحُجُبِ والأدعية الذين يُستشارون في هذه المناسبة: المشكلة والحل في بيتك وبين يديك. ألست تقولين إنه يخاطب الجن ويعايشهم؟ تقولين إنه يتكلم طوال الوقت كلاماً غير مفهوم؛ هذا هو تفسير غير المفهوم.
وأخيراً رجع الجن يرجمون بيت أم سلوى كما كانوا يفعلون !
بديهي أنه لو كان محمد أمين أبو سلوى في البيت لما حدث ما حدث. غير أنه عسكري يغيب عن البيت أكثر مما يحضر. في حضوره تحسب الجن حسابه فتخنس، ويملأ البيت صخباً وسخرية بزوجته التي تظل تقول: آه لو ظهر لك أحدهم مرة لتقلع عن السخرية بي وبهم؛ أليسوا مخلوقات الله كما نحن؟! ماذا ستفعل إن استهدفوك؟ تضربهم وهم لا أجساد لهم كما عندنا أم ترميهم بمسدسك أو بارودتك؟ ويظل هو يحاول إقناعها بأن الخوف منهم هو الذي يحضرهم؛ وإلا فلماذا يغيبون في ليالي وجوده في البيت؟ تنظر سلوى وينظر زياد إلى قوامه الرشيق وعضلات ساعديه المفتولين فيصدقان كل ما يقول، وينظران إلى وجه الأم المتضرعة فيصدقان كل مخاوفها.
ثم يأخذهما إلى أرض الدار ويبدأ معهما بعض الأعمال التي يمكن أن يساعدوا فيها الأم: أنت خذ هذا السطل واملأه واسق الشجرة هناك. وأنتِ فُكّي الغسيل من الحبل ورتِّبيه قبل أن تعود أمك. وأنت أحضر لي المعول ولكن احذر أن تصيب به رجلك أو تجربه. وأنتِ امسحي زجاجات المصابيح قبل أن يحل الظلام ! تعرفين كيف؟ هاتي وسأعلمك: أغلقي الطرف الواسع من الزجاجة بيدك؛ كبّري الخرقة قليلاً وأمسكيها بقوة، لا ليس بهذه القوة وإلا انكسرت، وانفخي جيداً من الطرف الرفيع ثم أدخلي الخرقة ودوّريها... أنتَ تعلّمْ أشغال الرجال، وأنتِ أشغال النساء... وهكذا إلى أن ينهمك الطفلان في الشغل. وبعد أن يتعشوا لا ضرورة لأن يقول لهما اذهبا إلى النوم فلي حصة أنا أيضاً من أمكما، إذ أنهما في ذروة التعب.
وازدادت شرورهم في كل مكان من القرية: الأقباء القديمة التي تحولت مع الأيام إلى اصطبلات أو مستودعات للتبن صار يصدر منها ليلاً أصوات أنين، وأزقة القرية تسمع فيها أصوات... ولم يسلم المارة أحياناً من رجمهم. يقولون: إن بعض الشباب الخبثاء استغلوا هذا الخوف المتغلغل في نفس الإنسان من الأشباح فبدؤوا يكمنون من وقت إلى آخر في مكان ما، ويصدرون هذه الضجة الخفية. وشوهد أحياناً من يلبس ملابس عجيبة يتنقل في الأزقة، ولا سيما في الليالي المظلمة. ولكن من يعترف بأنه الفاعل؟ ومن يعرف أكانت مجرد تخيلات أم حقائق؟ في جميع الأحوال لم يُضبَط أحد يفعل هذا، وشرع الخوف من مجهول غامض يتملك النفوس، وزاد الخوفَ سُحبٌ حمراء تظهر قبيل الغروب في الأفق الغربي. وكلف الحاج صديقاً من أخلص أصدقائه كان يُخرج الضبع من وجاره حياً،ولا يخاف من الله نفسه، أن يراقب ليلة أو ليلتين ما يحدث، ولكنه جاء إلى الحاج في الصباح يهذي، ولم يُفهَم منه حق أو باطل.
دخيلك يا رب ! ماذا فعلت لك؟ هذه الخربة وطردتُ منها أعداءك، أقمتُ فيها بيتاً يُذكر فيه اسمك. حججت وتبت عن كل ذنب فعلته، وأنفقت أكثر مالي في إرضائك. ومع ذلك أنا مستعد لأنفق كل ما عندي لأجل هذا الولد المسكين، لأجل أن أطرد من روحه كل الأرواح الشريرة. وهكذا لم يكن أمامه إلا أن ينفي الولد فيصبح أتاليكاً كما كان هو في طفولته.
