إنسان العالم الثالث شبحٌ يتجلى في مرآة ماركيز الواقعية السحرية تصوير للكائن أم أفق مفتوح على الممكن*
شرف المرأة بالمفهوم الشرقي هو موضوعُ روايتي ماركيز " أحداث موت معلن " و" ساعة نحس " أو " ساعة شؤم " على اختلاف الترجمات. في الأولى يكتشف العريس ليلة الزفاف بعد كل تحضيرات العرس وأُبَّهته أن العروس ليست عذراء، فيعيدها إلى أهلها قبل طلوع الفجر، فلا يجد أخواها بداً من قتل المتهم الذي لم يستطع أحد إدانته طوال سنوات المحاكمة. وفي الثانية تعيش البلدة حالة رعب دائم مما يسمى " منشورات الفضائح "، وهي ملصقات يلصقها مجهول تحت جُنح الظلام، ولا يستطيع أحد أن يكتشفه حتى ليبدو كالوهم، تفضح العلاقات غير الشرعية في البلدة أو تختلقها، فتصل بهم إلى حد أن يقتل بعضهم بعضاً، أو يهجروا قريتهم إلى الأبد.
يبدو موضوع الروايتين على هذا تقليدياً، كثيراً ما يحدث بين ظهرانينا في العالم الثالث، وكثيراً ما تناوله الكتاب والمخرجون، وصفق له القراء والمشاهدون، حتى غدا موضوعاً مستهلكاً في الساحتين الأدبية والفنية اليوم؛ فما الذي يجعل كاتباً بمكانته يتناوله في المنعطف الرابع للقرن العشرين.
من المؤكَّد أن ماركيز لا يبغي مجرد تأليف رواية مثيرة، ولا إشباع تعطش الإنسان الشرقي القابع في أعماقنا إلى دمٍ ينبجس من صدر المتهم، بل يقدم تحليلاً لشخصية الإنسان المقهور، الذكر والأنثى على السواء، في مجتمع متخلف هو مجتمع أمريكا اللاتينية الذي تفصلنا عنه آلاف الأميال، ولكن العالم الثالث بشرقه وغربه تحكمه قوانين التخلف رغم مظاهر الحضارة من مؤسسات تعليمية وثقافية.
يلخص الدكتور مصطفى حجازي في كتابه " التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور" خصائص هذا الإنسان بما يلي:
1 - يعاني من عنف مزدوج: عنف الطبيعة: جفاف، فيضانات... ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليكتشف أن معظم الكوارث الطبيعية يصيب أفقر مناطق العالم. وعنف المستبدّ. وكذلك لا يخفى أن أشدّ الأنظمة ضراوة تُنيخ على صدور هذه المجتمعات. وهو تجاه هذين المظهرين المتضافرين للعنف عاجزٌ قلقٌ قلقاً دائماً.
2 - ولا يملك الإنسان المقهور وسيلة لمجابهة المفاجآت التي تحمل له الخير أو الشر إلا ما يؤمِّنه له التمسك بالماورائيات (الميتافيزيك) كالتمني السحري والتعلق بالخرافة، أو الاتكالية المفرطة.
3 - ونتيجة هذا العجز أيضاً فهو مغلوب على أمره دائماً، يفقد الموقع التغييري الفعّال، ويقع في أسلوب الترقب والانتظار. وإلى جانب عقدة النقص هذه يعاني من عقدة العار. إنه يخجل من ذاته، وفي حالة دفاع دائم ضد افتضاح عجزه وبؤسه. وهو حساس بإفراط لكل ما يهدد المظهر الخارجي الذي يحاول أن يظهر به للناس، وهو ما يسميه الباحث " الجرح النرجسي "، يعني به الكرامة المهددة. ولذا تحتل العزة والكرامة مكانة أساسية في وجوده؛ يستطيع أن يعيش بلا خبز ولكنه يفقد كيانه إذا فقد كرامته، فتنهار طاقته على احتمال مأساة القهر والبؤس.
4 - ولكنه يُسقِط العار كله على المرأة فيربط شرفه كله بها، ويصبح القتل مبرَّراً ومعترَفاً به اجتماعياً تحت عنوان " جريمة الشرف "، وهو تحويل للعار عن مصدره الأساسي: الاستغلال والتسلط، إلى المرأة المستضعفة. وفظاظةُ الرجل المقهور الداخلية في هذا الموقف تتناسب وركاكتَه الداخلية؛ إنه ينجذب نحو جسدها ولكنه لا يتحمل المسؤولية.
