أصول اللغة ومصادرها في فكر ابن جني
بدأ ما يسمى علم اللغة، وإن كان كثير منه لا يندرج تحت هذا الفهم المعاصر له، منذ نشوء اللغة، وكانت لغة القرآن من أوائل الموضوعات التي أفاض المؤلفون العرب في مناقشتها، ولاسيما في مناقشة علماء الدين مفردات لغة القرآن؛ أهي كلها عربية أم بعضها، فاعترف بعضهم بورود كلمات غير عربية فيه كالسندس والإستبرق، وأنكر آخرون ذلك استناداً إلى قوله تعالى ﴿إنا أنزلناه قرآناً عربياً﴾(1) وقوله:﴿بلسان عربي مبين﴾(2) وأوّلوا الكلمات الأعجمية تأويلات مختلفة. وفي الغرب انصبت الأبحاث اللغوية في البدايات على إثبات قرابة اللغة بالعبرية، ثم باليونانية واللاتينية. وجرى الاهتمام بالدراسات التاريخية والمقارنة.
وفي الوقت الذي ناقش فيه اللغويون العرب، أو بالأحرى علماء الدين، هذا الموضوع ناقشوا أصل اللغة الإنسانية، فرجّحت الأغلبية بصفتهم مؤمنين، واعتماداً على قوله تعالى ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ (3) كونها إلهاماً من الله إلا ابن جني اللغوي المختص، الموضوعي النظرة، فآمن بالاصطلاح مع شيء من التردد بينه وبين الإلهام، وهو تردد لا يلام عليه ابنُ جني ولا غيرُه في هذه البيئة المتدينة، فحاول التوفيق بينهما في فهمه للآية.
وبغضِّ النظر عن اللغويين والفقهاء العرب فإن نظريات أصول اللغة الإنسانية تتلخص عموماً في خمسة اتجاهات:
وتتلخص أصول اللغات الإنسانية في خمسة اتجاهات:
- النظريات البيولوجية التي افترضت أن اللغة انحدرت من تطور الحركات والأصوات التعبيرية الناجمة عن انفعالات الحيوان والإنسان، أي أن اللغة نشأت من تقليد الصيحات والضجة الطبيعية.
- النظريات الأنتروبولوجية التي نسبت اللغة إلى العلاقة الرمزية بين وقْعِ المصدر الصوتي ومعناه، أو إلى الأصوات المرافقة للجهد العضلي، أو إلى تطور ثغثغة الطفل، أو إلى تطور الغناء والحركات التعبيرية.
- النظريات الفلسفية التي ذهب بعضُها إلى أن اللغة فطرية عند الإنسان، وبعضُها إلى أنها مكتسبة، أو أنها حصيلة اختراع إرادي ولكنه طارئ.
- النظريات اللاهوتية التي افترضت اللغة هبة من الله وُجدت بوجود الإنسان.
- النظريات الاجتماعية التي عزت اللغة إلى ظاهرة الاجتماع الإنساني وضرورة التواصل بين البشر.
ملخص تاريخ علم اللغة في الغرب
يُقرّ مؤرخو علم اللغة المنصفون بأسبقية العرب، وخاصة علماء مدرسة البصرة في القرون الوسطى في مجال الدراسات اللغوية، وتخلُّف الدراسات الأوربية بسبب ازدراء العلماء للغات الأوربية، فقد كانت اللاتينية هي اللغةَ الجديرة باسم اللغة، في حين أن اللغات الأخرى لغات عامية. وجرت أول محاولة لوصفِ اللغات على يد الإيطالي دانتي عام 1034 م وإن كان غرضه من هذا الوصف نبْذَ اللهجات الإيطالية الأربع عشرة آنذاك.
ويتلخص تاريخ علم اللغة الأوربي في اعتبار اللغة العبرية أمَّ اللغات، ثم محاولة إثبات قرابة اللغات الأخرى بها. فظهرت نواة الدراسات المقارنة في القرنين الخامس والسادس عشر، هذه الدراسات التي ستزدهر في القرن التاسع عشر نتيجة ما يُعرف بـــ "منعطف اللغة السنسكريتية"، فمنذ اكتشافها عام 1816، وبدعمٍ من الطريقة المقارنة للعلوم الأخرى، أدار علم اللغة ظهره لقواعد مدرسة "بور رويال" التي ظهرت عام 1660 في كتاب للراهبين أرنو ولانسلو. وتقوم قواعد هذه المدرسة على تقديم شروح منطقية للاستعمال اللغوي، وتعليل القواعد تعليلاً منطقياً.
واتجه علم اللغة في القرن التاسع عشر إلى الدراسة التطورية، وبالغ فيها بعضهم حين شبّه اللغة بالكائن الحي الذي يولد فينمو، فيموت. وصنفت المدرسة اللغات إلى لغات بدائية، ولغات متطورة. ولا يخفى تأثير العلوم الطبيعية في هذه النظرة.
