أصول الصوفية [1]
جان شوفالييه JEAN CHEVALIER
- تعدد معاني الكلمة:
وُجدت الصوفية قبل أن تُسمى باسمها، وتطورت في ظل هذا الاسم نفسه ممارساتٌ وعقائد متنوعة. ومع ذلك تدل "الصوفية" أكثر من " الصوفيات" على مجموعة موحدة ومتعددة من المقوّمات، العقائدية منها والممارسات، الموزعة توزيعاً غير متساو في الواقع التاريخي لأنصارها أو أعضاء أُخوّاتها[2]، ولكنها مجموعة من جديد في اتجاه واحد. يظهر لقب "الصوفي" لأول مرة تبعاً للوثائق المعروفة إلى يومنا هذا في عام 776 م منسوباً إلى زاهد عراقي. ويُطلق لقب الصوفي في القرن التاسع في الكوفة وبغداد على طوائف من الزُّهّاد والمتصوفة MYSTIQUE المعروفين بتقشُّفِهم. وتظهر في الإسكندرية عام 828 مجموعة من المتزمتين PURITANT[3] المتمردين على فساد السلطة. وفي عام 980 م في مسجد القاهرة يتأسس المنبر الأول لتعليم الصوفية، وبعد أحد عشر عاماً يتأسس منبر آخرُ في بغداد.
تكشف متابعة التطور التاريخي لهذه الكلمة أكثر مما يكشف الاشتقاقُ اللغوي الصرف الملامحَ السائدة للصوفية التي تعرّفناها من خلال المأثور. والأصل التاريخي الأكثر احتمالاً بينها يربط الكلمة بالجذر العربي " صوف" لأن الصوفي سيلبس "خرقة " من الصوف، وهي علامة خارجية على الفقر، أو على الأقل علامة على الرغبة في الإعراض عن الدنيا. ولن يلبس الأنصار كلهم، ولا دائماً، لباس الصوف، إلا أنهم جميعاً يسعون إلى هذا الزهد الداخلي الذي ترمز إليه ثياب الصوف. وسيتخذ بعضُهم خرقاً مهترئة ومرقَّعة، وآخرون ملابس عادية تبعاً لأعراف أوساطهم. ولن يُستبعد أبداً بعضُ أشكال الأناقة الشرقية من جلابيب ثمينة ملونة، وأردان إضافية، وسراويل قصيرة فضفاضة، وعصيّ محفورة... ولكن الأساتذة سيستهجنون كلَّ تعرٍّ وكل تعمُّدٍ لإظهار البؤس، وكذلك كل بذخٍ، وسينهالون بسوط من الهجاء اللاذع على كل ما هو غريب وشاذٌّ في مظاهر مريديهم.
كانت الخرقة، ولو أنها ليست إجبارية، تحافظ على أهمية قدسية ومُسارّية.[4] ومراسم المسارّة تتضمن خلع الخرقة على مريد جديد. يكتفي الشيخ أحياناً بأن يضع، للحظة، طرفاً من خرقته على كتف مريده ثم على رأسه. ويُفترض في هذا القماش الصوفي أن ينقل الفيض الإلهي الذي امتلأ به. وكذلك في خلال طقوس الرقص عندما يترك صوفي ما، وقد بلغ حالة من الاستغراق اللدُني، خرقته تسقط، كان يحدث أن يسارع المشاركون إلى التقاط الخرقة وتقاسُمِها مِزَقاً كما لو أنها رفاتٌ مشبع بقدرات خارقة. وقد يكون بَيعها فيما بعد تدنيساً.
يربط اشتقاق آخر كلمة الصوفية بـــ " الصفا" و" الصفوة " بمعنى النقاء PURETEE لأن الصوفي وهو يستبطن زُهده، يُظهر رغباته الأكثر استتاراً. وتعتمد حياته الروحية على تنقية كل أعماله إلى حد التمييز بين المسؤولية نفسها وتنفيذها ومعرفة نوايا ضميره. وكان مريدٌ لشيخِ بغداد الحازمِ الجنيد أبي بكر الشبلي (861 – 945) يقول وهو يُشيد بالنقاء المفرط لأحد الصوفيين: " إن الصوفيين يستحقون اسمهم بسبب بقيةٍ تبقى عليهم، وإلا فلن ينطبق أي اسم عليهم ". وقد قورِبت الكلمة على معنى التنقية الكيمياوية أيضاً بردِّها إلى اسم الكبريت SOUFRE.