كيف تتجلى هذه المواصفات في إنسان ماركيز المقهور؟
1 - إنه، ظالماً أو مظلوماً، قاتلاً أو مقتولاً، إنسانٌ مغترب ببنيانه الداخلي، هشٌّ رغم فظاظته الظاهرية؛ فالقاتلان التوأمان في " أحداث موت معلن " مدفوعان، لا بدافع الاقتناع، بل بدافع الواجب الاجتماعي الذي جعل " مثلث المرأة " مركزَ الشرف وعنوانه. إنهما (القاتلان) أشبهُ بطفلين حتى إن " سُمْعتَهما الأخلاقية الطيبة " تمنع بعض الناس من تصديق تصريحهما بنيّة القتل. صاحا أكثر من مرة بأنهما سيقتلان سنتياغو نصّار. وتلاحظ صاحبة المتجر الذي رابطا عنده أن تصميمهما على القتل قد خفّ بعدما انتزع العمدة السكينتين منهما وعادا بغيرهما. حتى الأخ الذي خدم في الجيش زادته هذه الخدمة خوفاً من الموت، بل يصرّح أحدهما بعد خروجه من السجن " لا تستطيع أن تتصور مدى صعوبة قتل إنسان "
والضحية، سانتياغو نصار، وهو بالمناسبة لبناني الأصل، إنسان مسالم طيب القلب، ينأى بمغامراته العاطفية عن البلدة. ولا يبدي أي مقاومة للموت. يموت دون أن يعيَ موته، غيرَ مكترث بالتحذيرات، أو بالأحرى يفقد السيطرة على عقله، ويبدو لقاتلَيه أنه يبتسم.
وكذلك القاتل في " ساعة نحس " يلاحظ الابتسامة على وجه القتيل. وحين يناديه والبندقية مسددة إلى صدره يسيطر عليه الشحوب ويبتسم.
والقدر يدفع هذا الإنسان إلى الكارثة مشلول الإرادة: سنتياغو الضحيةُ وقد علم بثمن الإهانة المنسوبة إليه،كان الانتحار فعلاً هو الثمن، مات دون أن يعي موته: خرج من الباب الخلفي صباح مقتله على غير عادته، وعلى هذا الباب كان القاتلان ينتظرانه. كان يرتدي ملابسه الرسمية، وهذا الزي الرسمي جعل الأم توقن أنه لن يخرج من الباب الخلفي. والأسلحة التي كان يمتلكها كانت كافية لمواجهة عصابة؛ غير أنه لم يستعمل أياً منها عند الحاجة. ولو لبى دعوة أخي الكاتب ـ والكاتب وأخوه من أبطال الرواية ـ إلى تناول طعام الإفطار لتغير مجرى الأحداث.
والقدر يدفع الأخوين إلى القتل وهما غيرُ راغبين فيه.ولكن أحداً لا ينقذهما وقد علم العشرات بنيّتهما؛ يقول أحدهما للآخر حين يراه متلكئاً: ليس هناك طريق للخلاص من ذلك القتل، إنه كما لو حدث فعلاً. وسُمعتُهما الطيبة منعت الجزارَين اللذين شحذا السكينتين عندهما من حمل تهديدهما على محمل الجد. وكذلك يفعل زوج بائعة الجليب. والعروس عارضت تأجيل الزفاف يوماً واحداً مستسلِمة للرغبة في النهاية. والعريس الغني لم يدرِ أحد ما الذي دفعه إلى استيطان هذه البلدة. والمسؤول المدني في البلدة، العمدة، يتعامل مع القاتلين من منطق ثقته البالغة بنفسه فلا يلقي القبض عليهما، بل يجردهما من السلاح موقناً أنه لم يعد لديهما ما يقتلان به أحداً وكأنْ لا سلاح آخر عندهما. وبعد آخر تحذير يتلقاه من صديق الضحية يذهب إلى النادي للتأكد من موعد لعبة البلياردو.
وأمّ الكاتب التي تعرف جميع الأخبار قبل أن يستيقظ الناس كأن بينها وبينهم خيوطاً سرية، ورغم أنها تتنبأ بالمستقبل، لم تشعر باقتراب المأساة. ولما صممت على إنقاذه كان الأمر قد انتهى.
وفي رواية" ساعة نحس " تعيش البلدة منذ سنوات تشكو من أنه لا يحدث شيء. وفجأة تبدأ المأساة كأن الله قرر أن تنصبّ دفعة واحدة كل هذه المصائب. وما يقضّ مضاجع أهل القرية هو الخوف من هذه المنشورات التي لم يعلم أحد قطّ من الذي يلصقها. أبيدت قرية كاملة بسببها إذ انتهى أهلها إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، والسبب " كل هذا مقدَّر ومكتوب ". من يلصق المنشورات؟ تتوصل العرّافة إلى أنه " كلُّ من في القرية، وفي الوقت ذاته لا أحد ".
