الإنسان المتعدد
مع انحسارات النظم التي كانت تسمى "اشتراكية " وخيبة الأمل في النُّظم القريبة منها، ومع الخلط بين الاشتراكية وتطبيقاتها وإفرازاتها السلبية، يبدو للكثيرين أن الرأسمالية هي الطريق الوحيد أمام البشرية، بل فردوسها المنشود. فماذا يقول الباحثون والمفكرون الموضوعيون الذين يعيشون في قلب هذا " الفردوس المفقود " عن مجتمعاتهم التي بلغت أقصى مراحل النمو الرأسمالي، والذين ليسوا بالطبع عملاء لأعداء النظام الرأسمالي: فرنسوا هيتمان في كتابه " السيطرة على المستقبل "، ولويس ممفورد في كتابه " أسطورة الآلة "، وسيمون تشوداك في " النمو المجتمعي "، وبيير باسكالون في "نظرات في هذا الزمان "، وآخرون.
يتوصل كل منهم، وبمنهجه الخاص، إلى أن حصيلة النمو الرأسمالي هو " الإنسان المتعدد " فمن هو هذا الإنسان؟
تتحدث الحكايات الشرقية القديمة عن المردة الجبابرة المحبوسين في قماقم، والذين حين يُطلق سراحهم يصبحون عبيداً مطيعين لمن يعثر عليهم، أو إلى مصدر تنغيص للناس. ويكتب الشاعر الإغريقي هزيود عن الفتاة الجميلة باندورا التي ابتدعها هيفايستوس بأمر من كبير الآلهة زيوس لمعاقبة الناس. فحين يمتلكها أبيمثيوس تفتح باندورا الصندوق المحتوي على الهدايا الخادعة الشريرة التي أرسلتها الآلهة، وبهذا تطلق في العالم المآسي التي ما تزال تنغص حياتهم إلى اليوم، ولا يبقى تحت الغطاء سوى هدية واحدة تستحق العناء: الأمل.
هل كانت الآلة الحديثة إحدى هدايا باندورا؟! إن من مشكلات الإنسان الأولى أنه يطلق بعض القوى التي لا يعود قادراً على التحكم بها... إنه يخترع ويبتدع، ويبني وينظّم، ثم يجد نفسه أسير إبداعاته والنُّظم والأصول التي رسّخها.
وفي الوقت الذي يلهث فيه العالم الثالث وراء زيادة النمو والتصنيع والمكننة، تُطرح في العالَم المصنَّع تصنيعاً فائقاً مشكلة هذه الآلة التي انطلقت من قمقمها كالمارد. وها هو فاليري جيسكار ديستان الرئيس الفرنسي الأسبق يتحدث في برنامجه الانتخابي عن " أنسنة التوسع الصناعي "، وها هو خليفته فرنسوا ميتيران يتحدث عن " تأمين نموٍّ أشدَّ وعياً "، وآخرون عن تنشيط نموٍّ مستمر، ولكنه منضبِط.
بين الآلة والإنسان:
عُقِدت آمال عظيمة على الآلة في القرن التاسع عشر، فوجد فيها المفكرون " رمز الحرية الإنسانية، وعلامة هيمنتنا على الطبيعة، والتعبير عن حقنا، وشعار شخصيتنا " لماذا؟ لأن التقدم التقني يحرر الإنسان من العمل المديد الذليل، فيُطيل عمره ويزيد استقلاله الذاتي عن حاجاته الفيزيولوجية ومحيطه الخارجي. ويسمح له بالانتقال من طورِ حياة خموليّ إلى طور حياة تأمليّ يفسح المجال للإنسان المتوسط أن يتوصل إلى التعليم العالي.