...
مضت الأمور في غياب الولد حسنة: الأرض أمرعت، والفلاحون تخلصوا،إلا مَن خلقَه الله منحوساً، من بيوتهم المبنية من أيِّ حجر اتفق، كانوا هم لا يعرفون تقطيع الحجر ونحته للبناء، ولم يكن عندهم من المال ما يكفي لاستقدام بنائين من لبنان وغيرها، بنيت الآن بحجارة مقطعة، وعلى أيدي معلمين مهرة بعضهم من القرية نفسها فالجيل الثاني من المهاجرين تعلم أشياء جديدة. وسقوف الطين التي تحتاج كل سنة إلى دحلٍ وترميم حل محلها سقوف من القرميد المبطن بالخشب والمرفوع عن الحامل الخشبي. وقليل جداً منهم سقف بيته بالتوتياء، وهو أرحم على كل حال من الطين.والإسطبلات غدت كذلك من الحجر والتوتياء. أما الأقباء فهُجر معظمها. وتحسنت علاقاتهم بجيرانهم وغدا بينهم الخبز والملح: الجميع في شبه بحبوحة.
آتى استقرار نصف القرن الماضي أُكُله: كثير من الشباب تطوع في كل ما ظهر على ساحة البلاد من تشكيلات: الجيش الفرنسي، والجيش الانكليزي، قوة الحدود... وعَبَرَ كثيرٌ منهم إلى الأردن وفلسطين.كانوا جنوداً ممتازين استيقظت في نفوسهم روح الحرب المغروزة في آبائهم وأجدادهم، وتكيفوا بسهولة مع مظاهر الجيوش العصرية من حركات وإيعازات. حقاً خلقهم الله لهذه المهمة: أجسام قوية رشيقة، وقلوب شجاعة، وإخلاص للعمل وانضباط لا يُضاهى. وبعض الطموحين منهم انخرط، وقد تأسست إمارة شرق الأردن، في جيشها، وسرعان ما أصبح هؤلاء الأميون ضباطاً بفضل نباهتهم وشجاعتهم. ومن لا يحب الحياة العسكرية منهم انفتح له باب العمل في المعسكرات البريطانية. أينما توجهوا كان أفضل لهم من الأرض الجافية التي تطعمهم عاماً وتنساهم أعواماً.
مرت الحرب العالمية الثانية بجانبهم إلا أياماً وحوادث منفردة لم تترك في حياتهم آثاراً خطيرة: حُفر خندق طويل في مدينة القنيطرة يحمل اسم خطّ " إيدن" نسبة إلى القائد الانجليزي، وانقسم الجيش الفرنسي على نفسه وتحارب الطرفان في المدينة نفسها، وسقط في القتال عدد من الطرفين طبعاً دون أن يجرؤ أحد أن يشرِّف أيا منهم بلقب الشهيد، يكتفون بالقول وهم يذكرون اسمه: المسكين سقط في المعركة.لا يكادون يهتمون منها إلا بالمقارنة بين هتلر وتشرشل: الأولاد الذين يولدون سمراً يلقبون بالأول والذين يولدون شقراً بالثاني.ووصل ذكر ستالين بعد الحرب مع بضعة مهاجرين جدد من وطنهم الأم. أما القائد الرابع الأمريكي فلم يكن يهتم به أحد. والمهم إليهم أن الحرب انتهت بما سُمِّي " الجلاء ": أصبحت سورية دولة مستقلة، وخرج آخر جندي أجنبي منها.
...
بنى الحاج جامعاً فخماً يباهي به أفخم جوامع الأرياف على الأقل، ولكن المدرسة على حالها: بناء قديم، أعني منذ سُكنت القرية، لا يعرف الكثير ماذا كان سابقاً. ربما بناه الأهالي في يوم عمل طوعي لأن الحجارة ليست من النوع المنحوت، ولا السقف من القرميد كسائر بيوت القرية. سقف واطئ من الخشب والطين على غرفتين وملحق جد صغير لما يشبه إدارة يدير منها المعلم أو المعلمان المدرسة نهاراً، وينام أو ينامان فيها ليلاً. يأتيهما الخبز والطعام والماء من أهل القرية حتى ليكادان يتخمان من الأكل، ولا سيما في الربيع مع فيض الحليب، ويأتيهما الوقود من الحطب والجلّة شتاءً، ولا يعدم أن تنـزل معهما إلى المدينة الكبرى سلة من البيض وقرصٌ من الجبن؛ وإلا فما الذي يغري شاباً أو يصبِّره، وخصوصاً إذا كان من دمشق، أن يعيش في هذه القرية الباردة الكئيبة؟ !
