عن حياتي

جئتُ إلى الحياة لا أعلم من أين، كما يقول الشاعر. ولكني أتيتُ ولم أُستأذَن أو أُستشَر، كما يأتي كل الناس، في أسرة متوسطة الحال، وفي قرية صغيرة جميلة على فقرِها.

عانيت أمراضاً كثيرة في طفولتي حتى نصحوا أهلي أن يكفّوا عن معالجتي ويتركوني لرحمة الله، ولكن أمي التي كنتُ أصغر أولادها أصرّت للأسف على الاحتفاظ بي. دُفِعتُ إلى المدرسة في سن الخامسة، من ذروة شجرة تين إلى صفٍّ ذي أرضية خشبية من إنجازات المستعمر الفرنسي، دون أن أعرف السبب، ربما كنتُ طفلاً مزعجاً. ومشيت دون تعثُّر، بل متفوقاً غالباً بالمصادفة، لا بالاجتهاد والتصميم، في مدرسة القرية، ثم في متوسطة القنيطرة التي صار اسمها لاحقاً: ثانوية أحمد مريود، وفي ثانوية جودة الهاشمي العريقة في دمشق.

فقدتُ أمي في الخامسة عشرة فكانت مأساة غيّرت مجرى حياة الأسرة فرداً فرداً. وهكذا اضطُررتُ لقلة حيلتي أن أدرس سنة في دار المعلمين بعد الثانوية لأتخرج معلماً ابتدائياً في سن الثامنة عشرة.

تابعتُ دراستي الجامعية في اختصاص كنت متفوقاً فيه، ولكن لا أحب دراسته الأكاديمية. وتخرجت بدرجة "جيد"، رغم أني كنت بعيداً عن دمشق، ولم أحضر أغلب الدروس وأهمّها.

شغلتني أعباء الحياة والخدمة العسكرية عن الأدب إلى أن كتبتُ بعض قصص الحرب. ثم رواية " الخندق " التي قُبِلتُ بها في اتحاد الكتاب العرب في سورية عام 1986 على عمل وحيد خلافاً لنظام الاتحاد الذي يشترط عملين، معتبرين الرواية متميزة.

وترجمتُ من الفرنسية، بتكليف من المركز الثقافي الفرنسي بدمشق، كتاب " الكون والآلهة والناس. حكايات التأسيس الإغريقية " لجان – بيير فيرنان، صدر عام 2001 من دار الأهالي بدمشق.

ولي مقالات في اللغة والفكر، وأكثر من كتاب في النحو لطلابي في المعهد.

وبعد سنوات في الخدمة العسكرية، والتدريس، وجدتُ نفسي أتحول إلى آلة تسجيل، فعدت مع سماح القوانين والأنظمة، إلى الدراسات العليا، قسم الدراسات اللغوية.لم يكن العمل الذي أنجزته لشهادة الماجستير مهماً ولكنه أطلعَني على علوم مهمة مثل علم الكلام، وعلم أصول الفقه، وعلم المعاني...

تركت العمل في الدولة بعد ثلاثين عاماً إلى المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، والتي تغير اسمها لاحقاً إلى المعهد الفرنسي للشرق الأوسط، مدرساً للنحو بخاصة، والأدب القديم، في الدروس الجماعية، والنصوص القديمة من قرآن وحديث وتاريخ عامة... حسب رغبات الطلاب في دروسهم الفردية.

أدين في جزء كبير من ثقافتي الدينية إن صحّ التعبير إلى تخصصي في اللغة، وإلى كتابات المفكر العظيم على تواضعه أحمد أمين. وإلى مؤلفات غربية كثيرة تُرجمت في وزارة الثقافة السورية. بالإضافة إلى القصص والروايات التي كان الوالد يأتي بها، وإلى المجلات المصرية العريقة التي كنت أقرؤها في مضافة جارنا المرحوم صبحي يحيى الطالب الأزهري آنذاك.

كتبتُ ونشرتُ بنشاط في سن النُّضج العقلي، الأربعينيات، ليس أكثر من خمس سنوات، إلى أن استهلكني العمل مع طلاب المعهد في اختصاصات بعيدة عن اختصاصي. ولكني أعترف بأن مخالطة هذا العدد من الطلاب ذوي الأصول المختلفة والاهتمامات المتعددة كانت مفيدة جداً.

وفي الأعوام التالية لإغلاق المعهد عام 2011 عملتُ في ترجمة روايات الكاتب الشهير في جمهورية الأديغي إسحاق ماشباش الذي يكتب بلغتي الأم، فأنجزت عشراً منها إلى الآن.

وهأنذا الآن، وقد قطعت ثلاثة أرباع القرن أحاول لملمة نتاج العمر المبعثر هنا وهناك، وكتبي التي لم يُتَح لها أن تنشر، عسى أن يكون في بعض ما كتبتُ، ولاسيما لتنوعه، بعض الفائدة أو المتعة، على مبدأ الجاحظ.