غير أن النتيجة هي أن الإنسان اتّحد بالآلة، ولكن على أساس امتصاص الآلة للإنسان، لا سيطرة الإنسان عليها، لأن الآلة تتكاثر بمنطقها الخاص مرات مضاعفة أكثر من تكاثر البشرية. وهي التي تفرض قواعدها وقوانين عملها ووتائرها فتجرِّد الإنسان تدريجياً من استقلاله، ولا يبقى سوى نسخة من الأمر الميكانيكي، ويفقد كل حريته جسداً وروحاً. ينتهي إلى جهاز خدمة رخيص مُعَدٍّ للتنبيه على نقائص العمل أو إصلاح الثغرات في جهاز يفوقه كثيراً. وهو مثل أي مهندس أو عامل على منظومة آلات تقود نفسها يراقبها الإنسان عبر شاشة ومؤشرات ومنبهات؛ أيُّ مدلول يبقى لحياة الإنسان الذي يُمضي ساعات عمله على مثل هذه الشاشة، والذي لم يعد أكثر من جهاز تنبيه؟!
كان الأمل المعقود على الآلة أن تخفف الجهد عن الإنسان كما سلف غير أنها على النقيض أرهقت الإنسان عصبياً وحِسّياً حتى إن بعض فلاسفة العصر الحديث مثل ماركوز عدّوا المركَّب العلمي التقني مؤامرة صامتة على الإنسان، ونزعاً كاملاً لإنسانيته، ومشروعاً واسعاً لاستعباده لحساب آلة مظلمة مُغفَلة الاسم، أو تحت اسم الآلة العملاقة التي هي في المحصِّلة مزيج من نخبة مالية تقنية مسيطرة، وآلة صمّاء عمياء، وأنظمة ومؤسسات تنسجم مع عملها (عمل الآلة).
أيّ هدف للإنسان يمكن أن يكون أسمى من الرفاه الإنساني بجانبَيه الروحي والمادي، الفردي والاجتماعي؟ وماذا عُقِد على الآلة والعلم أكثر من هذا الهدف؟ ولكن إلى أين وصل هذا النمو حقيقة؟
يقول مفكرو المجتمعات الرأسمالية النامية نمواً مفرِطاً: إذا صحّ أن النموّ ينبغي أن يكون إنسانياً فعلينا أن نبني نظاماً جديداً إنسانياً بحق، يسعى إلى أن يأخذ باعتباره الإنسان الحقيقي، أي البعدين الفردي والاجتماعي له، نظاماً جديداً لكل إنسان ولجميع الناس، أي لإنسان متمتع بكلِّ قيَم الكائن الفردي والكائن الاجتماعي؛ لماذا؟ لأن النمو الرأسمالي يحابي إلى حدِّ الشطط أهميةَ الإنسان الفردية على حساب طموحاته الاجتماعية. فقد أهمل النمو الرأسمالي الحاجات الجماعية الأولية مثل الصحة والتعليم والازدحام. وأهمل الحاجات الفعلية والجوهرية للطبقات الاجتماعية الضعيفة الدخل كالسكن، وبالنتيجة مجتمعات ذاتُ رخاء كاذب.
ولكن ماذا تعني أهمية الإنسان الفردية في مفهوم الرأسمالية؟ إنها تعني تنمية شهوة الفرد إلى الاستمتاع والاستهلاك، والشعور بعدم الاكتفاء لتحويله إلى مستهلك شرِه. فالنمو الغربي الليبيرالي يهدف جوهرياً إلى رَكْم المتاع المادي مفترضاً ضمناً أن جودة العيش الإنساني تزيد مع تدفُّق الأشياء المنسكبة في دائرة المستهلك الفارغة. والوجاهة الاجتماعية مرتبطة أكثر من أي وقت مضى بالحيازة الشخصية لمتاع معين أو بانتهاج أنماط عيش ظاهرية معينة. فليس الهدف رفاهية الإنسان بل حرص النظام الرأسمالي على النشاطات القابلة للتحويل إلى ريعية مباشرة. ومن هنا يحدث الخلل بين الحاجات الفردية والحاجات الاجتماعية التي لا ريعية مباشرة لها ولا سريعة، مثل حماية الطبيعة وصيانة المدن. بل إن النظام يضحّي بها غالباً رغبة في الأرباح السريعة. ليس الهدف إذن تلبية الحاجات الإنسانية الأساسية كما قد تُوهِم موضوعةُ أهمية الإنسان الفردية، بل مضاعفةُ عدد الحاجات المقلَّدة والموهومة أو ملاءمتُها مع الحد الأقصى للقدرة الميكانيكية على إنتاج الأرباح. إن التكنولوجيا تتطلب لتستمر في اندفاعها إلى امرين:
1 – إتلاف أكبر كمية ممكنة من السلع لإبقاء جهاز الإنتاج دائراً. وكلما ازداد الاستهلاك وجب على العامل الانخراط في زيادة الإنتاج. وهكذا تحول يوم العمل الأقصر إلى خدعة. ويسمون في الولايات المتحدة العمل المزدوج باسم " العمل على ضوء القمر ". وهكذا طال يوم العمل من 6 ساعات أو ثمان إلى اثنتي عشرة أو أربع عشرة، فتوفّرت سلع مادية كثيرة حقاً غير أن الوقت الكافي للاستمتاع بها يقل شيئاً فشيئاً.