واقترح أصل ثالث إعادة الكلمة إلى اليونانية، أي إلى "سوفيا" التي تعني الحكمة. وتصدر عن هذه الكلمة فكرة مدرسة للحكمة. إن من الأكيد أن الصوفية وهي تعتمد على الشريعة الإسلامية تطورت في مقاطعات لها صبغةُ المسيحية والهيلينية. ومالت الصوفية كما مال الفلاسفة والزُّهاد والصوفيون من هذه البلدان إلى المعرفة، ليس إلى أي معرفة كانت، فإن معرفة الله الأحد فوق الجميع، وأكثر من هذا ليست المعرفة عقلية فحسب، بل تُحصَّل أيضاً عن طريق الانقطاع عن الدنيا، وبصفاء القلب، وحبِّ الله. وتقود معرفةٌ عذبة مضمَّخة بمثل هذا الحب إلى الوحدة التي تُحيل المخلوق البشري إلى خالقه النور الرحمن. وستُجبر ظروف تاريخية الصوفيين على شيء من الباطنية ESOTERISME، ويمكن أن تُعدّ بعض النظريات صيغة إسلامية للغنوصية GNOSTISISME، بل لـــ "وحدة الوجود" PANTHEISME.[5] وسيؤسسون دائماً مدارس للحكمة في الإسلام.
فهذه إذن الخصائص الرئيسة الثلاث للصوفية: انقطاع عن العالم، وتطهير، وحكمة توحي بها دلالة كلمة الصوفية. وسيطوِّر التاريخ هذه الخصائص إلى تنويعات متعددة.
- 2. المعرفة بالتجربة: يضع التصنيف الإسلامي للعلوم، تبعاً لمقدمة ابن خلدون (1332 – 1406) الصوفية بين العلوم النقلية التقليدية. يعني التصوفُ تكلُّفَ الصوفية. ونجد هنا ثانية الجذر " ص. و. ف" الذي يقودنا إلى كلمة التصوف. وتوازي هذه الكلمة الأخيرة صرفياً " التسنُّن " و" التشيُّع " أي تكلُّف السنّيّة والشيعية. ولكن التصوف لا يقبل التحول إلى أيٍّ من هاتين الكلمتين لأن الصوفية تعدّ في صفوفها سُنّةً وشيعة، سواءٌ بين أنصارها الأشد حماسة أم بين ألدِّ خصومها. وبالمقابل يشير ه. كوربان إلى أن كلمة التصوف أُزيحت في القرن الثامن عشر بسبب مرحلة طويلة من الفتور وفقدان البريق ليحل محلها " العرفان " (عقيدة صوفية)، و" العُرافة" (وهم قوم يجمعون بين اللاهوت والفلسفة والتصوُّف).
إن الموقع الذي يشغله التصوف في تصنيف ابن خلدون معبِّر جداً: هو بين" الكلام " وهو اللاهوت الإسلامي التقليدي، وتأويل الأحلام (أقاويل ورؤى وصور وانفعالات ومعجزات)، أي دراسة القضايا التي تطرحها المعاني الثانوية للتواصل.. ويجعلنا هذا الموقع المتوسط نخمِّن العلاقات القريبة جداً والمتعاضدة أحياناً، والمتناقضة أحياناً أخرى والممتدة، التي حافظت عليها الصوفية مع العقيدة السُّنية من جانب، ومع التفسير الباطني من جانب آخر.
يرتسم موقع الصوفية الدقيقُ والممزَّق أحياناً بين هاتين الحلقتين اللتين استقطبتا الروح الدينية، وهما المعرفة المباشرة بالذات CONSCIENCE والمعنى الحرفي التقليديان للإسلام والانفتاح على "لاوعي" INCONSCIENCE النماذج الأولى ARCHETYPE[6] وعلى المعاني غير المباشرة للنصوص المقدسة وعلى الثقافات الأجنبية عن الإسلام، والقادرة على إنارة المسيرة الصوفية إلى عمق عالمي. إن الصوفيين، هم أهل التصوف، أي حسب تعبير ل. غارديه " طريق تجريب الأعمال الإلهية، ولاهوت صوفي معيش " وستسمى تجربة كهذه في صمت خارج عن عالم الكلام:
لم يبق بيني وبين الحق تبياني ولا دليلٌ ولا آياتُ برهانِ
هذا تجلي طلوع الحقِّ نائرة قد أزهرت في تلأليها بسلطانِ[7]
وهذا هو الانتقال من حالة الانغمار في المادة إلى حالة المخلوق المتحول.
