التعليم ونُظُمه في العصر المملوكي

لوحة للفنان ألان دافيد بعنوان "سوق العبيد"
لم يكن عصر المماليك عصراً عادياً من العصور الهادئة أو الخامدة في التاريخ. وكثيراً ما يلتبس في أذهان الناس بما اصطُلح على تسميته بعصر الانحطاط، وهو العصر الموازي لسقوط حكم المماليك وحلول الاحتلال العثماني محلّه. وليس بعيداً عن جيلنا بُعداً شاسعاً ذلك الزمن الذي كان فيه معظم الناس أميين. والأمّيّة ثمرة من ثمار السياسة العثمانية. أما العصر المملوكي فقد كان عصر حركة دائبة. ففي الخارج حروب وانتصارات، وحسْبُهم أنهم أوقفوا خطر التتر من الشرق، وهم القوة الجامحة الهمجية التي دمرت عاصمة الخلافة العباسية عام 656 ه. ثم أجهزوا على الوجود الصليبي. وفي الداخل نشاط ديني وعلمي خصب تبدّى في رغبة جامحة في التعلم والتعليم، ونشاط لامثيل له في ميدان الكتابة والتأليف.
وعلى الرغم من كثرة الفتن الداخلية والحروب الخارجية في هذا العصر فإن النشاط العلمي والفكري لم يتأثر بها لأن الفئة الحاكمة وحدها كانت هي التي تحارب،دون أن تساهم فئات الشعب الأخرى فيها بفضل نظام المماليك الذي وقف الجندية عليهم وحدهم.
ونستطيع أن نعزو هذا النشاط الفكري والثقافي إلى الأسباب التالية:
- التشجيع القوي الذي لقيه من سلاطين المماليك وأمرائهم، سواء بتشييد المدارس والجوامع أم بالمشاركة في النشاطات العلمية. يدل على هذا حرْصُ السلطان قانصوه الغوري (-922 ه) وهو السلطان قبل الأخير على عقد مجالس علمية ودينية لبحث مختلف المسائل والمشكلات العلمية. ويدل عليه اشتغال بعض أمراء المماليك وأبنائهم بالتاريخ والفقه والحديث واللغة، ولو أن السلاطين لم يشاركوا مشاركة فعلية في التعلم لانشغالهم بمشاغلهم الكثيرة، ولحداثة بعضهم باللغة العربية.
واحترم المماليك العلماء ورجال الدين لأنهم قوة لها خطرها في اكتساب الرأي العام ولحاجتهم إليهم لتقليدهم الوظائف السامية والرتب العالية كالوزارة، وكتابة السر، والقضاء، فاجتهدوا في توسيع المعارف حتى كانت مصر من أوسع الكرة الأرضية ذكراً في ذلك. - هجرة العلماء والأدباء من أصقاع العالم الإسلامي إلى مصر بسبب الأمان النسبي الذي وجدوه فيها بالقياس إلى ما كان يتهددهم في بغداد أو دمشق أو الأندلس، وبسبب ازدهار الحركة الثقافية في مصر، وبسبب شعورهم بأن بلادهم الأصلية لا تستوعب عقولهم.
- انتقال الخلافة العباسية من بغداد بعد سقوطها إلى القاهرة، وهو في الحق سبب شكلي؛ فلم يكن للخليفة سلطة فعلية. غير أن هذا الانتقال، رغم شكليته، جذب العلماء إلى مصر، وجعل عاصمة المماليك عاصمة المُلك والعلم معاً.
وبلغة الأرقام فإن حصيلة القرن التاسع الهجري في مصر، وهو آخر قرن للمماليك، سبعةٌ منحُفّاظ لحديث، وخمسة قرّاء كبار، وسبعة وثلاثون فقيهاً كبيراً، وعدد كبير من النحاة، ومؤرخون ما يزالون مصدراً لكتابة التاريخ، كالمقريزي صاحب كتابَي "السلوك" و "الخطط"، وابن حجر الذي أرّخ للقرن الذي سبقه، وابن تغري بردي صاحب السِّفْر الضخم "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، والسخاوي الذي ترجم لأعلام القرن، والسيوطي صاحب العشرات من كتب التفسير والحديث والتاريخ.