أما في القرن العشرين فقد أحدث عالما اللغة ماييه وسوسور ثورة حقيقية في علم اللغة، عندما أعلن الأول عام 1906، في "محاضرات في علم اللغة العام" أن التاريخ لن يكون غاية للغة بل وسيلة، معترضاً على سيل الأبحاث التاريخية في القرن التاسع عشر. وعندما أعلن الثاني "أن وجهة نظرهم (يعني مدرسة بور رويال) لا غبار عليها مطلقاً، وتدلُّنا آثارهم دلالة واضحة على أنهم كانوا يريدون وصْف حالات معينة، وعلى أن منهجهم كان متواقتاً تماماً مع ملاحظة أن القواعد العامة لبور رويال التي سعت إلى تطابقِ القضية النحوية مع القضية المنطقية، وتطابُقِ العقل مع اللغة، تختلف اختلافاً جذرياً عن القواعد العامة للقرن العشرين في أن المدرسة الأولى (بور رويال) انطلقت من الفكر لإنشاء هذه القواعد، في حين انطلقت الثانية من اللغة.(4)
طرح سوسور بوضوح التمييز بين التطورية والتي هي دراسة للتغيرات عبر الزمن، وبين التزامن والذي هو دراسة حالات في حد ذاتها من اللغة في فترات محددة من التطور. وانقسم علم اللغة هكذا إلى فرعين: علم لغة تعاقبي أو تكوري، وعلم لغة تزامني أو سكوني. وتنضم الطريقتان التزامنية والتعاقبية موضحةً إحداهما الأخرى. إن مهمة علم اللغة التزامني هو وصفُ اللغة في فترة محددة بقطْعِ النظر عن مراحل تطورها السابق. وهو ما عُدّ في حينه فتحاً منهجياً في تاريخ اللغة. "ولكن الحقيقة هي أن كل لغة في كل لحظة من تاريخها هي في تطور. إن نظامها التزامني يقدم مجموعة من الملامح الموروثة عن الحالات السابقة، وبداية تطورات جديدة. فتوازُن نظام ما هو دائماً توازن عابر. ولهذا تنضم وجهتا النظر التزامنية والتعاقبية موضِحةً إحداهما الأخرى"
وقد أحدث المنهج الوصفي التزامني الذي دعا إليه سوسور طفرة في وصف اللغات في العالم كله، ولاسيما إثر تعرُّفِ العلماء الأمريكان شعوبَ جنوب شرق آسيا إبان الحرب العالمية الثانية، وتكوُّن دولة الاتحاد السوفييتي التي كانت تعيش فيها عشرات الشعوب التي لا لغة مكتوبة لها ـ فوصف العلماء لغاتِها، واستحدثوا لها أبجدياتها وقواعدها.
وهذا بالضبط ما جرى في القرن الثاني للهجرة حين انبرى علماء اللغة العربية من معجميين ونُحاة ورواة شعرٍ لجمع اللغة ووضْعِ قواعدها. فلم يكن بالإمكان إجراء أكثر من دراسة وصفية. أما الدراسة التطورية فكانت عسيرة بسبب أن العرب عرفوا الكتابة قُبَيل الإسلام فحسبُ. وعلى هذا لم يكن أمام هؤلاء العلماء تراث مكتوب يبنون عليه دراسة تطورية على نحو ما نستطيع الآن فِعله على قمة أربعة عشر قرناً من التدوين.
وكان من الطبيعي أن تتباين لغات العرب لاتساع رقعة الجزيرة العربية وتبايُن أنماط الحياة فيها، من حياة حضرية مستقرة في المناطق المعمورة، ولاسيما اليمن والمدن الكبرى مثل مكة والمدينة، إلى حياة بدوية في سائر أرجاء الجزيرة. كما أن القرآن الكريم لم ينزل بلغة قريش وحدها، وإنما "بلسان عربي مبين" بصفته عامل توحيد لغوي لجميع العرب. فعكست لغته مراحل مختلفة من التطور اللغوي للعربية. ولم يكن بإمكان جامعي اللغة التمييز بين اللهجات الواردة في القرآن الكريم، ولا التمييز بين لغة قديمة ولغة جديدة في هذه المرحلة التي لم تمهِّد لها دراسة تاريخية ولغوية سابقة.
وتتضح طريقةُ جمع اللغويين العرب مادّتهم وطريقة استخلاص قواعدهم من نصٍّ في كتاب "الخصائص" يعتذر فيه ابن جني عن سيبويه لِما فاته من أمثلة (أوزان)، ثم يقول "وإن إنساناً أحاط بقاصي هذه اللغات المنتشرة، وتحجّر أذراءها(5). والمترامية، على سعة البلاد، وتعادي ألسنتها اللداد، وكثرة التواضع بين أهلها من حاضر وباد، حتى اغترق(6) جميع كلام والهجناء، والعبيد والإماء، في أطراف الأرض، ذات الطول والعرض، ما بين منثور إلى منظوم، ومخطوب به إلى مسجوع، حتى لغات العرب الأجلاف، والرواعي ذوات صرار الأخلاف(7)، وعقلائهم والمدخولين، وهُذاتهم والموسوسين، في جدهم وهزلهم، وحربهم وسلمهم، وتغايُر الأحوال عليهم... لَجديرٌ أن يُعلم بذلك توفيقه"(8)
إن اختلاف اللغات التي جُمعت حقيقة، وكلها حجة، وقد قال الرسول العربي الكريم "نزل القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ"(9).