في إحدى هاتين الغرفتين تعلم زياد، وقد أعيد إلى أهله ليلتحق بالمدرسة بعدما نسيه الحاج عاماً دراسياً، الكثيرَ: في هذه الغرفة الصغيرة التي تزدحم بأولاد متفاوتي العمر والحجم سمع من الأستاذ كلمات لم يسمعها قبلُ.كانت فرحة الجلاء ما تزال في القلوب وعلى الألسنة، والأناشيد الوطنية رائجة. تعلّم "حماة الديار ". وتعلم " موطني موطني " و " بلاد العرب أوطاني". عرف على نحو غامضٍ أنَّ له بلاداً خارج حدود قريته تسمى " الوطن "، وعرف أن الوطن له قداسة تشبه قداسة الدين، وأنه يعني أن الإنسان الذي يسكن في دمشق أو حلب أو أبعد نقطة على خريطة سورية أخ له تربطه به علاقة قوية تجبرهما أن يدافع أحدهما عن الآخر. وأنشد بحماسة طفولية بريئة النشيد الوطني من صباح إلى صباح.وأنشد كلمات كثيرة لم يكن حتى الذين يكبرونه بسنوات يفهمون منها الكثير: " الجمال والبهاء والسناء في رباك و " بادروا للعمل دون خوف أو وجل ". وتعلم من وقفة تحية العلم أن يحب كل جزء من سورية كما يحب قريته وأحجارها وغابتها وأزقتها.وفهم من " حماة الديار " جنوداً كالذين يراهم أحياناً في القنيطرة يرتدون سراويل قصيرة ويحملون بنادق ثقيلة. وحلم بنفسه أحياناً مع العبارة يحمل بارودة أطول منه بدلاً من الفرد الخلبي أو فرد " الفنّين" الذي يحمله أطفال القرية في الأعياد يصوبون بها على البنات حصراً فيلقون الرعب في قلوبهن دون أن يُعرَف لماذا يهاجمون البنات ولا يخوضون معركة رجالية.
كل هذا الأمور الجميلة العظيمة التي بدأت تتكون في نفس تلميذ الصف الأول عن الوطن تلقت الضربة الأولى في ربيع عام 1948؛ إذ كتب الله على شعب جديد الرحيل عن أرضه كما كتبه على شعب الطفل قبل زهاء ثمانين عاماً.
لم يكن ذاك الشعب غريباً عنهم ولا بعيداً. كثير من رجال القرية تزوجوا من تلك البلاد، وكثير من بناتها تزوجن فيها. يستطيع الفارس أن يصل إليها ظهراً إذا لم يجد مشكلة في اجتياز النهر. وكثير من الشباب سافروا في السنوات الأخيرة إليها للعمل في ما يسمونه " الكامب " يقصدون المعسكرات الانكليزية دون حاجة إلى سيارة أو حتى إلى حصان: يحمل الشاب القوي مطرة ماء ورغيف خبز وحفنة تمر ويخرج صباحاً ليجد نفسه مساءً يسرح في سهول فلسطين أو ساحلها إذا عرف كيف يتجنب الدوريات الانكليزية.
وكانت الشاحنات تمر على الطريق المعبد الذي أنشأه الفرنسيون، والذي يسمونه " طريق البوسطة " ، يعني بالأجنبية البريد ، محمَّلة بالبرتقال الفلسطيني الشهير باليافاوي. وبعض الخبثاء من الشباب كانوا يترصدونها في المنعطف الذي يبدأ معه الطريق بالصعود حيث تضطر إلى تخفيف سرعتها فيتسلقها من دون كبير عناء، ويزحلق لزملائه على الأرض صندوقاً أو أكثر منه.