إذن ليست الصوفية أولاً " نظراً " SPECULATION فلسفياً لاهوتياً كـــ " الكلام " (علم الكلام) ـ ولا تأويلاً للأحلام بالمعنى الفرويدي، ولا مزيجاً من اللاهوت والتصوُّف بالمعنى الحديث. إنها تتجلى قبل كل شيء كتجربةٍ داخلية، طريقةٍ للحياة والسلوك / إنها "حجٌّ في الأعماق" وهي تعبير عن " انجذاب إلى الأعالي"، هذا التناقض في الألفاظ (أعماق – أعالي) يسِم في الحقيقة الحركة المزدوجة للوعي: انسحاب إلى الخواء الداخلي والوحدة INSTASE حيث يتألق حضور الله، وانعتاق من الذات نحو الله بالوجد EXTASE[8]. وهو تعاقُبٌ يقارَن غالباً بانقباض القلب وانبساطه. إن فكر الصوفيين سيُفْهم برصد حياتهم أكثر من كلمات عقيدتهم رغم وفْرتها. ورغم تدرُّجاتهم الدقيقة، ورغم شِعرهم؛ فإنهم، حتى أعمقهم عقيدةً بين شيوخهم، يعلّقون بحياة الصوفي أهمية أكبر من أهمية صياغة فكره.
3. موقع متنازع
ترفع الصوفية إلى الحد الأقصى التوتر بين القانون الخارجي (الشريعة) أو قاعدة الحياة، والقانون الداخلي (الحقيقة أو الحقيقة الإلهية) التي تشهد عليها حياة الصوفي، ليس بالكلمات والطقوس فحسبُ. وهذا هو أصل التمييز بين الظاهرية والباطنية. إن الشريعة تُجبر على التقيُّد بشعائرِ العبادة "التقوى " وأعمالِها المفروضة بنصوص مقدسة لدين ما، والتي هي في حالتنا القرآن، بواسطة الموروث العائد إلى النبي أو إلى الله نفسِه، أي الحديث وتفسيرات الفقهاء والعلماء المعتمدين. إن الحقيقة هي الواقع الذي يميل الصوفي إلى الاتحاد فيه بتحقُّقٍ سري وغير مرئي. وكلٌّ منهما (الشريعة والحقيقة) يكمل الآخر. فأولهما يدعو إلى الطاعة، والآخر إلى الحب. الأول ينظم الحياة الخارجية، والآخر ينشِّط حياة التأمل. ويجد الصوفي نفسه أحياناً في موقع ملتبس بين قوتي الناموس والدعوة الإلهية إلى شخصه. وسيوفَّق شيوخ صوفيون، وخصوصاً الغزالي، بين الاتجاهين، ملاحظين أن الشريعة هي الوقع العام نظراً إلى أنه يمثل إرادة الله، وأن الواقع المعيش هو أيضاً الشريعة نظراً إلى أنه حضور الله بالمعرفة والحب في قلب مخلوقه. وسيصونون هكذا الحياة المتفردة للصوفي في قلب المجتمع السني الإسلامي.
