ابن خلدون فانسان منصور مونتيل
تُعد الترجمة الحديثة لمقدمة ابن خلدون إلى الفرنسية هي الأولى إلى لغتنا منذ قرن تقريباً بعد ترجمة ماك غوكان دو سلان التي ظهرت بين عامي 1862 – 1868. وسنرى لاحقاً الأسباب التي دفعتنا إلى هذا المشروع، ولكننا سنجهد الآن لوضْع المؤلَّف في وسطه وعصره، ثم نسلِّط الضوء على مؤلَّفه الذي أصبح شهيراً، ونُبرِز أصالته.
أولاً: طبيعة مزدوجة:
وُلد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي في تونس عام 1332 م، ومات في القاهرة عام 1406م. فهو إذن من رجال القرن الرابع عشر، ويعني هذا أن العالم الإسلامي في عصره كان عالَم المُرينيين في المغرب (1269 – 1420) والحفصيين التونسيين (1228 – 1547) والناصريين في غرناطة (حتى عام 1492) والمماليك المصريين(1250 – 1517) وإمبراطورية تيمورلنك المغولية. وسيلتقي ابن خلدون بالفاتح الأعرج قرب مدينة دمشق عام 1401.
وفي فرنسا كان هذا العصر عصر الغاليين الأوائل (1328 – 1498) (1). وقد ولد ابن خلدون عام 1332 عامَ إعدام روبير دارتوا (2) ومات عام 1406 بعد عامين من موت فيليب بورغونييه (3)، وقبل عام من اغتيال لويس دورليان (4) بأمرٍ من جان سان بور. (5) وعلى الصعيد الثقافي فإن ابن خلدون معاصرٌ في فرنسا لجان فرواسّار (6) الذي ظهرت حولياته منجَّمة بين عامي (1369- 1410)، ومعاصِرٌ لكريستين دو بيزان (7) صاحبة كتاب " الأفعال والأخلاق الحميدة للملك شارل الخامس الذي كُتب بين عامي 1400 – 1410، وبيير ديلي (8) كاردينال كامبري الذي يعود تاريخ كتابه " صورة العالم إلى عام 1414. وكان هذا القرن في إيطاليا قرنَ بيترارك (1304 – 1374) (9)، وفي إنكلترا قرنَ شوسر (10) (1340 – 1400) الذي وضع كتابه " قصص كارتنبري " عام 1387. ولا شيء بينها غرضُه قريبٌ من غرض ابن خلدون في مقدمته.
وكانت إيران تعيش في عصر أعظمِ شعرائها وأحبِّهم إلى قلوب الإيرانيين حافظ الشيرازي (1320 تقريباً – 1389) (11). ويكتب المؤرخ نظام الدين الشامي تاريخ مملكة تيمورلنك في كتابه " كتاب الظَّفَر" (ظفر نامه). أما المؤلفون العرب فقد ذكر ابن خلدون بعضهم كالرحّالة المغربي ابن بطوطة (1304 – 1377) رغم أنه يبدو أن الرجلين لم يلتقيا مطلقاً. وكان العمري المؤرخ السوري المصري قد توفي علم 1349، ولكن المقريزي الشاب تابع دروس ابن خلدون في الأزهر عام 1383. وقد رأى ابن خلدون المقّري عام 1357 في خلال إقامته الطويلة في فاس. ويذكر القلقشندي (-1418) ابن خلدون مراراً في مؤلَّفه الرئيس الذي كُتب بعد عام 1387. غير أن أهمّ ما يعنينا هو الأندلسي ابن الخطيب (1313 – 1374) الذي ترجم لابن خلدون في كتابه " الإحاطة" الذي هو تاريخ غرناطة. وقد ارتبط الرجلان بصداقة، وكان من الممكن مقارنة أحدهما بالآخر لأمهما كليهما مارس مهمة مزدوجة: السياسة والأدب، أحدهما في شمال إفريقيا، والآخر في الأندلس.
إن المراحل الأساسية من حيان ابن خلدون معروفة، ولاسيما بفضل سيرته الذاتية " التعريف" التي نشرها محمد تاويت الطنجي في القاهرة عام 1951. ومن الضروري تقسيم ثلاثة أرباع القرن التي عاشها الرجل، والملأى بأحداث متباينة إلى أربعة أقسام على الأقل حسب المنعطفات الحاسمة في حياته.
والحقيقية أن الحقبتين المهمتين في حياة الرجل، المسبوقتين بثمانية عشر عاماً من الشباب، والمفصولتين بثمانية أعوام من الخلوة لتحرير مؤلفه، تمتد كل منهما أربعة وعشرين عاماً: الأولى منهما في إفريقيا الشمالية، والثانية في مصر. ونقطة الأوج في نشاطه الأدبي هي ثمرة نُضجِه الفكري.
- موت الأب:
وُلد عبد الرحمن ابن خلدون في 27 أيار عام 1332 لأسرة تونسية تنحدر من أصل عربيـ هاجرت إلى إفريقية الشمالية منذ أجيال عديدة. وكثيراً ما جرى التساؤل عمّا إذا كان يجب اعتباره عربياً أم بربرياً أ أندلسياً. وكتب مؤلف مسلم هو محمد عبد الله عنان: " يحقّ لنا أن نتعجب من تعلق ابن خلدون بأصله العربي لأنه يكشف في المقدمة عن خصومة وحكم مسبق شديدين ضد العرب، في الوقت الذي يمجّد فيه البربر في جزء آخر من تاريخه، ويرفع إلى الأوج طباعهم وصفاتهم ". والحكم الذي أطلقه روزنتال أشد دقةً؛ فهو يلاحظ أولاً أنه لا يمكن، لسبب معقول، الشكُّ في النسب العربي البعيد لمؤلفنا حتى لو أن من الممكن أن العناصر البربرية والأندلسية دخلت لاحقاً. فالأكيد من جهة أن ابن خلدون آمن أنه من أصل عربي، وهو ما كان في حد ذاته " عنوان نُبْل"، ولكن لم يكن لافتخاره العرقي مطلقاً دور يماثل ما لأندلسيته من جهة أخرى. فهو يُلحّ مراراً على أصالة الحضارة الأندلسية الإسلامية وتفوُّقِها. وانطوى طوال حيلته على عاطفة عميقة ومخلصة لشمال إفريقية مسقطِ رأسه. غير أن وطنه الروحي الحقيقي كان الأندلس. ولا تمنع هذه الملاحظات التي لها ما يُسوِّغها من أن تفخر تونس بابنها الموهوب جداً، والذي سيكون له مستقبل عظيم.