تُعدّ المدارس بوصفها أبنيةً مستقلة ومؤسسات متخصصة ظاهرة فارسية انتقلت من فارس إلى العراق فالشام فمصر. وكانت المؤسسة المسماةُ بالمدرسة لا تختلف عن الجامع في الشكل في ذلك العصر. وحين وصل صلاح الدين الأيوبي إلى مصر لم يكن فيها من المدارس ما يستحق الذكر، بل كانت الجوامع هي التي تقوم بدور المعاهد الدينية واللغوية، فهو المؤسس الحقيقي فيها للمدرسة المستقلة عن الجامع. وكان الهدف الأساسي لصلاح الدين الأيوبي إثارةَ الحماسة الدينية ضد الصليبيين، بالإضافة إلى توطيد منهجه السياسي والديني.
ولم تكن عناية المماليك بالمدارس أقل، فقد تابعوا سياسة صلاح الدين في التحرير. وعُرف كثير من سلاطينهم بحبِّ الأدب والعلم، وحضورهم مجالسها، مثل برقوق (ت 801 ه) وشيخ (ت 824 ه) وجقمق (ت 857 ه) وقايتباي (ت 901 ه) وقانصوه الغوري.
ويجد الباحث أسماءَ العشرات من هذه المدارس، وتاريخَ كلٍّ منها، ومواصفاتِها، ومَن تصدى للإقراء فيها، في "حُسْنُ المحاضرة" للسيوطي، و"الخطط" للمقريزي. ويَعدّ عبد القادر النعيمي (-927 ه) في كتابه "الدارس في تاريخ المدارس" في دمشق وحدها سبع دور لتعليم القرآن الكريم، كالدار الخيضرية، والدار الدلامية، وهما تنتميان إلى القرن التاسع. وست عشرة لتعليم الحديث النبوي درّس فيها مشاهيرُ عصرهم كابن الصلاح، وابن تيمية، والنووي، وآل السبكي تقي الدين وبهاء الدين وتاج الدين. وأربعاً وستين مدرسة لتدريس الفقه الشافعي، واثنتين وخمسين للفقه الحنفي. ومعلوم أن سكان العالم العربي كله لم يتجاوز خمسة عشر مليوناً عشية الحرب العالمية الأولى، وأن مصر وحدها لم تتجاوز المليونين.
هذه الحركة النشيطة في بناء المدارس يعزوها بعضُهم إلى الثراء الذي بلغته مصر في عصر المماليك، وزاد حماستَهم الخرابُ الذي كاد التتار يصيبون به بلادهم وعلماءهم كما أصابوا من قبلُ البلاد الإسلامية الأخرى. وإذا كان المماليك لم يُصدروا ما تصدره الدول الحديثة من تشريعات تنص على مجانية التعليم وإلزاميته فإن هذا الانتشار الأفقي العظيم قريب من إلزامية التعليم؛ بل لا نعدم مدارس تقدم للأطفال بعض الطعام واللباس. ولا يمكن أن يُقارَن هذا بما ساد العصر الذي تلاه من جهل وتجهيل.
مناهج المدارس:
لم تخرج الثقافة في المدارس المملوكية عن أن تكون ثقافة إسلامية خالصة لم تمازجها ثقافات أخرى، وموادها الفقه والحديث، ثم العلوم المتعلقة بالدين كالفرائض (علم المواريث) والتفسير والقراءات. ولذا وُجدت المدارس المتخصصة في فقه مذهب معين أو مذهبين، وأحياناً المذاهب الأربعة. ومدارس متخصصة في تدريس الحديث النبوي. واشتملت المناهج عموماً على النحو والباغة لصلتهما الوثيقة بعلوم الدين.
