الدور الإيجابي للتيار العقلاني في علوم العربية
يسود الأوساطَ اللغوية في عصرنا التيارُ التقليديُّ الراسخ منذ عصر ابن مالك (672هـ / وابن هشام 761) والذي تميز بمخاطبته حافظة المتلقي دون عقله. الأول بمنظومته الشهيرة (ألفية ابن مالك) التي شرحها كثيرون انتشر في بلادنا منها (شرح ابن عقيل) والثاني بشرحه للألفية السابقة بعنوان (أوضح المسالك) وبكتابه الشهير الآخر (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) يقابله ـ على استحياء ـ تيار مفرط في المعاصرة، هو تيار اللسانيات الحديثة، له مساحات ضئيلة في الدراسات الجامعية وصفحات بعض المجلات، دون فاعلية تذكر. وإذا كانت أجيال المتعلمين تفهم أو تحفظ ما يخطه التيار الأول بحكم قدمه الزمني، فإن التيار الثاني يخاطب نفسه فحسب، لبعده عن مشكلات اللغة العربية القديمة والجديدة، لأنه علم غربي بأساليب تفكير (و مفهومات) ومصطلحات غربية. فيبدو في المحصلة علماً هائماً على وجهه، ولأن المشتغلين فيه لم يبلغوا من عمق فهم اللغة العربية ما يؤهلهم لأداء المهمة التي قام بها جيل اللغويين الرائد في العصر العباسي الأول، جيل الخليل وسيبويه ومن بعدهما، ولا سيما نحاة المعتزلة.
والمعتزلة فرقة فكرية إسلامية انبثقت من مجلس الحسن البصري أحد كبار المفكرين والزهاد في عصره، وانتشرت بسرعة وقوة مع اتساع رقعة الدولة العربية الإسلامية، ومع تمازج الثقافات الخطير في العصر العباسي الأول، حتى انضم إليهم بعض أعاظم الحلفاء العباسيين الأوائل كالمأمون، الخليفة العالم.
ومهما كان الخلاف على أصلهم وسبب تسميتهم فإنهم يتميزون بميزة لا خلاف عليها هي (العقلانية) فالاعتزال (منهج في البحث والتجربة والاستدلال العقلي) (1) حتى إن كبار علمائهم كالجاحظ وأساتذته لم يتحرجوا من إجراء التجارب على الحيوانات لإثبات صحة المعارف المتداولة عنها أو دحضها، لأن (ثقة المعتزلة كبيرة بالعقل، لا يحدها إلا أوامر الشرع، فكل مسألة من مسائلهم يعرضونها على العقل، فما قبل أقروه، وما لم يقبل رفضوه.) (2)
كانت نشأة المعتزلة وحصيلة أفكارهم ونشاطهم العلمي والعملي علامة بارزة من علامات التبلور الحضاري العربي الذي أخذ يتشامخ بعد عصر الفتوحات وقيام الدولة العربية الكبرى. وهذا التبلور الحضاري الذي جسَّده المعتزلة كان البشير بالمستقبل، والحامل لعوامل التقدم وأمام تعصُّب الأمويين للعنصر العربي، وردة الفعل الشعوبية، وأمام المهمات الحضارية العظمى التي لا بد للدولة الوليدة أن تحملها، كان العطاء الذي قدمته فرقة المعتزلة طوق النجاة للعروبة ذات المضمون القومي المستنير، العروبةِ التي تصهر الشعوب والقبائل في مزيج حضاري يسمو فوق التعصبات الذميمة (3). فلم ينحازوا في الصراعات الدموية والفكرية إلى جانب الموالي رغم أن أكثريتهم الساحقة منهم.
وأما الهجمات التي تعرض لها الدين الجديد حين خرج من جزيرته، من حملة الأديان والمعتقدات السابقة على الإسلام، كان لا بد من زاد معرفي خارج نطاق القرآن والحديث، يواجه المسلمون به خصومهم. فتصدى المعتزلة لهذه المهمة مدفوعين بإيمان صادق وإسلام عميق فواجهوا الخصوم بمثل سلاحهم، وكان هذا النتاج الفكري العميق الذي تحمله الآن كتب (علم الكلام) رغم أنه، وللأسف الشديد، دمر خصومُهم المسلمون نتاجَهم فما وصلنا إلا بشكل غير مباشر، وبغضِّ النظر عن تفصيلات المسائل الغيبية التي غرقوا فيها، كصفات الله وما إلى ذلك، فقد كان العقل رائدهم حتى إلى الإيمان، رافضين التقليد والنقل دون تمحيص، في الوقت الذي بدأ فيه عود علوم اللغة وغيرها يستوي.
