الشراكسة في الجولان
مقال للآنسة برو** في مجلة دراسات إسلامية الفرنسية عدد 1938 -1939
أولاً - الحياة الشركسية
1- عموميات حول العرق الشركسي
يشتهر الشراكسة الذين يطلقون على أنفسهم بلغتهم اسم "الأديغة" بجمال عرقهم: قامة طويلة ورشيقة، وجبين صافٍ، وأنف مستقيم، وملامح نموذجية تماماً ، وسُحنة نقية، وشعر ناعم أو متموج قليلاً، وعيون سوداء أو زرقاء تجعلهم يُصنَّفون دون جدال بين "الهنديين – الأوربيين" (1)
ويشغل الشراكسة على امتداد 1300 كيلومتراً منطقة من أكثر مناطق العالم تموُّجاً بنتوءاتها البارزة. وهي منطقة ذات أصل جليدي، مغطاة بغابات عميقة تفصل قارتي آسيا وأوربا. وللتأثيرات الآسيوية والأوربية دور واضح متناوب فالمنطقة رغم المظاهر ليست منيعة على الاختراق.
ينحدر المرتفع الشمالي الغربي للقوقاز تدريجياً من جبل ألبروز إلى البحر الأسود. وينتهي عند " أنابه" على شكل مغزل حاد. وتخترق القوقازَ الغربي ممرات سالكة كثيرة، كما أنها تنخفض بهدوء نحو الشمال. وهكذا يصرِّف نهر كوبان وروافده في السهب الروسي. وأخيراً يمثل القوقاز واجهة عريضة على البحر الأسود من سوخومي إلى أنابه مع خليجين محميين جيداً هما "غلينجيك" و"نورفيسك". وبفضل هذه المسالك المتنوعة استطاع الروس اختراق القوقاز.
يمكن تمييز ثلاث مجموعات قوقازية: الأديغة أو الشراكسة خصوصاً، الذين يشغلون الجانب الأيسر من نهر كوبان وروافده من البحر الأسود حتى ألبروز، والقبرتاي (2) الذين يسكنون بين ألبروز ونهر تيرك، والأبخاز على شاطئ البحر الأسود بين النهرين الساحليين "بْسيب" و " كودور" الممتدين حتى "الإنغور".
وتنقسم هذه المجموعات بدورها إلى عدد كبير من القبائل تتسم عميقاً وعلى نحو كامل بالروح الفردية. وتظهر هذه الخاصية في روح الاستقلال التي تجلّت عندهم دائماً، والتي تتجلى إلى أيامنا حتى عندما رحلوا إلى وسط مختلف جداً.
وفي نطاق هذه الروح الفردية يجب البحث عن أسباب نضالات الشعب الشركسي ضد الضغوط الأجنبية، وإليها أيضاً يُعزى فقدان الوحدة السياسية لهذا الشعب المقسَّم إلى قبائل وعشائر تتجلى فيها كافة عناصر النظام البطريركي (الأبوي). وتنقسم إلى إقطاعات تخضع لسلطة إقطاعي واحد، وأحياناً يكون الخضوع شكلياً. وكانت هذه الخصومات بين زعيم وآخر تسبب خصومات داخلية، وتنمّي في الشعب الغرائز الحربية. إن تاريخ الشعب الشركسي موسوم وسماً قوياً بهذه العناصر المختلفة.
ثانياً - تاريخياً
بعد أن صدّ الشراكسة هجوم اليونان والفرس، وربما الرومان، خضعوا قروناً لوصاية هشة من أباطرة الشرق، ولكنهم لم يلبثوا أن استعادوا استقلالهم.
افتتح بطرس الأكبر الحملة الأولى من حملات عديدة قادها ضدهم القياصرة. ومع ذلك لا يكفي أقل من مئة وستين عاماً (1600 – 1860) ليستطيع الروس، بعدما تكبدوا خسائر فادحة، إخضاع هذا الشعب الجسور المؤلَّف بأغلبيته من قبائل قليلة من المسلمين. ولكن لم يكن أمام الشراكسة، وقد حُرِموا من دعم السلطات الأوربية، مفرٌّ من السقوط نهائياً تحت النير الروسي بعد حملة حاسمة ومأساوية استمرت ثلاثين عاماً، أي منذ عام 1829 (3)، وبعد تحريض العملاء البريطانيين. وقد حاول الشراكسة الاستفادة من الصعوبات التي واجهها الروس في حرب القرم ليجدوا سنداً في الباب العالي. وأرسل لهم هذا الأخير مساعدات، وأثار حميّتهم الدينية. وبتأثير التحريض الشديد للشيخ شامل بُشِّر بحرب مقدسة، فحملت كل القبائل الشركسية والشيشانية والداغستانية السلاح للدفاع معاً عن الإسلام المهدَّد. وكانت هذه حرب عصابات وجد الشراكسة في خلالها بعض الدعم من الأقليات القومية في الإمبراطورية الروسية كالبولونيين، وبين بعض ساسة لندن. ولم ينته النضال إلا عام 1861 بعد سنتين من أسْر الإمام شامل، وغداة الهجمة الروسية الوحشية. وقد فضّل عدد كبير من الشراكسة الموت بالارتماء في البحر الأسود على الاستسلام. ومن جهة أخرى هاجر عشرات الآلاف إلى الإمبراطورية العثمانية هجرة مأساوية كلفت أعداداً غفيرة منهم حياتهم.
نثر الباب العالي هؤلاء اللاجئين على مناطق المواجهة في الإمبراطورية. وكان يأمل تجميعهم في مستوطنات عسكرية تروِّض الحركات الهدامة لرعاياها المسيحيين. وترك تاريخ الشراكسة المرسَلون إلى منطقة الرومَلّي [من بلغاريا] ذكرى دامية في التاريخ بسبب القسوة التي ذبحوا بها المتمردين الصرب والبلغار. وظهر تنظيم خاص لفرق شركسية ضارية جداً خلال الحرب الروسية – التركية عام 1875 – 1877 حتى إن الروس المتوجسين نوعاً ما من أن يجدوا أنفسهم في صراع مع الشراكسة طلبوا إدراج بند خاص في معاهدة برلين 1878 يمنع الشراكسة من الإقامة في بلغاريا والبلقان. وهكذا كان على المبعَدين المستقرين في الروملي منذ عام 1864 أن يسلكوا من جديد دروب الهجرة. وعندما تجمّعوا في آسيا الصغرى (تركيا) وجدوا أعداداً كبيرة من إخوانهم الذين كانوا بقوا حتى ذلك التاريخ في القفقاس، ولكنهم بحثوا عن خلاصهم في النزوح بسبب عدم رضاهم عن النظام الجديد.
ولم تكن الحكومة العثمانية تفتقر إلى جبهات مهدَّدة، ففرقت اللاجئين على الأرض السورية بين الفرات وشرق الأردن. وما يزالون فيها إلى الآن.(4)
ثالثاً – عادات الشراكسة وأعرافهم لدى وصولهم إلى سورية
لم يكن لشعب متشبث بفرديته كالشراكسة إلا أن يمتلك في وطنه تقاليد صارمة. وقد حافظت القبائل الشركسية على هذه التقاليد في مَهاجرها. ولذا فمن الضروري قبل متابعة تطور هذه المجموعة البشرية أن ندرس أولاً وسائل معيشتها في القفقاس. ثم نتفحّص أعراف هذا الشعب في حياته المادية والاجتماعية والدينية والعقلية.
إن أخلاق الفروسية التي تسيطر، كما سنرى، على حياة الشركسي تقوده إلى أن لا يقبل في حياته إلا اهتمامين: الحرب والزراعة. وهو يُحسّ نحو التجارة باحتقار شبيه بالأحكام المسبقة من قِبَل طبقة الأشراف. وعلى الأرجح كان يمارس حتى منتصف القرن التاسع عشر الغارات وتجارة العبيد.
وطوال مدة الخلافة [العثمانية] ظل إقليم الشركس المموِّن الرئيس لحريم السلطان والأعيان العثمانيين، وذلك لفائدة سكانها. وظلت الشركسيات يتقبّلن عموماً مصيرهن بنفس راضية، متمنيات في طموحاتهن بلوغ المراتب العليا. وعاش الشراكسة الذين بقوا في أرضهم من حصيلة غزواتهم، مع استثمار ناجح لأرض خصبة جداً ذات كثافة سكانية قليلة، وتعطي مردوداً طيباً.
ليست غريزة التملك من خصائص الشراكسة فإن نظام المشاعية كان هو السائد بشكل عام. وهذا ما قد يشرح عدم تعلق الشركسي بالأرض كفلاحي البلاد الأخرى، حتى في الحالات النادرة التي كان فيها مالكاً. وفضلاً عن ذلك لم تكن الزراعة إلا على قدر الحاجة لكل أسرة، ولم تهدف إلا إلى إعاشتها، وإلى بعض الطوارئ الأخرى. أما بيع المحصول لغرض تجاري فظل مجهولاً.
وكان الصانع الشركسي ماهراً، وتخصص أساساً في صناعة السلاح والصياغة ونقشِ جُعَب الذخيرة ومقابض السيوف وأغمادها، وكذلك الخناجر (القامات) والأحزمة. وكان يجتمع في القرية بعض الحدادين وصانعي السروج وصانعي القدور. أما الفلاحون فكانوا يصنعون بأنفسهم العربات ذوات العجلات المُصمتة. وتكفلت النساء بإعداد ملابس الرجال والنساء.
وبغضِّ النظر عن مهارتهم في العمل ومثابرتهم لم يعرف الشراكسة في القفقاس تغيير أساليب حياتهم وتقبُّلَ التطورات التقنية الجديدة. وقد حرمهم احتقارهم للتجارة من مصدر هام للربح.
رابعاً – مظاهر الحياة الشركسية في القفقاس
1 – الحياة المادية
اعتاد الشراكسة على الحياة في مساكن متواضعة من القش أو الخشب أو القصب، كانوا يهجرونها في أوقات الهجرات. وكانت هذه المساكن تتألف من صف من الغرف المتلاصقة، يصل بينها ممر خارجي. وكان يُراعى وجود غرفتين للضيوف بين غرف المنزل، إحداهما للرجال، والأخرى للنساء، ولهما مدخل مستقل.
وكان الأثاث متواضعاً يقتصر على الحصر البسيطة والأرائك. وتجلى البذخ في التطريزات الغنية بخيوط الذهب أو الفضة للوسائد. وكان الشركسي المربّى على شظف العيش ينام حتى على الأرض إلى أن يتزوج.وهناك موقد واسع ذو غطاء لتدفئة البيت وإعداد اللحم المدخَّن، وبعض أدوات المطبخ المتواضعة المصنوعة من الحديد أو النحاس، وصينية كبيرة [مائدة] من شجر البقسمنصوبة على أثفية [ثلاث قوائم] (5)، وهي مجموع تجهيزات المطبخ.
