الأقزام والعمالقة
للجواهري، آخر عمالقة الشعر العمودي، قصيدة بعنوان " حفّارو القبور " أو نبّاشوها، والنباش هو من يسرق أكفان الموتى، نظمها بمناسبة أن الصحف المحلية في مرحلة من تاريخ العراق، لعلها أواخر الأربعينيات، درجت على إحياء ذكرى أديب كبير أو شاعر عظيم أو فنان أو... ممن لم يكن يعرفهم أحد في حياتهم، يستهلّها بقوله:
أبصرت حفاراً بمقبرة نكراء يوسع أهلها نبشا
قد كنت أعرف أن ساكنها ممن أشاع الكيد والبطشا
ومن الذين يرون موهبةً في المرء أن يرشو وأن يرشى
حتى ينتهي إلى قوله:
فإذا بروفائيل يزحمه من لا يَميز لصورة نقشا
وإذا بنابليون يهزمه ضيغم كالهر نفشا
وبعد أن يستعرض الأمجاد الزائفة لهؤلاء " المنبوشين " يتساءل، ويتساءل معه الناس والقارئ:
أفموطنٌ فيه يعاسبةٌ كأولاء كيف بطاحه تُغشى؟!
وفي مقابلة تلفزيونية يسأله المذيع عن سبب قلة الشعراء النجوم، فيجيب: كل عصرٍ يُنجب واحداً أو اثنين فحسبُ.
وهو كلام لا شكّ صحيح. فما أكثر شعراء العصر الجاهلي والعصر العباسي، وهما أزهى عصرين شِعريين؛ ومع ذلك فما أقل النجوم فيهم! كان امرؤ القيس وحيداً على القمة، وزهير والنابغة اثنين... وكان المتنبي وحيداً، وأبو تمام والبحتري اثنين، حتى إذا تجاوزت المعري احترتَ في من يستحق لقب النجم إلى مطلع القرن العشرين.
وفي مسرحية للروسي تشيخوف تُلِحّ الفتاة المراهقة على معشوقها الكاتب الأربعيني أن يخرج من غمّه، فهو كاتب مشهور، ويكسب الكثير من مسرحياته... وعبثاً يحاول الكاتب إقناعها بتعاسته وإرهاقه من الكتابة... ثم ينفجر بالحقيقة المرة: مهما بلغت فسيقول الناس بعد موتي: كان كاتباً جيداً ولكن تولستوي كان أحسن منه!
وفي هذا العصر، كما في الماضي، مئات الأسماء في الساحة الأدبية. وزاد الأمرَ سوءاً ازدياد دور النشر والمطابع ومعامل الورق وأفلام التصوير...
وكما كان بعض متنفذي اللغة والأدب في العصور الخوالي يؤدون دوراً هاماً في إجازة هذا أو ذاك، وترويج كتاباته، ولا ننسى إلى الآن دور أمير شعراء العصر الحديث أحمد شوقي، كذلك تفعل وسائل الإعلام المعاصرة من صحافة وإذاعة وتلفزيون. وأعظم خدمة يؤديها صديق متنفذ لكاتب جديد أو مغمور هي أن " يدبّر " له مقابلة صحفية أو إذاعية أو تلفزيونية، وهذه الأخيرة صعبة المنال، حتى إذا تحول عملٌ من أعماله إلى نتاج تلفزيوني بلغ الأوج. فيتساوى الأدب بذلك مع مطربي الصفوف الخلفية الذين " يستقتلون " من أجل إذاعة أغنية لهم حتى يجدوا فرصة للعمل في النوادي الليلية، أو ترتفع أجورهم فيها.
وباستثناء القليل ممن يستحقون الإطلال على الجمهور من خلال وسائل الإعلام فيفيدونهم ويمتعونهم، نجد صغار الكتاب والنقاد يتمطَّون أمام الكاميرا، ويرفعون رجلاً ويحطّون أخرى في وجوه المشاهدين، في حين يصرح الباحث السوري الكبير شاكر مصطفى مثلاً، وهو مَن هو علماً ونتاجاً ومنصِباً بانه خجِلٌ مما قدّم إلى الآن! ويصرِّح الكاتب العظيم ماركيز صاحب " مئة عام من العزلة " و" الحب في زمن الكوليرا " وجائزة نوبل، أن أصعب لحظات حياته هي عندما يطرح عملاً جديداً لأنه يخشى رد فِعلِ الجمهور.
ورغم ضآلة عدد نُسخ الكتاب العربي عموماً فإن هذا العدد يمكن أن يظل حبيس المطابع ومؤسسات التوزيع لولا الوسائل المتنوعة لتصريفه كاقتناء المكتبات والجهات العامة (مراكز ثقافية، جامعات، مكتبات مدرسية) والتي يُفرض عليها شراء نتاج كاتب معين، وبكميات كبيرة، وكذلك الصلات المعقدة بين دور النشر.
والصحافة اليومية بخاصة، والأسبوعية والشهرية عموماً، تستهلك الكثير من هذا الفيض الكتابي، وتُشهِره بما تُخصص من صفحات أدبية ونقدية.... وينوّع هؤلاء الكتاب اختصاصاتهم من شعر إلى نقد بما يتماشى ومتطلبات السوق ورواج البضاعة.
يتساءل المرء بعد هذا: ما قيمة أن يقرأ لمئة قاص بعد أن قرأ تشيخوف، أو لمئة روائي بعد أن قرأ همنغواي أو ماركيز أو ديستويفسكي... وهل تفضِّل أن تقرأ قصيدة للمتنبي أم مجلدات من الشعر الموزون أو المكيل الفارغ من الروح أو من الروح والموسيقى معاً؟
ثم يتساءل: ما مسوِّغ وجود الأقزام؟ ولماذا لا يقتصر النشر والقراءة على العمالقة؟ ولابد سيحتاج المرء إلى عمره ليقرأ بتأنٍّ للعظماء، قدماء ومحدثين، شعراء وقصاصين ومسرحيين؟ فلِمَ إضاعة الوقتِ على القارئ، والورقِ والحبر على الوطن؟
إن منطق الحياة أعقدُ من أن يستسلم لإرادتنا، أو نطوِّعه لمشيئتنا. ولكن الأكيد هو أن لهؤلاء الكتاب الصغار والمتوسطين الذين يقول فيهم الجاحظ " ليس أسوأُ من كاتب متوسط" بل الجيدين، دوراً أشبه بدور القاعدة التي لا بد منها ليتكئ عليها العمالقة، أو أشبه بدور الكومبارس، لا غنى عنه ليؤدي العملاق دوره، ولتظهر عبقريته، فيتبين للقارئِ وذاكرةِ التاريخ عظمتُهم كما تتبين نصاعة الأبيض إذا كان على خلفية سوداء.
ومن حظ القراء أن الذاكرة لا تحتفظ غالباً إلا بالأديب الممتاز، أما الآخرون فيجرفهم قانون البقاء للأصلح بل المتميز، وقديماً قال الشاعر:
فإنك شمسٌ والملوك كواكب إذا طلعتْ لم يبدُ منهن كوكبُ
*البعث العدد 8324 8 /1990