نشأت علوم اللغة العربية لسببين هامين: خدمة الدين، والتعليم، فالعلوم التي أنجبها الدين الجديد من تفسير للقرآن، وفقه، وأصول فقه، وقراءات وحديث، تطلبت شرح مفردات القرآن، وإعادة القراءات إلى أصولها الصوتية القبلية، وكذلك فإن دخول الشعوب غير العربية في الإسلام حتم عليها أن تتداول العربية على نحو من أنحاء التداول، واسع أو محدود. وجعل ظاهرة اللحن التي ظهرت بواردها زمن الني العربي تستفحل.
وقد أدت المهمة اللغوية طائفتان متمايزتان من العلماء:
- طائفة جمعت مفردات اللغة من مواطنها في الجزيرة العربية، وضمن رقعة مكانية محدودة (أوسطها) وزمانية محصورة بـ 300 سنة، نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام. وهو عمل ذو طبيعة نقلية اقتفى أثرَ جَمَعة الحديث النبوي، من حيث تحري الصدق والأسانيد، والتحرجُ في الرواية، ولكن لم يبلغ علماؤه شأن علماء الحديث. ووجد فيهم من تَزَيَّدَ في الرواية بغرض الكسب المادي أو التباهي أو التخلص من المآزق، كأن يسأل عن اسم شيء أو معنى لفظة. وقد غلب على هذه الطائفة الاتجاه المحافظ بسبب طبيعة عملهم كما سلف، وبسبب اعتقادهم أن اللغة توقيف فمنحوها القدسية (رغم تعديات بعضهم) وحاولوا تجميد اللغة على ما رووا غير مستوعبين ما تقتضيه التطورات الحياتية من ألفاظ جديدة (4).
- وطائفة تصدت لوضع قوانين لصحة الكلام، وهي ما اصطلح على تسميتها بقوانين النحو والصرف، وهو علم عقلي بحت، أساسه الكلام المجموع من قبل الطائفة الأولى، ووسيلته القياس والاستنباط، فلم يَرِدْ كل فاعل عن العرب ولا كل مفعول ولا كل مصدر، ولا كل مضارع وأمر (5). ويصعب تصور الجهد المبذول آنذاك في استنتاج قاعدة يحفظها تلاميذ المرحلة الابتدائية اليوم في سطر، كقولنا (كل فاعل مرفوع) (6).
دور المعتزلة في وضع النحو العربي
لما كان النحو الصرف علميين عقليين توجب أن يكون القائمون عليهما ذوي نزعة عقلية، مؤداها أن اللغة وضع واصطلاح بين البشر، لا توقيف، ورغم تردد ابن جني في بعض مواضعَ من الخصائص في هذه المسألة فإنه يتجاوزها ما دامت لا تؤثر في العلاقة بين الألفاظ ومدلولاتها، وهي العلاقة الاعتباطية، فما كان هناك مانع من أن يقولوا (رضب) مكان (ضرب) ولا (لجع) مكان (جعل) إلا ما تحتمه القوانين الصوتية للغة من تآلف بعض الأصوات وتنافر بعضها الآخر. وتراه لا يتردد مطلقاً في أن اللغة الظاهرة اجتماعية لم توجد مرة واحدة بل وضعت حسب الحاجة إليها، يقول على لسان أبي علي الفارسي أستاذه:
" اعلم أن أبا علي رحمه الله، كان يذهب إلى أنّ هذه اللغة - أعني ما سبق منها ثم لحق به ما بعده ـ إنما وقع كلّ صدرٍ منها في زمان واحد، ….. وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات (التعبير) عن المعاني " (7).