كانت نذر مأساة جديدة تهب على المنطقة عندما أعيد الطفل الأتاليك إلى بيته. من دون سبب واضح انقبضت قلوب الناس ولا سيما قلب أم سلوى التي لا امرأة غيرها في القرية يمكن أن تتحمله. انعقد دخان حرب وشيكة لم تكن غامضة جداً فهي تقرع أجراسها غير بعيد عنهم. ولم يطل الأمر أن انتشر بين الناس مرة أخرى داعي الجهاد ضد اليهود أعداء الله. وكثرت الأحاديث الغامضة عن اليهود وأشكالهم وطباعهم رغم أن الذين عايشوهم زماناً في فلسطين يؤكدون أنهم بشر مثلنا بأيد ورؤوس وأرجل، يختلفون في أن لهم لكنة خاصة بهم ويحبون الدجاج جداً، حتى كانوا يلقبونهم بـــ " أكَلَة الدجاج". ويختلفون في أن بعض نسائهم يلبسن ملابس المحاربين ويقاتلن في صفوفهم.
غير أن المشكلة وتوابعها كانت تمر بعيدة عنهم إذ كانت الحروب صغيرة محلية تدور في بضع مئات من الأمتار، إلى أن دعا داعي الجهاد فاستجاب له كثيرون بالإضافة إلى المتطوعين في الجيش من قبل. وكان أبو سلوى من بين أولئك الذين اكتووا بنار الحرب. يذكر زياد أبا سلوى جيداً وإن كان قليل الإقامة في البيت. يذكر أنه كان يشغّله وسلوى وهما صغيران جداً أشغالاً مهمة مع كثير من المتعة. وربما لم يكن فيه ما يميزه من سائر الفلاحين إلا أنه يرتدي زياً عسكرياً. ويذكر أنه كان يعود يوماً في الأسبوع أو الأسبوعين تستعد له أم سلوى بأنواع مميزة من الطعام: تجهز له نوعاً من الفطائر المحشوة بالجبن، وهو عمل شاق تحضِّر له قبل ليلة لأن زوجها لن يكون الوحيد على المائدة؛ الحاج يأتي غالباً لسماع آخر أخبار الجبهة، وكذا الجيران. وتحضِّر له أحياناً طعاماً خاصاً لغداء يوم الجمعة قوامه الدجاج، وهو الآخر يحتاج إلى وقت لم يكن كثيراً عندها، وإلى جهد لم تكن توفر منه شيئاً في سبيل إسعاد زوجها وإظهار احتفائها به.وهو من جهته يحاول أن يخفف عنها أعباء الإسطبل بخاصة، ولكن الوقت بين صباح الجمعة وصلاة الظهر غير طويل. ويتذكر زياد أبا سلوى جالساً بين زواره في المساء صامتاً إن لم يُسأل، ممسكاً بالرفش صباحاً ينظف الإسطبل، ثم لابساً زيه متأهباً للانطلاق مع العصر إلى واجبه.ويتذكره أكثر من مرة يلاعبه ويلاعب سلوى ويخصهما بأنواع من الحلوى غير مألوفة في القرية وإن لم تكن فاخرة.
وتلبد الجو شيئاً فشيئاً. وقلّت عودة أبي سلوى إلى البيت. وانتشر في الأسرة الصغيرة جو من القلق كان يلاحظه على أم سلوى يتجلى في عصبية غير مألوفة عندها وفي نوبات بكاء صامت. وفي منتصف ليلة من شهر أيار هبت العاصفة التي اكتمل انعقادها. انتشر الجنود في القنيطرة بسراويل قصيرة وكاسيات ساق غريبة يسمونها " طماقات" وأحذية ثقيلة. وكانت حركة نقل محمومة للجنود إلى الجنوب على السيارات وناقلات الجنود الصغيرة، تتبعها أدعية النساء والرجال لهم بالنصر.
وبدأ الطفل يسمع أسماء مواقع يحارب فيها أبو سلوى ورفاقه، من مثل تل العزيزيات وسمخ وكفر حارب. إلى أن كان اليوم المشهود: صرف المعلم تلاميذ المدرسة بعدما تكلم كلاماً غير مفهوم تماماً على شهيد أو شهداء، وعلى جنة انفتح بابها هذه اللحظة. ولما عاد زياد لاحظ حركة غير اعتيادية في القرية كأن المعركة انتقلت إليها. كانت سيارات ووجوه غريبة قاتمة.والحاج في حركة دائبة كأنه فقد شيئاً. والرجال والنساء يتوجهون في مجموعات إلى بيت يرتفع منه عويل نساء حاد، الرجال صامتون والنساء يولولن حتى من قبل أن يدخلن الباب المشرع. يهدأ النحيب قليلاً ثم يعود فيرتفع مع كل موجة نساء جديدة كنار صُبَّ عليها الزيت. ووصل رجال ونساء من القرى القريبة على الأقدام. واستعد المزار لاستقبال أول شهيد من شهداء عام 48، فصعد في الظهر القائظ عدد من شباب القرية ورجالها الأشداء لتحضير مثواه الأخير هناك إلى جانب الشيخ وصحبه.