وخلت مناهج هذه المدارس من العلوم العقلية البحتة كالجبر والكيمياء، فكانت مما يشتغل به بعض الرجال في بيوتهم، ومن الفلسفة النظرية ومن العلوم العقلية التجريبية، لأن الاتجاه الجماهيري العام بعد ركود العقل العربي كان ضد هذه العلوم. وكانت هذه الكراهية سياسة رسمية للدول المتعاقبة، ويصعب في هذه العُجالة شرح الأسباب، وتصعب إدانة هذا النهج. ولكن يمكن القول باطمئنان: إن الصراع الدائم بين الدين والفلسفة كان قد حُسِم بعد الإخفاقات العربية المتكررة في الحكم، والصراع ضد العدو الخارجي، ضد الفلسفة والعلوم التطبيقية التي لم يعْدُ بعضُها أن يكون ضرباً من الشعوذة كالخيمياء (ما يقابل الكيمياء المعاصرة) ولا سيما في بلدان المغرب العربي، ومصرُ أقرب إليها لأن أهل المغرب، على حد تعبير ابن خلدون، مالوا إلى العلوم السهلة التي هي أقرب إلى النقل والحفظ، كالحديث النبوي، وانصرفوا عن العلوم العقلية البحتة كالتفسير وعلم المعاني مثلاً، خلافاً لأهل المشرق الإسلامي الذين برعوا في هذه العلوم.
وتمتعت المدارس في العصر المملوكي بدخلٍ مادي ثابت. وكان الخليفة العباسي المأمون بعقله الكبير أول من شرع ميزانية دائمة للتعليم مكّنه من أداء رسالته، وتدعيم نظامها، وإن كان يحدث من حين إلى حين أن تُهمَل بعض المدارس.
نظام التعليم في المدارس المملوكية:
عُهِد بوظائف التعليم في المدارس المملوكية إلى معلمين من ثلاث طبقات:
- طبقة لها الصدارة، ويشغل فيها الأستاذ وظيفة " الصدر" لإقراء مذهب من مذاهب الفقه. والظاهر أن الصدر هو إمام عصره في الفقه أو الحديث أو التفسير، أو هو من أكبر الأئمة في عصره وأعظمهم تمكناً من مادته. وعليه يتخرج الكثيرون من نوابغ المدرسين،وإليه يذهب السلاطين والوزراء للإفادة منه. وليس من الضروري أن يكون لكل مدرسة صدرُها.
- طبقة المدرسين، وتلي الطبقة الأولى، وهم الذين يُعينون الصدر في شرح مادته.
- طبقة المعيدين، وهم واحد أو أكثر لكل مدرس. ووظيفته أن يعيد للطلاب ما ألقاه المدرس ليفهموه، ويشرح ما يحتاج إلى شرح.
وتمتع الطلاب بحرية اختيار المواد التي يدرسونها. وهذا الاختيار غالباً ما يتبع شهرة المدرس. ويحصل الطالب على إجازة تأتي قوتُها من سمعة الشيخ الذي صدرت عنه، ومكانته العلمية. وغالباً ما يحصل الطالب على أكثر من إجازة من أكثر من شيخ.
وبصرف النظر عن اقتصار مناهج هذه المدارس على المواد الدينية واللغوية وافتقارها إلى المواد العلمية، وهي ظاهرة ترتبط بالطابع العام للعصر منذ القرن الخامس الهجري،وهو قرن بداية الانهيار، فإن عدة أمور تستوقفنا في هذا النظام التعليمي:
- إن تصنيف القائمين على التعليم قريب جداً من تصنيف القائمين على التعليم الجامعي في عصرنا (أستاذ ذو كرسي، مدرس، مدرس مساعد، معيد) وهو تصنيف يعتمد المقدرة العلمية والخبرة العملية، ويراعي توزيع الأعباء، كلٌّ حسب إمكاناته.
- خلت المناهج من قسْر الطالب على دراسة مقررات لا رغبة له فيها، وهو الأمر الذي يشكو منه جداً طلاب جامعات هذا العصر.
- الشهادات التي تُمنح للطلاب قريبة مما يُعرف في عصرنا بنظام الشهادات المتعددة التي تسبق الشهادة الأخيرة. ولا يخفى أننا حافظنا على تسمية " الإجازة" للشهادة الأخيرة.
أشباه المدارس:
الخانقاه: كلمة فارسية معناها في الأصل المائدة أو المكان الذي يأكل فيه الملك. ثم أُطلق على هذه الدور الفخمة التي يقوم على إنشائها الملوك والأمراء المتحمسون للدين لأغراض شتى، منها إيواء الغرباء، والقيام على معيشتهم وتثقيفهم.