وكان الغذاء بسيطاً أيضاً ولكنه وافر. وأساسه هو مسلوق السميد أو الدُّخن (الباستا)، يضاف إليه غالباً قطع ضخمة من لحم الثور أو الخروف، أو من لحوم الدواجن المتبَّلة بالفلفل والجوز. والشراب السائد هو نبيذ العسل (chirat). غير أن الشراكسة، وهم يتعاطون الشرب كثيراً، لم يكونوا يزدرون، رغم تعاليم الإسلام، عرق الحبوب المخمرة (البوظة) ولا الخمر. وكانت المآدب التي لا نهاية لها شائعة.
إن الزي الوطني الذي لم يتبدل منذ قرون هو الذي تبنّاه القوزاق، ومنحوه شعبية عظيمة. اختفى الزرد من هذا الزيّ في القرن التاسع عشر. والشركسي مهما كانت مرتبته يرتدي بنطالاً ملتصقاً بجسده، موصولاً بأخمصَي القدمين، وحذاء مع واقية للساق، وصداراً ذا قَبّة سوداء منتصبة، أو بيضاء، مزرّرة تحت العنق، وسترة من الجوخ الأسود ذات لون صدئ أو رمادي مشدودة إلى الخصر تتوسع فوق الحذاءين العاليين. وهذه السترة مزينة بجعبتين للرصاص موشّاتين بالذهب أو الفضة، وحزام جلدي ضيِّق موشّى هو الآخر، يتعلق به الخنجر. والغمد مرشوش بنثار الفضة، منحوتٌ أو مطعَّم بالمينا السوداء.
أما لباس الرأس المعروف عموماً باسم "القلبق"، أو "پاؤه" بالشركسية، فهو قلنسوة عالية من فرو الحَمَل. ويكتمل زي الرجال أحياناً بقلنسوة من الصوف الأبيض، ومعطف من اللبد الأسود (بوركا).
ويتألف الزي النسائي من قميص (6) وبنطال ضيق. ويحزم قامتَها مشدٌّ من الجلد الأحمر الموشَّى بخيوط الفضة. وفوق هذا كله ثوبٌ بسيط جداً من الحرير أو القطن يسمى بالشركسية "جانه" بأكمام عريضة طويلة جداً تتجاوز الكفّين، وصدارٌ من المخمل مطرز تطريزاً مترَفاً بخيوط الفضة على شكل زخارف عريضة، يَشدّ حين ارتدائه على الصدر. وحلّ محل الأزرار غالباً دبابيس من الفضة المُصمتة. وفوق الثوب "الجانه" سترةٌ طويلةٌ (تسيَه) من المخمل أو الحرير الموشى بالفضة، وحزامٌ ثقيل من الفضة مزيَّنٌ بصفائح منقَّشة بكبسات (مسامير للزخرفة) أو الأحجار الكريمة يُغلق السترة.
والأحذية تُذكِّر بالأخفاف (pantoufle) التي لا نعال لها، هي من الجلد الأحمر الموشى بالفضة، وتحت النعل قطعة خشبية (sabot) والكعوب مرصعة بالفضة.
ولباس الرأس عالٍ من الحرير المقصَّب بالفضة الرقيقة. وحجاب الوجه من " الموسلين" المزيَّن بلمعات، ينسدل على الغطاء، وينعقد على مؤخرة العنق. وكافة أجزاء هذا الزي باستثناء الحِلِيّ تصنعه النساء.
2 - التنظيم الاجتماعي
كانت تتمايز في المجتمع الشركسي طبقات واضحة لا تزال بقاياها إلى اليوم، فقد كان الأمراء (پشه) محاطين بالنبلاء (وَرْق) يخدمونهم بوصفهم معلمين للفروسية، أو مستشارين أو سُقاة. وإلى جانب هؤلاء وأولئك أحرار (فِقولأ) هم عموماً فلاحون متواضعون يعملون لدى النبلاء. ثم العبيد (پشه لأه) يؤمِّنون الخدمة المنزلية لهذا وذاك، وهم عموماً من أسرى الحروب.
ووجِدت مجالس كبيرة تضم أمراء ونبلاء وأحراراً، وللمسنّين بينهم صوت راجح. وكانت مكلفة بتنظيم المصالح العامة والتداول في موضوعات الحرب والسلم، وفي فرض العقوبات على مستحقيها. وأدت هذه المجالس في ظل الضغط الروسي دوراً مهماً في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر؛ حتى إنه يمكن الاعتقاد بأن الشراكسة كانوا عام 1861 على عتبة نظام ديموقراطي إذ كانت ترتسم ملامح تنظيم يتناسبُ وحاجات البلاد. ورغم أن " المجلس الحر الكبير"(7)الذي اجتمع غداة اجتماع استثنائي حُلّ سريعاً من قبل السلطات الروسية فإن الطابع الديموقراطي للحياة السياسية الشركسية سبّب غير قليل من الصعوبات للمدراء (الحكام) الروس، ولاحقاً للسوفييت.
ويلاحَظ النظام البطريركي في داخل كل أسرة مهما كانت طبقتها. فهناك مراسم دقيقة تحيط بكافة أحداث الحياة الأسرية؛ فالابن، حتى لو كان مُسِناً، يجب ألا يمسك بزمام الحديث في حضور والده دون إذنه. وكان يبقى واقفاً أمام والدِه وضيوفِ والده تعبيراً عن الاحترام، ويظل يخدم المائدة. وتمتعت الفتيات بقدر كافٍ من الحرية دون أن تكون هذه الحرية سبباً لسلوك يستحق اللوم.
كان لحفل الزواج معنى رمزيٌّ في الحواضر القديمة فقد كان اختطافاً. وتشمل مراسم الزواج ثلاث مراحل: يختطف الشاب الفتاة التي يريد اتخاذها زوجة، ويودِعها لدى أحد الوجهاء أو أحد الأقرباء المسنين، ويدخل بهذا الاختطاف في نزاع مع والدي الفتاة، ويجب أن يدير مفاوضات لفضِّ هذا النزاع. ثم يبدأ القسم الثاني من الاحتفالات، وهو القسم الأصعب: تُصحَب العروس الشابة إلى حمويها دون أن يكون لهؤلاء ولا لزوجها المقبل حقُّ رؤيتها. وتستقبل أخوات الزوج العروسَ ويحتفين بها. ويمكن للزوج في هذا اليوم أن يُلمّ بها ولكن في منتصف الليل حصراً، وفي منأى عن العيون. وعليه أن يفارق عروسه خفية قبل الفجر دون أن يراه أحدٌ في صحبتها. ولا تستطيع العروس أن تتركمخدعها قبل بدء المرحلة الثالثة من المراسم، وهي تقديمها إلى حمويها. وبانتهاء هذه المرحلة تستعيد العروس حريتها ولكنها حرية نسبية تماماً لأنها تبقى تحت أوامر حماتها. ونادراً ما يتحادث الزوج وزوجته في حضور الناس، فهذه علامة عار. وبعد سنة من زواجها تستطيع المرأة الشابة زيارة أهلها لتقيم معهم مدة قصيرة. ولم يكن الزوج يدفع أي مهر لحمويه، بل كانت المرأة هي من يجب أن تعود محملة بالهدايا الثمينة لأفراد أسرتها الجديدة.
كانت الأسرة تتألف من الأولاد المنحدرين من صلب الأبوين، ولكنها تضم أحياناً أولاداً تتبناهم. ويختلط التبني غالباً بحق الاحتماء.ويبني حليب امرأة ما، عملياً أو رمزياً، علاقة أُخوّة بين جميع من رضعوا منه. وطبقاً لهذا المبدأ كان المجرم أو الهارب الذي يستطيعالاقتراب من امرأة ولمس حَلمةِ صدرها بشفته يصبح عضواً من القبيلة حتى لو كانت تلك القبيلة عدواً لقبيلته الأصلية. وبالإضافة إلى هذا كانت علاقات التضامن والتعاطف تتعمق بين مختلف القبائل والعشائر الشركسية عن طريق ما يسمى بعُرف "الأتاليك" أو "البكين pkin"، وذلك أن يودَع طفلٌ صغير جداً، والغالب أن يكون ذكراً، لدى أسرة صديقة تتحمل مسؤولية تربيته وتكاليفه. وفي سن البلوغ يُعاد إلى أسرته الأم مع مظاهر الحفاوة. ويصبح على الطفل نحو أسرته التي ربّته الواجبات نفسُها التي عليه نحو أسرته العضوية.
وبفضل هذه الأعراف تأسست بين مختلف العشائر والأسَر أخوّيات حقيقية (faternité) [ llench ] بالمعنى الواسع للكلمة. وكان أعضاء هذه الأخويات يلتزمون بتبادل النجدة والعون. وإذا ترتّبتْ على أحد أعضاء الأخوية غرامةٌ ما، أو نفقات طارئة ساهم كافة أعضاء الأخوية فيها. وكانت هذه الأخوة مثلُها مثلُ التبني، تخلق علاقات قوية كعلاقات الدم. وكان أي زواج بين عضوين من أعضائها، ولا يزال، مجلية لعار عظيم. وهكذا أمكن الحفاظ على مبدأ عدم التزاوج بين الأقارب في القبائل الشركسية.
ولا يمكن الحديث عن الأسرة الشركسية دون ذِكْر الدور الذي كان لقانون الضيافة. يقول المثل الشركسي " منزل دون ضيوف منزل ملعون". إن الضيافة الشركسية واسعةٌ وكريمة. ومجرد تبادل الهدايا بين المضيف ومدعوِّه يعني نهاية إقامة هذا الأخير. وكان الشراكسة يتبادلون في كل المناسبات هدايا تكلِّف غالياً. وكان هذا التبادل وسيلة لإرضاء نزعتهم إلى الإسراف والكرم.
*****
يُظهِر الشراكسة أمام الموت رباطةَ جأش عظيمةً. تبقى وجوههم كأمها فقدت الإحساس. ولا يجوز لأمٍّ أن تبكي على ولدها. والموت في ساحة الشرف كان عنواناً للمجد تجني منه الأسرة كلها فائدة عظيمة.
كانت هذه الأعراف المختلفة التي يُذكِّرنا بعضها بأعراف مشابهة في مجتمعات القرون الوسطى الأوربية، ما كان لها ان تعيش، وكذلك القوانين، لولم يكن للشراكسة، مثلُهم مثلُ بواسل العصر الإقطاعي، شعور عميق بالشرف. والحقيقة أن الشعب الشركسي يمتلك بالفطرة مفهوم الشرف. والشرف الشركسي مبني على عدد من التعليمات الجديدة تؤلف قانوناً حقيقياً (code) يسمى (خابزه) . وتمتلك الخابزه قوة أوامر قطعية وتعاليم دينية، فأصبحت الخابزه هكذا قانوناً قومياً حقيقياً. وتطبيقُها تطبيقاً حازماً أمر إلزامي. وانتهاكات هذا القانون تعرِّض الفاعلين للذَّمّ والعقاب. والنقاط الأساسية لقانون الشرف هي: 1 – طاعة مطلقة للمسنين. 2- احترام المرأة. 3- مراعاة قوانين الضيافة. 4- حماية الضعفاء وتبادل المعونة والنجدة. 5 – احترام المرء لكلامه. وقد طَبعت هذه الأخلاقيةُ الشراكسة بشهامة حقيقية، وبأخلاق الفروسية، وتغلغلت في أعماق الروح الشعبية، حتى في سريرتها. وأنتج حِكماً وأمثالاً كثيرة. إن الوفاء والصلابة أضحيا اللازمتين الضروريتين لعبادة الشرف تلك. وبتطبيق هذه المبادئ يظهر الشركسي دائماً خدوماً مهذَّباً نحو الرجال، كما نحو النساء.
