العقل في الفكر المعتزلي
ماري برنان
- العقل المدرك بوصفه مجموعة المعارف للكائن الكامل العقل:
يطرح مفهوم العقل[1] في الإسلام مشكلة مصطلحية لأنه على غرار عدد من الأفكار notion يختلف علم الكلام والفلسفة العربيان على فهمه اختلافاً شديداً؛ فمن المعلوم كيف أن الفارابي في رسالته عن العقل عرّف عقل المتكلمين قائلاً: " وأما العقل الذي يردده المتكلمون على ألسنتهم فيقولون في الشيء: هذا مما يوجبه العقل أو ينفيه العقل أو يفعله العقل أو لا يقبله العقل، فإنما يعنون به المشهور في بادي رأي الجميع، فإن بادي الرأي المشترك عند الجميع أو الأكثر يسمونه العقل "[2]. وقد حرض هذا المفهوم باكراً جداً في علم الكلام على إعداد أبحاث وأعمال مخصصة للتحقق من صحته. وليس مثلُ هذا الاهتمام مدهشاً لأن الخاصية نفسها التي لا تُنازَع لسلطة النقل تفرض ضرورة تحديد الدور الآيِل إلى العقل في إعداد هذا العلم discipline. إن علم الكلام في الواقع علمٌ نظري[3] يجد أساسه وسببه في الوحي.
ليس في القرآن، كما لاحظ قنواتي وغارديه كلمة " عقل". وبالمقابل تكرَّرَ الجذر اللغوي " ع ق ل " خمسين مرة تقريباً في صيغة فعلية هي:يعقل التي تعني: يفكر، أو كونه عاقلاً. وقد وجدنا سابقاً دليلاً على الطريقة التي ستدرك بها المعتزلة العقل – القوة LA RAISON – FACULE [4]. ومن المعلوم أن هذه المدرسة العقلانية انتُقِدت بسبب الأهمية المفرطة التي أولتها للوحي الإلهي على حساب السنة النبوية.
حاولت المعتزلة الكلاسيكية أن تشرح كلمة عقل شرحاً فلسفياً انطلاقاً من فكرة إقامة نوع من التوازن ومن التحفُّظ تجاه فيض الهوى الأعمى وسوء النية والحكم المسبق، فنقرأ في " المقالات " للأشعري أنه تبعاً لأبي علي الجبائي" ومعنى العقل إنما هو المنع، وهو مأخوذ من عقال البعير، وإنما سُمّي عقلاً من هذا... والبلوغ هو تكامل العقل... وإنما سمي عقلاً لأن الإنسان يمنع نفسه به عما لا يمنع المجنون نفسه. وإن ذلك مأخوذ من عقال البعير... ومنع صاحب هذا القول أن تكون القوة على اكتساب العلم عقلاً "[5]
والحق أن الإنسان لا يمكن أن يكون مكلَّفاً إلا إذا اكتمل عقله، فيصبح آنذاك قادراً على معرفة الله. إن هذا التصور CONCEPTION للعقل ناجم من اهتمام تشريعي – ديني يُحِلّ مفهوم العاقل محلّ العقل. ورغم ذلك أثار الشرح الفلسفي الذي قدمه أبو علي الجبائي اعتراضاً من الأشعري يرويه لنا تلميذه السبكي في "طبقات الشافعية "[6] "دخل رجل على الجبائي فقال: هل يجوز أن تسمي الله تعالى عاقلاً؟ فقال الجبائي: لا، لأن العقل مشتق من العقال وهو المانع، والمنع في حق الله محال، فامتنع الإطلاق. قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: فقلت له: فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيماً لأن هذا الاسم مشتق من حَكَمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة من الخروج... فإذا كان اللفظ مشتقاً من المنع، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق " الحكيم على الله سبحانه وتعالى".