ورغم أن الأولياء المسلمين لا يتوسلون إلى كل هذا فإن الصوفية الإسلامية هي الطريق الصوفي العام إلى الإسلام مجازاً. وتمثّل الصوفية المعركة الروحية (الجهاد) التي تلحّ على تطهير الروح بالتقشف والمشاهدة CONTEMPLATION وذِكر الله. إن كل الحياة النفسية الإنسانية، تبعاً للمستويات الأنتروبولوجية الروحية للعصر متضمَّنةٌ في هذا الجهاد الداخلي من النفس، أي الوظيفة المحركة لأعضاء الجسم البشري إلى الحق، أي المعرفة والشعورية الطبيعيتان، وهو المستوى الأول للوعي بالنسبة إلى اللاوعي؛ إلى الروح وقابلية الروح البشري لمشاركة الروح الإلهي؛ إلى السر، أي النفس القادرة على حب متوحد بالله. ويعبُر هذا الارتقاء الـمُساري متاهة من المحن التي يتحتم أن يقودها دليل ممتحَن. وفي غالب الحالات الانخراط في جماعة أو أخوية مؤلفة تحت سلطته. وتغمر نعمة الله هذه الحركة للوصول إلى الإشراق. وهذا الإشراق موصوف أحياناً تحت مظهرها الغنوصي[9] للمعرفة، وأحياناً تحت مظهرها العشقي. ويتلاقى الاثنان نحو الاتحاد الأشدِّ حميمية بالله. إن هذه الإرادة في الصلة الشخصية المباشرة مع الله، وهذا التأويل للمعاني الثانوية للكلام الإلهي الرمزي الروحي الباطني، وهذا الجهد لتحقيق ذاك الكلام الإلهي في الذات في سيرورة تطابق، [كل هذا] يتسرب رغم كل الاحتياطات المتخذة على شكل عنصر اضطراب فرداني ومقلقِل في وسط الأمة الإسلامية. وهكذا مارس الفقهاء الرسميون للشريعة الذين فرضوا أنفسهم مدافعين شرسين عن السُّنّة هيمنة دقيقة على المجتمع المسلم، ولاحقوا الصوفيين وأخوياتهم على أنهم مهرطقون وخونة. واجتهدوا موجِّهين هذين الاتّهامين لدفع السلطات المدنية إلى إدانتهم وسَجنهم وإعدامهم. وقد شكا ابن عربي شكوى حادة من هذه التصرفات الشائنة للفقهاء متوسلاً لهم رحمة الله. ومع ذلك مرّت عهود من الراحة في ظل سلطات أكثر تسامحاً، بل كانت منحازة أحياناً إلى الصوفية رغم معارضات السنّة الشديدة.
وربما تصادَف معظم هذه الملامح في إطارات اجتماعية ثقافية أخرى غير الإسلام. وهي تتجاوز حدودها الزمنية لتسِم موقفاً روحياً ما. وهكذا يجري الكلام على صوفية كونية وصوفية خارج – تاريخية تمضي من سقراط إلى غوردجيف[10]، وأبعدَ من هذا، كلّ أولئك الذين قد يتعمقون في الغيب. " زمالة الأرواح الحرة والـمُنارة". إن توسُّعاً كهذا قد ينزع عن الصوفية ثقلَها التاريخي الخاص، ونهائياً كلَّ معناها المميّز. ويقتصر طموحنا هنا على أن نعطي فقط لمحة عن الصوفية التاريخية التي هي بنفسها متنوعة بما يكفي، وغنية بما يكفي من المشكلات.
4. القطيعة مع اليهود والمسيحيين
سرعان ما انفصل محمد، متخذاً دين إبراهيم والأنبياء التوراتيين مرجعاً له، عن الديانتين اليهودية والمسيحية. اتسمت القطيعة مع اليهود أولاً بتغيير وجهة الصلاة، فقد كانت تتجه حتى عام 622 وهو تاريخ هجرة محمد من مكة إلى المدينة، وهو أيضاً تاريخ افتتاح التأريخ الهجري، إلى القدس مركزِ الإقليم الذي ظهر فيه الأنبياء حتى عيسى. ومنذ الآن سيتجه المصلون إلى كعبة مكة حيث قبر إبراهيم أبي كل المؤمنين الموحدين (الحنيفية) تبعاً للتراث. وكذلك هو المكان الذي بدأ فيه آخر نبيٍّ دعوته. لم يسْرِ هذا القرار دون إثارة بعض الاضطرابات حتى بين أتباع محمد. وتتجه السورة الأولى التي أُنزلت في المدينة إلى تهدئتها ﴿سيقول السفهاء من الناس ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل للهِ المشرقُ والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم... وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله﴾ (البقرة 142 – 145). تُثبت هذه الآيات سقوط محاولة توحيد العقيدة الحنيفية التي لن تمارَس منذ الآن إلا عبر ديانات مختلفة لا يعترف كلٌّ منها إلا بنفسه على أنه أشدُّ الوسطاء إخلاصاً للوحي الإلهي الذي انتشر ببطء خلال 2500 عاماً من إبراهيم إلى محمد. وسيجهد النبي محمد منذ الآن لجمعِ كل المؤمنين في هذه الأمة التي هي وسَطٌ تماماً حيث يكون محمد شاهداً ضد جميع الكفار على رحمة الله ورأفته بالناس ﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ﴾ (النساء 41). وسيسلك الإسلام منذ ذلك التاريخ طريقه الخاص دون أن ينكر لهذا السبب الأنبياءَ الذين سبقوا محمداً في الدعوة إلى إله إبراهيم، ولكن معتبِراً محمداً خاتم الأنبياء الذي يختتم الله الوحي به، مودِعاً فيه نهايته الحاسمة. ويبدأ عصر ديني جديد ستنبثق منه الصوفية. وفي طريق مناقض لهذا، وفي قمة التجربة الصوفية، سيعيد الصوفيون بناء الوحدة المفقودة منادين بغلَبة الحب في ظل نورِ الله.
