إسحاق ماشباش والتأريخ الأدبي لمأساة الشراكسة

معظم قراء جيلِنا باللغة الأمّ، الجيلِ الذي تفتّح وعيه في الستينيات، يعرفون كاتب جهورية الأديغي، وسائر التجمعات الأديغية في القفقاس، الروائي والشاعر الكبير إسحاق ماشباش المولود في جمهورية الأديغي عام 1930، والذي لا يزال يكتب بلغته الأم إلى الآن مستقصياً خبايا تاريخ الأديغة.
وأذكر أن المهتمين من جيلنا تعلّموا الأبجدية الأديغية في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وكان إسحق من بين من قرأنا لهم منذ ذلك التاريخ، وقد يكون الوحيد الذي رسخ في أذهاننا، وبخاصة من خلال شعره الجديد شكلاً ومضموناً. وتداولنا في شبابنا ديوانه المتضمن قصيدة ملحمية تلخص الهجرة المشؤومة.
وفي سعيِه لتأريخ مأساة الأديغية، مأساة الحرب القفقاسية والهجرة التي تلتها، كَتَبَ إلى الآن الروايات التالية:
- خان جري.
- حجر الرحى.
- المطرودون.
- الغرباء.
ولا يزال يبحث عن المفاصل الهامة غير المؤرَّخة. وبالمناسبة كتب رواية طويلة بعنوان "الشرق والغرب" تؤرِّخ لحياة المماليك بدولتيهم البحرية والبرجية، مؤكِّداً أن الظاهر بيبرس أديغي صميم، كاشفاً عن دورهم في الدفاع عن العالم الإسلامي ضد أعداء الشرق (المغول) وأعداء الغرب (الصليبيين)، رغم المشاعر العدائية لهم من كثير من المصريين، ومتعمقاً في الغربة النفسية التي عاشها السلاطين وجنودهم بسبب هذه الكراهية، وبسبب إبعادهم عن وطنهم الأم. وموضوع الغربة الأديغية عالجها أيضاً في رواية "عائشة" التي تحكي قصة فتاة أديغية اُختُطفت في القفقاس واشتراها في تركيا السفير الفرنسي، فنقلها إلى بلاده. غير أن الفتاة التي كانت مثالاً للجمال في عصرها، ورسم لها الفنانون أكثر من لوحة، وحظيت بصداقة مشاهير الأدب والفن في بلاد الغربة، ماتت كمداً نتيجة الغربة الظالمة.
تتزامن أحداث الروايتين الأوليين من روايات المأساة والهجرة في البداية، غير أن أحداث رواية خان جري تتوقف عند عام 1842 بوفاة بطلها خان جري، في حين تستمر الثانية إلى سنة الهجرة، سنة 1864. وتعالج الرواية الثالثة تفصيلات الهجرة إلى تركيا:مآسي شاطئي البحر الأسود الأديغي والتركي. وتؤرخ الرابعة للهجرة إلى بلغاريا.
وعلى هامش تاريخ الهجرة وأحداثها كتب رواية "أسيران" التي تعرض من وجهة نظر إنسانية بحتة قصتي أسير روسي لدى الأديغة، وصبية أديغية صغيرة يتّمتها الحرب، ونقلتها أسيرةً إلى معسكر للجيش الروسي، فتلتقي هناك بالأسير الروسي الهارب، وتموتُ كرباً في آخر الرواية. وكتب رواية "جاسوس" التي تعتمد على مذكرات الجاسوس الروسي الذي أُسر سنتين عند الأبزاخ، النقيب تورناو.
يمكن اعتبار حجر الرحى وخان جري الروايتين المحوريتين تاريخياً. تبدأ أحداث رواية خان جري عام 1818 مع أسرة أمراء عاشت في أرض النغوي، ثم عادت إلى البجدوغ. يُغتال محمدٌ والدُ خان جري، الداعيةُ إلى السلام مع روسيا في أثناء طفولة الولد. ثم يلتحق خان جري بالكلية الحربية الروسية، ويتخرج فيها، ويحارب في أماكن كثيرة بإخلاصٍ لا متناهٍ للقيصر،حتى ينقل إلى سرية الحراسة الجبلية (القفقاسية) معاوناً لقائدها، ثم يتولى قيادتها إلى أن يُسرّح من الخدمة بحجة المرض , في حين أن السبب الحقيقي هو استغناء القيصر عنه بعدما استغلّ إخلاصه لقسَم الضباط، ونفّذ مهمة بين أعراق الأديغة ندم عليها لأنه أعطى القيصر خريطة تفصيلية لأرض القفقاس ساعدت الجيش القيصري،ولم تعد بالنفع على الأديغة لأن من أرسله لم يكن جاداً من جهة، ولأنه لم يستطع من جهة أخرى إقناع الزعامات المحلية بالمهمة، فضاع بين الطرفين.