ها هو نوع من الإلزام ينتقد المنهج الاشتقاقي في التفسير المعتزلي، ويشدد هذا النقد على المظهر الشكلي الصرف لبعض الحجج الخاصة بهذه المدرسة، وهي أنها تعتمد على الكلام بمعناه الصرف. تكشف هذه الحكاية التي تفرز من سياقها سمة خصائصية للنظرية المعتزلية عن المظهر القمعي DEFENSIF لمفهوم العقل. وهناك مقطع واضح في "شرح الأصول الخمسة " في الجزء الذي يعالج حدوث العالم[7]، ويدحض نظرية خلود المادة ETERNITE (8)، يذكر المؤلف فكرة العقل:
" إن قيل: أين أنتم من القائلين بالنفس والعقل، وعمّن يقول بإثبات علة كنّى بها عن البارئ، وكذلك أين أنتم من أصحاب النجوم الذين أضافوا هذه الحوادث إلى تأثيرات الكواكب؟ والأصل في الجواب عن ذلك أن القول بالنفس والعقل والعلة إشارةٌ إلى ما لا يعقل لأن العقل في الشاهد يدل على فاعلٍ مختار حتى صار كالحقيقة فيه فلا يتغير شاهداً وغائباً. ولو أنهم أرادوا بذلك الفاعلَ المختارَ فلا مشاحة بيننا وبينهم إلا في العبارة، والمرجع فيها إلى أرباب اللسان وأهل اللغة. ومعلوم أنهم لا يسمّون الفاعل نفساً ولا عقلاً ولا علة"[8]
موضوع هذا المقطع تفنيد النظريات الفلسفية التي تتبنى مبادئ التفسير ذي الطابع العقلاني. إن العقل مدرَكاً كمبدأ لتفسير العالم M0NDE [9] يزيح الإيمان بإله عليٍّ خالق للكون UNIVERS [10]. ولكن ممّ يتألف إذن هذا العقل الذي يسِم الإنسان بأنه كائن ناطق ومفكر؟ إن الفصل الذي يعالج موضوع الكائن البشري بصفته مكلَّفاً يقع في المجلد العاشر من " المغني "، وهو الذي يسبق المجلد الذي يعالج النظر والمعارف.[11]
رأينا في الجزء الثاني من هذه الدراسة كيف كان القاضي وأساتذته يدركون الكائن البشري (الإنسان)، وتعريفهم للإنسان العاقل المكلَّف[12]. وبعد تحليل مائية[13] المكلف يأتي استقصاء صفات هذا الإنسان[14]. إن المكلف قد وُهب القدرة حتماً[15]، وقد جعله الله بالضرورة قادراً على إنتاج الفعل المكلَّف به عن طريق آلات معينة[16]. ويعود إلى العقل والعلم كي يحسن التكليف[17]. وبعد هذا يأتي الجزء الذي يعالج مائية العقل، ويتبع هذا الجزءَ جزءٌ يبيِّن أنه من أجل أن يحسن التكليف عليه أن يوهَب الرغبة والرهبة. وهذا السياق معبّر؛ فالتكليف سبب منح العقل للإنسان، وهذا العقل ليس إمكان القدرة على المعرفة INTELLECT؛ إنه تنظيم محكَم جيداً، قادر على إنتاج المعارف الضرورية للمكلف. يقول القاضي: " اعلمْ أن العقل عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة متى حصلت في المكلف صحّ منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ما كُلِّف به "[18]
تناقش هذه الأسئلة الأربعة بمساعدة الحجج التي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1 – إذا كان المقصود بالجوهر هو أن العقل بالنسبة إلى هذه المعارف المحدودة أصلٌ لها فهذا مسلَّم به. ومع ذلك فإن هذا المعنى مناقض لاستعمال اللغة الجارية والاصطلاح. ومن المعروف أن لفظة "جوهر" تشير في علم الكلام إلى الجوهر الجسمي، ورغم ذلك يمكن أن نفهم من الجوهر الأصلَ الذي يحدد هذه المعارف. وفي هذه الحالة فهو معقول من جهة المعنى، ولكن نخطئ في اللفظ[19]. ولا يمكن أن نقول عن العقل إنه جوهر جسمي[20]. والواقع أن العقل يسبب لدى العاقل أن يكون عاقلاً، وهو عرَضٌ خاصّ يعيِّن الكائن الحيّ في جملته، لا حسب أجزائه الجسمية. إن صفة العاقل لا يمكن إثباتها بصيغته الجسمية CORPORELأي بالتجاور CONTIGUITE. والحال أنه إذا كان العقل وجوداً جسمياً فلن يستطيع أن يكون غير ذلك. إن الجسم حامل ولا يمكن أن ينفصل عما يحمله. ويمكن الاعتراض بأن تعريف العقل بفكرة الوجود الجسمي معناه التأكيد على أنه جسم لطيف، ولهذا السبب لا يمتزج بأجزاء الجسم الأخرى. وهذه الحجة مرفوضة لأنها غير مقنعة؛ فمعنى الجسم اللطيف هو أنه عرَضٌ مستقر في جزء من الجسم، فلا يستطيع العقل حينئذ تحديد صفة العاقل التي تخص جملة الكائن الحي. إن هذا التفنيد نقدٌ لنظرية أهل السنة والجماعة التي ترى أن العقل جسمٌ لطيف وعاؤه الرأس، وفِعلُه ينتج في القلب.
2 – وفضلاً عما سبق فهذه النظرية ليست إلا وسيلة لتقريب تعريف العقل بفكرة الآلة. فإذا كان يُفهم من كلمة " آلة " أن العقل وسيلة لتحصيل العلم والدلالة بمساعدة البراهين فهذا صحيح من جهة المعنى، ولكنه خطأ من جهة العبارة. والحق أن المقبول من الجميع، وما يقبله المعنى الاصطلاحي هو أن الآلة جسم. ومع ذلك فإن تعريف العقل بأنه آلة أدقُّ من تعريفه بالجوهر الجسمي.