5. الجذور القرآنية
قدّم عالــِــمٌ اعتنق الإسلام هو م. أزان. بالاسيوس الصوفية على أنها " إسلامٌ ممسَّح". لماذا لا تكون "مسيحية مؤسلَمة "؟ أو ترجمتين لنفس الديانة التوحيدية الأصلية: ديانة إبراهيم؟ إن هذه الصيغ المبسّطة تزيِّف الواقع المعقد للقضية، وتنتقص من التجذير القرآني للصوفية، وتضخِّم التأثيرات التي، مع أنها غريبة عن القرآن، لا تشوّهه. إن إحدى أصالات الصوفية هي أنها تحديداً عاشت أولاً ثم أسست ترميزاً للدعوة المحمدية. وتتمثل الرسالة القرآنية بالوعي الإنساني متبعة درجاتٍ تتطابق مع مستويات مختلفة من القراءة. تخترق هذه الرسالة الوعي بالقراءة الشفهية؛ فمعظم المسلمين (80% منهم تقريباً) لا يعرفون العربية، ولكنهم يُصغون إلى القرآن بخشوع عميق، ويرددون التلاوة العربية له، وآخرون يقرؤون النص دون ان يستطيعوا قلْبَه إلى لغتهم. يُعد القرآن بذاته كلاماً حياً وفعالاً. وقد انتشرت دعوة محمد رغم أن النساخ كتبوا القرآن على وسائط مرتجلة، ثم جمعها صحابته في مَلازم بعد موته بقليل في وسط اعتاد على الأسلوب الشفهي؛ إن النقل الشفهي والتلاوة ضمانتان للأصالة الحازمة لأنهما يحميان هذا الشكل من الأسلوب الإيقاعي الذي يقوّي الذاكرة، والخاص بالتواصل المتحرك. وكان قراء القرآن هم الذين أتاحوا جمعه لأول مرة بإشراف الخليفة أبي بكر (573 – 634) ضابطاً أحدُهم صحة حفظ الآخر، محققين بذلك التوافق الكامل بين ما حفظوه في ذاكراتهم. وما يزال إلى أيامنا هذه فنُّ ترتيل القرآن مغروساً في كل الإسلام، وهذا النوع من " أكل القرآن " MANDUCATION [11] وهو تعبير لمارسيل جوس يتضمن بالإضافة إلى احترام الدالّ signifiant اقتراباً للوحدة مع المدلول signifie، يتملّك المعنى تدريجياً روحَ المرتِّل عن طريق الإيقاع والتكرار والانتباه والإرشاد والتفكُّر وممارسة الفضائل وإطاعة تعاليم الدين حتى صميم الصميم.
سوّغ علماء كبارٌ يعرفون العربية، وغالباً الفارسية والسريانية والإغريقية ولغات أخرى، سوغوا عن معرفة، التفسير الباطني الذي يعتمد على تعدد معاني النص نفسه: الأدبية والتاريخية والأخلاقية والرمزية والصوفية. وحاولوا هكذا أن يشرحوا سيرورة استبطانه أكثر من آخرين لا يهتمون بالتحليل. والمعاني الأكثر سموّاً بينها تُبلَغ، ليس بعلم اللغة وحده، ولا بالتبحّر التاريخي أو الفلسفي، ولا بالعقل المعلِّل، وإنما بمعرفة تجريبية ذات طابع حدْسي. إن المعنى الصوفي يتحقق بأن يُعاش ويُرى ويُراد بحبٍّ مشرق. إنه (المعنى) يتجاوز كل مقولات الفكر catégorie ويتّحد خارج تأمُّلِ الصور والأفكار والانفعالات بالقلب (بالقلب معتبَراً عضو اتصال مع الله للمعرفة والحب)، إنه يستدعي ويُشيد بالتوحد الطبيعي connatualite بين المدلول الذي تبديه الكلمات وتُخفيه وبين الإنسان الذي يبحث عنه ويكتشفه. يبدو المعنى في وحدة مؤسسة، ونقول مع ابن عربي " إنه يأتي إليك بقدر ما تذهب إليه". إن وحدة الشعور الصامتة في الكلام الإلهي ترفعه فوق كل كلام وكل شعيرة وكل قاعدة مكتوبة دون أن تعارضها مع ذلك.