الفكرة الجوهرية في الرواية هي ضرورة قيام دولة للأديغة، وإلا فلا جدوى من الحرب، ولا إمكان للسلام. ويشاركه في هذه الفكرة البطل الرئيس في رواية حجر الرحى زانه سفربي،أمير الناتخواي الذين هم في الحقيقة جزء من الشابسغ، حملوا اسم المنطقة التي عاشوا فيها.
وتتطور فكرة الدولة عند سفربي، أو بالأحرى تعتمد على فكرة وحدة الأديغة، التي يفني سفربي نفسه من أجلها بلا جدوى. ومن المؤسف أن الزعيمين صاحبَي المبادرة إلى الدولة خان جري وسفربي يتوجس أحدهما من الآخر، ولا يتم أي تعاون أو تنسيق بينهما رغم لقاءاتهما.
ومن المفيد هنا إجراء مقارنة بين رأي الكاتب الباحث ممدوح قوموق في كتابة " الشراكسة والصراعات الكبرى حول القفقاس والشرق الأوسط من منتصف القرن الثالث عشر حتى مطلع القرن الواحد والعشرين " الصادر عام 2015 في نالشيك.
يتفق الكاتبان على أن القيصر الروسي ومؤامرات الدولة العثمانية، والدسائس البريطانية تضافرت لاقتلاع الشراكسة من أرضهم. ويخرج قارئ إسحاق ماشباش _ بعد استبعاد الأسباب الخارجية، أعني التدخلات والمؤامرات الدولية التي يسهب فيها الباحث قوموق _ بالأسباب الذاتية التالية لخسارتنا الحرب:
- روح الحرية الفردية المفرطة، كالطيور البرية حسب تعبير الكاتب، لدى الشراكسة التي تمنعهم من الانقياد للزعامات.
- والروح القبلية التي ظلت حاجزاً بين الشراكسة مهما تعاونوا في مناسبات معينة.
- ولم يخل الشراكسة، كأي شعب آخر، من خونة وجواسيس للعدو، ينقلون إليه الأخبار الطازجة.
هذه العوامل وغيرها منعت من تأليف "الدولة" التي كان يرجى منها أن تجعل لنا كياناً دولياً.
أتيت على ذكر هذين المؤلَّفين لأن الأستاذ قوموق يجيب على السؤال الذي يطرحه إسحاق في ما يتعلق بالدولة، بأن الاعتداءات التي لم تتوقف على بلاد الشراكسة منذ حملات التتر لم تُتِح لهم الفرصة لتأسيس دولة، ومع ذلك كانت لهم تنظيمات شبيهة بالدولة، وأن غيابها لم يمنع القبائل الشركسية من التعاون وتقديم العون العسكري لمن يحتاجه، وبأن السياسة القيصرية كانت ذكية بحيث لم تهاجم بلاد الشراكسة كلها في وقت واحد بل اتبعت سياسة القضم التدريجي للأرض. وقد يُضاف إلى هذا السببِ الثاني الحاجةُ إلى الاعتراف الدولي بالدولة المنتظرة. ويُضاف إلى كل ما سبق الاستنزاف البشري الذي خضعت له شركيسيا باختطاف أبنائها إلى مناطق أخرى كالشرق الأوسط، والأمراض التي فتكت بمئات الألوف، ولاسيما الطاعون، حتى انتشرت إلى جيل أمهاتنا الدعاء للمغضوب عليه بأن يأخذه الطاعون، ووصفُ من ينجو من مصيبة فتهلِكه أخرى بالمثل: نجا من الطاعون لتُهلكه الكوليرا.(انظر بشأن الدولة ص 216 و217 ثم 447 من كتاب قوموق.)