ينتمي النحاة المعتزلة الأوائل الذين تبلور النحو على أيديهم إلى البصرة معقل الاعتزال الأول، فاتصفت مدرسة البصرة منذ تمايزها من مدرسة الكوفة بالصفات التالية:
- التشدد في قبول الرواية اللغوية، وعمن تؤخذ عنهم اللغة، من حيث المكان والوسط الحضاري الذي ينتمي إليه القائل حرصاً على سلامة اللغة وخوفاً من اختلاطها على تخوم الجزيرة العربية، ومراكز التجارة.
- الموازنة بين قطبي اللغة اللذين يتجاذبانها وهما السماع أو الاستعمال الذي يضغط باتجاه تقليص اللغة على الحد المسموع المستعمل والقياس الذي يشدها باتجاه توسيعها، فكانوا محافظين ومجددين معاً وفق ما يفرضه منطق اللغة والحياة، محافظين على ما يجب ومجددين ما يجب.
- احتواء اللغة ضمن قواعد شاملة تحمي النظام اللغوي من الانهيار ومن التمدُّد، مقابل إطلاق حرية العنصر الثاني (المفردات) بصفته العنصر المرن المتطور باستمرار.
ولا يعني اعتناء المعتزلة بالنحو وبراعتهم فيه انصرافاً عن جوانب اللغة الأخرى؛ فاللغة كلٌّ متكاملٌ. كان الخليل وسيبويه رائدي الدراسات الصوتية، وقد حددا مخارج الحروف ووصفاها بما لم يزد عليه المتأخرون الكثير. كما أن الخليل وضع أول معجم كامل في اللغة هو" معجم العين " ورغم ما يثار حوله من اعتراضات وشكوك فلا خوف على أن الفكرة فكرته وعلى أن ما فيه من إيجابيات له. وهو معجم رتبت أبوابه على مخارج الأصوات، لا على أساس الترتيب الألفبائي المعاصر الذي يعتمد التشابه الشكلي بين الحروف (ب ت ث) (ج ح خ)...
رافقت مدرسة القياس في النحو مدرسة القياس في الفقه التي تزعمها أبو حنيفة النعمان ومحمد بن الحسن الشيباني والقاضي أبو يوسف، والقياس في الأصل معناه " حمل غير المنقول (غير المسموع) على المنقول (المسموع) في حكمٍ لعلة جامعة " (8) ومثاله أن تسمع أمثال جالس، وكاتب، وشارب، بكسر الحرف الثالث، للدلالة على من يقوم بأفعال الجلوس والكتابة والشرب، فتقيس عليها سائر وحامل ورافع، ولو لم ترد عن العرب بألفاظها. وقد مثل عليها ذلك في رفع الفاعل ونصب المفعول... لعلة جامعة، وهي الدلالة على من قام بالفعل.
ومثلما انقسم الفقه إلى تيارين أساسيين تيار العقل وتيار النقل، انقسم النحو إلى تيار العقل البصرة وتيار النقل الكوفة. وكل نظرية تبقى نظرية، مهما كانت حججها العقلية قوية. والذي يحكم بصحتها أو فسادها هو الواقع الحياتي. لذا لم يكن سهلاً، انتصار المذهب البصري الذي هو مذهبنا الآن في القرن العشرين، رغم تخلفنا عنه لمجرد صحة منطلقاته فاستمر الخلاف بينها وبين مدرسة الكوفة لاختلاف المنطلقات أولاً ولقرب علماء الكوفة من رموز السلطة العباسية بحكم كونهم مربين لأولادهم كالكسائي زعيمهم ثانياً ولأن هذه الرموز العباسية وجدت في مسألة الخلاف النحوي مادة للتسلية في مجالسهم.
تجاه هذه الظاهرة، ظاهرة استفحال الخلافات وغيرة على النحو العربي أن يتحول إلى مادة للتندر، ظهر جيل من اللغويين المعتزلة في القرن الرابع، أكمل صنيع أسلافه الخليل وسيبويه وغيرهما، فخطا خطوة هامة لتطوير النحو العربي، ولا سيما أنه جيل مسلح بزاد معرفي أوسع وأعمق بعد انقضاء ما يقرب من قرنين من الجيل الرائد. أسس المعتزلة الجدد مدرسة جديدة في النحو يطلق عليها اسم المدرسة البغدادية نسبة إلى منشئها ولو أن أقطابها ينسبون أنفسهم إلى مدرسة البصرة، ويسمون علماءها بـ أصحابنا وأشهر علماء هذه المدرسة أبو علي الفارسي (377 هـ) وتلميذه ابن جني (392 هـ). ويتوقف بعض الباحثين السطحيين، حتى ذوو الأسماء الكبيرة منهم، عند حدود وصف المدرسة البغدادية بأنها أخذت شيئاً من آراء البصريين وشيئاً من آراء الكوفيين ويسمونهم بالمخلطين دون التعمق في سمات هذه المدرسة. والحق أن وصف كل نحوي أخذ من هذه المدرسة وتلك بالبغدادي فيه إجحاف كبير بحق هذه المدرسة.
