أديب العالم الثالث ورسالة العصر
ليس دعوة إلى الزهد، ولا إلى اقتحام أبواب السجون، وتقديم الرقاب على المذابح، بل هي وقفة تفكير في موقع الأديب الآن من مجتمعه ومن رسالته.
وأقول " الآن " لأن الأديب العربي في العصور الوسيطة شاعراً وكاتباً لم يحمل بعد العصر الجاهلي رسالة ولا مهمة خطيرة باستثناء بعض الرموز القليلة، وبدرجات متفاوتة كالمعري وابن الرومي وابن المقفع والجاحظ، وربما الهمذاني والمتنبي. أما أمثال أبي تمام والبحتري، وقبلهما جرير والفرزدق... فما حملوا أكثر من أصواتهم الجميلة والعبقرية.
ووجب علينا انتظار الثورةِ الفرنسية، بوابةِ العصر الحديث، بشعاراتها ونتائجها المهمة، ليصحوَ العالم العربي عشية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، متخلفاً قرناً عن مسيرة الثورة القومية العالمية، ويظهرَ جيل من الأدباء العرب مشبَع على الأغلب بثقافة أوربية، وأحياناً بثقافة تراثية أصيلة، ترى في الأديب صاحب رسالة، على رأسهم رفاعة الطهطاوي، وخلفه كوكبة مشرقة مثل طه حسين وأحمد أمين والعقاد في مصر ومجموعة من الصحفيين السوريين المقيمين في مصر كأديب إسحق، والرصافي والجواهري في العراق، وإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي في فلسطين حملت رسالة التنوير.
من هذه النقطة الزمانية يمكن الحديث عن مسؤولية الأديب التي اضطلع بها مختاراً، وعن رسالته الوطنية والاجتماعية والقومية.
وظهر جيل ثانٍ من الأدباء العرب بعد الحرب العالمية الثانية خرج من صفوف الطبقات المتوسطة، واستفاد من توسُّعٍ وديموقراطية نسبيين في التعليم، ومن حركة ترجمة نشيطة أطلعتْه على الآداب الأجنبية. خاض هذا الجيل ما يسمى "معركة الالتزام "، وعقد آمالاً عراضاً على حركة التحرر العربية بما حملتْه من طموحات سياسية وتطلعات اجتماعية، موزَّعاً بين تيار قومي وآخر ماركسي، كلاهما مدعوم بتجربة خارجية مواكبة، غربية أو شرقية، تجربة الرومانسية الغربية الداعية إلى الحرية الفردية، محولاً الفردية إلى القومية، وتجربة الوجودية، تدعو إلى حرية الوطن والأمة وحقهما في الوجود، وتجربة الواقعية الاشتراكية في الشرق، بالإضافة إلى تيار ثالث عدّ نفسه أرفع من أن يخوض مثل هذه المعركة، متحصناً بموروثه الديني.
الآن، في التسعينيات مثلاً، اختلطت الأوراق اختلاطاً شديداً، وهدأت معركة الالتزام، وأُحبطت آمال الحالمين الكبار من الجيل الثاني في المستقبل العربي المنشود، وغامت رؤى الكثيرين منهم. انتحر بعضهم، وتقوقع آخرون على همومهم الذاتية، ولم يبق إلا القليل عاكفاً على همومه القومية والطبقية.
واحتوت الديموقراطيات الغربية معاناة الجماهير بالرفاهية الاقتصادية التي وفّرتها، والحريات الديموقراطية مهما سميناها شكلية وزائفة. وصار الحديث عن فقر العامل الأوربي أو الأمريكي مدعاة للابتسام، رغم أن مفكري الغرب وباحثيه يُقرّون بوقوع خُمس سكان تلك البلدان تحت خط الفقر.
وجرّت الأخطاء الفظيعة للبيروقراطيات المسماة ظلماً بالاشتراكية إلى نتائج مدمرة أخمدت الثورة العالمية الحديثة الثانية، ثورة أكتوبر 1917، وتركت شعوب العالم الثالث في حيرة من أمرها دون قبس يوجهها.
بعد هذه البانوراما غيرِ الشيِّقة: أين موقع الأديب العربي ورسالته؟ تبيَّن للأديب العربي أن نظيره الغربي يعيش من نتاجه الأدبي في بحبوحة، وأنه يقول ما يريد دون قيود تذكر – اللهم إلا العداء للسامية – وتبين له أن أديب المنظومات البيروقراطية الاشتراكية إما أنه باع قلمه لهذه المؤسسات الملتوية، أو تاه في دهاليزها، أو وضع مؤلفاته على الرف بانتظار الفرج (رواية "المعلم ومرغريتا" لبولغاكوف التي نُشرت بعد وفاة الكاتب، وبعد كتابتها بربع قرن) أو لجأ إلى أحضان الغرب، فخسر وطنه وسمعته، ولم يربح من هجرته إلا هالة ثناء عابرة، ومقابلات إعلامية زائفة، ريثما استُهلِك اسمُه، فانكفأ خاسراً دنياه وآخرته.