- – والتأكيد على أن العقل عضو حساس (حاسة) خطأ؛ فإما أن هذا العضو الحساس جسم له بنية مخصوصة كعضو السمع والبصر، ولكن هذا لا ينطبق على الأعراض، وإما أن كلمة " عضو " تُفهم بالمعنى المجازي، فالعقل ليس شيئاً آخر إلا ما تُحصَّل به المعارف، فهذه المعارف منتَجة إذن بالنظر والاستدلال، وهنا نقع ثانية في العيب الذي أساسه استعمال لفظة غير دقيقة للدلالة على معنى مسلَّم به. وفي الحقيقة لا يمكن أن نسمي كل ما يُنتج العلم بالعضو الحساس، بل ما يدرك موضوعاً فحسب، ويزودنا بفضل هذا الشيء نفسِه بطريقة للمعرفة؛ وهكذا فالبهائم تدرك ولكنها لا تعرف. إن القدرة على الإدراك لا يمكن أن تلتبس بالقدرة على العلم، وكذلك فكون المخلوق عاقلاً ليس إلا كونه عالماً هذه المعلومات المخصوصة. ومن يؤكد أن العقل عضو حساس فهو كمن يؤكد أن النظر (الفكر) عضو حساس.
- – أما التأكيد على أن العقل قوة فهو صحيح إذا فُهم من القوة faculté الشرطُ الذي لا يمكن الاستغناء عنه لممارسة النظر والاستدلال. وإذا كان يُفهم من القوة puissance[21] القدرة على التصرف التي تسبق الفعل فهذا خطأ. إن هذه القوة الأخيرة هي إمكان إنجاز الفعل أو نقيضه. وقد ينتج عن هذا أن الإنسان، بالعقل، قد يكون عاقلاً دون إنتاج المعرفة، أي دون كونه عالماً.
يهدف هذا العرض المسهب إلى إظهار سقوط القاضي من أجل الدفاع عن تصوره للعقل في عيب ينتقد عليه خصومه. فعندما يقبل أن العقل يمكن أن يكون أصلاً يجعل المعارف المحددة ممكنة فهو يؤكد تعريفه الخاص للعقل، لأن العقل في المحصلة إما ان يكون كتلة من المعارف المعينة التي تستطيع توليد معارف جديدة، وإما أنه هو الذي يسمح ببناء هذه المعارف المعينة. ويمكن أن يقال هذ أيضاً في نقد العقل – الآلة. إن المعتزلي الخبير بمناهج التفسير الرمزي، والذي يعتمد تماماً على التمييز بين الحقيقة والمجاز، ليس اعتقاده صحيحاً حين لا يقبل إلا المعنى الفيزيائي لمفهوم الآلة. وأخيراً يمكن أن تنطبق هذه الملاحظة نفسُها على قبول لفظة "حاسة " ولفظة " قوة". وحاصل الكلام أن الرفض المشوش للمعاني المختلفة الممكنة للعقل – القوة يفرضه المظهر القمعي الذي يسِم الغنوصية gnoseologie المعتزلية[22]. والحقيقة أن نظرية المعرفة المعتزلية تفرضها فكرة "واجب الفعل " التي تفترض معرفةً لا تصبح ممكنة بدورها إلا بالقدرة على الفعل. إن عقل المكلف لا يستطيع إذن أن يكون مدركاً إلا كعقل مبني، ولا يمكن أن يُعدّ بانياً في أصله؛ فالعقل هو الذي يجب أن يستطيع الفاعلُ تهيئته لينجز عملاً، وهذا العمل جبري في ذاته ولكنه حر في ما يتعلق بتحقيقه، وبعبارة أخرى: إن ما يحصِّله الفاعل ذاتياً بسبب حرية اختياره وبسبب مبدأ تقدُّم القدرة على الفعل ملغىً في المجال المعرفي. ((néotique[23] بسبب الأمر الأخلاقي (éthique)[24] بالتكليف. وهكذا ليس العقل هو نفسَ العالَم أو العقل الأولي للفلاسفة القدامى، وليس العقلَ النظري للفلاسفة، بل هو عرَضٌ خاصٌ (معنى)، أي هو كائن (entité)[25] جسمي قابلٌ لتوليد المعارف.
" العقل عرضٌ تبعاً لبعض المعتزلة. هؤلاء الذين يُثبتون أن العقل عرَضٌ يذكرون السبب التالي: يقال إن فلاناً عاقل من "العقل" كما يقال عالِم من "العلم" وجالس من " الجلوس "، والحال أن هذه كلَها أعراض[26].