2 – تحاشي كل انماط النشاطات إلا تلك التي تستلزم الاستخدام المسعور للآلة ولمنتجاتها.، أي ترْك العمل اليدوي والحرفة حتى على أبسط المستويات. فحلّت الدراجة الثابتة للرياضة محل المشيِ في الطبيعة أو الرياضةِ الفعلية. وحلّ في المخيمات التي يقيمها الناس عادة للحياة في كنف الطبيعة، ولممارسة نوع من خشونة العيش، التلفزيونات والبرادات وأحدثُ ما في المدينة محلّ وسائل التعامل البسيطة مع الطبيعة.
وفُقدان الاستقلال هذا بغية زيادة خدمات التكنولوجيا مشروط بشرط آخر وهو عدم المطالبة بسلع أخرى غيرِ التي تقدمها الآلة العملاقة، وعدم السعي إلى الاحتفاظ بكل السلع الممتعة والمتينة إلى أكثر من نصف المدة المحددة لها. وهكذا فعلى العامل عبئان مستمران: عبء الإنتاج وعبء الاستهلاك. وللحفاظ على سرعتهما يُتّبَع نظام كامل من استراتيجيات الإقناع والحثّ بحيث أن المستهلك الذي يظن نفسه حراً إنما يتمتع بحرية وهمية. إن ما في السوق هو ما قصده وحضّ عليه أصحاب المنشآت، وليس الأفضل توافقاً مع مصالح المستهلِكين المتبصرة كي يُغرقوهم في فيض من السلع، وفي شبكة من نُظُم البيع تقيد المستهلك، كالبيع نقداً والبيع بالتقسيط.
والخلاصة أن النظام الرأسمالي قائم على الظلم والتفاوت، مصمَّم لإرواء حاجات القِلّة المتميزة، لا الحاجات المتنوعة للجماهير. وهو أداة لنهب الشعب، يضحي بالفن الصناعي في سبيل إنتاج وسائل الترف. ويجبر العمال المنتجين على إضاعة وقتهم وجهدهم في إنتاج أشياء لا فائدة منها، تستنزف أموال الفقراء مقابل بضائع وخدمات لا نفْعَ فيها، بل هي ضارة أحياناً. ويتطلب رجالاً ضئيلي الحجم، قيمتهم هي القيم الضرورية لتشغيل النظام نفسه وتوسيعه باستمرار. عقولهم عاجزة عن تخيُّل أيّ إمكانية أخرى. يضربون عُرض الحائط بكل ردّ فعل ذاتي، ويرفضون الاستقلال الذاتي الإنساني.
الإعلام والرقابة والتعليم
تزداد كتلة المعارف بغير انقطاع، وعلى نحوٍ أسرع مما تستطيع إمكانات التحليل استيعابه لأن الركض وراء المعرفة يستهلك القسم الأكبر من قوى الإنسان المعاصر. إنه يحل محل البحث عن الحكمة. وهذه المعرفة وحيدة الاتجاه تأتي من خلال تربية مبرمجة تتوسط الآلة فيها بين الأستاذ وتلميذه، وتحوّل الطالب إلى نوع من اليرقة الدراسية على طريقة " لا تمسّه الأيدي الإنسانية " المطبوعة على علب الأغذية. والهدف تجريد التلميذ من الاتصالات الإنسانية، وعزلُه عن العلاقات مع الجزء غير المبرمَج له من الواقع الخارجي.