إذن ليس المقصود بعنواننا البحث التاريخي عن جذور اللغة العربية. وقد مرّ بنا أن الأبحاث الغربية التاريخية تنتمي إلى القرن التاسع عشر. ولا عن علاقتها باللغات الأخرى، وهي أيضاً تنتمي في الغرب إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وليس ابن جني من اللغويين العرب القائلين إن لغتهم أمُّ اللغات لأنها لغة الجنة، بل لغة المولى تعالى. ولقد تم خلْقُ الكون في فترتين: في الفترة الأولى خلق الله الحروف أربعاً بأربع أو خمساً بخمس، وألف الأسماء منها. وكان مجرد النطق بالاسم يؤدي إلى خلق المسمى". ولا نقصد أيضاً بحث ابن جني في أصل اللغة الإنسانية عامة وحيرته بين الإلهام والاصطلاح... بل نقصد مفهوم ابن جني لأصول اللغة العربية من خلال حقيقتين كبيرتين تؤلفان منطلقاً للبنيوية المعاصرة، وهما:
- كل لغة نظامُ إشارات.
- كل لغة تتجلى في إطار اجتماعي يحدد انتظامَ عملها وتطورَها.
فهم ابن جني اللغة على أنها وسيلة اتصال. وسواء كانت تواضُعاً إم إلهاماً "فإنها لابدّ أن يكون قد وقع في أول الأمر بعضها ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه، فزيد شيئاً فشيئاً. ثم أحدثوا من بعدُ أشياء كثيرة للحاجة إليها فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني"(10). وطبيعي أن المقصود بالحاجة هو التواصل الإنساني. ونرى المفهوم نفسه عند الإمام الجرجاني وهو الآخر سليل مدرسة أبي علي الفارسي التي ينتمي إليها ابن جني، يقول "فإن الناس إنما يكلم بعضهم بعضاً ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده"(11). ويؤكد الجرجاني في أكثر من موضع في "دلائل الإعجاز" على أن المفردات لم توضع لتعرف معانيها بأنفسها، وإنما لضمِّ بعضها إلى بعض.
بل إن ابن جني يُلحّ على ضرورة فهْم اللغة بالارتباط بالسياق العملي الذي استُخدمت فيها. يقول "فالحمالون والساسة (مربو الخيول) والوقادون ومن يليهم ومن يُعتد منهم يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصّله أبو عمر [ابن العلاء] من شِعر الفرزدق إذا أخبر عنه ولم يحضره يُنشده". ويرجح كأبي بكر السرّاج أن يكون قولُهم "رفع عقيرته" أصلُه أن رجُلاً قُطعت رِجله فرفعها وصاح، فقالوا "رفع عقيرته"، فلا مناسبة بين الصوت وعقر من الناحية النظرية.(12)
وإذا كانت اللغة وسيلة اتصال فلا بد لها من نظام يضمها، وهذا ما سعى ابن جني إلى اكتشافه في "الخصائص". والنظام يتعارض مع العفوية. فالنظام اللغوي ليس اتفاقاً (مصادفة) "ألا ترى إلى اطّراد رفع الفاعل ونصبِ المفعول به والجر بحروف الجر... وغير ذلك من حيث التثنية والجمع، والنسب والإضافة والتحقير (التصغير)"؛ فهل يحسُن بذي لبٍّ أن يعتقد أن هذا كله اتفاق (مصادفة) وقع وتوارد اتجه". وينكر أن يكون ذلك شيئاً طُبِعوا عليه وأجيئوا إليه من غير اعتقاد لعلله، ولا لقصدٍ من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه. ولم يؤتَ العرب هذه اللغة إلا ونفوسهم قابلة لها، محبة لقوة الصنعة فيها؛ سواء أكانت اللغة وحياً وما يجري مجراه أم شيئاً اصطلحوا عليه وترافدوا بخواطرهم ومواد حكمهم على عمله وترتيبه وقِسمة أنحائه"(13)
ويأتي بشواهد على أن العرب أحسّوا ما أحسسنا، وأرادوا وقصدوا ما نسبنا إليهم إرادتَه وقصْده. ومنها مثال المرأة التي رأت بعلها في نسوة يطحن بالرحى لأضياف نزلوا به، فقالت "أبعلي هذا!" تعجباً واحتقاراً:
تقول وصكّتْ وجهها بيمينها أبعليَ هذا بالرحى المتقاعس؟!
والمتقاعس: الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، وذلك شكل من يطحن بالرحى.(14)
يقول ابن جني "فلو قال حاكياً عنها: "أبعلي هذا بالرحى المتقاعس" من غير أن يذكر صكَ الوجه لأعلِمنا بذلك أنها كانت متعجبة منكرة، ولكنه لما حكى الحال فقال: "وصكت وجهها" عُلم بذلك قوةُ إنكارها وتعاظُمُ الصورة لها، هذا مع أنك سامع لحكاية الحال، غيرُ مشاهد لها.