من البديهي أن يعترض أنصار المادية التاريخية بأن الشراكسة لم يصلوا في تطورهم الاقتصادي إلى مرحلة تأليف الدولة، وهذا اعتراض في محله إذ لم يتجاوز الأديغة المرحلة الرعوية - الزراعية. وأن يقول غيرهم:إذا كان العرب أو المسلمون بكل زخمهم التاريخي والعقائدي لم يستطيعوا تأسيس دولة بالمعنى الحديث للدولة التي تعني في الفرنسية والإنكليزية الثبات على عكس ما تدل الكلمة العربية من التحولِ، ونسبةِ الدولة إلى أسرة حاكمة بعينها: الأموية والعباسية والبويهية؛ فهل يُلام الأديغة في هذا؟! ولكن يبقى التردد بين التعليلين مشروعاً، مع ترجيح رأي إسحاق ماشباش في الإلحاح على هذا الوجع.
يموت خان جري شاباً جداً لم يحقق شيئاً من أهدافه فكأنه مات قهراً كما يقال: القيصر (والسلطة الروسية عموماً) يخدعه، بل كان الأمر محسوماً من القيصر قبل أن يرسل الرجل في مهمة إقناع إلى أبناء قومه. أما سفربي فيعيش حياة أطول من سابقه، وهو مولود قبله. يخدم في الجيش الروسي، وبالمناسبة لا يجوز الحكم على هذه الخدمة دائماً حكماً سلبياً إذ نجد سفربي نفسه يطوِّع ابنه في الجيش الروسي بقصد مدِّ جسرٍ من التفاهم مع السلطة الروسية، ويخدم في الجيش التركي أيضاً. ويترك الأب والابن الخدمة العسكرية،كلاً على حدة بداهةً،حين يجدانها بلا جدوى. ويرسله إلى تركيا بعدما تحرر من الجيشين أحدُ المؤتمرات الأديغية للتأكد من صحة النص الروسي لاتفاقية أدرنه أو أدريانوبول عام 1829، والتي هي المسمار في نعش مستقبل الأديغة كما سنرى، فيوعز القيصر للسلطان العثماني باستبقائه في تركيا عن طريق إعادته للخدمة في جيشها. فيستلم ابنه قَرْباتر زعامة الأسرة والناتخواي والشابسغ وهو شابٌّ جداً، ويظل مخلصاً لسياسة والده القائمة على وحدة الأديغة، ومصالحة العدو لإنقاذ ما تبقى من أبناء الوطن ومن أرضه.ولكن الناتخواي والأديغة عموماً يُحرمون من الزعيم الأوفر خبرة. وحين يعود سفربي من تركيا بعد زمن طويل تكون الأمور قد خرجت من السيطرة. وصارت خسارة الأديغة للحرب مسألة وقتٍ فحسبُ.
يجهد سفربي لمقابلة القيصر نفسِه لعرض فكرة المصالحة غير أن عند القيادات العسكرية التي يلتقي بها تعليماتٍ دقيقةً واضحة، وجواباً ثابتاً من المسؤولين الروس المحليين الصغار إلى أعلاهم مرتبة : لقد تنازلت لنا تركيا عنكم، أعطتكم إيانا، وأنتم الآن رعايانا. ليس لكم حق إقامة دولة أو تنصيب زعيم، ليس لكم إلا طاعة القيصر... ثم إن ميزان القوى لا يُجبر القيصر على التفاوض إذ تنتهي حرب الداغستان، وتُرسل الجيوش إلى إقليم الأديغة ، وبالنتيجة آلاف الجنود المدرّبين على حروب الجبال، والمسلحين بأحدث الأسلحة (وقتها)، المنضبطين، مقابل حفنة من المقاتلين يجتمعون صباحاً على صيحة الاستغاثة "مارج! ويفترقون مساء.
يختلف سفربي عن سائر الأمراء بمحاولة الاعتماد على عامة الفلاحين، والاختلاط بهم، ومخاطبتهم خطاباً غير فوقيّ. والحقيقة أن الخطاب الفوقي ما يزال مسيطراً رغم محاولات التحرر من الإقطاع (حرب بزيقوه)، ويبقى أمراء الأديغة محكومين، في ظل الحرب ومأساة الهجرة، بهاجس إمكان خسارتهم فلاحيهم وعبيدهم إثْر صدور قانون إلغاء القِنانة في روسيا القيصرية. ويحاول سفربي المحافظة على علاقات جيدة مع القيادات الروسية في القفقاس، ولكن عبثاً كما سبق. والمشكلة الكبرى أمامه في طريق الوحدة هم الأمراء الآخرون والزعماء المتنفذون ونخبة الفلاحين. وكل هؤلاء من الداخل. والمشكلة الأكبر من هذه، على الأقل خلال مدة محدودة، هي علاقته بالنائب محمد أمين أسلاي الذي أرسله الإمام شامل إلى الأبزاخ وحكمهم عشر سنوات تقريباً.