مضى الوقت الذي كان ما يزال فيه مجال واسع للنشاط الحر والفكر المستقل على هامش التعليم العالي. فمعظم المعاهد العلمية اليوم مؤتمتة على نحو كامل. والذين يتّحِدون مع أهداف النظام، مهما كانت خرقاء، هم المرشحون للترقية والسلطة السياسية.
والأطفال الأمريكيون يقضون 3 – 6 ساعات يومياً أمام التلفزيون، أي أن الآلة العملاقة تُبقيهم تحت رقابتها ليتقبلوا رواسبها بشكل فعال أكثر من أشد الوالدين صرامة قد تمتد إلى مهمة خلْقِ حيوانٍ إنساني محدود خاضع مهيَّأ علمياً ومتلائم مع بيئة تكنولوجية بفضل تقوية النمطية عن طريق المكافآت المحسوسة، وعن طريق رفض كلِّ إمكانية خيارٍ حقيقية خارج مجال التقنية.
تدّعي الآلة العملاقة أنها مؤهلة لممارسة رقابة مطلقة، حتى على إمكانات التطور الإنساني المقبلة اللانهائية. يقول الدكتور كنغسلي في كتابه " تحسين النسل ": إن مراقبة التناسل المُتعمَّدة لا بد أن تَحدث. ولن يلبث أن يفيد منها العلم والتكنولوجيا. وهذا ما يُيسِّر بدوره تقدماً وراثياً أوسع، كما يوسّع ميدان العلم توسيعاً لولبياً. وعندما يسيطر الإنسان على تطوره البيولوجي الذاتي يكون قد أرسى أسُس السيطرة على كلِّ ما تبقّى، ويصبح الكون مُلكه أخيراً.
إلام يؤول الإنسان الخاضع إلى كل هذه الضغوط؟
إنه بكلمتين: الإنسان المتعدد.
يؤدي التصنيع والتغيير الاجتماعي والتنمية وتزايُد المنظومات إلى الانخلاع وفقدان الجذور. فهي تسبب الاضطراب بين البشر، وتُشتِّتُ الصفة الاجتماعية للعلاقات البشرية، وتُجرِّدها من فرديّتها فتصبح الحياة والإنتاج والاستهلاك والترويح والمسرّة والحزن، حتى الناس، مقولَبة، موحَّدة العيار. وتأتي معها الظاهرةُ المعروفة والشائعة، ظاهرةُ الجمهور المؤلف من أناس منعزِلين متوحِّدين يؤلفون المجتمع القطيع. فليست البنى الاجتماعية المألوفة هي وحدها التي أُفسِدت بفعل النمو الرأسمالي، بل البنى الذهنية التقليدية، هذا الفقدان للانسجامات التقليدية: أسرة – حيّ – قرية. لقد ذرَتِ التنمية الرأسمالية المجتمع، وأنجبت مجتمعَ جماهير؛ فالجمهور يظهر حين يذوب المجتمع. وتؤدي هذه التذرية إلى " أنوميا " (فوضى ناجمة عن فقدان النظام الطبيعي أو الشرعي)، أي إلى حال مجتمع متَّصِف بانحلال القواعد الضابطة للسلوك.
هبّت رياح الصناعة الكبيرة باردة على الصناعة الصغيرة، فتمّ تحويل مهني مستديم لسكان مقتلَعين موحَشين جفِلين، والتهمت الحيّ والتهت القرية.
قال أليكس دو توكيفيل قبل أكثر من قرن: أحاول أن أرسم القَسَمات الجديدة التي يُخشى أن يظهر بها الاستبداد في العالم ضمن حشدٍ من الناس متساوين متشابهين ساعين إلى الفوز بالمُتع التافهة التي تُتخِم حياتهم. وتنتصب فوق هذا الجنس من الناس سلطةٌ هائلة حامية تأخذ على عاتقها تأمين مسراتهم والسهر على مصيرهم، سلطةٌ دقيقة مطلقة. ولو كان هدف هذه السلطة تهيئة الناس للوضع الإنساني لكانت تشبه السلطة الأبوية، ولكنها على العكس تحاول إبقاءهم في حالة طفولة دائمة. إنها تُسَرّ كثيراً بأن يستمتع الناس بشرط ألا يفكّروا. وبعد أن تأخذَ السلطة العليا بالتتابع كل فرد من الجماعة بساعِدِها القوي، وتصوغَه على مهل، تمد ذراعَها على الجماعة بكاملها بحيث لا يستطيع أكثر العقول أصالةً وأقوى الطبائع أن تنفذ منها لترتفع فوق الجمهور.