وتبين للأديب العربي أن أعداء الأمس الذين كانوا صيداً سهلاً كالاستعمار التقليدي والإقطاع اختفوا من الساحة المرئية أو الملموسة، وأضحت مقارعتُهم كمحاربة طواحين الهواء , أو من الهرب من الواقع المعيش. وتبين له أن الأبواب الموصَدة في وجهه أكثرُ من المفتوحة، وأنها ليست باب السلطة فحسبُ فهناك محرمات مسلّمات أخرى.
وتبين أن كل من ينبت ريشه من صفوف أدباء العالم الثالث يصل إلى مستوى رفيع من الشهرة والمعيشة معاً. هذا ماركيز يُسأل في لقاء صحفي عن أفضل الشروط للكتابة فيجيب: أن يتمتع الكاتب بصحة ولياقة جيدتين،ويأكل وينام جيداً. ويستعرض حياته فيراها مرفهة، يمتلك أكثر من شقة أو فيلا (على اختلاف التسميات) في أكثر من بلد. ويُستقبَل بالترحاب حيثما حلّ، لا يشكو من شيء مما يشكو منه الأديب العربي المغمور. ويستعرض حياة نجيب محفوظ فيراها خالية من العُقد، يقول عن نفسه: كانت طفولتي طبيعية، لم أعرف الطلاق أو تعدد الزوجات أو اليُتم، نشأت في ظل أسرة هانئة مستقرة. عاش حياته منظماً شديد التنظيم. ويرى عبد الرحمن منيف وحنا مينة وآخرين تُدرّ عليهم كتاباتُهم الآلاف، يعيشون حيث شاؤوا معززين مكرمين. ويرى آخرين من العرب يعيشون متنقلين بين عواصم الشرق والغرب في أمان وراحة بالٍ من السؤال والجواب، ومن همّ المعيشة ومن منغّصات الحياة اليومية.
يرى كل هذا فيتوقف مثقَلاً بالخيبات الخارجية والإحباطات الذاتية: وما معنى النضال إذن؟ ومَن الأديب المناضل، وأين هي الرسالة؟ أهو حمل السلاح في وجه كل سلبيٍّ؟ أهو قول الحقيقة واضحةً أو نصف واضحة حسب المعادلات التي يقيمها في ذهنه.
أهو تجنُّبُ الوقوع في شرك المؤسسات: إغراءاتِها وإرهاباتها؟ والالتواء ما أمكن لإيصال الحد الأدنى من رسالته؟
أم هو النضال لترسيخ القِيَم الإيجابية جماليةً وإنسانيةً؟
أم لا يبقى له من النضال إلا اغترابه الذاتي.
هل يستطيع أن يستعيد سيرة ديستوفسكي الذي نُفي وسُجن ودغدغ حبلُ المشنقة عنقه؟
أم سيرة تولستوي الذي تخلى عن أملاكه وانبرى للدفاع عن كل قضية إنسانية عاصرها وتنازل عن قمته الفنية ليحمل رسالة محو الأمية عبْر قصص مبسطة ورسالة تعليم الفتيان وتعليم العلوم العصرية.
أم سيرة غوركي المشرد عبر سهوب روسيا قبل انتصار ثورة أكتوبر عام 1917؟
أم سيرة ناظم حكمت وقد حُكم عليه بأكثر من نصف قرن من السجن فنجا من نصفه بتدخلات خارجية لشهرته العالمية؟
ونكاد نقتصر على السيَر المجاورة مكرَهين.
أليس أصحاب الرسالات الصغار مُحقّين نوعاً ما في انضباطهم وهم يرون الغرب تلقّف أدباء الشرق المعارِضين لأغراض إعلامية، ويرى عدد كتاب العالم الثالث السائحين في الشرق والغرب يساوي، إن لم يفُق، عددهم في أوطانهم.
وإذا كان العالم هبّ لنصرة ناظم حكمت، وإذا كانت الجماهير من حين لآخر تحتج على اعتقال أديب؛ فمن يسمع بمضايقة كاتب مغمور ومن يعرف اسمه أصلاً؟ ومن الذي يملك الآن وسائل الإعلام؟
فأين أصبحت رسالة الأديب؟ وأين أضحى موقعه النضالي؟ أي رسالة ستصمد الآن أمام إغراءات الاستكتابات وحقوق النشر وعائداته، وأمام الإغراءات للكتابة للسينما والتلفزيون، وأي رسالة ستصمد أمام الطمس الإعلامي للأديب الذي لم يبق له جمهور؟!
*الحرية العدد 419. 8 / 1991.