ومنها "ما حكى الأصمعي عن أبي عمروٍ [ابن العلاء]، قال: سمعت رجلاً من اليمن يقول: فلان لغوبٌ جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له: أتقول: جاءته كتابي؟! فقال: نعم أليس بورقة؟"(15)
ويسأل ابن جني يوماً ابن الشجري، وهو من فصحاء العرب الذين كان يُستعان بهم في اللغة: يا أبا عبد الله كيف تقول ضربت أخاك؟ فقال: كذلك. فقلت: ضربت أخوك؟ فقال: لا أقول. فقلت: ضربني أخوك؟ فقال: كذلك. فقلت ألست أنك لا تقول: أخوك أبداً؟ فقال: أيشٍ هذا؟ اختلفت جهتا الكلام. ويعقِّب ابن جني قائلاً "فهل هذا في معناه إلا كقولنا: صار المفعول فاعلاً، وإن لم يكن بهذا اللفظ البتة فأه هو لا محالة"(16)
...
من منطلق الأصل الاجتماعي للغة يجزم ابن جني في أن الأسماء والأفعال والحروف وُجدت معاً لأن الغاية من اللغة التواصل، وهذا التواصل لا يتم بنوع واحد من الكلم. يقول "وإن كان شيء متقدماً على صاحبه فليس بواجب أن يكون الاسم على الفعل، ولا أن يكون على الحرف الفعل لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جُمَع إذ المعاني لا تستغني عن أحد منهن، وذهب أبو علي الفارسي رحمه الله إلى أن هذه اللغة وُضعت طبقة واحدة كالرقم تضعه على المرقوم... لا تحكم لشيء منه بالقدم في الزمان"(17)
من هذا المفهوم المنظومي للغة، ومن منطلق الحسّ الإنساني، يدرس ابن جني الأصول دراسة صوتية – اجتماعية. ولا يحسن عزلهما إلا لمقتضيات الدراسة، فيصنف الأول في نوعين: أصول نظرية وأصول عملية. أما الأصول النظرية فمرفوضة لأن اللغة لغة عملية حيوية. فلا يجوز أن يُهم من قولنا: الأصل في "قام" "قوَم" ولا في "باع" "بيع" وفي "استقام" "استقوَم" لأن هذه الألفاظ وما كان نحوها مما يُعتقد أن لها أصلاً يخالف ظاهر لفظه، لا يجوز أن نعتقد أنه كان مرة يقال في موضع "قام زيدٌ" "قوم زيد"، بل الأمر ضده، فلم يقل أحد إلا "قام زيد"، وإنما معنى قولنا إن أصله كان كذا أنه لو جاء مجيء الصحيح ولم يُعلّ لوجب أن يكون مجيئه: قوَم وبيَع. فأما أن يكون قد اُستُعمل وقتاً من الزمان كذلك، ثم صُرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ فخطأ لا يعتقده أحدٌ من أهل النظر". ويعلل على عادته استعمال بعض الأصول على حالها مثل:
صددْتِ فأطولت الصدود وقلما وداد على طول الصدود يدوم
بأنه مَنبَهةٌ على أصل بابه.(18) فــ "أطولت" في البيت يدل على أن "أقام" أصلُه "أقوَم"، وهو أقوى دلالةٍ على صحة تصورِ الأحوال الأُوَل لها، مثل المحافظة على الإدغام في لغة تميم، نحو "شدّ" و"فرّ"، وقولهم كذلك في اسم المفعول من "باع" "مبيوع" ومن "كال" "مكيول".
ويبرهن على نظريته بما تعرضه الصنعة فيها من تقدير ما لا يطوع النطق به لتعذُّره في مثل "سماا" و"قضاا" فأصلُهما "سماو" و"قضاي" فلما وقعت الواو والياء طرفاً بعد ألِف زائدة قُلبتا ألِفَين، فصار التقدير بهما إلى "سماا" و"قضاا"، ولا قدرة لأحد على النطق بالأِفين مجتمعتين.(19)
وأما أصل الأصول النظرية والعملية فهو الأصل الثلاثي، ويبرهن عليه بدراسة صوتية مفصَّلة قائمة على الحس الإنساني والقدرة النُّطقية، فهي بهذا دراسة مبنية على اللغة نفسِها. وتعويل ابن جني دائماً هو الخِفّة؛ فما سرّ خفة الثلاثي؟ "إنه حرف يُبتدَأ به، وحرفٌ يُحشى به، وحرف يوقَف عليه. وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه فحسبُ ولو كان كذلك لكان الثنائي أخفّ منه لأنه أقلُّ حروفاً. وليس الأمر كذلك؛ ألا ترى أن جميع ما جاء من ذوات الحرفين جزء لا قدر له في ما جاء من ذوات الثلاثة، نحو "من" و"في" و"عن"... وأقلُّ منه ما جاء على حرف واحد كواو العطف وفائه، فتمكّن الثلاثي هو لقلة حروفه، لعمري، ولشيء آخر وهو حجْزُ الحشوِ بين فائه ولامه، وذلك لتبايُنهما، ولتعادي حالَيهما؛ ألا ترى أن المبتدأ (الحرف المبدوء به) لا يكون إلا متحركاً، وأن الموقوف [عليه] لا يكون إلا ساكناً، والحرف الأوسط حاجز بينهما لئلا يفجؤوا الحس بعد ما كان آخذاً فيه، ومنصباً عليه"