إن أنواع النمل التي توصّلت إلى نظامٍ موطَّدٍ للسيطرة بإنتاج نماذج خاصةٍ قد بقيت ثابتة خلال ستين مليون سنة. إنها تبشّر بالمصير النهائي للجماهير البشرية المبنية بناء مماثلاً. هذا الجمهور الذي هو خلية نحل يمكن تعريفه بأنه مجموعة لاعضوية من أفراد لا قيمة لها إلا بوزنها، ولا قيمة لكل فرد منها إلا بوزن الجميع، فالصفتان المميِّزتان لإنسان الجماهير هما الإفرادية والتجرد من الذاتية. إن كائن مجتمع الجماهير هذا فردٌ نقيّ كيميائياً، ذرةٌ موحَّدةُ النوعية، منمذَجةٌ بلا لون ولا نتوء، فارغةٌ مغلقة على ذاتها، منفصلة عن الأخريات. هنا يفقد الإنسان وجهه وروحه وشخصيته.
إنسان الجماهير هذا مطلوبٌ منه أن ينفصل عن تاريخه العضوي الطويل ليتحول إلى عقل منفصل. لقد حذف العالَم الجديد الإنسان التاريخي وفعالياته الذاتية لصالح الموضوعية تحت شعار العِلم الموضوعيّ.
إنه سلبي بمعظم صفاته الإنسانية المتبقية، على قِلَّتها: التهرب واللامبالاة واللاوعي والكُره، وبعبارة أوجز: التسرب السيكولوجي. يشعر أنه ضائع وعاجز في حين يُراقَب مجازياً، ويأخذ مكانه في سلسلة التركيب، ويقبض في النهاية أَجرَه على هيئة " شيك " يتبين أنه لا قيمة له تمكّنه من الحصول على أي نعمة من نِعم الحياة الحقيقية، يركض وراء حاجات موهومة، لا حاجات حقيقية.
إن هذا النقص في المشاركة الشخصية الوثيقة داخل النسق المطَّرِد اليومي يجرَ إلى فقدان عام للاتصال بالواقع. وبدلاً من التفاعل المتبادل المتواصِل بين العالَمين الداخلي والخارجي، مع ردود الفعل وإعادة الضبط المستمرة، ومع التحريض على الإبداعية الجديدة، يزاول العالم الخارجي السلطة وحده، حتى إن الأحلام الشخصية يجب أن توزَّع عبر التلفزيون والفيلم والأسطوانة حتى تصبح مقبولة. ويترافق هذا الشعور بالضياع مع مشكلة عصرنا السيكولوجية التي سمّاها إريك إريكسون بألفاظ كلاسيكية " أزمة الهوية ".
كان رمز القبيلة أو شعارها هو الذي يقرر هوية أعضائها ويحافظ عليها في الحضارات البدائية قبل أن يتحقق تمايُزُ العقول والهويات وحِفاظ الإنسان على هويته بصفته عضواً من نوع أو من جماعة، وبصفته فرداً مستقلاً، وبقائه وفيّاً لشخصيته، وإقامة الحد الأدنى من الشروط لاجتياز الدورة الحياتية، كل هذه الشروط أساسية بالنسبة للجماعات والحضارات، وخصوصاً للإنسان.