- فقد خرجت هذه المدرسة من إسار النحو، إلى رحاب اللغة، ولو أن نحاة البصرة فعلوا شيئاً من هذا فلم يعزلوا النحو كما فعل نحاة القرون المتأخرة. انتقل معتزلة بغداد بالدراسة النحوية إلى الدراسة اللغوية وأوجدوا ما يمكن أن يسمى بفقه اللغة، بمعناه القريب جداً من علم اللغة، وأصدق شاهد هو كتاب ابن جني (الخصائص)الذي يفهم من عنوانه أنه يريد أن يبحث فيه خصائص اللغة. يقول المؤلف: هذا الكتاب ليس مينباً على حديث وجوه الأعراب وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بدئ وإلامَ نحي تطور اللغة. وهو كتاب يتساهم (يتشارك) ذوو النظر من المتكلمين أصحاب علم الكلام والفقهاء والمتفلسفين والنحاة والكتاب والمتأدبين التأمل والبحث عن مستودعه) (9) و(تقرير الأصول وأحكام معاقدها والتنبيه على شرف هذه اللغة وسداد مصادرها ومواردها) (10) و(عمل أصول للنحو على مذهب أصول الكلام والفقه) (11).
- ودرست اللغة دراسة وظيفية شاملة وتعني دراسة وظيفة الكلمة في الكلام، يقول المستشرق السوفييتي غابوتشيان (ويتميز علم القواعد العربية التقليدية بتركيز الاهتمام الأكبر على الجملة التي تشكل الموضوع المركزي للدراسات النحوية، وتحتل عندئذ دراسة التركيب الإسنادي أهمية من الدرجة الأولى، حيث أن جوهر الجملة نفسها يرجع إلى نهاية المطاف إلى الإسناد. ونجد هنا تشابهاً مدهشاً مع النظرية النحوية لمدرسة براغ الوظيفية اللغوية.(12) ومعروف أن هذه المدرسة اللغوية المعاصرة تنطلق من أن جميع عناصر اللغة تستخدم في نهاية المطاف بشكل مباشر أو غير مباشر وسيلة اتصال بين الناس، وهذه هي نقطة التقاء المدرسة البغدادية بالنبوية الوظيفية، إذ تنطلق كلتاهما من أن للغة وظيفة اجتماعية تؤديها هي وظيفة الاتصال بين الناس.
- ونظراً لأن اللغة لم توجد دفعة واحدة، ومرت بمراحل من التطور يمكن أن تدرس دراسة تطورية أو تعاقبية من جهة ودراسة تزامنية من جهة أخرى باعتبار الحالة الحاضرة للغة على غرار ما دعت إليه البنيوية المعاصرة. ويمكن اعتبار دراسة ابن جني لها في الخصائص دراسة تطورية ودراسة الإمام الجرجاني في دلائل الإعجاز دراسة تزامنية.
- ومن منطلق إنسانية الظاهرة اللغوية درست أصول اللغة وقوانينها فاقتربت جداً من قانون هام في علم اللغة الحديث يدعى قانون المجهود الأدنى وهو يعني أن الإنسان واللغة يميلان دائماً إلى اختصار الكلام، والبحث عن اللفظ الذي يكلفه الحد الأدنى من الجهد. يعلل ابن جني رفع الفاعل ونصب المفعول بأن الضمة حركة ثقيلة والفتحة خفيفة فرفع الفاعل لقلته ونصب المفعول به لكثرته وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون ويكثر ما يستخفون) (13) وعلل بالاستخفاف والإيجاز كثيراً من مظاهر اللغة كالإعلال والإبدال، وقلة الأصول الرباعية والخماسية وكثرة الأصول الثلاثية والحذوفات وإدراج همزة القطع وغيرها.