محمد أمين داعية إسلامي يطبق حكم الشريعة الإسلامية على الأبزاخ مستغلاً أمير الجمكوي أولاً، ثم الزعماء المتنفذين، وأخيراً التخلي عن هؤلاء جميعاً واستقطاب عامة الفلاحين إليه بخطاب العدالة واللاطبقية. ويدعمه في كل خطوة مظهره الرشيق وشبابه بالقياس إلى سفربي، وتلاوتُه المتقنة للقرآن، وصوتُه الآسِر. وينجح بأساليبَ واقعية كإنشاء التقسيمات الإدارية، وافتتاح المحاكم التي تصل سلطتها إلى حد الإعدام، وتعيين شرطة لحفظ النظام، بل وافتتاح سجن للمحكومين، وفرض الضرائب لتمويل هذه المؤسسات. وكل هذه في الحقيقة إيجابيات لا يمكن لمن يفكر في إنشاء دولة الاستغناءُ عنها، إلى جانب أساليبَ إرهابية كالحرس الكبير المرافق له، والمدفع الذي يجره الخيل ويصحبه أينما توجّه رغم أنه لا يملك إلا ثلاثة مدافع،ولا دورَ له في القرى التي يزورها. وقبل هذا وذاك أساليب استعراضية تقرِّبه من منزلة الرُّسُل، بل إقناعه عامة الأبزاخ بأنه يتلقى الأوامر من الله نفسه..
موضوع النائب محمد أمين يذكِّر بما يسمى اليوم: الإسلام السياسي، بمشكلة تناوُلِ الإسلام ورموزه المقدسة وشبه المقدسة، وهي أن الناس يخلطون بين الإسلام والمسلمين، وبين النص وقارئه أو مفسره؛ وهو ما دفع علي بن أبي طالب إلى القول بأن القرآن لا ينطق بل ينطق به الرجال، وأنه حمّال أوجُه. ولهذا يستطيع أي جاهل حفِظَ بضع آيات وأحاديث، وحضر بضع حلقات للشيخ، ولا سيما في ظروف "الصحوة الإسلامية " ذات النتائج السلبية اليوم، التي أنتجت عشرات المنظمات الإرهابية التي تقتل الإنسان بأسهل مما تقتل حشرة تحت ستار تطبيق التعاليم الدينية، يستطيع هذا الجاهل أن يكفّر من يشاء، فيحكم عليه بالقتل الذي يقول كتاب الله فيه ﴿من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً﴾ (المائدة 5 / 32) ومعلوم أن قتل النفس بالنفس هو القصاص الذي جعل الله فيه حياة للناس﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ﴾ (البقرة 2 / 179) وأن الفساد في الأرض معروف، وهو الجريمة عموماً كقطع الطريق على المسافرين، مما يفصِّل فيه الفقهاء، وليس التكفير الذي لا يمكن تصنيفه إلا قسراً في باب الارتداد. وقتْلُ المرتدِّ إن اتفق عليه الفقهاء له شروط كالاستتابة والإمهال ثلاثة أيام... فأين هؤلاء حتى من هذه الأحكام موضوع الخلاف. وينطبق هذا الكلام على الشيخ شامل المقدَّس لدى بعضهم، والذي يتعجب بعدما استسلم فنُقل إلى روسيا خلال بضعة عشر يوماً من اتساعها، فيعجب القارئ من قائد لا يعرف قوة عدوه. وينطبق كذلك على نائبه محمد أمين الذي التفّ حوله الأبزاخ ، ورغم ذلك فرض عليهم الإسلام بقوة جيش من المرتزقة، بل نظم حفلات ختان جماعية للرجال. غير أن الغريب في الرجلين أنهما، بعد أن كانا جزءاً من الأسباب الكارثة الكبرى للشراكسة، خذلا جموع المؤمنين بهما واستسلما للعدو بكل بساطة، وتقاضيا منه رواتب مجزية إلى آخر العمر
...