لقد صوّر المجتمع الاستهلاكي لجمهور ذوي الأجور أن الرفاه المادي والازدياد المستمر للاستهلاك هما غايا الفعالية، فحوّل المجتمع إلى كومة رملٍ ذرّاتُها الأفرادُ الذين لم يكونوا قطّ مُخضَعين مخمَلين معزولين مقتلعين مخذولين عديمي التفاعل، مفككين اجتماعياً. إنهم مستلَبون بصفتهم منتجين، فالتخصص الرأسمالي فتّت العمل، وأدى إلى انقسام طبقي ثنائي بين الوسَطِ العمالي، وسَطِ الانقياد والتنفيذ، والوسَطِ التنظيمي، وسطِ السلطة والقرار. هذا الفصل بين الفكر والعمل فرض على العامل الانسلاب – الغياب، أي خمود الذهن وانسلاب الجسد العفوي وفرض الانسلاب، التبعيةَ، أي الخضوع تماماً للآلة، فهو محروم من كل مراقبة لعمله، كما من كل مطالبة مشروعة بالاشتراك في مراقبة عمل المنشأة. ولا يبقى أخيراً إلا يدويون يتلقّون أوامرَ تمّ إعدادها دون معرفتهم، وعليهم الاكتفاء بطاعتها بأدقِّ ما يمكن.
وهو مستلَبٌ في استراحته. كان وقتُ الفراغ في المجتمعات البدائية متصلاً بكلية الحياة، بالأعياد الدينية البالغة الكثرةَ، وبالظروف الجوية. أما الآن، وهو القطع العميق الثاني الذي أحدثه النمو اللبيرالي، فقد اتجهت حياة الإنسان إلى أن تنقسم شطرين: شطر يستغرقه العمل، وشطر ينصرف إلى الترفُّه. ولم يعد الترفه نشاطاً ثانوياً لأنه دواء مهدئ للعمل المستلَب، شأنُه شأنُ تعويضات الحرمانات الأخرى. فالعامل غيرُ الراغب في المهمة المكلَّفِ بها، الفاقدُ بهجة العمل، يُظهر أحلامه على الشاشة، ويُماثل ذاته بـــ " الأولمبيين العصريين "، نجوم السينما، وأبطال الرياضة معبودي الجماهير. إن الإنسان التلفزيوني يحتل الشاشة تماماً، يبني فيها عالَماً مكوَّناً من فراديس صُنعية حيث كل شيء ممكن.
وهو أيضاً يحاول بنشاطات متنوعة ممارسات حِرفية وتسليات لإرضاء حاجة الإبداع التي تظل راسخة في قلب الإنسان، موهِماً نفسه بالعمل ضمن قواعد حائلة العهد: معدل طبيعي للإنتاج؟،وزمن متراخٍ للعمل، أو سيسعى في المقهى، في رابطات، أن يُحييَ علاقات اجتماعية حقيقية قضت عليها الحياة المهنية، وكل ما يفعله عبثٌ في الحقيقة لأنه لا رفاه إنسانيَّ حقاً دون عمل إنساني حقّ. والعمل المفرَغ يقابله دوماً الترف المفرغ الخالي من الدلالة. وهو مستلب كمستهلك، فتحت مظهر الرغد والثراء ووفرة المعروضات يبقى بؤساء كثيرون، منهم الحدّيون وهم أصحاب المشاريع الصغيرة الذين يتراوح دخلُهم بين الربح الطفيف والتوازن، وأحياناً الخسارة البسيطة، الذين يتعرضون للإفلاس إذا حدث انخفاض في السوق، وبإيجاز هم الذين يعيشون على هامش المجتمع. ومنهم الريفيون المقتلَعون الذين التهمتهم المدينة، والمعوّقون. وقُدِّر عدد هؤلاء في فرنسا عام 1970 بعشرة ملايين، أي خُمس مجمل السكان. والنسبةُ نفسُها في الولايات المتحدة الأمريكية. فواضحٌ أن النمو الرأسمالي لم يُفلِح في حُسن توزُّع ثماره، وتحرير المجتمع الذي يصل تبايُن الدخول فيه إلى 1 من خمسمئة، بين أدنى المستويات وأعلاها.
وهو مستلبٌ في سائر مناحي عيشه؛ فقد أفسد النمو الرأسمالي الوسط الاجتماعي؛ فإنسان الحاضرة الإنتاجية ينبغي أن يكون رِحِّيلاً يبادر إلى حيث تستدعيه غايةُ إبلاغ الإنتاج أعلى حدِّه. والنتيجة تمزيق مؤلم للوحدات الاجتماعية التقليدية حيث كان المرء يجد رسوخاً واطمئناناً ودعامات وحدوداً.