بالإجمال إن الإدراك الذهني المعتزلي للعقل يتعلق بهذا المفهوم الخصائصي للمعنى. وهذا الكائن اللاجسمي هو الذي يجعل الإنسان عاقلاً. ويتألف هذا الكائن من عدد من المعارف التي تحدد في الإنسان صفة العاقل. ولكن متى وكيف تُنتج هذه المعارف؟ لا يجيبنا القاضي. ومع ذلك فمن المعلوم من خلال المقالات أن النضج العقلي حسب معظم أهل الكلام مصاحب للنضوج الجسمي (البلوغ)، إنه سِنُّ الرشد[27]، وهذه السن تحدد المرحلة الحياتية التي يستطيع فيها الإنسان أن يجد نفسه يمتلك المعارف التي تفرض وصْفه بالإنسان الواعي والعاقل. وهذه المعارف أربع تبعاً للقاضي: فالدرجة الأولى لاكتمال العقل هي المعرفة الاستبطانية التي قيل عنها إنها أساس كل معرفة أخرى، إنها معرفة الكائن بنفسه، أي وعيُه بأن له حالات خاصة، كأن يكون مريداً أو عالماً أو مقتنعاً. وقد نوقش طويلاً في المجلد المفقود من المغني وهو (المجلد) الذي يعالج الصفات. إن من لا يعي حالاته بوضوح ليس قادراً على معرفة الموضوعات الأخرى للمعرفة. وتتعلق مسألة الوعي بحالاته معرفةُ تعلُّقِ الفعل بالفاعل؛ فمن لا يعرف نفسه بصفته مريداً لا يعرف إن كانت الأفعال التي يُصدرها هي بقصده ودواعيه. وفي المقام الثاني فالفرد الذي اكتمل عقله هو الذي يعرف حال المدركات، ككون الأجسام قابلة للاتحاد والانفصال، واستحالة كون الجسم الواحد في مكانين معاً. ولن يستطيع الكائن إجراء الدلالة التي ستسمح له بإثبات حقيقة الأعراض وحدوثها، وكذلك حدوث الأجسام ما لم يعرف هذه الحقائق البديهية؛ فكل هذه المعارف تعتمد على معرفة ما يمكن أن يحدث للأجسام. وانطلاقاً من هذه النقطة الأخيرة يمكن معرفة الأشياء غير المدركة بالحواس، وهذا ما يرفضه أنصار خلود المادة (أصحاب الهيولى)، وفضلاً عن ذلك فإن معرفة حالات الأجسام تشترط معرفة أن الجسم لا يمكن أن يكون في الوقت نفسه مخلوقاً وغير مخلوق، وموجوداً وغير موجود. وينطبق هذا على كل الأوصاف؛ فالعقل يعلم أن الشيء الموصوف يوجد حسب صفة أو أخرى. إن هذا اليقين يعتمد على معرفة أن الأجسام مخلوقة كالأعراض. وهذا ما يرفضه أنصار الطبيعة الجسمية لله (المجسِّمة).
ويفترض اكتمال العقل أيضاً التمييز بين الخير والشر، ومعرفة واجب التكليف[28]. وحينئذ يمكن معرفة الخاصة السيئة للظلم والكذب، وواجب شكر الله. ولن يستطيع المكلف دون هذه المعارف أن يبتلي الخوف من عدم ممارسة النظر (التفكير). إن ابتداء التكليف يعتمد على هذه المعارف، ولا نعرف بدونها استنتاجَ نفيِ قيام الله بالشرّ، ولا نسبة الخير إليه.
وأخيراً ينطوي اكتمال العقل أيضاً على معرفة عدد من الدواعي التي لا يمكن دونها معرفة الألطاف الإلهية، ولا يمكن للمكلف أن يصل إلى مبادئ التكليف، ولا أن يعرف كل ما يترتب على هذه المبادئ ما دام لا يعرف الأضرار التي يجب تجنبها، والفوائد التي يجب التماسها.
وباختصار تؤلف تبعاً للمعتزلة الجبائية مجموعةُ المعارف الضرورية لاكتمال التكليف العقلَ المطلقَ.
2 – العقل المدرك: concue بصفته قوةً faculté متصوِّرة (عاقل ومعقول).
إن المجموعة المتماسكة للمعارف الأساسية الضرورية لكائن ما، والمتعلقة بالتكليف هي إذن تلك التي يسميها القاضي بـــــ العقل. ولكن ألا يُفترض من أجل أن يتكون هذا العقل الذي يرفض مؤلف " المغني " أن يعدّه إمكانية صرفة (قوة)، تشغيل قوة استدلالية ومكونة للمفاهيم، بل مبدِعة؟ إن هذه القوة التي سيسميها فيلسوف كديكارت " فهماً "[29] entendement ليس لها مكان في المنهج المعرفي للقاضي. والحق أن المظهر النظري théorique، وإن صح القول الاعتباطي gratuit، للسؤال لا يهمّ القاضي. وهو ما يأخذه الفيلسوف الفارابي على أهل الكلام، ويؤكده القاضي بطريقة واضحة معالجاً مصطلحات المعارف المحددة التي تسِم الإنسان المكتمل: " والأصل في ذلك أن الغرض بالعقل ليس هو نفسَه، وإنما يراد [ ما ] توصل به إلى اكتساب العوم والقيام بما كُلِّف به من الأفعال "[30]
ومن الواضح أن القاضي يتجنب عمداً الجانب الفلسفي للمسألة، وهو جانب بعيد بداهةً عن أن يُجهل، وفي كل الحالات يبطِّن الشروح المفصَّلة للمغني.