وللعنوان "حجر الرحى" دلالة جوهرية؛ فالأديغة يُطحنون بين حجري الرحى التركي والروسي: الدولة العثمانية تعتبر الأديغة من رعاياها بحجة أنهم مسلمون، وتريد منهم الوقوف في الصف الأول لمواجهة العدو روسيا. وهي عملياً لا تفعل شيئاً لأنها، حتى لو أحسنّا الظن بها، محكومة بالاتفاقيات الدولية التي تعقب كل هزيمة لها، فقد غُلبت في كل حروبها ضد روسيا القيصرية. هذه الاتفاقيات التي تفرض عليها التخلي عن أي تدخل في شؤون روسيا التي منحتها تركيا نفسُها شعبَ الأديغة. فلا تفعل أكثر من التحريض، وإرسال سفينة سلاح من وقت لآخر. والمؤسف أن من وضع قدماً للدولة العثمانية في القفقاس هو والد سفربي الذي باع قطعة أرض للدولة العثمانية أنشأت عليها قلعة أنابه.
وحجرا الرحى الآخران هما رحى الخلافات البينية. يظل الروس يحتجون: مع من نتفاوض؟ أنتم تقترحون مصالحتنا ,وغيركم يحمل السلاح في وجهنا.
كان على زعماء الأديغة المتفرقين من البداية، فالمتنافسين والمتحاسدين دائماً، أن يدركوا منذ البداية أن من المستحيل على مجموعة أعراق متناثرة، وأحياناً متحاربة، تعتمد على البطولة فحسبُ من دون قيادات عسكرية أكاديمية، ومن دون سلاح عصري - ولا ننس أن المدفعية الروسية كانت السبب الأول في الهزيمة العسكرية – أن تقاوم دولة كبرى، لها جيش جرار، وقيادات عسكرية خبيرة. ثم إن الجندي الروسي لم يكن ذلك الجندي السهلَ دحرُه، كانت التعليمات إليه الصمود في مكانه مهما جرى. وبالإضافة إلى الجانب العسكري فمقابل هؤلاء الأمراء المتنافرين الذين يجتمعون على الخطابات الرنانة، ويتخذون قرارات لا تنفيذ لها، كانت هناك قيادة سياسية روسية منظمة تحت قيادة واحدة صارمة. وباختصار كيف يستطيع شعبٌ وقادة أمّيون في معظمهم مقاومة دولة عظمى في كل شيء: مساحة وسكاناً، وحضارة، وتقدماً اجتماعياً لا أقصد به " الأديغة خابزة " والتقاليد الجميلة، بل التطورَ الطبقي المرحلي. بل إن القيصر يمنع بعض الشخصيات التي تثقّفت في الجيش الروسي من أمثال قاز جري أحد الضباط المعاصرين لخان جري، ونوغمه شوره من التفكير في إيجاد أبجدية أديغية، أو العمل على تأسيس أي نوع من الثقافة الأديغية. والحقّ أن المتعلمين من الأديغة هم ضباط في الجيش القيصري، أو دعاة دينيون تعلموا القرآن والعربية في تركيا فحسبُ.
ولعبت الدول الغربية ولاسيما بريطانيا من خلال جواسيسها دوراً سلبياً يتلخص في تحريض الأديغة على الحرب لمنع روسيا من التمدد. ورغم ما كتبت الصحف البريطانية لتنوير الرأي العام بمأساة الأديغة، ورغم العناء الذي تكبّده وفد من الأديغة بزعامة سفربي خطب في مجلس العموم البريطاني، فإن الأديغة لم يحصلوا إلا على بعض المدافع والبارود،والوعود، مقابل ثروتهم من اللحوم والجلود والعسل.
يقول الأديغة عن أنفسهم: عقل الأديغي يأتي متأخراً. فكّروا بزعامة سفربي أولاً ثم ابنه قرباتر لاحقاً في تأليف حكومة كانت خطواتها الأولى تشي بنهايتها: اختلاف الزعماء الكبار الثلاثة: تسي حاترباي، وجراندوقه برزج، وزانه سفربي، على كتاب طلب الصلح الذي سيرسلونه إلى القيصر ظاهراً، وباطناً على الزعامة الشخصية.