في هذا الروح يتشبّع الصوفي بالقرآن؛ لنأخذ مثلاً سورة القدَر ﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر ﴾ (القدر 1 -3). ستكون هذه الآيات الغامضة عُرضة لكثير من التأويلات، أما الروح المتيقظ إلى المعنى الصوفي فسيفطن وهو يرتلها ويتأمل فيها إلى أن الكلام موجود في الله من كل أزل، وأنه من النور اللامتناهي يتنزل في ليلة السرائر التي تجهل أصلها ونهايتها. إن ليلة القدر تنير بنور التنزيل. ويحتفل الإسلام بليلة القدر مع ليلة بداية الوحي في ليلة السادس والعشرين – السابع والعشرين من شهر رمضان؛ إن الرقم 27 = (3 × 9) الذي يرمز إلى اكتمال الضوء واتساعه الأقصى ومروره من الظلمة إلى النور بفضل اكتمال الوحي هو نهاية دورة النبوة التي يمثلها القرآن. وهذه الليلة التي نزل فيها الكلام الإلهي بالرحمة على الأرض خيرٌ من ألف شهر من البحث والجهد والجهاد لبلوغها. وترمز الألف هنا إلى استمرار لا نهائي، مما يعني أن الوحي يتجاوز قدرة الإنسان المتروك لنفسه. وهذا أيضاً إيحاء بأن الليلة ستستمر بالنسبة إلى كل إنسان زمناً طويلاً ما دام غير قادر على فتْح وعيِه على إشعاع النور.
يصلح القرآن كله حتى عندما يشرح بعض التعاليم البسيطة، لقراءةٍ روحانيةٍ مطهَّرة؛ إلا أن بعض السور وبعض الآيات تستحوذ أكثر على التأمل الصوفي. وعلى سبيل المثال تلك التي تأخذ العلاقةُ فيها بين الله والإنسان نبرةَ دعاء مُلحّ، ليس إلى طاعة الخالق فحسبُ بل إلى حبِّه والتوحُّد فيه إلى الأبد. ولم تتجاوز الصوفية طاعة أوامر الله قطُّ؛ غير أن الطاعة تتشبّع بالحب لأن الفعل المادي مُشعٌّ بعدم تناهيه، وترتفع قيمته بِنيّته.
ولْنذكر من بين هذه النصوص ذات الامتياز سورة الفاتحة ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم. غيرِ المغضوب عليهم. ولا الضالين﴾وتمثّل سورة النور أيضاً موضوعاً أساسياً في التعليم الصوفي. إن الطريق مسيرٌ إلى النور من العتمة opacite إلى الشفافية. وهذا النور نفسه سيتلوّنُ بشكل مختلف عبر زجاج الاختلاف البشري ﴿ الله نور السموات والأرض مثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دُرّيٌّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتُها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور ﴾ (النور 24 /35). سيرى المتصوفة في هذه الكلمات الأخيرة الوعد بالحرية الوجدية. وسيتأملون أيضاً بإيثار في الدلالة التعليمية للكهف (سورة الكهف 18 / 65 – 82) والزُّمَر (39 / 22 – 23) في السبعة الناجين من أفسس[12] وفي يقظتهم من نومهم (السورة 18)، وعلى رموز الجنة؛ على الحج الداخلي، وعلى الأحوال الروحية التي تتفوق على مادّيّة الحركات الشعائرية (الحجّ 22 / 37)، و(عبس 80 / 1 – 16) والضحى (93 / 1- 8)، وعلى تبادل الحب المائدة (5 /54) وعلى الملائكة (31 – 39) وعلى الإسراء بمحمد إلى القدس، ورؤيته المتواجدة عند سِدرة المنتهى، عندها جنة المأوى (النجم 53 / 14 – 15). إن القرآن يفيض بهذه الشرارات التي تشعل قلب المتأمل. وسيُفهم من هذا حكمُ كوربان الذي يؤيد هنا لويس ماسينيون: " إن الصوفية هي بالضبط جهدٌ لاستبطان الوحي القرآني، وقطعٌ مع الدين بصيغته الفقهية الصرف يقود إلى الوعي بأن الله وحده يستطيع أن يعلن نفسه على شفه المؤمنين سِرَّ وحدانيته "
المحيط الثقافي
لا بد أن يعكس تطورُ الإحساس الديني في الإسلام ثقافات البلدان التي ينتشر فيها. والقرآن، على جِدّته، مليء بالإشارات إلى التوراة وإلى اليهود والمسيحيين وعَبَدة الأصنام. تتضمن حلقة الوحي أنبياء إسرائيل (الزخرف 43 / 57 – 65). وهناك سورة مدهشة بهيبتها وبشاعريتها، مخصصة للحديث عن مريم العذراء والأم (السورة 19). ورغم أن مفهوم محمد لوحدانية الله يمنعه من الإيمان بالثالوث وبألوهية عيسى فإنه يعترف برسالة عيسى رسولاً من الله، وبمفهوم المعجزة العيسوية (السورة 4 / 171 – 175) ولكن عيسى لا يمكن أن يكون ابن الله الأحد ﴿ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ﴾ (الإخلاص 112 / 2-3).