صعد زياد التل ببساطة مع أقرانه سابقين الرجال والموكب كأن عليهم واجب المشاركة والتعزية. واختبأ كسائر الأطفال وراء الأجساد الفلاحية التي تفوح منها رائحة عرق واخزة يراقب لأول مرة في حياته من خلل الأرجل الحفرةَ التي سيثوي فيها الشهيد، والحجارةَ المسطحة التي ستغلق عليه.وظلت كلمة الشهيد تتردد صماء في خلده فتحمله إلى الغيوم القليلة في السماء الباهتة حيث يحوم روح الشهيد. وقليل من العصافير التي أيقظها الربيع ثم عاد القيظ المفاجئ فألجأها إلى أعشاشها ما تزال تصوّتُ في الجوار , والتراب الغض على جانب الحفرة مختلط بالحشيش نصف اليابس،وإلى جواره القليل من الماء الذي غرفوه من البئر المريعة في أعلى المزار على القمة حيث يتبوأ الشيخ الجليل المجهول صاحب المزار مقعده دون أن يتنازل فيشاركهم.
كان أولَ الشهداء في المنطقة،ولكنه لم يكن آخرهم. غدا من المألوف أن يعود كل يوم أو بضعة أيام شهيد أو أكثر إلى القرية وإلى القرى المجاورة. وصار همُّ أهل القرية هو من سيعود غداً.
لم يعتد أسلاف أهل القرية أن يسموا قتلاهم في المعارك شهداءَ، لماذا؟ كانوا محترمين واحتلوا في النفوس مكاناً خاصاً؛ ويكفي حزناً عليهم أن يسموهم " الذين ماتوا قبل أوانهم "غير أن مصطلح " الشهيد " دخل قاموسهم لأول مرة. وانتشرت بين الناس أحاديث دينية تقول إن المسلمين سيقاتلون اليهود في زمان ما، وسيحتمي اليهود بالأشجار،فتشي تلك بهم، فيهرع المسلمون إليهم فيقتلونهم إلا نوعاً واحداً من الشجر. واختلط الشهداء في سفح التل بصاحب المزار. وغدا الجميع يتصورون أنهم يخرجون في الليل بملابس بيض ويزورون الولي صاحب المزار، فزاد الخوف من ارتقاء التل ليلاً صعوبة على صعوبة: الولي والشهداء والعاشقان.
على أن عودة هؤلاء كانت أهون من عودة أبي سلوى.
انتشرت في القرية أخبار غامضة عن مصيبة حدثت له دون أن تفصح أم سلوى عن شيء. وتجسس الطفلان في البيت على الحاج وأم سلوى. يذكران في حديث هامس كلمات من نوع جريح ومشفى وزيارة. ثم غابا ورجعا بوجهين لا ينبئان بخير. ولم يطل الأمر كثيراً: رجع أبو سلوى برجل واحدة وعكازتين.
والحق أنه رجع برجلين، ولكن إحداهما فقدت الحركة، والأسوأ أن الرصاصة استقرت في مكان لا يمكن نــزعها منه إلا ببتر الرجل من جذرها. وهذا ما لم يقبله صاحبها؛ فأن تحمل رجلاً معطوبة خير من منظر الخرقة المتدلية.
...
الصبي المسحور الذي أصبح الآن في المدرسة لا يحبه الأولاد والبنات، بل يخافه حتى الأكبر منه سناً وجسماً مع أنه ككل الأطفال برأس كبير وشعر أشعث وأنف يظل يسيل. ولكن في عينيه بريقاً شيطانياً يخاف منه حتى الحاج نفسه، بريقاً يذكِّر الكفّار أنفسَهم بأن وراء هذا العالم عالماً آخر.