إن التمييز الذي يجريه الكائن بين حالاته المختلفة، ومعرفةَ حدوث الأجسام، وإدراكَ الفروق بين فعل الخير وفعل الشر، هي كذلك نتائج استخدام المبادئ الأولى للعقل، والمقصود هو مبدأ التوافق identité لعدم التناقض، أو العقل الكافي raison suffisante. وما يسمى بالعقل في هذه الحالة هو خاصة إعداد التصورات conceptualiser بهدف تأسيس علاقات العلة بالمعلول، والسببِ بالنتيجة. ولكن ما دام الذي يهم القاضي ليس العقلَ لأجل ذاته بل لأجل ما ينتجه فإن جهده في التحليل منصبٌّ، لا على طبيعة الفكرة، بل على كون الإنسان موهوباً العقلَ (عاقلاً). إن المهم في سياق المغني هو تحديد خصائص العاقل وسلوكه بحد ذاته.
ومهما يكن فإن إعداد هذه المجموعة من المعارف المحددة يتضمن القدرة العقلية على المنهجة والتجريد، وهي مهمة لا ينبس القاضي بشأنها بكلمة. ويرفض التساؤل عن مضمونها، ومع ذلك فإن مؤلفاً كالمطهَّر (ت 355 = 966) لم يتجنب التصدي لهذه المسألة حسب المنظور الفلسفي، وعرّف العقل في كتاب " البدء" على أنه قوة فطرية ذات أصل إلهي، قادرةٌ على تمييز الحق من الباطل، والخير من الشر. ويفسر العقل بأنه أم العلوم الذي يؤدي إلى الأفكار، والذي هو قابل اليقين. إن التفسير الفلسفي لكلمة العقل مذكور بتشبيهه بعقال البعير دون أن يكون مع ذلك منسوباً إلى المؤلف. وبالمقابل يبدو أن تعريفات الفلاسفة القدماء للعقل أقنعت المطهَّر، وخصوصاً فلسفة أرسطو التي ذكر منها كتاب " البرهان" وكتاب "الأخلاق ". ثم يتبعه ذِكْرُ شرح إسكندر الأفروديسي[31].
إن التعريف الذي يقدمه القاضي للعقل هو نتيجة اهتماماته العقائدية. ومع ذلك يبقى المفهوم الفلسفي للعقل في خلفية مجموع الوسائل التصورية التي يلجأ إليها هذا المتكلم ومدرسته. ونستطيع أن نقرأ مثلاً " بالعقل نميِّز ما يُدرك بالحواس، ولولا ذلك لما تميَّز. ولذلك لا تتميز للبهائم المدركاتُ حسب تميُّزها للعقلاء" ويستخدم القاضي بعد ذلك هذا التعبير "العقل هو المعيار على الحواسّ "[32]
يمكن سوقُ عدد من هذا النوع من الأمثلة؛ ولكن ماذا يمكن أن يُفهم من ذلك إلا أن العقل مدرك كقوة force منظمة وكقوة faculté قادرة، انطلاقاً من شيء محسوس، على إعداد التصورات concept التي تحلل الوحدة الضمنية للواقع؟ الحق أن تفكير المتكلم والفيلسوف يتوجهان إلى ساحتين متمايزتين اعتباطاً، ولكن إحداهما تفسر الأخرى. والمقصود رؤيتان للعالَم يفصلهما الفكر فصلاً مصطنعاً. والموضوع المشترك في هذه الحالة كما في الأخرى هو البحث عن أصل principe لتفسير الواقع، والأداة هي هي: النظر أو الامتحان العقلي.
