أصل الحكاية
كان أهونَ على الرقيب عبد القادر أن يقتحم منعة معادية، أو يكلَّف باستطلاع ما وراء خطوط العدو، أو يأكل رأس الحية، من مهمته التي كُلِّف بها بعد الاشتباك.
وعبد القادر واحد ممن تستطيع الاعتماد عليهم في كل شيء؛ بل تجده أمامك وأنت تواجه أي مشكلة في السرية: يستعصي مدفع في حقل الرمي فإذا رأسه يطل من الفتحة، ودون أن يستأذن تراه يفك ويركِّب ويشرح لك العطل، أو يُطلَب منك ضابط صف لمهمة خارج السرية فلا يخطر ببالك غيره، أو تتذكر بعدما غلى إبريق الشاي أن السكر نفد من خزانتك فترسل أول ما ترسل إليه. وحين يطول بك ليل الصيف على قِصَره فيضيق بك الفراش تُلفيه على باب خيمته وأمامه كأس المتّة أو إبريق الشاي وعلبة الدخان " الحلّ" وفي ذهنه ألف حكاية وحكاية.
لهذه الأسباب، وأسباب كثيرة أخرى لا يستطيع المرء تحديدها، كان من البديهي أن يستدعيه قائده غداة الاشتباك واثقاً من أنه الوحيد الكفء لهذه المهمة:
_ عبد القادر: لابد أن نتأكد من مصير طاقم الملازم علي، ليس من أجل تنظيم استمارات استشهاد لهم فحسب، بل لنرسل إلى ذويهم ما تبقّى من رفاتهم. أعرف صعوبة الحصول على رمادهم وسط فوضى الدمار الذي تُحدِثه الإصابة؛ ولذا لم أفكر في غيرك.
حمّمت الجملة الأخيرة عبد القادر عرقاً وهو يودّع قائده دون انتظار تعليماته؛ فكل شيء مفهوم: تحمل أربعة أكياس صغيرة أو ما شابهها، وتسير على قدميك فمن العبث أن تطلب الآن سيارة ولا سيما أن المسافة قريبة لأن نصف سيارات الوحدة مدمَّر ونصفها الآخر في الخدمة، وتتوجه إلى الفسحة التي حولتها الدبابات إلى مستنقع من الغبار، ثم تتسلق الدبابة المدمرة...
كأن سوطاً يلسع ظهر عبد القادر كلما وصل إلى هذه المرحلة من مهمته يجبره على أن يبتكر خواطر غريبة يسرح فيها بعيداً عن موضوع الساعة ما تلبث أن تتبدد كدخان قذيفة ليطفو من جديد موضوع الرفات. تقبّل عبد القادر كل عبثية الموت، تقبّل بعد أن شهد ما شهد، أن يتحول رفيق البارحة الذي كان يشاركه طعامه وحياته إلى جثة مثقَّبة، إلى جثة شائهة، إلى ذكرى؛ بل تقبّل أن يضم الملازم الذي كان يأمر وينهى، ويدرب ويقود الرمي، في كيس صغير، أن يحبس حيوية بسام وطرافته وشقاوة صباه، أن يعقل بداوة حسن وعفوية شكري في ظرف يحمله في جيب كمامته أو بنطاله، ثم يرفع العشرات والمئات هذه الحفنة من الرماد ويمشوا بها ويهللوا ويبكوا عليها، أن تُقبَر أحلام الذين ماتوا والذين عاشوا في حفنة رماد أو ظلام قبر؛ لكن سؤالين ظلاّ يشغلانه: كيف سيميز رفات أحدهم من رفات الآخر، كيف سيجزم أن هذا رفات الملازم وهذا رفات شكري؟ لو أن كلاً مات في مكانه! لو أن الموت كان منطقياً، كان طبيعياً، عادلاً! ثم ما الذي جعلهم جميعاً يموتون؟ أيكذِّب رفاقه الذين حلفوا أنهم رأوا اثنين من الأربعة خارج الدبابة بعد الإصابة؟ لابد أن هول الموقف يشوّش ذهن الإنسان وذاكرته، ولكن إذا كان أكثر من واحد يؤكد خروجهما فالأرجح أنه الصواب؛ إذن ما الذي قتلهما؟
... كحصان حزين على فارسه أقعت الدبابة الشهيدة وسط فوضى الطبيعة مجللة بسواد الحريق. يكاد عبد القادر يشم من بعيد رائحة النار والبارود واللحم المشوي رغم مضي يوم على معركتها الأخيرة؛ ليس لأن حاسة شمه خارقة ولكن لأن غبار حقول الرمي، وشمس تموز، ولسْعَ ليالي الحراسة في كانون، وساعات ترقُّبِ الإجازة، وقصعة البرغل والحساء، تؤلف عالماً يستحيل تكراره أو اصطناعه؛ وهل من أسرة يعيش أفرادها معاً أربعاً وعشرين ساعة من أربع وعشرين إلا أسرة الدبابة والفصيلة؛ حتى لَيحفظُ أحدهم خروم أردية رفاقه وثقوب أحذيتهم، طريقةَ تناولِ كلٍّ منهم طعامه، طريقةَ تعليق اللفافة بين شفتيه، وتسرُّبَ الدم من وجهه إذا رُفضت له إجازة، وحماسته الطفلية إذا حمل حقيبته واتجه إلى قافلة المبيت. يستطيع عبد القادر الآن تكوين طاقم الملازم، إعادةَ كل منهم إلى جلسته، إلى سلوكه في الخيمة. يعرف كلاً منهم بأفضل مما يعرفه أهله، أن ينظم لكل منهم، ليس استمارة فحسب، بل مجلداً.