ورغم ذلك فإن مجتمعاً، ولو كان مشبعاً بالشرف، لا يمكن أن يكتفي في علاقاته بين أعضائه بتعليمات أخلاقية فحسبُ، ولذا يصبح من الضروري تشريع قواعد قضائية. وهذه القواعد وجدها الشراكسة، لا في القوانين المكتوب، بل في الأعراف التي تشبه ما عرفته بعض بلدان أوربا في القرون الوسطى. كانت كل النزاعات والإساءات للأخلاق والمخالفات والجرائم بين الأسر والقرى والقبائل تُسوّى أمام مجمع يسمى "التحاماتا" [الرؤساء أو الزعماء] يتألف قسمه الأعظم من المسنين والزعماء الدينيين والأعيان المشهورين. وكان هذا المجمع يُصدر أحكامه ويفرض العقوبات. وكان لقراراته قوة القانون لأنها لا تُرفَض. ومن يرفضها كان يتخلى برفضه عن جسمه الاجتماعي، ويلجأ إلى قبيلة أخرى.
ولم يكن قانون القصاص يُطبَّق إلا في حالات القتل. ويحل محله أحياناً المصالحة. وكانت هذه المصالحة قاعدة في حالات الشتم والخطف والسرقة والجَرح. ويُدفَع التعويض غالباً بشكل عينيّ، وعموماً رؤوس ماشية أو من لوازم الحياة اليومية (أسلحة، زرد). وتتفاوت مبالغ التعويضات حسب طبقة الضحية ومواصفاتها؛ فكان يُدفَع مثلاً مئة ثور لقتل الحُرّ، ومئتان لقتل النبيل. وكذلك كان يُجعل التعويض الواجب دفعه بعد الخطف مناسباً لنسَب الفتاة. والجرائم التي يقترفها العبيد تُعاقَب بأقسى العقوبات النقدية التي تُفرَض على مالك المجرم.
3 – الحياة الدينية والفكرية
كان الإسلامُ الدينَ الأكثر انتشاراً بين شراكسة القوقاز. وبقيت بعض " الجزر " المسيحية الصغيرة وسْط الكتلة الإسلامية بين الأبخاز، ولاسيما بين أتباع القديس أندريه. وكان المذهب الحنفي السني مذهب الجماعة الإسلامية. إن بساطة هذه العبادة، بالإضافة إلى ارتباطها بالضرورات السياسية، قادت الشراكسة إلى الاعتماد على الأتراك ضد الروس، وسمحت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بانتشار سريع للإسلام. وقد وجد الشراكسة، وهم فاترون نحو الدين الجديد إلى حدٍّ ما في البداية، سُلواناً في الشعور الديني المتنامي عن تساؤلاتهم العميقة. وظلت عبادتهم موسومة، بالإضافة إلى ذلك، بمعتقدات وثنية دانوا بها قروناً طويلة. واستمرت الطوطمية (8) والطقوس السحرية والألوهات الحيوانية زمناً طويلاً. واليوم في سورية، أو بالأحرى كانوا يمارسونها لدى وصولهم إليها، يبتهلون في أيمانهم الأكثر قداسة إلى " أخين " (9)، وهي بقرة بيضاء تحمي الماشية. وما يزال يظهر اسم "شبْله" يعني الرعد، و"لَبش" إله الحدادين في بعض تعابيرهم الدينية. (10)
ظلت اللغة الشركسية حتى القرن التاسع عشر لغة شفهية. وأُلِّفت أول أبجدية شركسية عام 1864. ومع ذلك فالفولكلور غني، ويتألف على نحو خاص من بطولات خرافية. والأشعار التي تمجِّد أبطالاً قضَوا في مواجهة العدو، أو محاربين منتصرين، ليست إلا أحداثاً تاريخية محرَّفة أو مضخَّمة. والأدب الشعبي الشركسي يتنامى بفعل الأحداث. والشركسي أديب مرتجِلٌ يؤلف خطبة سياسية تحت تأثير إلهام اللحظة، وفي حرارة الحماسة.
وهكذا ما يزال الشركسي يمثِّل في نظرنا أنموذج فارس القرون الوسطى. ونجد عنده الشجاعةَ، بل احتقارَ الموت، والافتخارَ المتعلق بشعور قوي جداً بالشرف. إنه يعمل بضميره، ورغم ذلك فهو قليل التعلق بالغنى، ويبقى قليل الحيلة. وطبيعته النزقة وافتقاره إلى الاتِّزان لا يهيِّئانه لمخططات عمل مدروسة دراسة وافية، فهو يجهل المناظرة السياسية خاصة، ولكن هذه الطبيعة الوثّابة تلطِّفها السلطة الأخلاقية الصريحة دون تحفُّظ، التي يمارسها المسنون في تسوية النزاعات.
وفضلاً عن ذلك فالشركسي مشدود بالغريزة نحو كلِّ ما هو نبيل وكريم. إنه يعبد القيم الأخلاقية، ولا يطلب إلا الإخلاص والبذل من أجل الناس الأشد ضعفاً. وسلوكه، كما مشاعره، هي الأجدر بالاحترام.
الفصل الثاني
الشراكسة في سورية
وصل المهاجرون الشراكسة إلى سورية عام 1878. ورغم ذلك كانت لديهم منذ البدايةِ الرغبةُ في إكمال حياتهم القومية الخاصة لأنهم شعروا أنهم مترابطون فيما بينهم بشعور الوحدة أكثر من ارتباطهم بالتجمعات البشرية المجاورة لهم. وسنتفحّص أولاً الصعوبات التي قابلتْهم في علاقتهم بالبدو والدروز والأكراد. ثم ندرس كيف لاءموا على الأرض التي خُصصت لهم من الباب العالي والتي شغلوها منذ ذلك التاريخ، بين فرديتهم الجارفة وبين الظروف السياسية الطارئة التي نشأت بعد الحرب.
أولاً - استيطان الشراكسة في سورية
وجد آلاف من الشراكسة سكناً لهم في سورية، وتكاثروا فيها. وهم يعُدّون الآن 25 ألفاً.(11)
لم تسر أمور إقامتهم في أرض المهاجَرة دون صعوبات إذ أن المبدأ الموجِّه للأتراك في توطينهم كان أن يجعلوا منهم حراساً للنظام في هذا البلد المضطرب دائماً.
توجه معظم المهاجرين إلى الجولان، الإقليمِ الذي لم يكن خالياً من السكان. ففيه الدروز والبدو من عشيرتي الفضل المستقرة فيها منذ القرن الخامس عشر، والنعيم منذ القرن السابع عشر، وبدو الرويلة وأعراق صغيرة أخرى، لهم عادة رعي مواشيهم فيه. وكذلك وجدت قبائل كردية. وكانت القنيطرة التي ستصبح حاضرة لهم قد بنيت بأموال الوقف إلى حد كبير منذ القرن السادس عشر. وكان بناؤها بهذه الأموال يشكل عقبة من الوجهة القضائية أمام القادمين الجدد. وعلى هذا لا عجب أن كان الشراكسة استُقبِلوا بشيء من عدم الترحيب فتعددت الحوادث بين من يعتبرون أنفسهم أصحاب الحق في الأرض وبين القادمين الجدد. وقام الفضل بغزوة كبيرة منذ وصول الشراكسة عام 1878 من جهة المنصورة قمعتها الحكومة العثمانية. وبعد انصراف القوات العثمانية نظم الشراكسة بدورهم حملة على الفضل غنموا منها الكثير من الغنائم. وتوصل الطرفان المتحاربان إلى الصلح عام 1881. وما يزالان يعيشان منذ ذاك الحين في وفاق تام.
وتطور الخلاف مع الدروز من مشادات فردية إلى حملة للدروز عام 1881 انتهت بمذبحة، تلتها حملة مضادة حتى صالحت بينهما السلطة العثمانية عام 1889.
وهكذا لم ينعم الشراكسة بالاستقرار إلا بعد اثني عشر عاماً من قدومهم. أما علاقتهم بالسلطة العثمانية فكانت جيدة عموماً ولاسيما أن عدداً من موظفي الإدارة العثمانية في المنطقة هم من أصول شركسية، وبين الطرفين علاقات مصاهرة كثيرة , غير أن الأمور بدأت تسوء مع إنشاء حركة " تركيا الفتاة "، وبخاصة مع إنشاء نواد وجرائد شركسية في القسطنطينية. ولكنها هدأت بعد أحداث 1910.
وظهرت صعوبات جديدة في أثناء حرب الأناضول بسبب انضمام بعض القبائل الشركسية في كيليكيا إلى الجيش الفرنسي. وعززت المجموعاتِ الفرنسية التي كانت احتشدت في سورية بعدما نقلت فرنسا الجبهة السورية إلى قره داغ والفرات.
ونشير أخيراً إلى أن ما يقرب من خمسين شركسياً تؤلف ثماني أُسَرٍ حصلوا عام 1930 على إذن بمغادرة روسيا السوفييتية، جاؤوا إلى القنيطرة.
ثانياً- تلاؤم الشراكسة مع ظروف الحياة الجديدة في سورية
1 – السكن
كان السلطان العثماني قد أقطع الشراكسة أراضي في الجولان تخص العرش. وينبغي أن نعرف أن مظهر هذه المنطقة معادٍ للإنسان، إذ تتألف من امتداد للهضبة الكلسية لشرق الأردن ذي مظهر مائل إلى الرمادي، خشنٍ مرصَّع بفوهات بركانية حديثة، ومغطى بذوائب بازلتية. وتحتوي المنطقة أيضاً على أرض غضارية جداً محرومة حرماناً شبه تامٍّ من الصوان silice.
ورغم ذلك فهذه التربة القوية خصبة إلى حد ما لأنها لا تفتقر إلى الماء، فهي أنها غنية بالندى بسبب مجاورتها لجبل العرب والحرمون اللذين يسمحان بتكاثف السحب، وبسبب الهطولات الغزيرة. ولما كان ما تحت الأرض طبقة غضارية فإن خط مستوى الماء عالٍ إلى حدٍ يكفي لعدم انقطاع الينابيع.
