العالم الثالث بين مطرقة التبعية واستبداد الفساد
تقرأ في التاريخ العربي، ولاسيما في عهد الأمويين، أنه كثيراً ما كانت القبائل العربية تتوجه في سنوات القحط يتقدمها زعيمها وخطيبها و شاعرها إلى بلاط الخليفة أو الوالي، تشكو إليه المجاعة المقبلة نتيجة انحباس المطر وسوء الأحوال الجوية، فيتكرم عليها الخليفة أو ممثله كرماً مشروطاً. فالمعونة عامل ضغط على هذه القبائل للإمساك بها " من يدها التي توجعها ". أما في سنوات الخير فكان جباة الضرائب يستردون هذه " المعونة " أضعافاً، فينهشون تلك القبائل مما يضطرها مرة أخرى أن تقصد الحليفة تشكو له سوء الولاة وجور الحكام... وهكذا ظل الخلفاء سادة الموقف في الحالين.
وفي العصر الحاضر تكاد الصورة تكون هي هي. مكان القبيلة والقبائل حلت معظم دول العالم الثالث، ومكان القصر الملكي حلت عواصم أوربا والولايات المتحدة. ولكن المطلوب لم يتغير: المعونة، وتخفيف الديون، وجدولتُها، وتقسيطها في سنوات الشُّحّ. وفي سنوات الخير، وهي نادرة، تعود العواصم الغربية صاحبة القرار والحل والربط فتنهش ما تبقّى من جسد العالم الثالث، وتلتهم ما استوى من ثماره وأوراقه.
والغريب أن هذا العالم الثالث عاش متوازناً نسبياً حتى في ظل الاستعمار المباشر، بفعل التوازن بين موارد الطبيعة والكتلة البشرية، فالجائحات والمجاعات كانت تحصد بالآلاف من حين إلى حين، بالإضافة إلى أن التزايد السكاني ظلّ في حدود ما تتحمله البيئة الطبيعية لارتفاع نسبة الوفيات. بل إن هذه البلدان ظلت تشكو قلة السكان. وبهذا يعلِّل بعض المؤرخين هزائم العرب أمام الحملات الاستعمارية المتتالية بدءاً بالحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، حتى إن العالم العربي في تقدير هؤلاء عشية الحرب العالمية الأولى ما كان يبلغ العشرين مليوناً. ومصرُ أم الخمسين مليوناً اليوم، (وعلى أعتاب المئة الآن عام 2018) كانت تعد أقل من ثلاثة ملايين. فلما دخلت الحضارة هذا الجزء المتخلف من العالم اضطُرت بلدانه لأن يقوم بعضها بالتعقيم الإجباري كالهند، وبعضها بالتحديد الصارم للمواليد كالصين. وحيث المشكلة أقلُّ إلحاحاً (ظاهرياً) لجأت السلطات إلى أساليب أكثر إنسانية كجمعيات تنظيم الأسرة والعقاقير الطبية.
والأمبريالية نفسُها التي استنزفت موارد العالم الثالث وأثقلت كاهله بالسلع الاستهلاكية والصناعات التحويلية، وربّت البرجوازية التجارية والعقارية، وأفسدت ضمائر الكثيرين من مسؤوليه، وفاقمت التفاوت بين الذين فوق والذين تحت، هي نفسُها التي أرسلت حملات التوعية الصحية والتلقيح ضد الأمراض لتزيد عدد المغلوبين على أمرهم، الذين يعيشون، لا على حافة الفقر، بل لأن دورهم في الموت لم يحِن بعد. أو لأنهم لا حظّ لهم في عيشة كريمة. يستغرب أحد المفكرين الغربيين الذين ما تزال في نفوسهم بقايا ضمير أننا (الغربيين) نلقِّح أطفال الهند وأفريقيا ضد الأمراض في الوقت الذي نعرف فيه أن هذا الطفل الملقَّح اليوم سيجمل لقاحه غداً إلى قبره؛ فما الغاية؟!
لعل الدافع الأهم لهذا المفكر قبل ضميره تنبُّهُه إلى الخطر الذي يتهدد الغرب نفسه نتيجة التدهور المستمر لمستوى معيشة العالم الثالث، التدهور الذي يمكن أن ينتهي بكارثة تحوُّلِ شعوب بأكملها إلى شعوب متسولة، او إلى الخطر الأعظم وهو تحوُّلُها إلى جيوش غازية كما كانت القبائل في العصور السالفة نغزو عندما تجوع.
