الرصاصة تصيب الجبين
" لستَ أول ولا آخر من ينسحب. كُتب عليك كما كتب على غيرك! " يحدّث نفسه شاعراً بالتلال الغربية المتوهجة مع أواخر أشعة الشمس تُطبق على صدره، وبأحجار الجولان المتشبثة بالأرض بعناد، يخفي كلٌّ منها مارداً يوشك مع كل قذيفة معادية أن ينتفض في وجهه. يتأمل جدران برج الدبابة الكئيبة كمقبرة موحشة، والراميَ القابع أمامه يبحث حائراً عن هدف يرميه. ثم يوعز إلى السائق بصوت مخنوق:
_ إلى الوراء در!
إلى أين؟ لا يعرف! ولكنه سيتجه شرقاً إلى حيث الأمان. يبدو السهل المنبسط الذي كان وراءه قبل لحظات مجللاً بقتامة المساء الهابط، مخنوقاً بالغبار. الشرق هو الأمان، والغرب هو الموت بلا مقابل. تندلق قطرات العرق من ذقنه كنقط من دم فقدَ لونه وحياته، ثم تنزلق إلى جسده باردة تطفئ تبجحات الماضي وآماله المزهوة. يفتح مراثي عمر المختار ويوسف العظمة فتنطبع على كل صفحة صورة زوجته وأطفاله يتوسلون إليه أن يعود ولو على نقّالة. العدو ما يزال يسوطه من الجانبين والطائرات اللجوجة تلاحقه. حتى صواريخنا التي قصمت ظهر العدو في الأيام الفائتة سكتت اليوم! تُرى انتهت الحرب هذه المرة أيضاً كما انتهت من قبل: تصمت المدافع، وتهوي الطائرات، فينسحب الجنود مطأطئين لا ذنب لهم تغصّ حلوقهم بمرارة الهزيمة!
تصعد الدبابة كل صخرة في طريقها ثم تهوي كأنما إلى الجحيم، وهو متشبث بالمقبضين كخرقة على حبل غسيل. يرقب من وقت لآخر سائر دبابات وحدته ثم يعود عفوياً إلى المرآة التي أمامه. يتوهم أنه يرى وجهه أول مرة في حياته: لونه صفرة الموت، وحاجباه شريط من الأشجار المرتعشة يحفّ ببركانين هامدين، وجبينه وديان متوازية متداخلة، وشعر ذقنه رماح تنغرز في وجهه. " من ذا يصدّق أنه الوجه الذي دخلت به الحرب؟ بل اشتباك اليوم؟ ومن ذا يصدق أني الآن على حق؟ استعددنا لمواجهة العدو فلم يفعل، استنزف أعصابنا وعفّر رجولتنا بغبار آلياته المتصاعد من الأفق البعيد. والشمس المنعكسة على نوافذها كأنها آلاف السيوف المشهرة والعيون المتوعدة. وضعَنا من حيث لا نحتسب بين فكيه. فقأت الشمس اللعينة عيوننا ولما يدخل العدو مجال رمي مدافعنا! " آه يا يوسف كم كنت محظوظاً وأنت تقاتل عدوك وجهاً لوجه، يراك فتراه، يصيبك فتصيبه. أما أنا ومن معي اليوم فماذا كنا سنرمي؟ غبار دباباته أم أصواتها؟ "
تتسع المرآة مع أواخر ضوء النهار لتغطي الأفق. تزداد الأشجار كثافة والوديان عمقاً. يسبح جسمه في نهر من العرق. مرارة حلقه تبتلع كلماته.تقترب المرآة وتقترب فتغطي الدنيا كلها:
_ أسرعْ يا سائق، أسرع!
يحتج السائق: يا سيدي عميت عيناي، إلى متى هذا الجري؟ والمقودان يذهبان به يميناً ويساراً، والقمر البارد يرسل أشعة هزيلة على ما يشبه قرية:
_ يا سيدي هل نحتل حفر الدبابات الفارغة أمامنا؟
_ حُفر؟ لا استمر! وماذا نفعل بالحفر الآن؟ ادخل القرية لعلنا نجد من نحتمي به!
خليط من البشر على الشارع الرئيس في القرية: آباء وأمهات يبحثون عن أبنائهم بين الجنود العابرين، نساء يقدّمن الخبز والماء، جنود تائهون يبحثون عن وحداتهم. يترك الحشد والشارع شرقاً وهو يردد " الشرق هو الأمان " تلاحقه كلما تشوّف الحفر الفارغة صورةُ السائق الذي شطرته القذيفة، والجريح الذي يلعق الذباب دمه وهو عاجز عن أن يذبّه. لو كانت الرصاصة في جبينه لما عجز عن ذبِّه؛ ولكن من أين يأتي الآن برصاصة في جبينه؟ ستأتيه من خلفه وستذهب بوجهه.
يشق طريقه وسط نثار أهل القرية الهاربين بما يستطيعون حمله. لا أحد ينظر إلى الدبابات إلا لتجنُّبِها، وهو يغلق الفتحة على نفسه حيناً خوفاً من رصاصة الظهر ومن الهواء البارد المشبع بالغبار، وحيناً يُخرج رأسه خوفاً من أن يصطدم بكتلة الحديد فتكون الضربة القاضية.
ما تزال القوافل تسبقه على الجانبين: عجوز تجر حفيدها نصف النائم متعثِّرَين بأحجار الطريق، وأبواه يحملان ما أمكن حملُه من متاع البيت ويسوقان القطيع. دواب اختفت تحت أحمالها تنفث قهرها والعصيّ تلهب ظهورها، عربات تترجح يميناً ويساراً، وما يزال أول القافلة بعيداً، والصورة لم تتبدل: أمهات يسحبن وراءهن أطفالهن النائمين، يافعون يحملون إخوتهم، دواب أذهلتها المفاجأة.
يصطدم صدره بإطار الفتحة، ويثب الرامي مذعوراً. تتوقف الدبابة بعدما قَلبتْ عربة بما فيها، ويتناثر المتاع والأطفال الراقدون بينها على القارعة فيفيقون مذعورين، والعجوز التي تسوس العربة تجري بين البغل الطريح والأطفال المبعثرين.
يقفز ومن معه إلى الأرض ويركض إليهم. يحاول أن يعين العجوز والأطفال ولكن أحداً لا يرفع رأسه إليه. تغمغم العجوز بكلمات نصف مفهومة: لا تهتم يا ولدي! لم يحدث مكروه، تابع طريقك!
يعود إلى الدبابة مسرعاً ثم يصرخ:
_ سائق!
_ نعم!
_ هل تذكر حفر الدبابات الفارغة التي تجاوزناها غرب القرية؟
_ نعم!
_ أسرع إليها! هالو جميع المحطات باتجاه الغرب؛ نزِّل المدفع، لقِّم الرشاش!
يمسح الغبار المجبول بالدمع عن عينيه مبتسماً بين الرماح المغروزة في وجهه " الريح الغربية ستدمي أعيننا ولكن الرصاصة الآن ستصيب الجبين.