والخلاصة أن عقل المتكلم المعتزلي هو ratio[33] الفيلسوف، مخضَعاً للمتطلبات الكلامية والموضوعة في خدمة فكر المؤمن غير العالم profane الذي هو بصدد التأمل النظري[34]. ويكفي برهاناً هنا دلالة كلمة "معقول" التي تظهر في شروح المغني: إن هذه الكلمة تعبّر في الفلسفة العربية عن فكرة "ما لا يدرَك بالحواس"[35] وترجمتها بلغة المعتزلة أقل بساطة. وتستخدَم هذه الكلمة عندما يكون المقصود نفيَ يقينية فكرة يعتمد عليها دليل الخصم. ويصاغ هذا النفي بعبارة "غير معقول" التي يمكن أن تُترجم إلى الفرنسية بعبارة غير قابل للإدراك non concevable، أو كما يشير برونشفيغ "غير قابل لأن يكون مدرَكاً. ويرفض القاضي كذلك فكرة طبع أهل الطبائع لأنها ليست مؤسسة على العقل "غير معقول". والواقع أن كلمة معقول في المعجم الفلسفي لعلم الكلام هي اسم المفعول من فعل "عقل"، ويدل على ما هو مؤسس على العقل. ولكن انطلاقاً من التجربة المحسوسة " المشاهدة " فالمعقول يخص واقعاً لا يمكن بلوغه بالحواس، ولكن يمكن إثباته انطلاقاً من واقع ظاهر " شاهد". وهكذا يرفض القاضي في المغني 12 /95 وما يليها نظرية ابن كُلّاب. ووفقاً لرأيه يتكلم الله لغة شبيهة بلغتنا، يقول القاضي "فمن قال إنه تعالى متكلم بكلام مخالفٍ لكلامنا فقد أثبت ما لا يُعقل، وهو بمنزلة من أثبت بالله حركة مخالفة لما نعقله من الحركات"
من الواضح أن فكرة المعقول ضمن هذا السياق تتعلق بتجربة المحسوس. وتُعيّن انطلاقاً من هذه التجربة ما يمكن أن يُتصور أو يُدرك متطابقاً مع غير المحسوس. لا يعبر المعقول عن قابلية الإدراك الصرف للكائن [ الذي هو العقل ] بل عن الخاصة العاقلة للانتقال من واقع معيش في العالم اللامرئي. وتبعاً للمعتزلة فإن الشيء " إنما يُعقل بصفاته وأحكامه " وما يمكن إدراكه، أي معرفته، هو القابل للضبط بالعقل، وهو شيء واقعي لأن له وضعاً فعالاً. وبهذا يقترب المعقول من الموهوم، أي ما يمكن تخيُّلُه. وبالنسبة للمفكرين الجبائيين ليس المعقول عكس المحسوس كما يؤكد المطهَّر، بل هو ما يمكن إدراكه انطلاقاً من الواقع الظاهر. إن المعقول هو قبل كل شيء ما تدركه الحواس. وفي اللغة الدارجة تعني " غير معقول" ما هو غير ممكن، أو بعبارة أخرى: شيء لم يُشهد قطّ، ولا يمكن الإمساك به واعتباره شيئاً يمكن إدراكه. وعلى هذا يمكن ترجمة " غير معقول " إلى " لا معنى " non sens، وكذلك التعبير " لوجهٍ معقول " يجب ان يُترجم إلى" لسبب يمكن إدراكه".
والواقع أن فكرة المعقول كما فهمناها هي النتيجة اللازمة لمفهوم المعنى. إنه تصوُّرٌ يقع في منتصف المسافة بين التجريد الصرف والحقيقة الملموسة. إن المعنى هو " الكائن " entité الذي يفسر حدوث عرَض في داخل جسم. وليس تجريداً صرفاً، بل هو حقيقة لا جسمية تسمح بشرح التغير والانتقال من حالة إلى أخرى. وكذلك فالمعقول ليس المدرَك الصرف ولا المحسوس المادي concret بل هو ما يدركه الفكر حسب نوع الوجود الممكن. إن المعقول (المفهوم) هكذا، والمعنى معنيان كليان لمنهج يوقف التحليل المنطقي للواقعي reel على عتبة ساحة الأنتروبولوجيا[36]، والذي هو مقُود لهذا السبب إلى تشييء المعاني الكلية المخصصة لشرح واقع الكائنات.
استنتاج
ازدواجية المسعى الاعتزالي
لا يمكننا في نهاية هذه الدراسة إلا التذكير بالملاحظة التي قدّم بها ج. فانيس لمؤلَّفه على نظرية المعرفة تبعاً للإيجي، والذي صدرت طبعته الثالثة منذ عهد قريب، وهي أن علم الكلام الإسلامي علمٌ صعبٌ، ليس لأن القضايا التي يطرحها شائكة فحسبُ بل لأن اللغة التي عبر بها عن نفسه تبقى عصية على الفهم المباشر. إن علم الكلام المعتزلي، وهو المؤلَّف من شِراك ومن صعوبات من كل نوع، يظل علماً بالجُهد الشاقّ (الكُلفة)، ويتطلب كثيراً من المثابرة. وليس في هذا ما يُدهش لأن ما يتطلب بحثَه التأملي هو موضوعُ التكليف بالتحديد الذي يُخضع اللهُ المتكلم بواسطته إلى تمرين ملزم. إن هذه المحنة، مهما كانت صعبة، خيِّرة في آخر المطاف. لا نشك أن قارئنا خضع لتجربة شاقة ولكن نتأمل أن يستفيد من هذا العمل خيراً أو نفعاً على الأقل. وسنحاول في هذا الاستنتاج، مساعدة أولئك الذين يهتمون بمثل هذا العلم على أن يستخلصوا أحسن ما في الدراسة، نحاول أن نوضح أسباب صعوبة القضايا المطروحة، والأسباب التي جعلت مصطلحات علم الكلام المعتزلي ليست سهلة البلوغ. وسنحاول أخيراً أن نستخلص المسائل التي ينصبُّ عليها بحث الجزء الثاني عشر من المغني.