والمناخ قاسٍ (12) بسبب ارتفاع الهضبة، فالقنيطرة ترتفع 980 متراً عن سطح البحر. والصيف بارد، والشتاء قارس مع هطولات ثلجية غزيرة وريح جليدية في الشتاء، ومحرقة في الصيف، تهب على الهضبة في كافة الفصول.
والجولان التي يُطلّ عليها التحصينان الطبيعيان: جبل العرب وجبل الحرمون طريق طبيعي للمرور بين مصر ودمشق، بسبب موقعها. وعرفها القدماء باسم جولانيتيد. وما تزال حتى الآن خط السير الذي يسلكه البدو. وتأتي عشيرة الرويلة عادة إليها لتصييف قطعانها مما يسبب هيجاناً شديداً للشراكسة الذين يشتكون إلى السلطات كل مرة.
2- نظام توزيع الأراضي
وُزِّعت الأراضي التي يمتلكها الشراكسة على النحو التالي:
- 70 دونماً لكل أسرة من 3 أشخاص.
- 100 دونماً لكل أسرة من 4 – 5 أشخاص.
- 130 دونماً لكل أسرة تتجاوز 5 أشخاص.
كانت الأراضي المجدبة والبركانية عسيرة على توزيع عادل للحصص، فتضمّنت كل حصة جزءاً من الأرض الخصبة وجزءاً من الحقول الصخرية. ونجم عن هذا أن كل ملكية لم تكن قطعة واحدة؛ فالأسرة الواحدة قد تملك عشر قطع متباعدة جداً. والأراضي غيرُ المرغوب فيها حُوِّلت إلى مراع عامة تشغل لسوء الحظ مساحة كبيرة. ففي القنيطرة هي نصف المساحة القابلة للزراعة، وفي المنصورة الربع.
والعمل الضروري لمثل هذه الأرض المتعبة كان وما يزال عملاً مرهقاً. فكان على الشراكسة أن يقتلعوا أولاً من أراضيهم الصالحة للزراعة الأحجارَ والكتل البركانية التي كانت تغطيها. وبهذا استطاعوا الانصراف إلى الزراعة الواسعة كما كانوا يمارسونها في القفقاس.
إن الغنى الحالي والنسبي للمنطقة التي يشغلونها هو ثمرة عملهم الفردي والجماعي. كان يحرِّكهم شعور قوي بالتضامن، ولم يحدث أن بقيت أرض فلاح شركسي غير محروثة لمرض أو موت أو لسبب عارض، فالمتطوعون الجيران يأتون دائماً للنجدة. وكذلك كانت الأرملة تضمن محصولها بفضل أقارب زوجها الراحل.
طرحت الأراضي المحدودة مشكلة تفتت الملكيات سريعاً، ولكن لم يحدث شيء من هذا؛ فالشراكسة لم يتَّبعوا قاعدة توزيع الأرض كما يفعل المسلمون الآخرون لأن حق الولد البكر في الأرض هو النظام المعترف به. وفي الحالات التي يطالب فيها الإخوة الأصاغر أو الأخوات بحقهم في الميراث كان يجري تفاهم: يبقى الابن البكر محتفظاً بحق الانتفاع بالأرض، مقابل تقديم مساعدات مادية لإخوته. وهكذا ما تزال الأسر الشركسية تعيش إلى الآن على الأرض التي مُنحت لأسلافهم زمن بداية الهجرة.
حافظ الشراكسة على القيمة الجوهرية لأراضيهم بتجنُّب تفتيتها. فأفقر الأسر لا يقل نصيبها من الأرض عن خمسين دونماً من الأراضي الصالحة للزراعة. وتؤلف هذه الأسر ثلاثة أرباع الملكيات العقارية. والأغنى من الأرض وهي الربع الباقي من الأسر تزرع كل منها ما يقارب 100 دونم. وارتفع سعر الدونم باطراد من ليرة ذهبية واحدة عام 1930 إلى ليرتين عام 1936. وفي القنيطرة بخاصة كان ارتفاع الأسعار أعلى وتيرة إذ قفزت من 2- 8 ليرات عام 1930 إلى 5 – 20 ليرة ذهبية عام 1936.
ونماذج الاستثمار بطريركية أساساً؛ فأعضاء الأسرة كلهم يساهمون في الأعمال الحقلية التي تكفل معيشتهم خلال العام؛ فلا الزراعات الكبرى، ولا التخصص الزراعي لأهداف تجارية، لقيا قبولاً من شراكسة سورية. والواقع أنهم يشعرون منذ استقرارهم في سورية بنداء الأرض، ويتعلقون بها، ويعودون إليها بعد كل مرة يُضطرّون فيها إلى الابتعاد عنها إلى المدينة آملين أن يجنوا فيها أكثر مما يجنون في المدينة.
وما تزال طرق الاستثمار بدائية رغم دِقة الشراكسة في عملهم، وانصباب جهودهم كلها على الزراعة. يحب الشركسي الأرض المزروعة والزراعات المألوفة، ولكنه يهمل غالباً الوسائط المساعدة التي جلبتها التقنية الحديثة للزراعة. فهو لا يعرف الأسمدة والبذور المنتقاة، ولذا يبقى عائد الأرض متوسطاً. ويمكن أن نلحظ أن تأثير المحيط يمارس أحياناً دوراً ضاراً على بعض المزارعين الشباب منهم الذين لديهم اتجاه إلى تقليد جيرانهم المهملين.
وتُصنع التجهيزات الزراعية محلياً من قِبلِهم استمراراً للتقاليد التي كانت سائدة في القفقاس. فآلة الحراثة أو بالأحرى المحراث البسيط يُذكِّر بذلك الذي يستعمله العرب. ومع ذلك أدخل الشراكسة إلى المنطقة بعض التجهيزات التي يجهلها العرب كالأمشاط الخشبية والمسلفة (13) والـمِحَشّة الكبيرة (14)، في حين لم يعرف العرب إلا المنجل. وابتدعوا كذلك طريقة نقل البضائع بعربات ذات عجلات في حين لم يعرف العرب إلا نقلها على ظهور الحيوانات. وتعطي الدعامات والأجناب المصنوعة من شجر الصفصاف أو الأسل للعربة شكل سلة واسعة.
ليس للنساء أي دور في أعمال الزراعة، ولكن، كما في المجتمعات القديمة، تُدعى الفتيات إلى أعمال الحصاد، وكذلك يُتأمّل منهن تحضير بيدر الدراس. (كذا!) وهذا العمل، وقد أوكِل إلى الفتيات، أحياءٌ لعلاقة النساء برمز الخصوبة.
ويقتصر دور المرأة، بالإضافة إلى الأعمال السابقة، على حلب الأبقار والعناية بالدواجن. والشراكسة مجبرون غالباً على استخدام اليد العاملة لأعمال الأرض وحراسة القطعان. ولذا تعيش في كل قرية عدد من الأسر ليُستخدَموا جماعياً كأُجراء زراعيين يتلقون، فضلاً عن السكن، ما يقارب أربعين ليرة سورية في السنة.
3 – المنتجات الزراعية
تصلح أرض الجولان لزراعة الذرة، ولذا يزرع الشراكسة في الشتاء القمح والشعير والذرة والشيلم أو الجاودار في الصيف. وكلها عموماً ذات عائد جيد إذا لم يُصِبها صقيع متأخر.
ولا يزرع الشركسي عادة إلا ما يراه ضرورياً لأسرته ولمواطنيه الذين قد يكونون في ضائقة. ومنذ سنوات بدؤوا يعتادون على بيع ما يفيض عن حاجتهم.ولكن هذا البيع ليس منظماً على مستوى تجاري. (15) وبالإضافة إلى ذلك يحدث أن يقع الشركسي الساذج بطبيعته ضحية الدائنين الذين يشترون محاصيله في الحقل.
يتم الدِّراس في الهواء الطلق. وفي المنصورة تتلاصق البيادر المفصولة بعضُها عن بعض بأسيجة بسيطة. وحين تُطل من التل المشرف عليها تبدو لك كسبخات مالحة. وأدوات الدراس ليست إلا ألواحاً بسيطة من الخشب[نوارج] يجرها حصان (16) وحين يحتاج إلى القش تُستعمل مِدقة الحبوب التي لا يعرفها العرب.
ومنذ عدة سنوات ساعدت السلطات على تطوير المحاصيل السبخية [الأراضي المالحة] كالبقول والبندورة والخضار. وقد اتسعت هذه الزراعات اتساعاً كبيراً. وكذلك بُذلتْ جهود كبيرة لإعادة تشجير البلاد بأشجار مثمرة كالتفاحيات، وبأشجار الكينا والصفصاف. والكروم مظهر من مظاهر غنى منحدرات الجولان، وتنتج خمراً تضاهي بمواصفاتها الخمور العالمية لولا تعاليم الدين. والكروم مؤجرة لتجار دمشقيين غير مسلمين يستوردون ثلاثة أرباع الإنتاج المحلي من الأعناب.
4 – تربية المواشي وحيوانات المزرعة
في هذا المجال بخاصة أعطى الشراكسة المهاجرون من القوقاز مظهراً جديداً جداً للبلاد، وفي الوقت نفسه صارت تربية المواشي مصدراً هاماً من مصادر الغنى؛ فقد جلبوا من بلادهم البعيدة تقنية متطورة جداً في تربيتها، ووجدوا في مستقَّرِهم الجديد مراعي طبيعية ممتازة عرف البدو قيمتها منذ زمن طويل. وتخصصوا في تربية الخيول، ثم في تربية البقريات. وحصلوا على نتائج جيدة في هذا المجال الأخير بفضل تهجينات مدروسة. إن حظائر البقر والخيول التي يجهلها جيرانهم نظيفة نظافة تامة، ويُرفع الروث مرتين يومياً، وتصرَّف أوساخ المزابل في قنوات خاصة. وتنظف الحيوانات بالفرشاة. والبقرة الجولانية التي تشبه البقرة البريتونية (17) قوية وحلوب وصالحة للجر. ومنذ بعض الوقت حاول يهود فلسطين تهجين هذه الأبقار بأبقار هولندية، وتبيّن أن النتيجة طيبة.
يمارس مركز القنيطرة التربية الموسعة بهدف بيعها. ويُقدَّر أن الشراكسة يمتلكون ما بين 65 – 70 ألفاً من الماشية. ويزداد الرقم بسرعة. والأسعار مجزية، فالثور في عمر أربع سنوات كان يساوي 8 ليرات ذهبية عام 1930، و10 ليرات عام 1937.