- وشرحت قواعد شيوع الألفاظ وموتها بالحاجة الإنسانية إليها، وعللت عدم توسع المعجم توسعاً مفرطاً يفقد اللغة وظيفتها التواصلية بانتقال الألفاظ من حقل دلالي إلى حقل آخر، كالعبور من الحقيقة إلى المجاز،وهو ما يسميه علم اللغة المعاصر بالانسلاخ.
- وشرحت قواعد اغتناء اللغة وتجددها شرحاً مفصلاً يتلخص أهمها في أن ما قيس على كلام العرب فهو كلام العرب، وفي التعريب، واستعارة اللفظ، والاستعمال الطويل لها.
- وبسبب عقلانيتهم بحثوا عن سبب كل ظاهرة لغوية عدا ما يعلل منها بما في حالات إعراب الاسم، التبدلات الصوتية كالإعلال والإبدال انسجاماً مع هدفهم النهائي وهو الإفهام. لهذا السبب رفضه أهل النقل بشدة، وتمسك به المعتزلة لأنه وسيلة القياس، وعليه وطدوا أسس ما يميز في تاريخ النحو بالنحو التفهيمي مقابل النحوِ التلقيني، نحوِ ابن مالك ومن تلاه من نحاة العصر العثماني عامة الذين ألغوا دور العقل، وأبدلوه بالحفظ مفتِّتين علوم العربية، محوِّلين كل فرع إلى منظومات تُحفظ. ولبيان الفرق بين الاتجاهين نستشهد ما يعلِّم به منهاجُنا المعاصر مواضعَ اقتران جواب الشرط بالفاء: يسوق المؤلف جملتين جواب الشرط فيهما اسمية ثم يسأل الطالب: ما نوع جواب شرط اسمية أم فعلية، وبم اقترنت الجملة؟ ثم يستنتج له القاعدة: يجب اقتران جواب الشرط بالفاء إذا كان حملة اسمية). وكذا يسوق له عدداً من الجمل الفعلية بالترتيب الذي رتبه ابن مالك في بيته الشهير:
اسمية، طلبية، وبجامد وبما، ولن، وبقد، وبالتسويف
ويسأل الطالب ما نوع الجملة في العبارة الأولى، ثم الثانية... حتى يتوصل إلى أنه يجب اقتران جواب الشرط بالفاء إذا كان جملة فعلية فعلها طلبي أو جامد... (14) ولم يكن المنهاج السابق يختلف كثيراً، يقول للطالب تأمل حكم الجمل السابقة تجد في كل منها أسلوب شرط يتألف من أداة شرط وجملتين إحداهما جملة الشرط والثانية جواب الشرط، ثم انظر بعد ذلك جمل الجواب واحدها تجد كلاً منها قد اقترن بالفاء وليس من سبب لذلك إلا أن الجواب في الجملة الأولى جملة اسمية، ولأنه في بقية الحكم الجمل فعلية فعلها طلبي، أو جامد... (15) فأي علاقة سببية ربطت بين الاقتران بالفاء وكون الجملة اسمية أو طلبية. إنها روح ابن مالك في ألفيته.
أما الرضي الاستراباذي وهو من أواخر النحاة المعللين (686 هـ)، فيقول: " الجزاء إن كان مما يصلح أن يقع شرطاً، يعني يصلح للجزم، فلا حاجة إلى ربط بينه وبين الشرط لأن بينهما مناسبة لفظية من حيث صلاحية وقوعه موقعه، وإن لم يصلح لأن يقع شرطاً كالاسم وفعل الطلب والجامد فلا بد من رابط وأولى بفتح الهمزة الأشياء الفاء لمناسبتها للجزاء معنى، لأن معناها التعقيب بلا فصل، والجزاء متعقب للشرط كذلك " (16).
إننا لا نطالب تلميذ الصف التاسع أن يفهم وحده نص الرضي، ولكن من حقه على مؤلف الكتاب أن يشير المؤلف إلى سبب ربط الجواب بالفاء وهو عدم المناسبة اللفظية بين الشرط وجوابه: وهو، هذا السبب، لفتة بلاغية بارعة تسهم في تأسيس ذوق الطالب وتعميقه وتربط النحو بعلم المعاني.
