الإنسان التلفزيوني
حتى لا ينخدع القارئ بالعنوان أوضِحُ له سلفاً أنه ليس المقصود به ذلك الإنسان المشدود إلى برامج التلفزيون أو الفيديو، وما أكثرهم في عصرنا، وأضيف إليهم المشدودين إلى أجهزة الخليوي في أيديهم. ولا أخفي خوفي من غضب الكثيرين من المتعصبين لهذا النجم أو ذاك، وإن كنت أحتمي بإدراكي أن الذين يتصفحون جريدة أو أي مطبوعة من هذه الأوساط قليل، وأن من تقع يده على صحيفة ما يبحث أول ما يبحث عن الكلمات المتقاطعة وما شابهها.
العنوان مصطلحٌ ورد في كتاب " نظرات في هذا الزمان " من منشورات وزارة الثقافة السورية عام 1985 لباحث من قلب العالم الرأسمالي هو بيير باسكالون. ويتوصل إلى الحقائق نفسها باحثٌ آخرُ من قلب العالم الرأسمالي أيضاً هو سيمون تشوداك في كتابه " النمو المجتمعي " من منشورات وزارة الثقافة السورية أيضاً عام 1980.
المجتمع الرأسمالي نتوهم من مواقعنا الفقيرة، وبتأثير وسائل الإعلام الغربية المسيطرة على أكثر من أربعة أخماس الإعلام العالمي، أنه جنة الله في أرضه. ويتزاحم الألوف على أبواب سفاراته طلباً للهجرة أو العمل، ولاسيما بعد انحياز معظم دول المنظومة الاشتراكية السابقة إلى اقتصاد السوق. هذا المجتمع جعل النمو الاقتصادي الهائل إنسانه إنساناً مستلَباً. والمستلب باختصار هو الخاضع خضوعاً لأعمى للرموز والمؤسسات والأنظمة مسلوبَ الذهن عن مشكلاته الحقيقية؛ فكيف يحدث هذا الاستلاب؟
الإنسان في عصور ما قبل التاريخ كان يجد الأمن في حماية ربّه وقبيلته وعشيرته وأسرته الكبيرة. ويجد السعادة في اندماج عمله بسائر نشاطاته الروحية، فأحدث النمو الرأسمالي قطيعة حادة بين الإنسان وعمله وراحته من جهة، وبين العمل والراحة من جهة أخرى. فالفلاح غيرُ القنّ طبعاً أو الحرفي لم يكن يفصل بين حياته وإنتاجه وعمله، بين وقت العمل وبين الحياة الخاصة. وكان هذا التمازج سرَّ سعادة الإنسان شريطة توفر المتطلبات الضرورية للمعيشة. سعادة الحرفي بإبداع عمل حرفي فني يحمل بصمات روحه قبل بصمات أصابعه، وسعادة الفلاح بالارتباط الحميم بأرضه، فضحى النظام الرأسمالي بالفن الصناعي، واقتلع الفلاح من جذوره، وفتّت العمل بقسوة حتى لا يفهمُ العامل إلا ما تستوجبه ضرورة الإنتاج، وجعله خامد الذهن حتى يصبح عدمُ التفكير عنصراً من عناصر تعريف العامل العصري، وقتُه مبرمج بالآلات الحاسبة، وخاضع في كل ثانية للآلة. وفي الحالة المقابلة أصبح المهندس أو الفنّي منظِّماً، تطور دماغه على حساب قلبه وجسده، فغدا مجرد دماغ كبير.
وكذلك وفّر النمو الرأسمالي فيضاً من الإنتاج، ولكنه إنتاج قائم على الظلم والتفاوت، مصمَّمٌ لإنجاز حاجات القِلّة المتميزة وإروائها، لا حاجاتِ الجماهير الواسعة. وهو أداة لنهب الجماهير، يجبر المنتجين على إضاعة وقتهم لإنتاج سِلعٍ لا فائدة منها لإرضاء النزوات، ويستنزف أموال الفقراء مقابل بضائع وخدمات لا نفْع فيها، بل كثيراً ما تكون ضارة كالتبغ الفاخر والمشروبات والفيديو، وصولاً إلى أدوات الحرب. وما أكثر الحروب التي تشعلها الأمبريالية لتصريف إنتاجها الحربي، بل إنها لا تستطيع الاستمرار دون حروب.
هذا الفيض من الإنتاج يسلب ما تبقّى من حريات الإنسان، ويضعه أمام مشكلة كثرة الخيارات المعروضة أمامه، من أنواع التبغ إلى أنواع السيارات، حتى تعدُّدُ الأحزاب والحكومات ذات البرامج المتشابهة، في الوقت الذي تهمل فيه الرأسمالية الحاجات الأشدَّ ضرورة، كالتعليم الجيد، والصحة العامة، وسلامة البيئة...