والولد الذي ما كان قد وعى إلى الآن أصل أمه ومصيرها بدأ الآن يسأل أم سلوى، وخصوصاً أنه يرى للأطفال زملائه في الصف ورفاقه في الحارة أمهاتٍ. وإذا كان الأطفال يصمتون عن أمه وأصلها ومصيرها فلأن وراءه الحاج. غير أن ما لا تقوله ألسنتهم تفصح عنه عيونهم وسلوكهم: يتجنبون اللعب معه، ويحرصون على إرضائه بأي ثمن، ولا يكلمونه إلا عند الضرورة، ويخفون عنه مؤامراتهم الصغيرة من مثل الإغارة على دالية فلان، أو الذهاب ليلاً إلى قرية مجاورة أو إلى الملعب.
امرأة واحدة لم تكن تخافه: سلوى.
سلوى التي هي معه في البيت، والتي ربما كانت تخاف منه قبلُ اعتادت على وجوده في البيت. تصغره قليلاً غير أنَّ سلوكها وعقلها يشيان بأكبر من عمرها. طفلة عنيدة تحقق ما تريد وتعارك الأطفال أحياناً إن سمعت كلاماً مسيئاً إلى الولد. لا تستطيع أن تقتنع بأن في وجه الولد ما يبعث الخوف أو القلق. تنظر إليه وتداعب وجهه أحياناً فيزيح أصابعها لأن الأولاد لا يجوز أن يلعبوا في هذه السن مع البنات. وإن فعلوا أصبحوا مضحكة لغيرهم.
بدأ الولد الأتاليك السابق هكذا يسرح بخياله ويغيب عما يحيط به دقائق ثم ساعات. ولم يعد يجرؤ أن يطرح أسئلة عن أمه وعلاقة الحاج به. اقتنع يوماً بعد يوم أن هناك ما يميزه من أقرانه، أن في حياته سراً لا يستطيع أحد أن يعرفه أو يكشفه بأكثر مما يسمع أحياناً همساً من الأطفال الذين يفاجؤون به: ابن جنية !
ما أكثر ما حاول أن يلعب مع الأولاد على البيادر في الصيف حين تفرغ من الغلال، وفي ساحة القرية في الشتاء، كانوا كلما اقترب منهم فضّوا لعبتهم على نحو مفاجئ، أن يذهب معهم إلى أشجار اللوز البري في الربيع، إلى جني الفطر في الصباحات التي تتلو الليالي المرعدة، إلى الغابة لجلب شيء من الحطب للمواقد... ودائماً عندهم جميعاً تعليمات بألا يلعبوا معه. حتى الأقرباء القلائل الذين يزورون بيت أم سلوى يرفض أولادهم اللعب معه رغم إلحاح أم سلوى عليهم.
في صباح، وقد ضاقت به السبل ورفضه كل أقرانه، تبعهم إلى الغابة فهربوا منه واختفوا، هام على وجهه. مشى ومشى على غير هدى، الطريق يقوده وقدماه إلى أن وجد نفسه في قلب الغابة وحيداً. كان يوماً قائظاً من أيام أيار القاسية وقد توجه الفلاحون إلى حشِّ حقولهم. والعشب قد بلغ مداه فيخاف حتى الكبار أن يشردوا لحظة عما يخفيه. وتخرج الحيات تتشمس وتتخلص من جلودها. ثم توقف الطريق فجأة عند دغل كثيف ووجد نفسه لا يستطيع التقدم إلى أيِّ جهة: العشب الكثيف يحاصره والعرق والجوع والعطش، وأهم من هذا كله: الخوف.
الأولاد الملاعين كانوا يراقبونه من دون أن ينتبه إليهم، ربما خوفاً من أبيه الحاج إن حدث له مكروه، بدليل أنهم يتسابقون لوصف ما جرى: رأينا الولد قاعداً يبكي على حجر وحيد وسط الحشائش المخيفة بجانب القبور، وما هو إلا أن ظهرت امرأة _ بعضهم يقول: شبح، وبعضهم جسم غريب لم نر مثله، الروايات مختلفة ولكنهم متفقون على ظهور شيء ما _ وأحاطت الولد بذراعيها _ البعض بردائها الأبيض الطويل، والآخرون لا يميزون تماماً _ فتوقف عنا صوت بكائه. الكبار لا يستطيعون أن يكذبوهم لأنهم كثرة، ومتفقون على الخطوط الرئيسة للحكاية. ثم إنهم، أي الكبار، يروي كثير منهم حكايات مشابهة، وخصوصاً كلما اقترب أحد من المزار في أوقات الظلمة.