أما تربية الخيول على نطاق واسع فتميل إلى الانكفاء بسبب توسع استعمال السيارات. ومن أجل حاجة الأسرة، وربما استمرار اً للتقاليد الموروثة، يحتفظ الفلاح الشركسي في حظيرته بحصان أو اثنين، بينهما أنثى مخصصة للنساء والأطفال. وظلت الحيوانات موضع عناية مركزة من قِبل الشراكسة الذين ما زالوا فرساناً مشهورين. وكانت الخيول تُحمَّم كما في القفقاس بصفار البيض المذاب في الصابون. وكان الحمار يُستخدم لنقل الماء والطحين. وينبغي أخيراًً الإشارة إلى تربية الخراف والماعز والدواجن، ولاسيما الدجاج والديك الرومي. وكان لهذه الطيور أفنية خاصة في أسواق دمشق وبيروت.
ثالثاً - المِهن والمهنيون
استمر الشركسي في سورية، كما في القفقاس، صانعاً ماهراً بالفطرة؛ فهو يصنع عموماً كل ما هو ضروري لحياته الأسرية إلا أدوات المطبخ التي يشتريها من دمشق.
ومع ذلك فهناك تخصصات مهنية؛ فلكل قرية بنّاء وحداد ونجار. وتنتقل مهنة الحدادة عموماً من الأب إلى الابن. وإلى الحداد يتوجه الفلاحون لصناعة الأدوات الزراعية من مِحشّات ومناجل وعجلات وقطع معدنية للعربات.
ويُصادف أيضاً عدد من الصاغة. وإذا تجاوزنا صناعة الحليّ والزينات النسائية التي أصبحت نادرة، فما يزالون يصنعون ما يحبّ الرجال أن يروه على ملابسهم من أغلفة للمسدسات، وأغماد للخناجر أو السيوف، والخراطيش المزيفة، ومقابض السيوف والأحزمة، وجميع لوازم الحرب، مع زخارف غنية من الفضة.
إن حُبّ الشراكسة لمظاهر الأُبَّهة، واللباس الإجباري الموحّد في السرايا التي شُكِّلت بعد الحرب، أعطيا لهذه المهنة حيوية لم يُلحَظ مثلُها في صناعة السروج التي تميل إلى الاختفاء بسبب ندرة الطلب عليها، ولا في الخياطة التي تنافسها بقوة خياطةُ النساء في المنزل.
احتفظ الشراكسة من أسلافهم باحتقار عميق للتجارة. ولا تزال عبارة "تاجر أقمشة" علامة احتقار. وكذلك يتناقص عدد التجار العاملين في دكاكين، فليس في مدينة القنيطرة على سبيل المثال حيث يقيم 1500 شركسي إلا خمسة تجار وبقّالان اثنان من بين الشراكسة والداغستان الذين يعدّون 400 شخص. (18) وكما يُلاحَظ فهذه الأرقام قليلة، وتصبح أقلّ إذا قورنت بعدد أصحاب الدكاكين من العرب أو الروم الأرثودوكس البالغ 130 تاجراً من أصل ألف شخص من هذه الأعراق. ويؤدي هذا الموقف من التجارة إلى نقص جدّي في موارد العيش لدى الشراكسة، فأموالهم تتسرب إلى الجماعات الأخرى في المدينة التي هي مركز تموين للتجمعات الحضرية والبدوية في الضواحي.
ويفسِّر هذا التخلُّفُ التجاري محاولةَ مواطن شركسي هو أمين سمكوغ، النائب السابق، الذي أراد أن يمنح مواطنيه الشراكسة ازدهاراً جديداً في إطار مؤسسات خاصة بهم فأسس عام 1937 تعاونية مساهَمة اسمها " الجولان". وكان يرجو أن يبعث فيهم بذلك نوعاً من الاتجاه العملي. ورغم الصعوبات التي واجهتها هذه المؤسسة الجديدة، والتي سببُها الأكبر نقصُ الروح التجارية لدى البائعين، فإن النتائج الأولية أكثرُ من مشجِّعة. ويشكو التجار الدمشقيون بمرارة من المزاحمة التي خلقتها هذه المؤسسة لهم.
رابعاً - مظاهر الحياة الشركسية في سورية من وجهة نظر مادية واجتماعية ودينية وفكرية
1- الحياة المادية
السكن: يميل الشراكسة دائماً إلى الفردية، يفضلون عدم تجميع مساكنهم. والذين يعيشون منعزلين في الأرياف يستمرون في تأسيس منازلهم على طراز تلك التي كانت لهم في القفقاس. يبنى المنزل الشركسي من الطين والأوتاد، وتطلى بالكلس بانتظام. ويحتوي على صف من الغرف لها مدخل مشترك من الخارج. ويمكن توسيع المنزل بسهولة لحاجات الأسرة أو غرف الضيافة.
وكما في القفقاس، تُصنع السقوف من الأغصان المتصالبة والطين، مع فتحة تسمح بخروج الدخان، وموقد كبير ذي " وجاق" تُدخَّن فيها قطع اللحم. ويضع الفلاحون الفقراء جداً مصاريع من الخشب بدلاً من الزجاج، ويتميز المجموع بنظافة دقيقة.
وكقاعدة عامة تمتلك كل أسرة منزلها الخاص. وتبعاً للعُرف الأبوي (البطريركي) يقيم الأبناء تحت السقف الأبوي الذي يتّسع مع كل زواج لغرفة للزوجين الجديدين. وتترك البنات المتزوجات أهاليهن، ولكنهن يستطعن الرجوع إلى بيت الأهل في حالة الطلاق أو الترمُّل.
لا تضم القرى الصغيرة عادة إلا المنحدِرين من قبيلة واحدة. أما في القنيطرة فقد جرت تحولات عميقة على المخطط القفقاسي للبيت، ودخلت عناصر جديدة في البناء. فالبناء من الحجر البازلتي المنحوت، والبيوت مغطاة بالقرميد المستورد من مرسيليا بتكاليف كبيرة، وتوزيع الغرف مع ساحة مركزية حل محله ممرّ كما في البيوت الدمشقية المحسَّنة على الطراز الأوربي. والصالة التقليدية للحمام العربي مع سخان وحوض حجري لا بد منها في كل مكان.
ومع ذلك ففي كل التجمعات الكبيرة، بل في بعض القرى أيضاً، لا تزال بقايا تقسيم الشعب الشركسي إلى قبائل. وهكذا ففي القنيطرة، حاضرةِ شراكسة سورية، التي تعد ثلاثة آلاف نسمة، يتجمع المنحدرون من القبائل الكبرى؛ فيسكن الأبزاخ في الشمال، والقبرتاي في الغرب، والحتيقواي في الشرق، متجمعين حول بناء البلدية، مؤلفين نصف السكان. وعلى النقيض يسكن الداغستان والشيشان، وعددهم 400 في الشمال، في جزيرة منفصلة مع جامعهم الخاص بجوار العرب والبدو الذين يعيش منهم 1000 – 1100 في القنيطرة. ويؤلف الطريق من دمشق إلى بانياس خطاً واضحاً جداً للتمايز بين مجموعتي القبائل الشركسية. (19)
الأثاث:احتفظ الأثاث في القرى الشركسية ببساطته القفقاسية: الجدران مطلية بالكلس، والنوافذ مزينة لأُصُص الورود، والأرائك أو الفُرش مغطاة بأغطية بيضاء نظيفة؛ غير أن طاولة الخشب ذات القوائم الثلاث (20) تختفي شيئاً فشيئاً.
وفي القنيطرة يتبع تأثيث البيوت الشركسية الميسورة الذوق الدمشقي: خزانة بمرآة، ذات باب من مصراعين، مزينة تزييناً غنياً. وكراسيّ وأرائك مفروشة بالمخمل. وحريريات زاهية جداً، وأسِرّة نحاسية مذهَّبة أو من الحديد المطليّ بالمينا.
الغذاء: يمكن الاطمئنان هنا إلى تغيير جذري؛ فالشركسي الذي كان ذا نظام غذائي لحمي يتغذى اليوم أقلّ من ذي قبل حقاً. (21) لا يزال المسنّون يأكلون كثيراً من اللحم،ولكن الأحدث سناً يتبعون العادات العربية. ويستهلكون المزيد من مشتقات الحليب والشاي والخبز. ومع ذلك لم تُفقَد الأطباق القومية؛ فأيام الأعياد مناسَبة للأطعمة الفاخرة. وتظهر من جديد قطع اللحم المدخَّنة أو المملَّحة مع المعجنات والمقالي والدجاج الشركسي المشهور. وفي حفلات الزواج تُحضَّر المشروبات القفقاسية القديمة، ولا سيما البوظة. (22)
يلبس الرحال دوماً اللباس القومي. ويتضمن الزيُّ الكامل سترة قماشية، وجعبة خراطيش، وقامة (خنجراً)، وقلبقاً وحذاء عالياً. وفي الأوقات العادية يلبس الرجال القلبق وهو العلامة المميِّزة لانتمائهم القومي. واحتفظ المسنون بالبنطال الضيق اللاصق بالجسم إلى الأخمصين. ولكن من أجل أعمال الحقل اقتبس كثير من الشراكسة الكوفية العربية غطاءً للرأس. أما الشيشان والداغستان والشراكسة ذوو الميول العربية ومناصِرو الوطنيين السوريين فيلبسون بإرادتهم الطربوش. (22)
والنساء يلبسن أكثر فأكثر الزي العربي. وتوقفن عن صرِّ القامة بالمشدات. والمسنات يرتدين الإزار والحجاب الأسود الذي تضعه نساء العرب. وتتبنى الشابات الأزياء الأوربية التي تناسبهن قليلاً أو لا تناسبهن. والجميع محجبات،بمن فيهن الفتيات اللواتي استمتعن بسفور الوجه مدة. ولا تسفر النساء إلا أيام الأعياد والاجتماعات الأسرية؛ حتى إن بعضهن يلبسن الزي القومي الملائم تحت الحجاب حين يتوجب عليهن الرقص. وكثير منهن يضعن الكحل كالعربيات، والأحمر لخدودهن وأظافرهن كالأوربيات. وهذا الإفراط في الرقة والدلال الذي ليست نتائجه إيجابية دائماً تصدم الشراكسة الحقيقيين.
ومن ناحية أخرى بُذِل مجهود جدي في بعض الأوساط للمحافظة لدى الرجال، وللرجوع لدى النساء، إلى الذوق القومي في اللباس. وطُلب من الأطفال الذين درسوا في المدرسة الشركسية ارتداء الزي القومي. ويتألف الزي الموحد للأطفال من القلبق والكيلوت والحذاء العالي. وفي الصيف بلوزة من النمط الروسي، ومن الحرير الأبيض للبنات الصغيرات مزررة تحت القبة ومشدودة إلى الخصر بحزام جلدي ضيق. أما الزي الموحد للفتيات الصغيرات فهو الأزرق أو الأخضر مع صدار [جيليه] أحمر مزين بتخاريم، وأخفاف من الجلد الأحمر الموشّى، ومن قبعة بيضاء. ويحافَظ على هذه الأثواب الموشاة بعناية. وأولئك اللواتي يمتلكنها فخورات بالتزين بها. ويجب مع ذلك ألا يغيب عن أذهاننا أن الكلفة الباهظة للزي النسائي وللزينة المرافقة له، إلى جانب إغراء الأزياء الغربية، تشكل عقبة جدية في طريق انبعاث حقيقي لأزياء الأسلاف.