وفتّت النمو الرأسمالي المؤسسات الاجتماعية التي كان الإنسان يحتمي بها ويجد في كنفها الأمن والاستقرار، فاقتلعه من أرضه وورشته، وحوّله إلى إنسان " حدّيّ" يعيش على هامش المجتمع. كان من أصحاب الورشات الصغيرة، وسرعان ما أفلس فوجد نفسه على قارعة الطريق، وتحول إلى إنسان رِحِّيل ينساق إلى حيث تتطلّبه زيادة الإنتاج، لا حيث يجد شخصيته وأمانه وراحته. تحوّل إلى " البروليتاري الجديد " المختلف عن القديم بأنه يجد كفايته من الطعام، ولكنه يفقد أعرافه ولغته الخاصة، وأغنياته وأعياده وروابطه الوثيقة بحيِّه ووطنه، كملايين العمال العرب والأتراك والهنود في أوربا وأمريكا.
وعوضاً عن أن ينتمي إلى مجتمع محدد أصبح ينتمي إلى ما يسمى " قطيع الجماهير"، يعيش في مدينة عملاقة " ميغا بوليس "، مدينةٍ ملوثة صاخبة تصيب سكانَها بالتعب والنزق، ليست أكثر من كتل بشرية غير متجانسة إلا من حيث ارتباطها بالآلة العملاقة، فيها أماكن لهوٍ عامةٌ مأجورة، ولكن لا أماكن للقاء المعارف كالساحات والأزقّة في القرى والبلدات، ولا مناسبات يتزاورون فيها.
اِمَّحت الدوائر المبنية على الدم: القبيلة والآل والأسرة الكبيرة. وامّحى الحسبُ والنسبُ أمام العلاقات التي فرضتها أحوال الإنتاج الجديدة، فزالت الأسرة الرحمية الواسعة التي تضم الآباء والأجداد والأعمام والإخوة، وحلت محلها الأسرة " النووية " المقتصرة على الزوجين والأولاد القاصرين، وهي أسرة تتيح حقاً حرية شخصية واسعة للزوجين، ولكنها تسلبها الأمان والاستقرار.
تجاه هذا الاستلاب المزدوج للإنسان، عاملاً ومستهلِكاً، والذي سببُه الأساسي كما سلف فقدانُ العمل روحَه الإنسانية، ومن ثَمّ فقدان الترفيه نفس الروح، وانفصالُ العمل عن الراحة انفصالاً حاداً، تحولت الراحة إلى دواء مهدِّئ لانسلاب العمل لتعويض الحرمانات الناجمة ع أشكال الإنتاج. وأصبح العامل الفاقد رغبته في المهمة التي يؤديها، والفاقد بهجة العمل، إنساناً " تلفزيونياً"، وهو الإنسان الذي يرسم أحلامه على الشاشة، ويُماثِل ذاته بالأولمبيين آلهة الأولمب اليونان القدامى المعاصرين، من نجوم سينما وغناء ورياضة، معبودي الجماهير، محاولاً أن يبني جنات اِصطناعيةً، كلُّ شيءٍ فيها ممكنٌ. ويحاول بنشاطاتٍ متنوعة، فنيةٍ ورياضية، إرضاءَ حاجة الإبداع التي تظل راسخة في قلب الإنسان، موهِماً نفسَه بالعمل ضمن قواعد زال عهدُها " معدل طبيعي للعمل وزمن متراخٍ" دون قسوة الآلة العملاقة التي تستعبده.
وقد يسعى إلى إحياء علاقات اجتماعية حقيقية قضت عليها الحياة المهنية، فتظهر جماعات مزيفة، مثل عُصب أو عصابات مشجعي كرة القدم الذين يتابعون فِرَقَهم ونجومهم بتشجيع يتجاوز مرحلة الجنون إلى مرحلة الجريمة، وليست بعيدةً عنها جماهيرُ نجوم الطرب المعاصرين.
ومثلما أوجدت الرأسمالية الإنسان التلفزيوني، صنعت له نجومه الذين يملؤون خواءه الروحي، صنعت في الغرب مارادونا وبلاتيني وماتيوس إلى آخر القائمة، رغم أنه ظهر في جيلهم لاعبون لا يقلّون مستوى عنهم، لم تطبِّل الجماهير لهم، ولم تسفك الدم لأجلهم. كالبولوني لاتو والأوكراني بلوخين. ولا يغيب عن الأذهان أن أندية كرة القدم الغربية مُلك شركات كبرى، وأنها جزء من المؤسسة الإنتاجية العملاقة.
وصنعت على مستوانا العربي، واقتداء سخيفاً بالغرب، نجوماً خلبيين في عالم كرة القدم سرعان – ولحسن الحظ – ما نُسيت أسماؤهم. وصنعت في عالم الفن تجاوزاً نجوماً يبرقون بقدر ما يُستفاد منهم، ثم سرعان ما ينطفئون.
لم تكتف الرأسمالية بتخريب إنسانها بل نقلت العدوى إلى شباب البلدان الأخرى التي لم تنعم حتى بفضائل الرأسمالية الظاهرة والعابرة، بل صدّر إليها سيئاته ومخازيه.
عبثاً يحاول الإنسان المعاصر ضحيةُ الرأسمالية أن يستعيد ذاته وجذوره الضاربة آلاف السنين في الوجود البشري بهذه الأساليب؛ فلا رفاهية حقيقية دون العمل الإنساني.
البعث الثقافي العدد 8403
*كتب المقال قبل موجات الهجرة الانتحارية في السنوات الأخيرة عبر البحر الأبيض المتوسط.