ولما كان الحرف الفاصل بين المتحرك والساكن لا يخلو أن يكون ساكناً أو متحركاً؛ فإن كان ساكناً فقد فصلت عن حركة الفاء إلى سكونه، وهو الذي قدّمتُ الكراهة له، كان الجواب هو: إن الحرف الساكن ليست حالُه إذا أدرجته إلى ما بعده كحاله لو وقفت عليه، وذلك أن من الحروف حروفاً إذا وقفت عليها لحقَها صُويتٌ ما من بعدها، فإذا أدرجتها إلى ما بعدها ضعُف ذلك الصويت، وضاءل للحس، نحو قولك "أح" و "أص"... فإذا قلت "يحْرد" و "يصْبر"... خفي ذلك الصويت وقلّ، خفّ ما ن له من الجرس عند الوقوف عليه. وسبب ذلك عندي أنك إذا وقفت عليه ولم تتطاول إلى النطق بحرف آخر بعده تلبّثت عليه، ولم تسرع الانتقال عنه، فقدرت بتلك اللَّبْثة على إتباع ذلك الصوت إياه. فأما إذا تأهبت للنطق بما بعده وتهيّأت له، وابتدأت فيه، فقد حال ذلك بينك وبين الوقفة التي يتمكن فيها من إشباع ذلك الصُّويت، فيستهلك إدراجُك إياه طرفاً (جزءاً) من الصوت الذي كان الوقف يُقرّه عليه، ويسوّغك إمدادك إياه به" ويمثل لهذا الصويت الذي يتبع الساكن غير المدرّج (الموقوف عليه) بمثال رجل من العرب بايَع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح. فلما شرب بعضه كدّه الأمر، فقال "كبشٌ أملح" فقيل له "ما هذا؟ تنحنحت؟" فقال: من تنحنح فقد أفلح "فنطق بالحاءات كلها ساكنةً غير متحركة، ليكون ما يتبعها من ذلك الصويت عوناً له على كدِّه"(20)
هذا الإدراج للساكن المتوسط في الأصل الثلاثي جعله يضارع المتحرك لأن أصل الإدراج للمتحرك هو أن الحركة هي سبب الإدراج، وهذا يؤول بـــ "صبَر" و"صبْر" إلى نتيجة صوتية واحدة تقريباً.(21) ويقسم ابن جني الأصوات إلى أقواها وهو الساكن الموقوف عليه، وأضعفِها وهو المتحرك، وبينهما المدرَج. فحركة الحرف تسلبه ذلك الصوت البتّة، والوقوف عليه يمكّنه فيه، وإدراج الساكن يبقي عليه بعضَه، فصار الساكن المتوسط لِما ذكرنا مكانه لا ساكنٌ ولا متحركٌ. وتلك حال تخالف حالَي ما قبله وما بعده، وهو الغرض الذي أريد منه وجيء به لأجله لأنه لا يبلغ حركةَ ما قبله فيجفوَ تتابعُ المتحركَين، ولا سكونَ ما بعده، فيفجأَ بسكونه المتحرك الذي قبله، فينقُضَ عليه جهته وسَمْته"
وإذا كان الثلاثي أخفّ وأمكن من الثنائي على قلة حروفه فلاشك أنه أخف من الرباعي لكثرة حروفه. ثم لا شك فيما بعد في ثقل الخماسي. وواضحٌ تعويل ابن جني دائماً على الحس الإنساني، أي الاستخفاف والاستثقال... وما يني يكرر هذه الفكرة في تضاعيف الخصائص. ومن أمثلة الاستخفاف التي تخرج عن نطاق عنواننا نردها بانتقاء وإيجاز شديدين:
- الهروب من الحركة الثقيلة إلى الخفيفة، كتسكين المتحرك في نحو " عضْد " وعجْز "، ووضع معظم حروف المعاني المفردة على الفتح كألف الاستفهام وواو العطف.
- الإعلال، وهو باب واسع في اللغة
- اختلاس الحركة، مثل قراءة بعضهم (22) مختلساً (مخفياً) حركة النون.
- الإشمام، ومعلوم أنه للعين، لا للأذن، وما من حركةٍ البتّةَ، يقول "فإذا قنعوا من الحركة أن يؤمئوا إليها بالآلة التي من عادتها أن تُستعمل بها عن النطق بها من غيرِ أن يُخرجوا إلى حسِّ السمع شيئاً من الحركة... لم يبق وراء ذلك شيء يُستدلّ به على عنايتهم بهذا الأمر (يعني الاستخفاف)"
– إدراج همزة الوصل.
...
ويُفسَّر بهذا الاستخفاف عدم استعمال كافة تقاليب الأصل الثلاثي لأن تقليب الثلاثي يشبه الإعلال، وهذا التقليب طاقة عظيمة للغة العربية، يصل الثلاثي به إلى ستة أصول دون تغيير الحركات، وإلى أضعاف هذا العدد عند التصرف بالحركات. ويصل بالرباعي إلى أربعة وعشرين تركيباً وبالخماسي إلى مئة وعشرين. ومع ذلك لم تستخدم اللغة كافة تقليبات الثلاثي، ونادراً ما قُلب الرباعي. ولم يُقلب الخماسي بتاتاً. ويعتقد ابن جني أن بعض أصول الثلاثي مثل "لجع" لم يُهمل لاستثقاله، فاللام أخت الراء (رجع – لجع)، وقد قالوا "رجع" و"نجع"، وإنما لسبب آخرَ هو "ضربٌ من الإجماد له" أي جعله جامداً غير متصرف تشبيهاً له بالرباعي والخماسي. وفي قوله ما يمكن الاعتراض عليه الباحث بأنه نوع من إقامة علاقات منطقية في اللغة.