على مقعد القيادة إلى اليسار والخلف من البرج الملازم علي. اضطر إلى رفع كرسي القيادة إلى أقصى مدى له لكونه مفرطاً في القصر، فاقترح عليه بعض الخبثاء أن يفصِّل مخدة ترفعه على غرار سائقي الشاحنات إلا أن المشكلة تحولت إلى قدميه اللتين لن تجدا مسنداً لهما إلا ظهر الرامي المسكين. ولم يعدموا حلاً لهذه أيضاً: لماذا لا يتربع على كرسيه أو يُقعي كبدوي في خيمته؟!
كل هذه المداعبات كانت تجري في منأى عن مسمع الملازم؛ فهو ملازم إن شاؤوا أو أبَوا، وهو متقن مهنة الدبابة كأنه ليس مهندساً زراعياً في الأصل بل وضعته أمه قائد دبابة أو رامياً، أو حتى سائقاً ومعمراً. وهو قلما يمازح أحداً على الرغم من أنه يعايش الفصيلة نصف حياته على الأقل ما بين برامج تدريب وصيانة ومشاريع قتالية وتمارين رمي. مرة واحدة تجرأ الجنود وضحكوا أمامه، ذلك أن ثائرته ثارت _ على غير عادته _ على معمره؛ ولما كان مدى ذراعه غير طويل لم تصل كفه إلى غريمه فترجّح وكاد يسقط أرضاً كملاكم زاغ منه خصمه. ثم سقط في حضن المعمر الذي فرد ذراعيه غريزياً، فضبطوا أنفسهم برهة ولكنهم لم يلبثوا أن انفجروا.
وأمام الملازم مباشرة، وفي زاوية ضيقة أشبه بقبرِ فقيرٍ يقبع شكري حسّو الذي لم يكن أحد ليصدق أنه رامي دبابة يملك مدفعاً ورشاشاً ومنظاراً؛ بل ومدوراً للبرج كهربائياً لولا أنه يبيّض وجه الفصيلة دائماً، ووجه السرية إن لزم في تمارين الرمي؛ وذلك أن العِداء بينه وبين اللغة العربية، فصحاها وعاميتها، كسا وجهه بمسحة من الخبل. وقد أدّى هذا العداء إلى أمرين: أحدهما أنه لم يحفظ أي معلومات عن سلاحه سوى استعماله، فكان الجنود إذا اختلفوا في أمر يتعلق بالسلاح أو القتال قالوا:
_ اسألوا شكري فهو المرجع!
والثاني أن أباه آمن أن ابنه هذا لن يصلح بهذا اللسان لمهنة التهريب التي يزاولها أهل قريته فأوكل إليه كافة المسؤوليات الزراعية والرعوية. ولما سأله رفاقه في الفصيلة يوماً لماذا لا يمارس التهريب كسائر أبناء منطقته احتار شكري في التعبير الصحيح، ثم وجده:
_ أنا مسكين لا أعرف الكلام!
آنذاك انفجر المعمر ضاحكاً فلم تصل يد شكري إلاّ إلى وابور الكاز المشتعل فقذفه به. ولولا أنه تسرّع ولم يقدّر المسافة والاتجاه لشوّه وجه رفيقه إلى الأبد. وهذا الغضب المدمر إحدى أهم سيئتين فيه؛ أما الثانية فهي الصدق الخارج عن حدود ما يسمح به التعامل البشري؛ فحين يتصدى لمسح الرشاش يبحث عن الزوايا الميتة التي لا يصل إليها لا سيخ التنظيف ولا ضوء الشمس، تاركاً ظواهر السلاح؛ فيظل رفاقه يلحّون:
_ يا شكري امسح ما يظهر من الرشاش أولاً فالتفتيش لا يرحم.
ويظل هو يردد:
_ أنا لا أكذب؛ النظافة قبل التفتيش.