الأسرة أولاً تقلّصت إلى جمع ضئيل من الكائنات الإنسانية حول كل شخص. والعلاقات المبنية على روابط الدم اِمَّحت أمام العلاقات التي فرضتها أحوال الإنتاج الجديدة. ومن الأسرة الوسيطة التي كانت وحدة اجتماعية واقتصادية تنبعث شيئاً فشيئاً الأسرة النووية المكونة من الزوجين ومن الأولاد القاصرين. ولم يعد يُعتبَر من الأسرة إلا من يتبع بشكل مستديم فرداً ما في تبدلات وضعه. وتفكك الحي والقرية، وظهر " البروليتاري الجديد"، ذاك الذي يفقد أعرافه ولغته الخاصة، وأغنياته وأعياده وحفلاته وروابطه الوثيقة على طريقة " هِش – دي " أي طريقة سوق الدواب... وبعدما كان 15% من سكان فرنسا يعيشون في المدن عام 1815 أصبحوا الآن في حدود ثلاثة أرباع السكان، مما يسمح بالتنبُّؤ بأن أهالي البلدان المُصنَّعة سيصبحون بأكملهم قريباً سكان مدن.
والمدن القديمة كانت مجموعاتٍ عمرانية عريقة ومستقرة، شخصيةً اجتماعية حقيقية منتظمة في مجال دقيق التحديد، لها احياؤها وأسواقها وساحاتها العامة التي تتيح بمجملها تعايُشاً مشتركاً، وفي ذلك النسيج العمراني المحبوك المُيسَّر اندمج في وسط حياته اليومية... أما في عصر الرأسمالية فقد تحولت المدن بضواحيها البالغة الامتداد وأرباضها الملحقة مدينةً ملونة صاخبة مزدحمة، ويفسر هذا ظاهرة " منازل العطلة" فمدينة اليوم لم يعد لها واقعٌ عضوي حقيقي، بل غدت كُتلاً جماهيرية متفجرة غير متوائمة. والفرد من هذه الجماهير إنسان مخدوع يعاني السأم والوحدة، ويكابد أنواع اللاشبع والحرمان، حبيسُ وحدته لا يعلم شيئاً عن غيره. يعيش مجازفته ومأساته الخاصة بجانب كائنات أخرى لا يسعُه معرفتها في مجاهل المدينة الكبيرة. ومن شأن فقدان الحس الاجتماعي وزوال العفوية والشعور بالفراغ والعزلة وسط الآخرين أن تبعث فيه السأم الذي كثيراً ما يدفع إلى اليأس والانتحار.
والانفجار السكاني يجعله تابعاً متناقص العدد، والانفجار التقني يجعله باقة أخبار هزيلة متفرقة معدومة الشخصية. والتفاعل بين التغير التقني العلمي وبين الجهاز الاقتصادي يولّد شعوراً بأن كل شيء ممكن، وأن كل شيء قابل للتبديل إلى شكل آخر؛ فلا داعي إذن إلى التعلق بشيء أو التوقف عند شيء، فتصبح الحركة القصوى هي القاعدة، وتزيده في الشعور بتناقص منفعة الأشياء، وتخلق حالة من القلق المزمن، ولاسيما أن التبدلات الهائلة في محيط الإنسان من عَقد إلى عقد من السنوات تُشعره بالضياع والشلل وانعدام الوزن.
معظم الناس من جميع الطبقات يشعرون بأنهم صغُروا واقتُلِعوا اقتلاعاً فضائياً: المدينة اقتلعته من وسطه الريفي ومن تعاقب الفصول ليحل محله ركام من البشر والأحجار، فيجرده من إطاره الأرضي،ويسلمه إلى اتصالات متكاثرة تتحول بسهولة إلى تماسّ مؤذ وعنيف مخبوء، ولا يبقى له ملجأ إلا ضمن مجموعة من القرود الزرق التي هو خلية منها.