يضع الدكتور مصطفى حجازي إصبعه على أحد الجروح في كتابه " التخلف الاجتماعي وسيكولوجية الإنسان المقهور " حين يقرر أن إنسان العالم الثالث يعاني من عنف مزدوج: عنف الطبيعة (جفاف، فيضانات...) وعنف المتسلط المستبد.
لماذا لا تصيب الكوارث الطبيعية – إلا ما ندر – غير العالم الثالث؟ ألأن الفقير حُكم عليه ألا يرفع رأسه؟ ليس هذا صحيحاً تماماً، فالصواب أن العالم الثالث لا يملك التقنيات التي يملكها الغرب لمواجهة الكوارث، كأجهزة الإنذار المبكر ضد الأعاصير والزلازل، ولا التقنيات الهندسية لإبعاد المراكز السكانية عن هذه الأخطار، أو تكييف وسائل البناء وهندساته. والصواب أيضاً أن حملة شرسة شنتها تلك الشعوب الفقيرة ضد الطبيعة " الطبيعية " في أقطارها، فأتلفت كما في شبه القارة الهندية مساحات شاسعة من الغابات بقصد استثمارها للزراعة ما دامت الأفواه الجائعة في ازدياد، فأفسدت التربة والمناخ، وعبثت بالظروف الجوية. وهذا ما يحدث الآن لغابات الأمازون، وهو ما لا يستطيع أحد تقدير نتائجه، لا على البرازيل وحدها، بل على العالم كله.
وإنسان العالم الثالث كما يقول د. حجازي عاجز تجاه هذين المظهرين المتضافرين: عنف الطبيعة وقسوة الحكام، قلقٌ دائماً. لا يملك وسيلة لمجابهة المفاجآت التي تحمل الخير أو الشر إلا التمسك بالماورائيات والخرافات، أو الاتكالية المفرطة، وهي كلها لا تنفع في مواجهة عنف الطبيعة. أما الحكام فربما كان لتقاليد العالم القديم وملوكه الآلهة أو أنصافها بقايا دور في استمرار توالُدِهم على النمط ذاته، مع بعض الاستثناءات طبعاً. وهم بشكل عام بدؤوا يعجزون شيئاً فشيئاً عن تحمُّل عواقب مسالكهم غير المسؤولة، عن احتمال انفجارات الجوع والكبت المزمنين، ونتائج المغامرات الحمقاء، وعُقد الجنون والعظمة، ولكن قسطاً من المسؤولية يقع على عاتق النُّظُم الاستعمارية التي احتلت هذه الأجزاء من العالم طويلاً.
إنها دول " رخوة "كما يصفها الاقتصادي السويدي غونار ميردال في كتابه " نقد النمو"، وذلك لأن في تشريعاتها جوانب من القصور تسمح بالانفلات والتحلل، ولاسيما في مراعاة القانون وتطبيقه، وتؤدي إلى عسف عامّ. فالموظفون على جميع المستويات يهملون القواعد والتوجيهات، وكثيراً ما يعملون بالتواطؤ مع أشخاص، أو مجموعات من الأشخاص الأقوياء. وتكاد تستوي في هذه الرخاوة الدول ذات الأنظمة البرلمانية كالهند وسيلان مع الدول ذات الأنظمة الاستبدادية المطلقة.
ولرسوخ الفساد في البلدان المتخلفة سبب هام في رأي الباحث هو عادة تقديم الرشاوى إلى السياسيين والموظفين، التي تلجأ إليها المشاريع الغربية من أجل الحصول على الأسواق وإنجاز أعمالها دون عقبات كبيرة. ويرى الباحث مع الكثير من مثقفي البلدان المتخلفة أن المشاريع الغربية موصومة بالعار وشريكة في الاستغلال والاستعمار والأمبريالية. ويسمي هذا المسلك من جانب الدول الغربية " قِصَرَ نظر عجيباً من جانبها " فرشوة الموظفين في دولهم جريمة خطيرة، ولكنها ليست كذلك عندما تقع في بلدان أجنبية؛ يقول: لا أعرف بلداً غربياً ليست سُمعتُه ملوثة بهذه اللطخة.