وهذه عادة للعرب مألوفة (يعني العلاقات المنطقية)، وسُنة مسلوكة. إذا أعطوا شيئاً من شيء حكماً قابلوا ذلك بأن يعطوا الآخر منه للشبه الجامع بينهما، وعليه باب ما لا ينصرف: ألا تراهم لما شبهوا الاسم بالفعل فلم يصرفه (منعوه من الصرف) شبهوا الفعل بالاسم فأعربوه. (يعني إعراب الفعل المضارع لشبهه باسم الفاعل أو المفعول)(24)
...
ومن الواضح أن مقياس الانتقاء الوحيد هو الاعتباطية، وذلك لأنه لا يمكن للّغة أن تستوعب بعد استبعاد ما شنع تأليفه من الأصوات (الحروف)، والابتعاد عن الأصول الرباعية والخماسية محل هذه الأصول.
ويظهر الفكر التطوري والاجتماعي لدى ابن جني في اعتقاده أن هذه اللغة لم تقع في وقت واحد، فإنها "لابد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها، ثم احتيج إلى الزيادة عليه فزيد فيها شيئاً فشيئاً"(25). ويلحظ ابن جني أن لغات قديمة وُجدت ثم عفا رسمها، ولكنها أثرت في اللغة الحاضرة؛ قال في العربي الفصيح يرد على لسانه استعمال نادر، ولكنه مقبول في القياس: "قيل: قد يمكن أن يكون ذلك من لغة قديمة طال عهدها، وعفا رسمُها، وتأبدت معالمها... قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "كان الشعرُ عِلم القوم، ولم يكن لهم علمٌ أصحّ منه، فجاء الإسلام فتشاغلت العرب عنه بالجهاد، وغزْوِ فارس والروم، ولَهَتْ عن الشعر وروايته. فما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب في الأنصار، راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدوَّن، ولا كتاب مكتوب، وألْفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثير" وقال أبو عمرو ابن العلاء "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعر كثير"(26). ومرّ بنا كذلك أنهم (العرب) أحدثوا من بعدُ أشياءَ كثيرة للحاجة إليها، وغير أنها على قياس ما كان وُضع في الأصل مختلفاً"
... ومن مصادر اللغة تداخُل اللغات وتراكُبُها. فعلى الرغم من عزلة القبائل العربية فقد كانت تلتقي، سواءٌ عن طريق التحالفات والغزوات، أم عن طريق الأسواق والمواسم. ويرجّح ابن جني أن يكون الترادفُ اجتماعَ لغاتِ جماعات اجتمعت لإنسان واحد. ويمثل بالحكاية التي رواها الأصمعي عن الرجلين اختلفا في "الصقر" أهو بالصاد أم بالسين، فلما احتكما إلى ثالث قال: لا أقول كما قلتما، إنما هو "الزقر"(27)
ومن أمثلة التداخلات قولهم "سلا – يسلى"، فهو مركب من لغتين: "سلا يسلو" و "سليَ – يسلى"، أما اللغة الرابعة "سلي – يسلو" فمرفوضة لأن الفعل سرى ذلك في مضارعه، فلم يُعلّوا الفعل الماضي ويصححوا المضارع. ونجد في المثال تدخُّل النظام اللغوي العام لوضعِ حدِّ لنتائج هذه التداخلات. ويحدث كذلك أن يقتصر الأخذُ على لغة ويُترك غيرُها كما في "قنَط – يقنَط" الذي هو لغةٌ، وثانية وثالثة "قنَط – يقنِط" و "قنِط – يقنَط". أما اللغة الرابعة "قنِط – يقنِط" فلا مانع في نظام اللغة منها، ولا تعليلَ لعدم وجودها إلا عدمُ استعمالها.
العرب ولغات غيرهم
والعرب متفاوتون في تقبُّلِهم لغاتِ غيرِهم "فمنهم من يخفّ ويسرع بقبول ما يسمعه، ومنهم من يستعصم فيقيم على لغته البتّة. ومنهم من إذا طال تكرُّرُ غيره عليه لصِقت به، ووجدت في كلامه. ألا ترى إلى قول رسول الله عليه الصلاة والسلام وقد قيل له "يانبيء الله" فقال: لستُ بنبيء الله ولكني نبيّ الله. وذلك أنه أنكر الهمز في اسمه فردّه على قائله لأنه لم يدرِ بما سماه، فأشفق (خاف) أن يمسك على ذلك، وفيه شيء يتعلق بالشرع، فيكون بالإمساك عنه مبيحُ محظورٍ أو خاطر مباح"(28)
وقد يراعي صاحبُ لغةٍ صاحبَ لغة أخرى، مثالُه قول بعض العرب "مررتُ بأخواك، وضربت أخواك" أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها، وهي لغة بلحارث بن كعب، "وذلك لأن العرب، وإن كانوا منتشرين، وخلقاً عظيماً في أرض الله، غيرُ متحجّرين، ولا متضاغطين، فإنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاوُرهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة. بعضُهم يلاحظ لغة غيره ويراعي أمْر لغته كما يراعي ذلك من يهم أمره"(29)
ويؤخذ من أهل المدر كما يؤخذ من أهل الوبر إذا عُلم أنهم باقون على فصاحتهم. ويقول السيد مرتضى الزبيدي شارِحٌ "القاموس المحيط" إن باليمن جبلاً يسمى "عكادا" أهلُه باقون على اللغة الفصيحة، وإنهم لا يسمحون للغريب أن يقيم عندهم أكثر من ثلاث ليالٍ خوفاً على لسانهم. والسيد الزبيدي توف عام 1205 ه".