هذا الصدق الفطري كاد يودي به وببعض فصيلته في أحد الاشتباكات قُبيل الحرب: كانت دبابته ترمي من وراء مستر ترابي حين توهّم شكري أن شيئاً من تراب المسند اجتاز فوهة السبطانة فأمر السائق _ وأمرُ شكري لا يردّه حتى الملازم _ بالتوقف: يجب مسح المدفع وإلاّ تمزّق قميص السبطانة، وهذا يعني خروج الدبابة كلها من المعركة.
امتثل الطاقم للأمر ولكنهم رجَوه أن يلفّ فرشاة الممسحة بخرقة رقيقة لتسهيل المسح من جهة، ولخطورة الموقف من جهة أخرى؛ إلا أنه أصرّ:
_ أنا صاحب المدفع!
_ أنت صاحب المدفع ولكن الدبابة وأرواحنا في خطر!
_ ومن يحمي أرواحكم إذا تعطّل المدفع؟
لم يُحِر أحد جواباً، وابتهلوا إلى الله أن يتنازل شكري شعرة عن صدقه؛ غير أن هذا العيب أصيل فيه، فاستعصت الفرشاة في السبطانة. ولولا رباطة جأش الملازم والتفاف الفصيلة حوله في محنته لظل فم المدفع محشواً بالخرقة إلى آخر الاشتباك.
... وعلى يمين الملازم، وفي فسحة أوسع، يقف العسكري المجند بسام القادري لأن مهنته تتطلب الوقوف. يستطيع أن يذهب بشكري وسائقه؛ بل وقائده، إلى البحر ويعود بهم عطاشاً لولا أنه يخاف من كلٍّ منهم لسبب خاص به: من الملازم لأنه لا يفرد له وجهه، ولا مجال للمزاح معه. ومن شكري لعصبيته التي لا يعرف أحد متى ولماذا تنفجر. ومن السائق لأن له حدوداً بدوية للتعامل متى خرقها أحد استحال وحشاً من وحوش البادية يطلب الثأر. تجد تحت فراشه ما تشتهي أن تقرأ من كتب ومجلات رغم أنه رسب في الشهادة الإعدادية أربع سنوات. وحين يفتح سجلّ حياته المدرسية يضطر المتزمتون من أمثال الملازم أن يشيحوا بوجوههم، فيروي كيف حوّل القسط المدرسي السنوي إلى ليرات وأنصاف وأرباع فشغل مدير المدرسة طوال النهار بعدِّها. وأمام الغرباء عن الفصيلة يبدأ سيرة حياته قائلاً:
_ لما كنت في السنة الثالثة...
فيتنحنح أحد زملائه فيصحح بسام عبارته:
_ أعني في الشهادة الإعدادية.
أفضلُ ما فيه عدمُ تذمُّرِه من أي صعوبة، ومَن كان يستطيع تحمُّلَ شكري مثلاً غيرُه؟ ورشاقته البدنية الموازية لخفة دمه، والتي كادت تُسقط الملازم يوماً ثم دمرت وابور الفصيلة.
... وأمام شكري، المتطوع الوحيد مدة خمس سنوات، العسكري حسين الحميدي. وبما أنه لا متطوع غيره في الفصيلة يعدّ الدبابة، بل الفصيلة كلها، ملكاً له. وكلما اضطروه جابههم بهذه الحجة:
_ أنتم راجعون إلى بيوتكم غداً، أما أنا فإلى الأبد.
أصعبُ ما عليه أن يحضر الدروس النظرية، فإذا حضرها مرغماً ظل طوال الحصة الدرسية ينكش أرض الخيمة بمفتاح أو عود كمن ينقّب عن شيء مهم؛ وإلاّ أمضى نهاره على سطح دبابته يفك ويركّب، وينظف ويعيّر، ويدخن بحرية، ويحتسي الشاي؛ وحينذاك تجده صافي المزاج حلو المعاشرة. وإذا تمادى أحدهم في المزاح معه انقلب نمراً هائجاً. ومثلما يهيج في لحظة فيرغي ويزبد تنحسر ثورته فجأة فتعود إلى وجهه سمرتُه. هذا مع أقرانه أما مع رؤسائه فهو انضباطي. حتى وإن شعر بالظلم عاقب نفسه دون أن يبدر منه ما يقلّل أدبه. تلاسن يوماً مع أحد مجندي الفصيلة فعاقبهما الملازم بأن يرقدا تحت شمس الهاجرة عاريين. ولم يهن الأمر على حسين فهو عسكري متطوع ولا يجوز أن يعامَل معاملة المجندين الذين لا تهمهم مثل هذه العقوبات كثيراً مادامت لا تضيف شيئاً إلى خدمتهم، فشرع يتدحرج على أحجار الموقع وأشواكه مردداً بنبرة شاكية:
_ تهون يا حسين تهون؛ كلها أربع سنين وثلاثة أشهر وتسعة أيام!