ولا حاجة للحديث عن رواية الهجرة " المطرودون" التي تعمق الجروح في زمن فُرض على أبناء قومنا فيه هجرة جديدة. إلا أن رواية " الغرباء " تستحق وقفة قصيرة لأنها تكشف النوايا الخبيثة للدولة العثمانية التي تواطأت في الأصل مع روسيا القيصرية لتفريغ القفقاس من سكانها: الأولى تريد جنوداً يحاربون في صفوفها ضد أعدائها الكثيرين، أعداء الداخل وأعداء الخارج، وفي الوقت نفسه تمنِّنُ المهاجرين بأنها أعطتهم ملجأ. والثانية تريد أرضاً فارغة، فكانت مأساة جديدة بديهية إذ توطِّن جسماً غريباً بين شعوب البلقان، انتهت بمزيد من الضحايا، وهجرة أخرى.
يبقى أخيراً الحديث عن الجانب الفني في هذه الأعمال، وهو موضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة مفصَّلة، غير أن من حق الكاتب علينا وقد اتكَّأنا عليه في تاريخنا، أن نشير إلى شيء منه؛ فمن المعروف أن الرواية التاريخية عمل درامي على خلفية تاريخية على نحو لا يخالف حقائق التاريخ. والكاتب يُثبِت في بداية كل حدث كبير أو نهايته التاريخ بالعام والشهر والسنة. ويعتمد على أرشيف الأحداث، وعلى كتابات من عاصروها، بل عايشوا تلك الحرب من ضباط الجيش القيصري الكبار، وغيرهم، كالمحارب الفرنسي فونفيل الذي اختتم الكاتب روايتين له بمقطع غير قصير من مذكراته. وبالنتيجة استطاع الكاتب بعبقريته الروائية،وبدراسته المتخصصة، بناء رواية تاريخية متكاملة تلبي شروط الرواية الأوربية الحديثة. ومعروف أن الروائيين العرب، وهم بالعشرات على الأقل، احتاجوا إلى أكثر من نصف قرن لتأسيس رواية فنية إذا اعتبرنا رواية " زينب " لمحمد حسين هيكل عام 1930 أولاها. يمهِّد لذلك كله عملٌ من أشق ما يفعل كاتب رائد، وهو تطويع لغة الأديغة لتكون لغة رواية بعدما كانت لغة حكاية وشعر. وقد احتاج العرب إلى قرن على الأقل لتطويع العربية لتكون لغة نثرٍ على يد ابن المقفع الذي لم يمهله العمر طويلاً، ثم المعلم الأكبر الجاحظ.
ومما يمكن أن يُسجِّل للكاتب بصفة براءة اختراع إن صح التعبير طريقتُه في الحوار التي يصعب على القارئ فهمها في البداية، أعني الحوار المتشعب بين أكثر من شخص في الوقت نفسه، مما يعطي حيوية وتنوعاً يختلفان عما في الحوار التقليدي.
ومما قد يأخذه الناقد غيرُ المدرك لحال الأديغة اتّخاذُه الرواية شبهَ موسوعة للتقاليد والعادات والألغاز وتمارين النطق... ويبدو هذا جلياً في "خان جري" على نحو خاص إذ أن الرواية تبدأ مع طفولة البطل الذي يربّى عند " أتاليك " من الشابسغ، وهي عادة شرقية تتلخص في تربية أولاد الأسر النبيلة وبناتها أحياناً في أسرة أدنى طبقياً، ولكنها أسرةٌ ذات شأن أيضاً، بعيداً عن أبويه، لينشأ على شيء من الخشونة والبعد عن الدلال. وفي الوقت نفسه تنعقد قرابة بين الأسرتين. ويؤدي الأتاليك مرجان من الشابسغ دور المربي بامتياز في تعليمه كل ما سبق. ثم يعود إلى أسرته في حدود الثانية عشرة لتكمل عمةُ والده التي يعدّها جدّتَه تربيتَه. ويبقى دور الأم ثانوياً.
وروايات إسحق مشحونة بالأمثال والأقوال المأثورة وكأني به يخشى عليها من الضياع، ويرى تعلُّمَها في العمل الروائي أضمن لرسوخها في نفس القارئ من قراءتها في مؤلَّفٍ متخصص. ويشرح بعض عادات الأديغة بتفصيل لا يعرفه جيلُنا في سورية على الأقل، مثل حفلات " الجابشه " التي أظنها اندثرت الآن، والتي كانت أشبه بحفلة منوعات أو حفلة سمر تقام للجرحى الحرجة حالتهم، ولأصحاب الكسور الثقيلة.
وأرى من حق القارئ عليّ أن أشير إلى أن هذه الروايات قد صدرت بالعربية في مايقواب في عامي 2016 – 2017.