فإذا تركنا موضوع الرشوة والفساد السياسي والأخلاقي إلى موضوع المعونات وجدنا أن عالَم الأعمال الغربي إثر توظيف الرساميل في البلدان المتخلفة، حيث يمسك بزمام الأمور نظام من حكم الأقلية، حازمٌ مصمم على الإبقاء على الحالة الراهنة الاجتماعية والسياسية. ومن الطبيعي أن يكون قد تعامل مع الأغنياء والأقوياء في هذا البلد، وهو ما فعله حقاً، فعزز مواقع هؤلاء الناس في بلدهم، حتى أن رجل الشارع الأمريكي صار يتساءل: " ولماذا لا يفرضون الضرائب على أغنيائهم ويصلحون بلدهم قبل أن يتوجهوا إلينا بالاستجداء؟" والسب في هذا التوجه أن العالم الرأسمالي كان يفضّل أن يبُقيَ على البنى الاجتماعية والاقتصادية المتفاوتة في مستعمراتها لإحكام قبضتها. واستمر هذا التوجه حتى بعد زوال الاستعمار التقليدي، وبخاصة في عهود الحرب الباردة كعهد مكارثي ودالاس في أمريكا لأن مكافحة الشيوعية كانت العامل الحاسم في سياستها الخارجية، فكانت المعونة الخارجية مخصصة عن تصميمٍ لأنظمة حكم رجعية تماماً.
تأتي الولايات المتحدة في الطليعة من حيث تخفيض المعونات للبلدان المتخلفة. ومن حيث خداع الإحصائيات فإن المعونات العسكرية تدخل في هذه الإحصائيات، وهي معونات تنصبّ على الإبقاء على جهاز الحكم الموالي لها. وتدخل كذلك اعتمادات التصدير القصيرة الأجل والباهظة التكاليف، والتي لا تعتبر معونة أو مساعدة البتة عندما تجري بين بلدان متطورة. ويبدي خبراء البلدان المتخلفة موافقتهم على هذه الممارسة المخيبة للآمال مفضلين الرأي القائل إنه " ليس للموهوب أن يتدخل".
يحذِّر الكاتب الكولومبي الشهير ماركيز في روايته " الجنرال في متاهته "، وعلى لسان الجنرال التائه سان سيمون بوليفار الذي حرر أمريكا الجنوبية مضحياً بثروة أسرته وثروته الشخصية، ثم خرج منها وهو دون الخمسين من العمر مطروداً تلاحقه اللعنات والشتائم، يحذر ماركيز على لسان الجنرال من سياسة القروض التي مارستها الأوساط ذات الاتصال الوثيق بالغرب. صحيح أنه يقول: العدو في البيت وليس خارجه، ولكن هذا الذي في البيت مدعوم بالاستعمار، ولاسيما الولايات المتحدة، بلدِ الجبروت والفظاعة التي ستنتهي بكلامها على الحرية إلى الإيقاع بنا جميعاً في البؤس. إنه (الجنرال) يمقت الديون أكثر مما يمقت الإسبان المحتلين الذين حاربهم طوال هذه الأعوام، يقول:" سنبقى ندفع فوائدها إلى أبد الآبدين، وها نحن نرى الآن بجلاء: لقد هزمتنا الديون!"
لم يحمل الاستعمار بشكليه القديم والجديد رسالة حضارية. ولم يُفِد الشعوب المستعمَرة لتقف على أقدامها، وتحكم أنفسها بأنفسها. بل قادها إلى البؤس والدمار، وخلق فجوة رهيبة بين المدينة ذات الطابع الأوربي الزائف والريف البدائي المتوحش، كما هي حال إفريقيا اليوم؛ فمن يصدِّق أن القبائل الإفريقية تعيش إلى الآن في العصر الحجري تحت سماء المراكب الفضائية والأقمار الصناعية؟
ولكن خيال ماركيز، وكلَّ فنه وعوالمه الخرافية والسحرية لم تصل إلى التركيز الذي وصل إليه الزعيم الهندي جواهر لال نهرو يوماً حين قال: إننا نملك الطاقة الذرية، ونستخدم روث البقر!
* مجلة الرواد العدد 17