الإجازة
قدّمه إليّ قائد سريته في اليوم التالي لالتحاقي بالسرية قائلاً:
_ قدِّمْ نفسك للملازم!
_ العسكري المجند صالح... رقم... سيدي الملازم!
توجّه إليّ قائده:
_ هل فهمت منه شيئاً؟
_ فهمت أنه مجند، واسمه الأول صالح.
وحاول صالح بعدما اطمأن إلى قائده الجديد أن يرتخي قليلاً فنهره قائده السابق بحزم:
_ قف باستعداد!
فشدّ جسمه من جديد، وأخفت عيناه خجلاً كشفه خدّان سرت فيهما حمرة ضاعت في سواد وجهه.
_ هذا صالح جلعوط، أستغني لك عنه مدة التحاقك بنا. بإمكانك أن تشغّله مراسلاً أو تستعين به على الحراسة. وإن شئت _ أردف باسماً _ سلِّمه قيادة إحدى دباباتك!
وأعطاه تعليماته النهائية:
_ هذا قائد فصيلة الدبابات التي التحقت بنا لدعْم الموقع، وأنت منذ الآن تحت تصرفه. لا أريد أن أسمع عنك أي تقرير سيء، وهو مخوَّل أن يعاقبك العقوبة التي يريدها؛ مفهوم!
_ ولكن إجازتي يا سيدي؟
_ تبحثها معه في ما بعد؛ انصرف الآن!
لم يكن من الصعب أن أفهم لماذا تنازل لي عنه قائده؛ ولكنه محاولاً طمأنتي وصفه لي على انفراد:
_ لا يغرَّك مظهره! هو صحيح " درويش " ولا يملأ العين؛ ولكنه شِغّيل وشجاع. يصطاد الحيايا ويسلخها بالحربة. عيناه في الليل عينا قط بريّ، حارس جيد...
ارتبط اسمه في ذهني من اللحظة الأولى بشكله: جلعوط حتماً من جلعط، وجلعط ربما مثل " جلغم " يعني الشيء المتداخل بعضه ببعض، إذ لابد أن هذه البشاعة الفريدة ورثها أباً عن جدّ حتى سُمّي أحد أجداده بهذا الاسم على سبيل التندّر. وسماه ضباط الصف " أحدب نوتردام " أما الجنود فكانوا يقولون إن رؤيته في الليل تقطع " الضنا " إلى الأبد.
تناسيت موضوع إجازته بعض الوقت، وجعلني سكوته عنها أرتاح إليه؛ حتى انفردنا يوماً، وكان طبعه السكوت، فاستدرجته إلى الحديث:
_ لم تطلب إجازتك إلى الآن؟
_ يا سيدي ماشي الحال، لا نصيب لنا فيها.
_ ومنذ متى لم تذهب؟
_ خلّها على الله! غيري يذهب ويعود، وأنا من عيد إلى عيد مع أني لا أطلب إجازة إلا مضطراً، ولم أنزل إلى المدينة منذ أتيت إلى هنا إلا مرة واحدة.
وأخرج من جيبه ورقة مطوية بعناية، وناولني إياها قائلاً:
_ يا سيدي رفاقي يقولون لي: غشّوك بطوق الذهب الذي اشتريته؛ هل ما في الوصل صحيح؟
قرأت المبلغ وطمأنته، فأعاد الإيصال إلى مكانه وقال:
_ وإذا أعدته إلى البائع كم أخسر فيه؟
_ ولماذا تعيده؟
تنهّد عميقاً وقال متحفظاً:
_ الحكاية طويلة: " صمّدت " عند والدي كل ما وفّرته وأنا في لبنان لأدفع سياق ابنة عمي؛ غير أنه تزوج هو بنقودي. والآن لم يبق معي إلا القليل من العملة اللبنانية عدت به آخر مرة قبل أن أُطلب إلى الاحتياط. وزوجة والدي لن ترضى أن أساكنها البيت ولذا أحتاج إلى غرفة مستقلة، وعمي مستعجل يقول: إذا كنت لا تريدها فالبنت ستصبح " بائرة "
_ وهل تحبها؟
_ هي ابنة عمي، وإذا لم أتزوجها فمن ستقبلني؟
وابتسمت في سري وأنا أتصور أظافره تنغرز في لحمها، وأنفاسه تتلاحق محاولاً افتراسها، وسرت الابتسامة إلى وجهي وأنا أتصور مكان ابنة عمه واحدة من بنات المدينة، فامتعض وقال عاتباً:
_ سامحك الله!
أسفت لإهانته، وحاولت استرداد ثقته فقلت له:
_ لا عليك! سأرسلك غداً في إجازة لتدبر أمورك مع عمك وابنته. حضِّر لوازمك الليلة، ومُرَّ عليّ ظهر الغد لأوقعها لك!
انفرجت أساريره فجأة، وابيضّ وجهه كأني زففت إليه ابنة عمه، فتمتم ببضع كلمات فهمت منها: الله يخليك! أسبوع، عشرة أيام... وعرض عليّ وهو منصرف جملة خدمات صغيرة: زيت أصلي، سمن عربي غير مغشوش... ثم انصرف.