- وعلى أساس العلة والمعلول صنع المعتزلة القاعدة النحوية الصرفية الجامعة المانعة التي لا يستطيع أحد الطعن فيها، كقوانين علم الكلام على مفهومهم، وكقوانين العلوم الطبيعية والرياضية على مفهومنا. وجهد ابن جني في هذا المنحى لأن أصحابه البصريين لم يبلغوا الحد الكافي من النضج في عصرهم لبلوغ هذا الهدف.
- وإدراكاً منهم للعلاقة الوثيقة بين علوم العربية حافظوا على وحدتها كحرصِ ابن جني على ربط المضمون بالشكل في أبواب من الخصائص مثل إصلاح اللفظ، وربطِ الجرجاني النحو بالبلاغة في نظريته الشهيرة بنظرية النظم. وكذلك عني الزمخشري بعلم المعاني في تفسيره للقرآن الكريم الكشاف.
…
تلقى المعتزلة الضربة القاصمة سياسياً في عهد المتوكل، ولكن امتدادهم الفكري استمر عدة قرون، فلما انحسر فكرهم النحوي وغلب الفكر المحافظ انطفأ شعاع الإبداع في النحو في القرن التاسع انطفاء تاماً وما بقي من النحو إلا الشروح الطفيلية التي لا تسمن ولا تغني، والحواشي على الشروح، ومنظومات الحفظ، وخلاصاتها. تلك الظواهر التي انتقدها ابن خلدون انتقاداً شديداً؛ قال: " اعلم أنه مما أضر الناس في تحصيل العلوم كثرة التآليف واختلاف مصطلحات التعليم وتعدد طرقها (17) وهاجمها كذلك المرحوم أحمد أمين فعدَّ كل ما ألف في النحو تكراراً لكتاب سيبويه الذي كان من القوة بحيث كان المرجع في العالم الإسلامي من تاريخ تأليفه. وكل ما فعله الناس أنهم شرحوا غامضاً، أو اختصروا مطولاً، أو بسطوا مُعضِلاً … من عهد شرح السيرافي لكتاب سيبويه إلى النحو الواضح لعلي الجارم بك (18).
ورغم تحفظاتنا على قرار أحمد أمين (19) فإنه ينطبق على الأكثرية من المؤلفات النحوية ولا سيما الشروح والحواشي التي لم تقدم جديداً، ولا سيما في القرن التاسع وما بعده.
ما على المعتزلة:
يأخذ أحمد أمين، مع أنه من أشد المتحمسين للمعتزلة ولمدرسة القياس، على النحاة العرب، وجُلُّهم من المعتزلة، أنهم فلسفوا اللغة كما فلسف الفقهاء آيات الأحكام من القرآن والأحاديث. ولعله يقصد ما تعورف على تسميته بالعلاقات المنطقية في اللغة، وهو منحى تفاوت فيه المعتزلة أنفسهم، فاتهم الفارسيُّ معاصرَه الرمانيَّ به قائلاً: إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء. ومثال العلاقات المنطقية قولُ ابن جني " إذا أعطوا (العرب) شيئاً من شيء حكماً ما قابلوا ذلك بأن أعطوا المأخوذ منه حكماً من أحكام صاحبه ". والأسهل منه إعراب الفعل المضارع لشبهه بالاسم والاسم أعلى مرتبة من الفعل وشبهوا الفعل بالاسم فأعربوه (20).
وحمل أحمد أمين على نظرية العوامل المنسوبة إلى سيبويه وخلاصتها أن الرفع والنصب الجر والجزم يتم بعوامل لفظية كأدوات النصب والجر، أو معنوية كالابتداء. وقبله هاجم ابن مضاء القرطبي الإعراب المستتر والتأويلات والتقديرات. ولكن أحداً لم يستطع حتى الآن أن يزعزع أسس هذه النظرية إلا بإجراء تعديلات طفيفة كما في مناهج النحـــــــــو المصرية.