واقتلعته من زمنه، فالماضي مرادف للإخفاق، والحاضر حائلٌ، فلا يبقى سوى الركض نحو المستقبل. واقتلعته فكرياً، وهو الاقتلاع الأهمّ، فهو يزداد حؤولاً لأنه لم تبق له ارتباطات فكرية: المفاهيم والأفكار أهم بكثير للحياة في هذا المجتمع بوصفها وسائل اتصال من العلاقات بين الإنسان والطبيعة. إن المفاهيم الكبيرة كالحرية والسلطة والمساواة تلوثت وانتُهِكت وتشوهت حتى أضحت لا تُعرَف ولا تُستعمل، بل تبعث على الغثيان، ليس عَرَضاً أو خطأ بل نتيجة قرصنة إيديولوجية أو شهوات ديكتاتورية. وتحل محل العلاقات الإنسانية شيئاً فشيئاً معضلاتٌ، أي أن ما تبقّى من أمور شخصية تحوّل إلى تعميم سهلٍ قابلٍ للتداول والتبديل، وإلى جواب تقني مغفل لكل معضلة. وهكذا يصل الفرد إلى مرحلة الطرد التام خارج نطاق الاهتمام.
حل محل الإنسان السقراطي الذي يمثل أسطورة الإنسان القابل للكمال بوصفه كائناً عاقلاً حرّ التصرف، باحثاً واعياً لا يكل عن التناسق الثلاثي بين الحق الخير والجمال، تختلط في فكرة واحدة عن العقلانية العليا، حل محل هذا الإنسان إنسانُ القطيع، أو الإنسان المتعدد الذي يرى المصلحة الحقيقية للجنس البشري في أن يعيش للمجموع، وبالمجموع.
إلى من يلجأ هذا الإنسان المقتلَع الحائل باستمرار ليجد الأمان والحماية؟ ليس له في غياب الديانات والفلسفات إلا أن يتكل اتكالاً متزايداً على المؤسسات التي تعجِّل في نزع شخصية الفرد. إنه كلما شعر بنفسه مختلطاً بالجمهور زادت مطالبته بتنظيم جميع العلاقات بين الناس الذين ما زالوا أحراراً كأنما لا يمكن أن يبقى أي مجال للوجود غير مقنَّنٍ أو غير منظم ضمن إطار مسبق. وكذلك يصفق من كل قلبه للتخطيط لأنه يرى ضماناً إضافياً على أن المؤسسات ستعنى به، وسترسم له خط سيره المقبل بالنيابة عنه. يظن بهذا أنه يضاعف قدرته، ولكنه في الحقيقة لا يفعل أكثر من توقيع صكِّ استسلام للمؤسسات وللروتين الجماعي.
يتنبّأ بعضهم بأن الاكتظاظ والازدحام السكاني سيجر توترات وأزمات اقتصادية وضغوطاً في المنافسة الحياتية إلى حد أن الكتلة البشرية ستجد شروط حياتها تتداعى بوتيرة سريعة. وستزداد نسبة الوفيات على نحو فتّاك، والرفض والخوف العِصابي ينشآن وينتشران. وستؤثر هذه العوامل بطريقة جنونية حتى تصل بالسكان إلى أدنى مستوى مقبول، ولكن الثمن سيكون كارثة أرضية.
قد يكون ذلك الثمن عبارة عن تنظيم، ولكنه تنظيم وحشي من خلال كارثة جماعية، كما لا يمكننا أن نستبعد مبدئياً أن تقودنا عوامل التحديد هذه إلى وقفة نهائية قد تعني نهاية الجنس البشري، وهو احتمال خلال بضع عشرات من السنين.
وأخيراً: هل يستيقظ المرء فجأة كما فعل تولستوي في أثناء أزمة شهيرة من أزمات حياته الخاصة ليجد نفسه في حُجرة غريبة مظلمة، بعيداً عن بيته، تهدده قوى عدائية كالحة، عاجزاً عن أن يكتشف أين هو، ومن هو، مذعوراً، خوفاً من ميتة مجردة من كل معنى، بعد حياة مجردة من كل معنى أيضاً.
كان لدى تولستوي شعور بأن الغرفة الغريبة التي استيقظ فيها بعيداً عن بيته كانت نعشاً، وكحلم الطفولة في الرحم كان يشعر بأنه يسبح في عدمٍ مرهق.
فهل هذا النعش الجماعي هو غلاف حضارتنا اليوم؟!
*البعث الأسبوعي العددان 8447 و 8455 1 / 1991