2 – التنظيم الاجتماعي
اختفت اليوم التمايزات الاجتماعية التي وجدت في القفقاس؛ فلم يعد هناك أمراء ونبلاء وأحرار. وقلّ أيضاً عدد العبيد. لا تزال بعض الأسر المنحدرة من أصول راقية تحتفظ بشيء من مكانتها. والاجتماعات الموسعة ذات التوجه الديموقراطي التي كانت تضم في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر الممثلين الرئيسين للشعب الشركسي لم يبق لها، بداهة، مسوِّغ؛ فإنها كانت حافزاً على النضال ضد روسيا، ولم يعد لديهم الآن عدو يخافون اجتياحه. وما يهددهم هو الخوف من الذوبان في محيطهم. وعلى النقيض، يحب أعضاء العشيرة الواحدة الاجتماع ويؤلفون أحياء متمايزة في المدن، بل في القرى الصغيرة.
ومن خلال تلك العشائر تتجه إلى الاستقرار الأخوّاتُ التي أشرنا إلى وجودها في القفقاس، والتي كان لها مراسم خاصة سابقاً. وعلى أفراد هذه الأخوات مساعدة بعضهم بعضاً وتقديم النجدة في كل زمان. ولكل قبيلة زعيم ومجلس من المسنين والوجهاء والشيوخ، عليه السهر على المصالح العامة وتسوية الخلافات التي يمكن أن تظهر بين أفراد القبيلة. وينعقد هذا المجلس الذي يسميه الشراكسة " سياس sèas " (24) دائماً عند زعيم القبيلة. وكان هذا الزعيم يُختار من بين الأكثر قدماً في السن أو الأشجع. وهناك الآن اتجاه إلى اختياره من بين الأكثر يُسراً.
ويبقى النظام الأسري نظاماً أبوياً حصراً كما كان في القفقاس إذ يتمتع زعيم الأسرة بسلطة لا تُعارض. ويتناول وجباته على حدة. وأبناؤه يخدمونه ولا يستطيعون الجلوس في حضرته. ومع ذلك لا يخلو أن تؤدي الأفكار المعاصرة دوراً هاماً في هذا الجانب، فيحلُّ الآن إحساس بثقة أكثرَ ودّيّةً محل الإحساس بالاحترام الممزوج بالخوف الذي كان يحرك الأبناء تجاه آبائهم، والنقاش الذي كان يبدو سابقاً غير لائق أصبح الآن مقبولاً.
تمارس النساء حياتهن على حِدة. ولا يرافقن الأزواج مطلقاً. ويتمتعن بحرية تفوق حرية أخواتهن العربيات. ولكن مع الاحتكاك بالعربيات تطورت بعض المظاهر الجديدة، فينتشر ارتداء الحجاب بين النساء المتزوجات. ومع ذلك تبقى كافة نفقات البيت تحت تصرف الزوجة، وبيدها كل المبادرات، وتلتزم بالنفقات التي لا يناقش فيها زوجها. وعليها مسؤولية تربية الأطفال. والبنات الشابات ما زِلْن رغم الحجاب حرات كما كنّ في القفقاس تقريباً، ويستقبلن أصدقاءهن الشباب في غير حضور أهاليهن.
تتم أربعة أخماس الزيجات، كما في القفقاس، بطريقة الاختطاف. والزعيم (تحاماته) المستنفَر يتوجه حالاً إلى الوجيه الذي أودع عنده العريسُ عروسَه. وتُنجَز سريعاً كافة إجراءات الاتفاق على المهر وعلى الشكليات الأخرى. وما تزال القواعد التي وجدت في القفقاس متبعة: تُصحَب العروس الشابة إلى حمويها اللذين لا يظهران، ويتم دخول الزوج وزوجته بشكل سري. ثم تقدَّم العروس إلى حمويها. وقد خُفِّضت المدة التي كانت تتطلبها هذه الإجراءات التي كانت تستغرق أكثر من شهر سابقاً إلى ما يقارب خمسة وعشرين يوماً الآن.
يتزوج الشراكسةُ عموماً من نسائهم. ويحرصون على المحافظة على تقليدهم القديم،وهو تجنُّب الزواج بين الأقارب، حتى بين من يحملون اسم الأسرة الكبيرة أو الأسر القريبة. (25) ويُمنع أيضاً الزواج بمن تتبناه الأسرة من غير أبنائها. والزواج بين الشراكسة والأتراك منتشر إلى حد ما خلافاً للزواج بينهم وبين العرب التي ليس منها إلى الآن تقريباً، (26) ولا يمكن أن نذكر هنا إلا أمثلة نادرة جداً منذ وصول الشراكسة إلى سورية. (27) يعد الشراكسة أنفسهم أعلى مرتبة من العرب، والمكانة المتدنية للمرأة بين العرب لا يشجعهم على التزاوج. وقد قوبلت الحالات النادرة التي حدثت من هذا القبيل باستهجان عام.
كل شيء كما في القفقاس: يمكن تحرير (إعتاق) أسرة شركسية بتبنيها، والتبني يتم بمجرد تصريح للزعيم. وهو يخلق علاقات أخوة في سورية كما كان في القفقاس.
لم تكن مساهمة المحافظة على الأعراف قليلة في استمرار شراكسة سورية على الخصائص الاجتماعية التي كانت لديهم عند وصولهم إلى سورية، والتي ميزتهم تمييزاً عميقاً من جيرانهم. سُحنتُهم الصافية، وشعورهم السمراء التي لا تميل مطلقاً إلى السواد. ووجوههم تُبعِد كل احتمال للاختلاط بالسحنة السامية. فهم يتميزون بتقارب الملامح مع بعض الملامح المنغولية الملطَّفة جداً: وجنة ناتئة نتوءاً خفيفاً، وعيون متطاولة قليلاً. يبقى الأنموذج جميلاً وخاصة عند الرجال؛ فهم طوال القامة، نحافٌ لا يعرفون البدانة، ومشيتهم أنيقة. والنساء لهن سِحرُهن الخاص وإن لم يكنّ جميلات دائماً؛ غير أن بنيتهن ضعيفة وهشة أمام الأمراض إذ قلما يمارسن التمارين البدنية، وقد اعتدن على إرضاع أطفالهن سنتين أو ثلاثاً وهذا ما يستزف قواهنّ. (28)
ويُبدي الشراكسة من الجنسين رباطةَ جأش عاليةً ومتانةَ أعصابٍ في كافة مظاهر الحياة، حتى أمام الموت يتجنبن ذرْف الدموع والمظاهر الصاخبة الأخرى. (29)
وما تزال أعراف الضيافة التي كانت قوية في القفقاس مرعيةً بدقة من شراكسة سورية. يُستقبل الضيف باهتمام في أي وقت من اليوم. وحُبُّ الهدايا ظل قائماً. ومبدأ الشرف يتعهده الشراكسة كلهم بعناية، ويظل المبدأَ الأساسيَّ في حياتهم. وعبادة الشرف جزء من قوانين الأعراف الموروثة من أسلافهم. وقد وجدوا فيه تسوية مع تقاليد الإسلام ومع المؤسسات التي أقامها الانتداب الفرنسي على سورية.
يسوّي الزعيم ودياً كل الخلافات التي تنشأ بينهم. ويوكَل 30% من خلافاتهم إلى مجلسهم. أما قبل ثلاثين عاماً فلم تكن تُرفَع أيُّ قضية إلى المحاكم العثمانية. (30) وليست اجتماعات مجلس "التحاماته" دورية، بل تُعقد غالباً عند الضرورة. ولها طابع ودي، وتنعقد بموافقة ضمنية من الجميع. وتسوَّى الخلافات شفهياً بطريقة سريعة. ولم تبق دِية ولا ثمن للمصالحة. وكذلك منذ بعض الوقت الغرامات التي تعاقب السرقة، والافتراءات والمخالفات الأخرى. واليوم يُطلب تعويض دقيق فقط عن الخسائر، ودفْعُ مبلغ يساوي المسروق. أما الافتراءات والشتائم والإهانات فتُسوّى باعتذار علني. وتتم مصالحة الأطراف دائماً من قبل "التحاماته". والعادة هي مدُّ اليد لمصافحة الخصم، ومن يقوم بالمبادرة يلقى تقديراً كبيراً.
ويسوّي التحاماته أيضاً قضايا الإرث. تبقى الأرض دون توزيع، وتبقى في حوزة الابن الأكبر.(31) فيتحمل هذا مسؤولية زعيم الأسرة وعبء إعالة أرملة المرحوم وأخواته العازبات. وهذا المبدأ المخالف بوضوح للشريعة الإسلامية يثير غالباً صعوبات بين الورثة توكَل مهمة حلِّها إلى التحاماته. (32)
غير أن العُرف الذي يبدو أشدّ تأصُّلاً في قلوب الشراكسة هو تبادُل العون. فالأرامل والمفجوعون بكارثة والجرحى (33) لهم جميعاً الحقُّ في شيء من الرحمة ومن دعْمِ أولئك الذين لا يعرفون الضرّاء. ويمتد شعور التضامن الذي يوحِّد شراكسة سورية إلى إخوتهم في فلسطين والأردن أيضاً. والاجتماعات بين شراكسة الأقطار الثلاثة كثيرة. وإذا كان انعدام العلاقات بين سورية وروسيا السوفييتية لا يسمح بالمبادلات التي كانت قائمة بثبات قبل الحرب فقد استمر شراكسة سورية في معرفة أخبار أسلافهم ومعرفة أهمية مجمعاتهم في العالم، ومتابعة الأحداث التي تمسّ القفقاسيين في العالم، سواء في تركيا أم في مصر، أو أخبار الذين التجؤوا إلى بولونيا عقِب الحرب. وشراكسة مصر أعظم نفوذاً وأغنى من شراكسة سورية، ولا يفوتهم مساعدة إخوتهم في سورية. وقد استطاعوا استرداد وقفٍ كان قد سُلِب من شراكسة سورية، مخصصٍ لإعداد رجال دين شراكسة في الجامع الأزهر بالقاهرة. ولهذا التضامن جذور قوية في حياة العرق الشركسي.
3- التطور الديني
كان القفقاسيون اللاجئون إلى سورية مدفوعين إلى الهجرة بالعداء للروس المسيحيين. وقد شعر هذا الجيل من المهاجرين الذي تعرض لهزة معنوية بالحاجة إلى أن يجد عزاءً وسنداً في الإسلام الذي اعتنقه، وربّى أطفاله بروح أكثر تديناً. وكوّن هؤلاء الأطفالُ الجيلَ الذي تتراوح أعمارُهم بين الخمسين والخامسة والستين. وهو جيل يخضع خضوعاً عميقاً لتأثير رجال الدين، وعقيدته قوية جداً ولا تخلو من التعصب. إن شراكسة هذا الجيل، رجالاً ونساءً، يتبعون تعاليم الإسلام بصرامة حتى لو لم تكن بعض رواسب الوثنية فيهم انطفأت تماماً، فإن لديهم اتجاهاً إلى التطبُّع بالطابع الإسلامي قبل الشركسي. وهذا ما يفسِّر كونهم، هم ومعظم رجال الدين فيهم، منسجمين مع الوطنية السورية.