وتقترن القدرية بالتطيُّر والإيمان بالخرافات، وهما وسيلة مجابهة التغيرات والمفاجآت كما سبق. العروس في " أحداث موت معلن " تولد برباط سُري ملفوف حول رقبتها كأعظم ملكات التاريخ، ولكنها قليلة الحيلة، فقيرة الروح، مما يعني أن مستقبلاً غامضاً ينتظرها. وأمُّ العروس تقول لبناتها وهن قادمات إلى العرس " لا تمشّطن شعوركن في المساء، ستقللن من سرعة السفن في البحر " وتسمع أم الكاتب وهي تستسلم للنوم ثلاث دقات بطيئة من ذلك النوع الذي " ينمّ عن قدوم أخبار سيئة "
والثآليل في " ساعة نحس " تخبر بأن المطر لن يتوقف، والمطر رمز دائم للشؤم، وكذلك الصداع. والدكتور جيرالدو في الرواية فأله فألُ شؤم. والجدة العمياء لها تنبؤات مريعة " سيسيل الدم في الشوارع، ولن تكون هناك قوة إنسانية قادرة على وقفه ".
ويصل الإيمان بالخرافات إلى أَوْجِهِ، إلى مرحلة استشرافٍ " نوراني " كما يسميها الكاتب، يختلط فيها الحلم بالواقع، وتمّحي الحدود بين الحُلم والعلم؛ يقول سنتياغو لأصدقائه عشية موته " لا أريد أي زهور في جنازتي " رابطاً ربطاً لا يمكن للوسائل العلمية إدراكُ كنهِه بين العرس والجنازة. ويدُه حين أمسكت بيد الخادمة كانت مثلّجة صخرية أشبه بيد رجل ميت. وأحد القاتلَين سيصرح بعد الجريمة في لحظة روحانية مدهشة " كما لو أني استيقظت مرتين في لحظة واحدة ".
وتحس أرملة مونتيلو في " ساعة نحس " بأن شيئاً كان آخذاً بالانهيار منذ زمن بعيد قد انتهى الآن، ثم تستسلم للموت. والفتاة " مينا " لحظة تنبّأت بحمام الدم المقبل رآها الكاهن " تنبثق بشعر أسود قاتم، وشحوب كشحوب العجوز العمياء " فتقول الجدة العمياء: " لقد قلت لكم ستمطر رماداً متّقداً فوق رأسها " وعينا الجدة العمياء المثبتتان تبدون كأنهما تنفذان إلى سر الأشياء.
إلامَ تؤدي هذه المقدمات بأبناء المجتمع المتخلف؟ هم، بمن فيهم الضحايا الذين يكفّرون عن خطاياهم، يظنون أنهم يؤدون أدوارهم. غير أن الحقيقة هي أنهم يدفعون الثمن غالياً: روح الضحية تظل تلاحق القاتلين اللذين لا يستطيعان التخلص من رائحته. والكولونيل الذي شاهد ما حدث وتسبب في كثير من المذابح قبلُ انتهى إلى أن صار نباتياً وروحانياً. وأكثرُ الناسِ الذين ساعدوا في نقل الجثة أو تشريحها أصيبوا بالإغماء. والكاهن وزوج بائعة الحليب يموتان بعد مدة قصيرة بسبب فظاعة ما شاهدا، وبسبب آلامهما النفسية. وفلورا، خطيبةُ سانتياغو، تتخلص من شعورها بالحقد عليه بأن تهرب مع ضابط من حرس الحدود. والقابلة التي أخرجت ثلاثة أجيال إلى هذا العالم تصاب بتقلص مؤلم لدى سماعها الخبر. والبلدة في " ساعة نحس" تعيش حالة رعب دائم من الموت، ومن المتفجرات، ومن المنشورات الفضائحية. تنتهي إلى الموت أو إلى الهجرة.
هل كان ماركيز قاسياً على الإنسان المقهور حين شرّحه كل هذا التشريح ولم يفتح أمامه أيَّ كُوّة؟
إذا كانت الواقعية تعني القفز فوق الواقع الراهن إلى واقع مأمول مستقبلي متفائل تفاؤلاً ساذجاً أو غير ساذج فقد فعل. وإن كان تشريح الواقع لاكتشاف أمراضه فقد فتح الطريق إلى هدْم هذا البناء الزائف ذي الأساس المِلحيّ. وأوقِنُ أن هذه هي مهمة الأديب.
*مقال منشور في جريدة البيان الإماراتية في 11 /8 / 1990