تأتي الإشكالية المعتزلية في الحقيقة من إشكالية " الكلام ". وبوضوح تام فإن المعتزليين الأوائل هم الذين حاولوا أن يجدوا أساساً عقلانياً لمسلَّمات الوحي القرآني دون أن يخشوا استنطاق الكتاب المقدس، ولا التساؤل عن أصالة الحديث النبوي. وقد اقترحوا، مستلهمين بالتأكيد من النظريات الفلسفية التي كانت شائعة في عصرهم ووسطهم، حلولاً قد تُزعزع في أعماقهم الأسس الدينية للإسلام، وأن تهزّ مصادر العقيدة الإسلامية. لقد كانوا أنصاراً مخلصين لدين محمد، ولكنهم كانوا قد ورثوا ثقافة لم يكن استلهامها من الوثنية والمسيحية أقلَّ من المصادر الأخرى. ولا ننسَ أن معظم المؤلفين المعتزليين القدماء كانوا من الموالي. إن القلق الذي جربه المتكلمون، سواءٌ منهم الأشعريون أم الحنابلة، كما المعتزلة، بخصوص نظرية الإجماع التي تعود إلى النظّام معروف جداً. وكانت هذه النظرية الأخيرة تذهب باتجاه يخالف فكر أصول الفقه إلى حدٍّ يجعلنا نفكر في أن النظّام تصور نظاماً للأصول يخالف تماماً الأصول التقليدية. وكذلك لم تكفَّ نظريات معمَّر وبِشْر بن المعتمر حول المعنى والتوالد engenderment والمعرفة الطبيعية عن إقلاق المتكلم عبد الجبار صاحب المغني. ويكفي برهاناً إلحاح القاضي على الالتزام بنقد هذه النظريات في المجلدات المختلفة من المغني، وبخاصة المجلدان 11 و12 المتعلقان بنظرية المعرفة.
تأتي الصعوبة التي يصطدم بها الكلام للوصول إلى حلول لقضية المعرفة من الجهد الذي يتطلبه همُّ التوفيق بين التأكيد على الاستقلال الذاتي للعقل الإنساني وبين متطلبات الإيمان بالوحي القرآني. وكانت هذه الصعوبة تقوى في عصر الاعتزال القديم بسبب الاحتكاك، ربما الوثيق، بين المعتزليين الحديثي الاعتزال وأنصار الارتيابية الذين رأينا أنهم كانوا أيضاً خصوماً للقاضي. إن مشكلة التحقق من المدرسة الارتيابية قد تكون على علاقة مع ما تطرحه إعادة بناء نظريات الجاحظ ومعمَّر انطلاقاً من انتقادات المعتزلة المتأخرة. ويمكن القول إنه بقدر ما كان يظهر متكلمو المعتزلة الكلاسيكية خائفين من أن نظريات الاعتزال الأول تمثل خطر الانقلاب إلى المادية الإلحادية فإن نقد الارتيابية ونقد النظرية الهيلينية للمعتزليين الأوائل يبدوان متصلَين اتصالاً وثيقاً. وقد رأينا أن ما ذكره بعض مؤرخي الفرق عن الفكر السفسطائي الارتيابي يجعلنا نعتقد أن المؤلفين المسلمين كانوا يعرفون تيارات الفكر الارتيابي والرواقي؛ فكيف جرى هذا النقل؟ يبقى السؤال مطروحاً.