تكونت المجموعات ثم الأخويات أولاً في مقاطعات متنصرة حيث كانت تكثر المدارس ورجال الدين والديارات فكيف استطاعوا جهل هذه الأماكن؟ إن ممارسة الفضائل وطرق الوحدة الصوفية والتنظيمات الجماعية ليست بحاجة إلى اللجوء إلى تقليد متعمَّد للتشابه به ما دامت تتوجه تلقائياً إلى الصيغ ذاتها. ويعتمد البحث عن الهدف الروحي نفسِه على بنية وآلية تقنية وعُدة نفسية يمكن القول إنها متطابقة أساساً مهما كانت الاختلافات الاجتماعية والثقافية. فالحقائق المختلفة والمتشابهة هي في مكان آخر، في أعماق السرائر. إن تحديد كيفية التأثيرات المتبادلة واستعارات الصيغ بفضل الامتياز الإجباري لأقدم الشيوخ يمثلان فائدة تاريخية أكثر منها نفسية وعقائدية. لا يتردد ابن عربي في القول "إنه لقي صوفيين كباراً يتبعون إلهامات قلب عيسى"، بل إن آخرين من المسيحيين لا يترددون في الاغتراف من شيوخ الصوفية. ويقدّم م. أزين بالاسيوس كثيراً من الأمثلة على هذا. وما أكثر المماثلات التي نستطيع تأليفها بين شخص كالقديس جان دو لاكروا (1542 – 1591) وآخر كالشيخ ابن عربي (1165 – 1241) المولودين كليهما في الأندلس بين أغاني التروبادور (الشعراء الجوالين) والشعراء الصوفيين. وكذلك ارتبط ابن عربي لدى إقامته بفاس عام 1194 بصداقة مع يهودٍ أطلعوه على " القبلانية kabbale التي هي التفسير اليهودي الرمزي والصوفي للتوراة حسب التقاليد كما كان القدامى يفعلون، وعلى عرافة الحروف والأرقام والصور.
لا يجوز حتماً إهمال مظاهر التفاعلات عندما يدخل الإسلام في احتكاك مع ثقافات أجنبية عن أصوله: على هيئة رفض أو قبول أو توفيق أو انتقاء أو انحرافات أو تعميق للفهم. إن دراسة هذه المبادلات الثقافية تتطلب مجلدات. عندما ستزدوج الممارسة praxis[13] بالنظرية theoria بدءاً من القرن الثامن، وتبلغ القمة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وعندما تتطور توليفات كونية تضم الكون cosmos والإناسة anthropolos ستغتني آنذاك بنظرات فلسفية وعقائدية. وكانت مؤلفات من الفكر اليوناني، وخصوصاً أفلوطين plotin وبرقلس وبروفيروس قد تُرجمت إلى السريانية ثم العربية. وقد أوجبت هذه الترجمات نشاطاً جديداً علمياً وفلسفياً وكلامياً لم تبق الصوفية بمنأى عنه. واغتنت اللغة العربية دون أن تتغير بنيتها بكلمات مشتقة من اليونانية كالفلسفة للدلالة على الفلسفة الإسلامية الهيلينية. وليس من المفاجئ أن تتأثر مصر بمدرسة الإسكندرية بما أنها إحدى مهاد الصوفية، باتجاهاتها الغنوصية والهرميتيكية[14]، واستحضار الأرواح التي فتحت الطريق إلى التجربة الصوفية.