ظلت عبارة حسين مبعثاً للمرح في صدور زملائه غير أنها كانت مؤشراً للملازم ليرتدع عن مثل هذه العقوبة مستقبلاً فقد ارتبط مصير الرجل إلى الأبد بسلاحه؛ فلا يصح بعد الآن أن يتعرض لما يعده إهانة.
... كان حسين الحميدي أقربهم إلى النجاة، لا لسبب إلا لأنه سائق الدبابة. والسائق إن لم يُصَب عشّ الذخيرة الذي بجانبه إصابة مباشرة كتب الله له النجاة ولو محترق الظهر واليدين. وقد نجا فعلاً؛ يشهد على هذا رفاق الفصيلة: رأوه ينقذف من بابه بسرعة ظرف الصُّفْر الفارغ وينطلق بضع خطوات إلى الأمام. لا شك أنه كان فاقداً وعيه لأنه توقّف فجأة ثم استدار وقفز إلى البرج المشتعل. انقذف المعمر في اللحظة نفسها التي وصل فيها حسين فاستعاد وعيه قبل أن يعدو هو الآخر بضع خطوات. يخمّن عبد القادر استناداً إلى نقطة الإصابة أن الطلقة كانت قد خرقت جذع شكري، أو بترت ساقي الملازم، أو فعلت الاثنين معاً. ويقدّر عبد القادر بينه وبين نفسه أن حسين وبسام رجعا إلى الدبابة المشتعلة لإخلاء الملازم وشكري، وكان السباق بينهما وبين الزمن رهيباً ولا سيما أنهما تعرّضا قبل لحظات إلى امتحان قاسٍ، ولأن إخراج مصاب من بين عشرات النتوءات والاستطالات والأجهزة وانتشالهما عبر دخان الانفجار وناره وغازاته الخانقة عبْر فتحة ضيقة يخرج الإنسان منها وهو معافى بشق النفس لا شك أنها معركة غير متكافئة، وقد خسرا السباق فعلاً فلم ير عبد القادر الذي كان يتعقب بدبابته قائده أثراً لأحد من طاقم الملازم بعد عودة حسين وبسام إلى الدبابة الجريح.
هل يعود أحدنا بإرادته إلى الموت الذي هرب منه قبل لحظات؟ سؤال ظل يشغل ذهن عبد القادر وهو لا يكاد يصدّق ما يرويه رفاقه من أن اثنين من طاقم الملازم خرجا من الدبابة. وإذا لم يعودا إلى الموت فأين هما إذن؟حين يجيب " نعم "يجفل عبد القادر كمن لذعته النار حقيقة، وحين يجيب " لا " تصفعه شهادة رفاقه. أما الآن وقد أوشك أن يصل إلى الدبابة الشهيدة فقد انبجس الجواب في ذهنه أو هبط عليه الوحي، جوابٌ يحاجج به أي إنسان، ويباهي به؛ وكيف لا وهو الرقيب المثقف المجرِّب: لا يمكن التنبؤ بسلوك الإنسان مسبقاً تجاه حدثٍ معين؛فهو رهن بعوامل كثيرة إلا أن أهمَّها اللحظة التي يجري فيها الحدث. لو سئل عبد القادر قبل أن يصل إلى هنا: ماذا كنت ستتصرف لو كنت مكان حسين أو بسام لتردد أو تهرّب أو أجاب غيرَ مقتنع؛ أما الآن، وقد عاين عن كثب ما جرى، رأى فوهة الموت الفاغرة في خاصرة الدبابة المنكوبة، والبرج الذي صهر الحريق مكامن ضعفه وغيّر بوحشية ترتيبه الدقيق وقلب كل ما هو مألوف فيه من جهاز إشارة وطلقات وصناديق، كلَّ ما تعب في صنعه وصفِّه والحفاظ عليه.. الآن يستطيع وقد استعاد تفكيره الذي عطلته مشاعر الضعف الإنساني منذ أيام أن يجيب: كنت سأفعل ما فعله حسين وبسام، لا لأنني بطل، ولا لأنني أبحث عن قصة أو وسام؛ ولكن لأنني لا أستطيع أن أفعل غير هذا.
نزل إلى صحن البرج بحذر شديد كأنه يخشى أن يطأ ظهر أحدهم أو رجله، تنازل سريعاً عن فكرة البحث عن لوائحهم المعدنية التي تميز _ إن وُجدت _ رفات احدهم من الآخر، حضن بكفيه رفاق المصير في كيس واحد. ثم مضى.
الأسبوع الأدبي