انتظم عدة مئات من الشراكسة ساعة وصولهم إلى سورية في الطريقة النقشبندية [الصوفية] ذات الجذور الفلسطينية. وعلى أعضاء هذه الطريقة أن يمارسوا يومياً طقساً دينياً ما، كأن يذكروا اسم الله عدداً لا يُحصى. ويمكن للنساء التفقُّه بهذه الطريقة، وينضم إليها عدد من النساء المسنات في القنيطرة، ولهنّ مسجدهن الخاص يجتمعن فيه كالرجال مرة كل أسبوع. ويبلغ عدد أعضاء هذه الطريقة ذكوراً وإناثاً مئتين تقريباً، وهم ميالون للانسجام مع العرب وعلى وفاق مع الوطنيين السوريين. أما الشباب فلم ينضووا بعد تحت لواء هذه الحركة التي تبدو في حالة تراجع جدي.
وليس الجيل الثالث من المهاجرين الشراكسة وهم الذين تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والخامسة والثلاثين متعصباً. فهو يشاطر المسنين القادمين من القفقاس طُمأنينتهم وصفاءهم الروحي. ولهم من وقت لآخر اهتمامات سياسية، ولكن مشاعرهم الدينية سطحية. ولا يتبعون تعاليم الدين إلا خوفاً من صدْمِ المؤمنين الحقيقيين. أما الأطفال الذين ما يزالون يرتادون المدرسة، والمراهقون الذين تركوها قبل وقت قريب، فيخضعون إلى تأثيرات غربية وعربية معاً، ينحَون شيئاً فشيئاً إلى أن الإنسان مخيَّرٌ أكثر مما هو خاضع للتعصب. وهكذا يبدو أن الشراكسة رجعوا بعد حقبة من الحماسة الدينية إلى فتورهم المتأصِّل.
4- التطور العقلي
الشراكسة يتمتعون بفكرٍ حيٍّ ومتفتح، ولهم كافة مواصفات الطالب الممتاز.
ومسألة تنشئة الشباب الشراكسة على لغتهم القومية مطروحة بحِدة. وقد طلبوا من فرنسا عام 1927 إنشاء مدرسة خاصة بهم تعلِّم اللغة الأمّ للأطفال. وقد منعت عقبات كثيرة تنفيذ هذا المشروع حتى عام 1932، فأُنشئت مدرسة ابتدائية شركسية، ولكنها خاصة، في القنيطرة بجهود بعض الدعاة المتحمسين، وحصلت من الدولة السورية على مساعدة مالية متواضعة. ولم تتسبّب هذه المدرسة في إغلاق المدرسة الحكومية التي ظل العرب، وكذلك الشيشان والداغستان، والأطفال الشراكسة الذين تبنّى أهاليهم بوضوح مصلحة الدولة السورية، يقصدونها.
والمدرسة الشركسية مفتوحة لأولئك العناصر الشابة من هذه القومية الذين يرغب أولياؤهم في رؤية أولادهم لا يفقدون خصائص أسلافهم. والمناهج المتبعة في هذه المدرسة تتفق مع المنهاج الرسمي لإدارة التعليم العام في ولايات المشرق، ومصدقة بشهادة. وهذه الشهادة تعطي صاحبها امتيازات من يدرس " السرتفيكا certificat" السورية. (34) ويجري التعليم في هذه المدرسة باللغة الشركسية. ويتضمن المنهاج دروساً باللغتين العربية والفرنسية. وكان لابدّ من ظهور بعض الصعوبات منذ بدايات تأسيسها بشأن تحديد الألفبائية الشركسية التي استقرت بعد عدة محاولات على الأحرف اللاتينية وفقاً لتوجيهات مؤتمر عُقد في القنيطرة في آب عام 1934، ضمّ وجهاء شراكسة من سورية وفلسطين. وألِّفت قواعد اللغة الشركسية في تلك المرحلة. ومعلمو هذه المدرسة متطوعون من بين الشبان المتمتعين بإعداد فكري ومدرسي جيدَين. وبعضُهم مجاز من دور المعلمين في حلب ودمشق، وآخرون ينحدرون من أسر قفقاسية ذات أُرومة نبيلة. وروعي إقامة قسم للتحضير المهني فيها. ولكن التقلبات السياسية التي اجتاحت البلاد في الأشهر الأخيرة أخّرت افتتاحه حتى اليوم.
وحققت النتائج المجنيّة من هذه المدرسة رغبات الأهالي. ولم يظهر طلاب هذه المدرسة جديرين بالجهد الذي بُذل من أجلهم من خلال امتحانات السرتفيكا فحسبُ، بل سمحت أيضاً بأن تحافظ المدرسة على الخصائص الرئيسة للشعب الشركسي؛ فقد كانت تشجيعاً على ارتداء الزي القومي، وهو زيٌّ إلزامي للصبيان على الأقل. وأحيت المدرسة من خلال الاحتفالات المدرسية الهامة عبادة الشراكسة لماضيهم المجيد. وتساهم في محافظة قانون الشرف (خابزه) على كل سحره الغابر. وهي تخلِّد ذكرى الوطن البعيد والمفقود عبر الأغاني التي تتغنى بخصوبة أرض القفقاس وجمال جبالها المكسوة بالثلج الأزلي. ثم تفتح وعي الشبان الشراكسة على الأفكار الحديثة.
وبُذِلت محاولات بدأت عام 1937 من قبل الأعضاء الفاعلين في الجالية الشركسية لتأسيس جريدة باللغة الشركسية، ولكنها لم تتوصل إلى نتيجة. وهناك تنظيم مؤسس عام 1927 كان يسمى "مارج" [صيحة الاستنجاد]، لم يستطع أن يدوم طويلاً. وجرى هذا أيضاً لتنظيم آخر هو "اتحاد الإصلاح القوقازي" الذي ذهب ضحية الخصومات السياسية.
ولم تعط، كذلك، الجهود المبذولة لتثبيت اللغة الشركسية بحروف مكتوبة كل ثمارها. فلا يمكن الحديث إذن عن "أدب مكتوب". غير أن شراكسة سورية لم يُهملوا الأغاني والحكايات المتفرعة عن الفولكلور. وبالإضافة إلى هذا اغتنى هذا الأدب الشعبي في خلال الأحداث المجيدة أو المأساوية التي عرفها الشراكسة منذ إقامتهم في المشرق.
وهكذا عرف الشراكسة رغم نزوح يقارب ثمانين عاماً كيف يحتفظون بالخصائص التي كنا أشرنا إليها في دراستنا لهم في موطنهم الطبيعي في القفقاس. لقد ظلوا على الشهامة والشجاعة والاجتهاد في العمل والإخلاص للضمير. ولم يختف قلة فطنتهم ومبالاتهم. ولم يُفلَّ عنف خاصيتهم، وبقي الشبان منهم يحترمون سلطة الكبار والوجهاء متعلقين بالمشاعر النبيلة والخيِّرة. والتضحيات التي يمكن أن يفرضها عليهم هدفٌ ما تبدو جديرة ومحبوبة. وفي سورية، كما في القفقاس، ليست السلطة السياسية لهم. وهذه الملاحظة التي لا تنتقص من شأنهم تذكِّر بأُخرى: في خضمّ الخصومات السياسية بين مختلف المجموعات السياسية يبدو موقف الشراكسة محرجاً إلى أقصى الحدود حتى لو كانوا قليلي العدد ومحرومين من أي ممارسة سياسية. وكان تطورهم السياسي ضمن الإطار الإداري للانتداب صعباً. ويجعلهم هذا التطور يشعرون بأنهم سيظهرون مجهولين عندما ينتهي هذا النظام.
الفصل الثالث
موقع الشراكسة في الدولة السورية
أولاً - علاقات الشعب الشركسي مع جيرانه المسلمين
يؤلف الشراكسة في إطار الدولة السورية مجموعة سياسية قليلة الأهمية؛ فعددهم محدود لا يتجاوز الخمسة والعشرين ألفاً في أقصى الحدود.
يمكن الاعتقاد بأن رابطة الدين ستهيئهم إلى تقارب مع الحكام العرب. إن الماضي التاريخي المجيد لهذا الشعب المحارب وخصوصيته المتقدمة يمنعانه حتى الآن من التقارب الوثيق مع المجموعات العربية الأخرى. وتبقى العلاقات بينهم وبين جيرانهم حرجة إلى حد ما حالياً على الصعيد السياسي والاجتماعي. وتلاؤمهم معهم ليس كاملاً.
وتقوم بينهم وبين الدروز وهم أقرب جيرانهم هوة عميقة. ولا تقع المسؤولية على الشراكسة وحدهم؛ فالدروز الذين عاشوا في عزلة محجوراً عليهم، وبمزاج قليل الرغبة في التواصل مع الناس، يدافعون بحمية ضد أي اختلاط. ويفتخرون بعادات الضيافة والغزو كالشراكسة، وبشجاعتهم أمام الموت، غير أن هذه النقاط المشتركة من شأنها توليد الخلافات أكثر من التقريب بينهم.
ولم تنطفئ كذلك ذكرى دفاع الشراكسة عن أنفسهم مجبرين ضد هجمات البدو المتعددة في سنوات إقامتهم الأولى بعد الهجرة. وإلى الآن تهدد قطعان البدو في كل صيف مزروعات الشراكسة. وفي هذه الظروف لا يمكن للعلاقات أن تكون ودية جداً، بل لا يمكن أن تكون صحيحة.
أما مع العرب الحضريين عموماً، والدمشقيين خصوصاً، فيمكن الاعتقاد بأن العلاقات ستكون حسنة. والعناصر المناسبة للتفاهم متوفرة. وفي القوقاز تمتع العرب بشهرة كبيرة في النبل والكرم الفروسيين. وكان لدى الطرفين مفهوم متطابق تقريباً للشرف والضيافة والشجاعة الحربية والانتقام وحق اللجوء. وهكذا، وبسبب مشاعرهم الدينية، وبصفتهم ضحايا عقيدتهم، هاجر الشراكسة إلى سورية، وكانت الأرضية الدينية تبدو كأنها يجب أن تصبح أرضية للتفاهم بين الشعبين. ورغم بواعث التفاهم هذه لم تكن العلاقات بين الشعبين مُرضية مطلقاً.