ظهيرة اليوم التالي دخل صالح " برّاكتي " بهدوء. ووضع حقيبته المعدنية اللماعة أرضاً ينتظر فراغي من الهاتف. وقبل أن يطلب شيئاً بادرته:
_ صالح، أسرِعْ وأخبر عناصر الفصيلة أن تنطلق إلى الدبابات وتتخذ تدابير القتال!
وتردد برهة كأنه يريد أن يقول شيئاً ولكن أصوات طائراتنا وحواماتنا التي بدأت الهجوم مع التمهيد المدفعي لم تمهله فاختفى متجهاً إلى خيمة الفصيلة. ولحقت به بعد قليل. ورأيت على وجهه خيبة يجهد لإخفائها، فقلت معزياً:
_ لا بأس يا صالح! هذا ما حدث. ربما كان كسائر الاشتباكات يدوم يوماً أو يومين وينتهي، ولن أنسى إجازتك.
وعلّق الخبثاء:
_ فرجها الله على ابنة عمك!
_ تتزوجها في الجنة!
نسيت صالح في غمرة الاشتباك. ثم رأيته بعده منتصباً أمام دبابتي يلوّح بيديه راقصاً على غير عادته:
_ الله محيي الرجال! بيّضتم وجهنا. الملاعين كانوا " مستوطين حيطنا " قبل أن يصبح عندنا في الموقع دبابات، والخندق اللعين اجتازه جيشنا!
_ سنرى الليلة عزيمتك. سنعيد تذخير الدبابات.
وفي الليل، ودون أن نبحث عنه، انضم صالح إلى جنود الفصيلة يقفز من سيارة الذخيرة إلى الدبابة، ومنها إلى السيارة، يُنزل صناديق في طوله، ويحمل طلقتي المدفع على كتفيه كوسادتين.
ولم يُتَح له أن يستريح طويلاً؛ ففي الصباح كلّفْتُه أن يمارس مهمة المراسل: يبقى معي في المرصد يراقب تحركات العدو من خلال المنظار الذي لا يعرف شيئاً من رموزه وتدريجاته؛ ولكنه لم يدع شيئاً يُفلت من رقابته، بل كان يشفع ملاحظاته بمعلومات مهمة في رأيه عن المِنَع المعادية المقابلة لنا. وأيُّها استطاع جنود الهندسة والفدائيون نسفها، وأيّها صمدت أمامهم سابقاً. وأين مرصد الإشارة، وأي الدبابات المعادية حقيقي وأيها هيكلي مزيَّف. وظل يثرثر بلهجته التي ضاعت ملامحها الأصلية في غربته الطويلة دون أن ينتظر مني جواباً:
_ يا سيدي هذه دبابة معادية خرجت من حفرتها لترمي.
_ يا سيدي هذه مدفعيتنا تشعل النار في المعسكر وراء التل.
اشتد القصف المعادي وتركَّز على المرصد الذي بني بحجارة ٍ كلُّ واحدة منها كفيلة أن تقتل جملاً إن تداعت. ولا أدري أكان يلاحظ على وجهي علامات خوف أو ارتباك فقد بدا كأنه سيردّ عني قذائف العدو بيديه. ونصحني أكثر من مرة، بسبب خبرته الطويلة في الاشتباكات، أن أغطي ظهري بحِرام الصوف خوفاً من قنابل النابالم. ونصحني أيضاً متحرزاً أن أنزع رتبتي فقد يقع ما ليس في الحسبان.
... لا أنكر أني تنفست الصعداء حين أُمرت أن أترك المرصد وألتحق بدباباتي، مع ما يحمله هذا الأمر من احتمال الدخول في اشتباك جديد فقد أعمانا دخان القذائف الموجهة إلينا والغبار المتصاعد داخل المرصد، وزكمت أنوفَنا رائحة البارود؛ حتى إنه كان يصعب علينا العثور على قبضة الهاتف حين يرن إلا تلمُّساً. وحزّ في نفسي أن أترك صالح وحده في هذا الجحيم ولكن لم يكن لي الخيار في ذلك؛ فلا بد أن يخبرني بتحركات العدو، ويبلغني الأوامر عبر جهاز اللاسلكي.
لا أذكر كم مضى من الوقت على صالح وراء المنظار يرصد ويُعلِمني بما يجري. يضطرب صوته حين تشتدّ وطأة القصف على المرصد، ويصيح صياح الأطفال حين نصيب هدفاً معادياً فقد نسيته في غمرة المعركة. وتصورت بعدما هدأ كل شيء مساء أن صالح غادر المرصد قاطعاً الأمل من إجازته فلابد أنها الحرب الحقيقية الآن! وسألت عنه في كل مكان رفاقه القدامى دون جدوى، إلى أن وصلت حيث تركته:
كان المرصد قد تحوّل إلى أنقاض سوداء، وبين حجارته رأس أشعث سال الدم من فمه وامتزج بالتراب.
الجائزة الخامسة في مسابقة تشرين عام 1978.ومنشورة في مجموعة " الوسام " من إصدار تشرين عام 1981