ومن مصادر اللغة التعريب، ومبدؤه: ما قبس على كلام العرب فهو من كلام العرب. قال أبو علي الفارسي: "إذا قلتَ "طاب الخُشكُنان" فهذا من كلام العرب لأنك بأعرابك إياه (يقصد تعريف الخشكنان بالألف واللام) قد أدخلته كلام العرب، وذلك أنه لما دخلته اللام (التعريف) أشبهَ أصول كلام العرب، أعني النكرات، فجرى في الصرف ومنْعِه مجراها"(30)
وقد يرتجل الأعرابي إذا قويت فصاحتُه، وسمتْ طبيعته، ما لم يسبقه أحدٌ قبله به، مثلا روي عن رؤبة وأبيه [العجاج] أنهما كانا يرتجلان ألفاظاً لم يسمعاها، ولا سُبِقا إليها"(31)
ولكن لا يذهبنّ بنا الظنُّ إلى أن أبواب اللغة مشرعةٌ لكل لفظة ارتجلها أعرابي، أو سُمعت من فصيح، او أجازها القياس، وأدّت إليها الصنعة الصرفية. فإن اللغة بهذا الاتساع تفقد وظيفتها الأصلية، وهي وظيفة الاتصال. وذلك أن هذا التوسع المفرط يجعل أصحاب اللغة عاجزين عن استيعابها. ولذا، إضافةً إلى الاستعمال الذي يكبح جماح القياس دائماً، ويجعل اللغة تتخلص تدريجياً من قسم من ألفاظها واستعمالاتها، لذلك كله يتدخل النظام اللغوي مرة أخرى كما تدخّل صوتياً في مثل "قضاا" و"سماا"، ويحد من استطالة اللغة، وهي مستطيلة إلى حد غيرِ قليل منذ جمعِها لأن عصر الاحتجاج يمتد قرناً ونصفاً قبل الإسلام، ومثله بعده، ولأنها لغات قبائل متفاوتة جغرافياً وحضارياً، ولغةُ شعرٍ ونثر... إن النظام يضع قيوداً تحدُّ من هذا الترخُّص، منها:
-
امتناع العرب عن الكلام بما يجوز في القياس لسببين:
- الاستغناء بلفظة عن أخرى، كاستغنائهم عن ماضي "ذَرْ" و"دَعْ"، وعن الأفعال التي وردت مصادرها، ورُفضتْ هي، نحوُ "الأيْن" (الإعياء)، أو مشتقٌ منها نحو "مفؤود".
- معارضة قياس آخر، مثل امتناعهم عن استعمال أفعال الويح والويل، لأنه لو صرف الفعل من ذلك لوجب اعتلال فائه مثل "وعد"، وعينِه مثل "باع" فتحاموا استعماله لما كان سيعقب من اجتماع إعلالين.
- يُترك الأخذ عن أهل الوبر إذا شاع في لغتهم ما شاع في لغة أهل الحضر. فينبغي أن يُستوحَش من الأخذ من كل أحد إلا أن تقوى لغته، وتشيع فصاحتُه "فإياك أن تخلد إلى كل ما تسمعه. بل تأمّلْ حال مُورده، وكيف موقعه في الفصاحة، فاحكمْ عليه وله".
ويستشهد على كلامه بإنشاد أحد من يدّعون الفصاحة "كأن فاي"،(32) لأن ياء المتكلم تكسر ما قبلها، والياء في الأسماء الستة (الأسماء الخمسة مدرسياً) نظيرُ الكسرة في الأسماء الصحيحة. وقوله "أشأؤها" بالجمع بين الهمزتين، وصوابه "أشآها" مضارع "شأى القوم" سبقهم، لأن الهمزتين ليسا بأصلين.
- اللغة المخالفة للغات الجماعة إذا جاءت من ظنين أو من متَّهم لم ترقَ به فصاحةٌ، ولا سبقت إلى الأنفس ثقتُه مردود غير متقبَّل.
- وما يدفعه كلام العرب، ويأباه القياس على كلامها، لا يُقنع في قبوله أن تسمعه من الواحد، ولا من العدّة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم.
...