على أن أخطر تهمة يوجهها أحمد أمين هي اختراعُ العلل والقياسُ عليها، كعلة قلب الواو والياء ألفاً متى تحركتا وانفتح ما قبلهما " غزو غزا " فهو، أحمد أمين، يخشى أن تكون لغتنا التي نستعملها اليوم وقبل اليوم وليدة النحو واللغة معاً، لا وليدة اللغة وحدها، فاللغة لا تخضع عادة لقياس مطرد مثل (محبوب) من (أحب) الرباعي خلافاً للقاعدة ومثل رفع اسم إن في قوله تعالى " إن هذان لساحران" (طه63) وهي الآية التي حيرت النحاة طويلاً. يقول: وكتاب سيبويه مصدق لما ذكرت من أن للنحاة دخلاً كبيراً في اللغة التي بين أيدينا، وأنهم خلقوا أشياء كثيرة لا تعرفها العرب، بدليل عنوان هذا الباب (من كتاب سيبويه): " هذا بابٌ استكرهه النحويون، وهو قبيح فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعت العرب " (21).
وعلى هذا فقد هدر النحويون في رأيه كثيراً من الاستعمالات في نظير وضع قواعدهم الكلية. وشددوا في احترامها، وخضع الناس لها لأنهم كانوا المسيطرين على التعليم. وسمّوا ما خرج عن قواعدهم شذوذاً، وإن تأدبوا، يقصد ابن جني، (منبهة على بابه)، أو أوّلوه تأويلاً بعيداً ليتفق ومذهبَهم. والواقع أن هناك فروقاً كبيرة بين اللغة كما حكيت عن العرب وكما قعّدها النحويون. وقد قال أبو علي الفارسي: إنما دخل هذا النحوُ كلامَهم لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يستعصمون بها، وإنما تهجم بهم طباعهم ـ يقصد العرب ـ على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء فزاعوا به عن القصد (22).
وأقول، مع إجلالي لأحمد أمين وإجلالي للمعتزلة: إن ظروف جمع اللغة العربية وما أحيطت به اللغة من إشكالات لا حصر لها ما كانت لتسمح بإنجازٍ أفضلَ مما حققوه. وسواء كانت اللغة التي بين أيدينا من صنعهم أم من صنع عرب الجاهلية فقد انتهى الأمر بالنسبة لنا. وما يهمنا الآن هو وصول لغة ذات نظام نحوي وصرفي متين لا يضيره كثيراً أن نختلف على بعض تفصيلاته التي أغرقنا فيها النحاة المتأخرون/ وبقايا خلافات البصرة والكوفة التي كان النحو سيتخلص منها البتة لو استمرت المدرسة البغدادية. وإذا كانت اللغة تعاني إلى اليوم بعض المشكلات النحوية رغم كل هذه الجهود المبذولة لتقعيدها واحتوائها في نظام صارم؛ فإلام كانت ستؤول هذه اللغة لولا عقلانية المعتزلة وجهودهم المخلصة.
البعث الأسبوعي: العدد 8523 و8524 - 15/4/1991 و 22/4/1991
الحواشي
1- سعيد الأفغاني: في أصول النصوص 91.
2- أحمد أبو زهرة: المذاهب الإسلامية ص 215.
3- مقال الدكتور محمد عمارة في مجلة الكويت العدد 16 بعنوان المعتزلة.
- أحمد أمين: فيض الخاطر 8 / 244.
- ابن جني: الخصائص 1 / 375.
- أحمد أمين: ضحى الإسلام 2 / 277.
- الخصائص 1 / 375.
- في أصول النحو 79.
- و10 و11 – الخصائص 1 / 63، 1 / 77، 1 / 22 بالترتيب.
12 – غابوتشتيان نظرية أدوات التعريف والتنكير، ترجمة د. جفعر دك الباب ص 36.
13- الخصائص 1 / 48.
14 – كتاب القواعد الحالي للصف الثالث الإعدادي ص 47.
15- كتاب القواعد السابق للصف الثالث الإعدادي ص 28 – 29.
16 – الرضي الأستراباذي: شرح الكافية 2 / 262.
17 - ابن خلدون: المقدمة 1230.
18- أحمد أمين: ظهر الإسلام 2 / 115.
19- مقال الكاتب في مجلة التراث العربي العدد 30 بعنوان " أسباب الخلاف النحوي.
20- الخصائص 1 / 63.
21- ضحى الإسلام 2 / 282.
22- السيوطي: المزهر 2 / 248.