رافق انتشار الخوانق انتشار المدارس. وكان سكان الخوانق يشتغلون بالعلم دائماً، ويفِد إليهم علماء وفقهاء يلقون عليهم الدروس. ولكن لم يبلغ العلم الذي يُلقى فيه ما بلغه في المدارس رغم ظهور شخصيات عظيمة من تخريجها مثل شهاب الدين السهروردي وابن الفارض.
الجوامع:
بلغ عدد الجوامع في مصر في القرن التاسع الهجري مئتي جامع. ويروي السيوطي خبراً يفيد أن أحد نحاة القرن الثامن أدرك في جامع عمرو بن العاص أكثر من أربعين حلقة دراسية.
قام الجامع والمدرسة بدور مزدوج في خدمة الدين والعلم. والفرق بينهما هو أن المدرسة استهدفت أولاً خدمة العلم، وجاء نشاطها الديني ضمنياً عن طريق تدريس العلوم الدينية، خلافاً للجامع الذي هدفه الأول خدمة الدين وإحياء شعائره.
المكاتب:
من منا لا يذكر البيت الشهير لأحمد شوقي:
ألا حبذا صُحبةُ المكتبِ وأحْبِبْ بأيامه أحْبِبِ
المكتب في الأصل مكان لتعليم أيتام المسلمين، مناهجه القراءة والكتابة والقرآن والحديث، وشيء من الحساب، أي محو الأمية في صفوف الفقراء بمصطلحنا. فإذا كان هذا يتحقق في صفوف الفقراء والأيتام فأَحْرِ به أن يتحقق في الأوساط الأخرى.
المكتبات:
بعيداً عن الأرقام التي يورِدها المؤرخون عما في المكتبات من كتب، والتي قد تُتَّهَم بالمبالغة، فقد ترافقت حركة التأليف الواسعة بنشاط لا نظير له في جمع الكتب وإنشاء المكتبات. حتى سلاطين المماليك احتفظوا في قلعة الجبل بمكتبة جليلة. كانت مكتبات المدارس والجوامع على درجة فائقة من الإعداد والغنى، حتى الخوانق تمتعت بها، واستمرت تغذيتها بالكتب عن طريق الهدايا والنَّسْخ والهبات والشراء. ووجدت أنظمة محددة لعملها، كمنصب خازن الكتب. ومُنعت الإعارة الخارجية حرصاً على نُسخ الكتاب، كما هو شأن مكتباتنا اليوم.
وبعدُ فمهما يكن رأي الباحث في المماليك سلباً أو إيجاباً، ورغم اتهامنا لهذا العصر بافتقاره إلى العبقريات الفذة في العلوم والآداب، مع قناعتنا بأنه لو حكم البلادَ غيرُهم لما استطاعوا إيجاد هذ العبقريات لأن مجرى التاريخ والحضارة لا يمكن عكسُه في ظروف المماليك العسيرة خارجياً وداخلياً. أقول: مهما يكن الرأي، فإليهم يرجع الفضل في عمل عظيم هو جمْعُ علوم عصرهم في ما يُعرَف اليوم بالموسوعات. وهو عمل، إن لم يطوِّر عمل أسلافهم، فقد أنقذه من الضياع في عصر عاصف بالحروب والأوبئة والمجاعات. ولَعَمري قد يغفر لهم هذا وسواه من مآثرهم في نشر العلم ومحو الأمية ما ضخّمه بعض المؤرخين والتراث الشعبي من سلبياتهم.
من مصادر البحث:
- تاريخ مصر إلى الفتح العثماني، لعمر الإسكندري.
- الحركة الفكرية لعبد اللطيف حمزة.
- حسن المحاضرة للسيوطي.
- الخطط للمقريزي.
- الخطط التوفيقية لعلي مبارك.
- الدارس في تاريخ المدارس للنعيمي.
- العصر المماليكي لسعيد عاشور.
* منشورة في مجلة الجمعية الخيرية الشركسية بدمشق في تسعينيات القرن الماضي.