اللغات والتاريخ
يقول مؤرخ غربي لتاريخ علم اللغة، هو الفرنسي جورج مونان في كتابه "تاريخ علم اللغة منذ نشأته حتى القرن العشرين تحت عنوان "اللغات والتاريخ": "من المستغرب حقاً ألا يشعر أحد من المفكرين طوال ألف عام، وعلى نحوٍ ما، بأن اللغات في تطور مستمر، وأن هذا التطور يطرح بعض المسائل. بَيْدَ أن هذه اللمحات الواعية نادرة جداً، أهميتها الحقيقيةُ في إدراك ظاهرة ما، مهما تكن وجهة النظر التي أدّت إلى إدراكها والإشارة إليها، فلا يمكن أن تضيع هباءً الحوادث التي يتم وصْفُها، بل لكلٍّ منها أثرُه اللاحق في انتباه الأجيال المتعاقبة من البشر... والشعورُ بأن اللغات تخضع لتطور التاريخي لم يوجد عملياً في العصر الوسيط، لا من ناحية الدراسة اللغوية الفقهية، ولا من ناحية الدراسة اللغوية المقارنة" ونحن نوافق المؤرخ الأربي تماماً على أن لهذه اللمحات أثرَها في تنبيه الأجيال المتعاقبة من البشر، وهو سرُّ خلود هؤلاء العباقرة، وإن كنا لا نوافقه على أنه ينبغي ألا نطبعها بطابع حديث، ما دام الدرس العلمي لا ينفي هذا الطبع.
وتكاد تكون أولُ إشارة إلى اجتماعية الظاهرة اللغوية، في الغرب قولَ كوندياك في أواسط القرن الثامن عشر، أي بعد مدرسة أبي علي الفارسي بثمانية قرون: "لا يستطيع البشر تبادل الإشارات ما لم يكونوا مجتمعين". ويعدّ المؤرخ هذا الرأي، ورأيه في اعتباطية اللغة من أهمّ آرائه. ويصفه بأنه لم يوجد بإزائه مفكر آخرُ يضاهيه في هذا الموضوع.
إن العودة إلى التراث لا تهدف إلى تمجيد العباقرة القدامى، وإن كانوا يستحقون هذا التمجيد، ولا مباهاة الغرب الذي أشاد أحياناً قليلة بجهودهم، وأغفلها أحياناً كثيرة، وإنما هي إسهام متواضع في بناء نظرية لغوية عربية تستلهم من التراث، ولا تتنكر لإنجازات الآخرين، يمكنه أن يعمّق فهْمنا لأسباب الخلافات اللغوية العربية منذ أيام البصرة والكوفة، ويجعل موقفنا منها أكثر رحابةً، ويمكنه أن يرشد إلى طرق معالجتها من خلال القوانين العامة للغات، ويعزز قناعتنا بأن اللغة العربية ستظل تسير في اتجاهين متباينين، وهما اتجاهان ما توقفا منذ بدأ اللغويون العرب جمْع لغتِهم، وهما: التبايُن نتيجة التجزئة العربية المعاصرة المقابلة لتجزئة ما قبل الإسلام، والتقارب نتيجة انتشار الثقافة المفهومة من جميع العرب، ونتيجة الصلات على تفاوُتِ مستوياتها. ولن تعني هذه العودة إلى التراث مطلقاً الجمود على موروثات القرون الغابرة، والغفوة على نجاحات الأقدمين، بل استلهامها واستلهامهم لمواكبة ركْب الحياة.
البعث الأسبوعي. العددان 8362 و8363، 1 / 10 و 7 / 10/ 1990
الحواشي
1 – يوسف 12 / 2
2 – الشعراء 26 / 195
3 – البقرة 2 / 31
4 - (Jean Perrot: La Linguistique 11 édition p96
5– جمع " ذَرْو " بمعنى طرف. أقرب الموارد (ذرو)
6- اغتري: استوعب.
7- الأخلاف جمع خِلف: حلمة الضِرع يُشد بخيط حتى لا يرضع الولد منه. المعجم الوسيط)
8- الخصائص 3 / 186
9– الباب السابع والخمسون من الخصائص 2 / 12
10- الخصائص 2 / 28
11– دلائل الإعجاز، منشورات دار المعرفة ص 48
12– الخصائص 1 / 248.
13– م. س 1 / 238
14– م. س 1 / 245
15– م. س 1 / 249
16– م. س 1 / 250
17– م. س 2 / 30
18– م. س1 / 143 و 257 و 304
19– م. س 1 / 68
20– م. س 1 / 58 وما بعدها.
21- يمكن أن تستأنس لفهم هذا التعليل بما يسمى في التجويد بالقلقلة الكبرى والقلقلة الصغرى [ وراجع نص ابن جني أيضاً ])
22– يوسف 12 / وانظر الخصائص 1 / 73
23 - م. س 1 / 73. والاستخفاف يعني البحث عن الخفيف، وهو ما يسمى في علم اللغة المعاصر بـــــ " قانون المجهود الأدنى " La loi du moindre effort وأقرب أمثلته اللهجات العامية.
24 - م. س 1 / 63. وقد أقام ابن جني بعض العلاقات المنطقية رغم هذا. ومن أمثلة العلاقات المنطقية في اللغة ما سرده أعلاه من الاشتباك بين الفعل والاسم. وكان المتهم الأول في هذا المنحى هو الرماني، حتى لَيقول أبو علي الفارسي، أستاذ ابن جني وصاحبه، عن الرماني وهو أحد معاصريه: إن كان النحو ما عند الرماني فليس عندنا منه شيء، وإن كان ما عندنا فليس معه منه شيء.)
25 – م. س 2 / 28 – 30
26 – م. س 1 / 398
27 – م. س انظر الباب الثاني والخمسين 1 / 374
28 – م. س 1 / 383
29 – م. س 2 / 14 – 16
30 – م. س 1 / 357
31 - م. س 2/ 25
32 – م. س 2 /7