كان الشراكسة من جهتهم يريدون أن يعيشوا مخلصين للغتهم ولخصوصيتهم الإثنية، بل إن بين الشعبين تبايناً في دور المرأة في الحياة الأسرية، وفي مبدأ الزواج. وبالإضافة إلى ذلك، ففي الوقت نفسه الذي يدخلون فيه أجواء التربية المعاصرة يدرك جزء من الشراكسة شيئاً فشيئاً ما يميزهم من الشعوب التي تعيش في الوسط الذين هم فيه.
ثانياً - النضالات السياسية للشعب الشركسي 1927 – 1937
أنتجت التجاذبات السياسية بين شراكسة سورية، وهذا أمر طبيعي في ظروفهم المعقدة آنذاك: هجرة قريبة، وعلاقات متوترة أحياناً مع الجيران، وانتداب فرنسي... واتجاهين رئيسين في وقت محدود جداً، في حوالي عام 1936 -1938. وما لبثا أن انحسرا. كان أحدهما يدعو إلى الاندماج في الحركة الوطنية الفرنسية، والآخر يدعو إلى كيان ذي استقلال محدود قاده شابّ درس في فرنسا، وتولى بعض المناصب الرسمية، وهو أمين سمكوغ، يهدف إلى إحياء الشعور القومي لدى الشراكسة والحفاظ على اللغة الأم، وجعْلِ القنيطرة إدارة مستقلة، والسماحِ لبعض المهاجرين الشراكسة إلى جهات نائية بالهجرة إلى الجولان.مقابل الاتجاه الآخر الذي استفاد من الزخم الوطني السوري واندمج فيه. وكانت ذروة الصدام بين الطرفين في 9 أيلول عام 1936 انتهى بمقتل بعض المنخرطين في الصدام. وعلى إثر هذا النزاع ترك أمين سمكوغ منصبه في رئاسة بلدية القنيطرة لتهدئة الأوضاع. وضعُف هذا الاتجاه جداً بكسب الاتجاه الآخر الانتخابات النيابية، وعجز فرنسا عن تلبية مطالبه.
إن هذه الأقلية الضعيفة عددياً، قوية بتعلقها بتقاليدها، وبروحها القتالية. وضعيفة بانقساماتها الداخلية. ولن يطول الأمر بها في ظل تطور الأوضاع نحو استقلال سورية إلى الذوبان في محيطها خلال جيلين أو ثلاثة.
الحواشي
*قرئت جزئياً في الجمعية الخيرية الشركسية.
** كنت أشك في البداية في أن يكون اسم الكاتب مستعاراً، وأن يكون سورياً ولاسيما أن أصدقائي الفرنسيين الذين استشرتهم لفهم بعض التعابير استغربوا لغة المقال. غير أني وجدت في كتاب "تاريخ المعهد الفرنسي" اسم الكاتبة بين الباحثين الذين مروا على المعهد. وكان العنوان الأصلي للمقال هو "الشراكسة" وهو عنوان فضفاض جداً، ثم عنونتْ أحد الفصول لاحقاً بـــ "الشراكسة في سورية"، غير أن المقال لا يتضمن شيئاً عن شراكسة حمص أو حلب... فجعلت العنوان: الشراكسة في سورية.
- يمكن أن نلاحظ رغم ذلك أن كثيراً ممن اختلطوا بالتتر قد تغيرت ملامحهم إلى ملامح منغولية.
- تبعاً للفكرة السائدة في الأوساط الأجنبية وهي أن القبرتاي غيرُ الأديغة.
- تقصد معاهدة أدريانوبول عام 1829 بين الدولة العثمانية وروسيا التي أعطت فيها تركيا كل ما على يسار نهر " بشزه" من البحر الأسود حتى أرض القبرتاي لروسيا، لأن تركيا كانت تعتبر القفقاس المسلمة ملكاً لها. وظل الروس لاحقاً يتمسكون بهذه المعاهدة في كل المفاوضات مع الشراكسة محتجين دائماً بأن الأرض صارت ملكهم بهذه الاتفاقية.
- يعُدّ الشراكسة في تركيا 800 ألفاً، وفي سورية 25 ألفاً، وفي الأردن 11 ألفاً.
- شجر حرجي كالآس، تُتَّخذ منه الملاعق. المترجم.
- camisole ثوب قصير بأكمام (صِدار) يُلبَس فوق القميص chemise. المترجم.
- مجلس الحرية – البرلمان، تأسس من الأبزاخ والشابسغ والوبيخ في أواخر الحرب القفقاسية بسبب الحاجة الـمُلِحّة إلى ما يشبه الحكومة. ولم يؤدِّ دوراً مهماً بسبب التأخر الشديد في تأليفه، وعدم الاتفاق بين أعضائه. ويرد ذكره في روايتي "المطرودون" و"حجر الرحى" للمؤلف والمترجم أنفسهما. المترجم.
- نسبة إلى "طَوطَم" نسبة إلى "طوطم"،حيوان، وأحياناً نبات، يعتبر الجد أو الحامي لقبيلة فيُتَّخذ رمزاً معبوداً. وتسمى عبادة الحيوانات بالعبادات الشامانية. المترجم.
- كتبتها الباحثة بالميم، والصواب بالنون. والخاء تلفظ صوتاً بين الخاء والكاف، أي x في الشركسية. المترجم.
- يبدو أن العبادة المنذورة لـــ Mérissa أو Méreyem حامية النحل وأم الإله الأكبر وإلهة الشراكسة، وكذلك المنذورة لــ Oziris حامي البذور، لم تختف إلا قبل قرن تقريباً.
- يُفهَم في سورية تحت اسم " الشراكسة " ليس أفراد القبائل الشركسية حصراً، بل أفراد شعوب قفقاسية أخرى أيضاً من أصول مختلفة: الشيشان والداغستان، وحتى الأوسيت " القوشحة " المنحدرين من أصل إيراني.
- وسطياً 28 درجة صيفاً و6 شتاء، والحرارة القصوى صيفاً 35، والدنيا شتاء 5 تحت الصفر.
- مشط خشبي للتذرية له سبعة فروع. المترجم.
- آلة تتألف من شفرة مقوّسة، وعصا طويلة، تستعمل بخاصة لحشّ العشب. "شَمَج" بالشركسية. المترجم.
- وصل سعر القمح، مع ذلك، إلى مبلغ مهم: في عام 1930 كان سعر المُدّ (18 كيلوغراماً تقريباً) 45 -50 قرشاً سورياً، وفي عام 1937 مئة قرش.
- أو ثوران. المترجم.
- نسبة إلى بريتانيا، إحدى مقاطعات فرنسا. المترجم.
- رقم الأعمال السنوي لهؤلاء التجار زهيد، وهو 50 ألف فرنك سنوياً.
- حول القنيطرة مجموعة من القرى يسكنها الشراكسة: المنصورة: 4 كم عن القنيطرة 130 أسرة من الأبزاخ. الصرمان: 4كم جنب شرق القنيطرة 200 أسرة من البجدوغ. عين زيوان: 4 كم إلى الجنوب 155 أسرة من الأبزاخ. مومسيه: 8 كم إلى الجنوب 50 أسرة من الأبزاخ. روحينه: 8 كم جنوب شرق 22 أسرة بجدوغ وقبرتاي. الحميدية 4 كم شمالاً 50 أسرة قبرتاي. بئر عجم: 10 كم جنوب شرق 125 أسرة (دون تحديد: المترجم) الجويزة: 10 كم جنوب شرق 115 أبزاخ و10 قبرتاي. فزاره 13 كم جنوباً 20 أسرة من الأوسيت الذين يسمون أنفسهم " قوشحه". الفحام: 17 كم جنوباً 40 أسرة أبزاخ. الخشنية: 15 كم جنوباً 225 أسرة، منها 40 أبزاخ، و40 بجدوغ، و135 قبرتاي. والسنديانة 10 كم شرقاً 10 أسر غلغاي أو أنغوش من القبائل الشيشانية التي هي في خصومة دائمة مع الشراكسة. ومجموع الأسر الشركسية في منطقة القنيطرة 1272 أسرة. (نسيت الكاتبة قرية بريقة رغم إثباتها في الخريطة. وأظن أن أرقامها غير دقيقة. المترجم)
- trepied طاولة بثلاث قوائم. المترجم.
- يقدِّر المختصون أن هذا هو السبب الرئيس لضعف هذا العرق الجبلي الذي يتهدده السل. من المؤكد أنه على هذه الهضبة المعرضة للهواء في الشتاءات القاسية يجب أن يتضمن نظام التغذية فيها عنصراً من اللحم قوياً. والبرهان هو تعمير المسنين الذين يحتقرون الخضار، ويصفونها بأنها جيدة للحيوانات فحسبُ.
- لعلها تقصد الباخسمه. المترجم.
- انظر أواخر المقال لدى الحديث عن الانقسامات السياسية. المترجم.
- أظن الكاتبة وقعت في التباس بين اسم اللباس (تسيه)، وكاسه xac، بمعنى جمعية أو مجلس. المترجم.
- معدل الولادات في الأسرة 5 أطفال، ونادراً ما يتجاوز الثمانية.
- وكذلك لا زواج بالداغستان الذين يلتقون بالعرب في كثير من وجهات النظر. وأظن للمسألة جذوراً من القفقاس غير موضوع العلاقات بالعرب. (المترجم).
- هناك زيجات بين الشراكسة وأفراد القبائل القوقازية التي تعتبر متفوقة (كذا!).
- وفيات الأطفال مرتفعة أيضاً 25 % ويبدو أن السبب جزئياً هو الحق الذي تدّعيه النساء المسنات غير المؤهلات غالباً لهذا العمل في تربية الأطفال.
- التعبير الوحيد عن الحزن الذي يمارسه الشراكسة هو أن يترجل الفارس عن حصانه في الجنائز من الجانب الأيسر للحصان. وكان معمولاً بهذا العرف في القفقاس أيضاً. وكذلك تلاحَظ بعض الشعائر الإسلامية كالقاعدة التي تفرض تقديم وجبة بعد الجنازة ببضعة أيام.
- في عام 1910 ارتكب أحدهم جريمة فظيعة ضد أحد مواطنيه الشباب، وقد قُتِل المعتدي من قِبل أقرباء الضحية تطبيقاً لمبدأ الثأر،ولم يشتكِ أحدٌ حتى إن السلطات العثمانية لم تدر بالأمر.
- هناك، مع ذلك، اتجاه واضح جداً إلى هجر مبدأ عدم التقسيم، تحت ضغط الأفكار المعاصرة. والنتائج كارثية فإن الحصص تصبح صغيرة على الزراعة الفردية. وحينذاك تتحول إلى ملكية جماعية.و كذلك فالنقود المدفوعة تُنفَق بسرعة في أمور تافهة.
- تبدي النساء أكثر فأكثر ميلاً إلى الحصول على حصصهنّ في الميراث. ويقدّر أن 60% الآن منهن يفعلن هذا.
- وهكذا ينظم للجرحى أيضاً حفلات هامة وألعاب وأغان طقسية.
- شهادة الدراسة الابتدائية. (المترجم)