عرفت الصوفية وقد نفذت إلى بلاد فار ثم إلى الهند العربية والشمالية، تأثير الزرادشتية والهندوسية. ووُجدت ترجمات من السنسكريتية إلى الفارسية والعربية لكُتبٍ تشرح نظرية اليوغا وممارستها، وخصوصاً اليوغاساترا لـــ بانتالاجي.د[15]. ومنذ بداية القرن الحادي عشر، وبعد أن ترجم البيروني (ت 1084) هذه الحركات، لم تعد الإخوانيات الصوفية لآسيا الهندوسية تجهل شيئاً من الأوضاع الجسمية posture وطرائق التنفس، والتزامن بين الزفير والأداء لنطق مقاطع صوتية في وقت الشهيق وأخرى في وقت الزفير، ومصاحبة بعض الصلوات بحركات جسمية. تنبثق كل هذه الحركات المتنوعة إلى أقصى حد، والمعبرة في الوقت نفسه عن فيزيولوجيا وكوسمولوجيا، وعن رمزية توحّد المادة والروح، الجسم والنفس في الدينامية ذاتها الموقعة كتجليات لطاقة واحدة. إن من المؤكد أن الإيقاع المتكرر للحركات، والكلام مع التأثيرات النفسية للتنويم المغناطيسي hypnose وللهلوسة hallucination وحالات الوجد extase كان معروفاً لدى شيوخ الصوفية. وسيندرج التصور الخفي لمثل هذه الممارسات ذات الأصل الهندي في العبادات الإسلامية عندما تبلغ جيوش المسلمين ضفاف الهندوس منذ القرن الثامن.
وأخيراً، مهما كانت التأثيرات على الممارسة والعقيدة، التي خضعت لها الصوفية عبر قرون، في أقطار مختلفة فإنها تبقى قبل كل شيء تجربة داخلية تتوفر على الله.
[1] يشير المستشرقون إلى الصوفية العربية الإسلامية بالكلمة العربية نفسها " الصوفية"، ولذا لا داعي للتنبيه عليها في النص. أما الصوفية بمعناها العام في الفرنسية فهي mystique
[2] تعني الجمعيات الدينية.
[3] نزعة تميل إلى التزمت والتشدد في الدين والسلوك بغية تطهيرهما.
[4] حفلات تقام لإطلاع عضو جديد في تنظيم سري على نظام هذا التنظيم وأسراره.
[5] مذهب " وحدة الوجود " الله والطبيعة شيء واحد.يقول إن الحق والخلق حقيقة واحدة. يقول ابن عربي " ما وصفناه بوصف إلا كنا نحن ذلك الوصف؛ فوجودنا وجوده"، ولا تخلو هذه النزعة من الصوفية.
[6] هو المثال الأصلي الذي تُصدر الأشياء أشباحاً وصوراً له. فهو مبدأ الوجود المحسوس، وهو الشيء في ذاته والأجسام الخارجية أشباح له. وهو أيضاً مبدأ المعرفة.
[7] ديوان الحلاج. تحقيق ماسينيون باريس 1931 ص 28 29
[8] الجذب عند الصوفيين حال من أحوال النفس يغيب فيها القلب عن عِلم ما يجري من أحوال الخلق، وتغشاه غِبطة شاملة، ويتصل فيها بالعالَم العلوي. ويسميه بعضهم الوجْد.
[9] انظر الحاشية 23 من حواشي مقال الفلسفة السابق.
[10] لم أجد أي ترجمة له.
[11] كلمة فرنسية مهجورة تعني الحركات التي تصاحب عملية الأكل. ويقصد بها المؤلف هنا حركات الفم المصاحبة للتجويد.
[12] مدينة على الساحل الغربي لآسيا الصغرى. لجأ إلى كهف منها السبعة الذين اعتنقوا المسيحية وهربوا من الإمبراطور الروماني دقسيوس، وهم أهل الكهف.
[13] لفظة يونانية تعني الممارسة والعمل، وتطلق على النشاط الفيزيولوجي أو النفسي المؤدي إلى حصول بعض النتائج، ونقيضه المعرفة والنظر.
[14] نسبة إلى هرمس رسول الآلهة عند الإغريق، ويتعلق اسمه بالسحر وصناعة الكيمياء.
[15] نص هندي فلسفي منسوب إلى بانتاجالي يتعلق بالممارسات الأخلاقية لليوغا، انتقل إلى أوربا واشتهر.