تتعلق الملاحظة الأولى التي تفرض نفسها عقِب هذا البحث بتاريخ الأفكار؛ فليس هناك اتصال نظري تام بين الفكر المعتزلي القديم والنظام الجبائي. ومهما يكن فإن أنصار الاعتزال الكلاسيكي يَعدّون أسلاف الكلام المعتزلي معلمين فكريين. وهذا صحيح على الأقل لعدد منهم. وفي النصوص التي وصلتنا يسمي مثلاً أبو الهذيل النظّامَ غالباً "شيخنا". ومن المعروف أن الأول منهما أدى دوراً حاسماً في التوجه الذي أخذه الفكر المعتزلي. ويشير ه. س. نيبرغ في مقاله عن أبي الاعتزال إلى أن أبا الهذيل هو الذي أدخل في النظر المعتزلي مفهوم "عرَض" الأجسام والذرّة التي يسميها " الجوهر". وخَدَمته هذه الأفكار، بقيمة فيزيائية صرف في البدء، كأساس للعقيدة بالمعنى الصرف للكلمة في علم الكون cosmologie[37] والإناسةanthropologie [38] والأخلاق. ويكمن هناك إبداعه الأكثر أصالة وثقلاً بنتائجه. فهذا الإبداع هو الذي أعطى النظرية المعتزلية خاصيتها الميكانيكية. لقد رأى نيبرغ أن الخاصية الأصيلة للفكر المعتزلي تعود إلى مؤلفين قدماء ربما كانت لديهم حرية الفكر بالمعنى الواسع للكلمة " أكبر "؛ فإن التشدد العقلاني لهؤلاء المؤلفين لم تكن قد عطلته بعدُ ضرورةُ بناء منهج متين يضع الكلام في مأمن من كل إنكار.
بين الاعتزال الأول والاعتزال الكلاسيكي تنبثق فجأة ظاهرة الأشعري، سليل صفوف المعتزلة. إن الأشعري، بسبب اليقين الديني، ولكن ربما أيضاً بسبب الضرورات التكتيكية، وبسبب شاغل التماسك المنطقي، سينكفئ لينضم إلى صف الجبرية التي تجاهر بالقدرة الإلهية الكلية، وترفض أن تعطي للإنسان أي إبداعية. وهذا الخصم ومدرسته المسماة " المجبرة " هو الذي سيلاحقه قلم القاضي. إن المعركة الكلامية لا تقتصر على نقد نظرية القدرية، بل تتوجه أيضاً إلى نظرية المعرفة؛ ففكرة إدراك المعنى للأشاعرة يحاربها القاضي. ويرفض القاضي كذلك فكرة المعرفة المدرَكة كإدراك لِما يمكن معرفته ليُحلّ محلها فكرة الاقتناع في ما يتعلق بموضوع المعرفة، وهي طريقة لإعادة إدخال نشاط الإنسان في العمل الإدراكي في مقابل الرأي الأشعري الذي يرى أن المعرفة إدراك، أي فهْمٌ منفعل لما هو قابل للمعرفة. وهذه النظرية هي نتيجة أقدمية الوحي على العقل. والمعرفة كذلك هي تطابُقُها مع المعروف، كما أن العلم هو التوافق مع مسلَّمات الوحي؛ وبالتالي برهنتُها عقلياً بمساعدة المبادئ الأولى للعقل.
تبدو إذن إشكالية المعتزلة الجبائية، كما يُستخلَص من مؤلفات القاضي، نتيجة حرب كلامية التزم بها على جبهتين: الجبهة الأولى المستهدفة تقع على أرضها نفسِها، فهي تعدُّدُ وتعقُّد مجموعة الآراء التي ظاهرها انتقائي ولكنها قليلة المنهجية، والتي تفسح المجال للتعبير عن ذهنية مدرسية جامدة مُلزِمة.، كما هي على الأقل حال الانطباع الذي يسببه الغياب شبه الكلي للمصادر المباشرة للموضوع والطابعُ المبعثر للمعلومات التي تزودنا بها متفرقات المصادر غير المباشرة. والخصم الثاني المستهدف الذي هو أساس شروح القاضي هو معسكر التقليدية الخَلقية creationniste[39] والحقيقة أن المبدأ الرئيس للمعتزلة الكلاسيكية يتضمن إعادة القدرة على الفعل للإنسان، وهي القدرة التي حرمتها منه النظريات السُّنّية، وبخاصة الأشعرية. إن الخصم ليس الفيلسوفَ المشتبهَ بماديته، بل المتكلم المتَّهم بالجبرية predeterminisme. ولأجل الاعتراف للإنسان بشيء من القدرة على الفعل يجب منحُه القدرة على عقلنة إيمانه. وليست الذهنية العقلانية هي التي تتطلب الكلام المعتزلي بل هو إلحاح التسليمية التي تبتُّ في الإدراك النفسي الإنساني، وكذلك الطريقة التي بنت بها نظرية المعرفة المعتزلية نفسها. إن نظرية المعرفة في المعتزلية تقوم على منهج متناقض: تَعتبر القدرة على معرفة الحق بالعقل متقدمة على الوحي، وفي جميع الأحوال، فالقرآن، طريقة التعبير عن الوحي، مصدر لكل حقيقة قابلة للمعرفة، وينتج عنه وضْعٌ ملتبس وعقيم إلى حدٍّ ما للفكر الذي يبدأ في البحث عن الحقيقة. وبوجهة النظر هذه يخاطر الإعداد العقلاني للمعرفة بأن يكون مكبوحاً بعقلية تسليمية قّبْلية. والواقع أن إثبات أن العقل يستطيع ويجب أن يعرف ما سيؤكده الوحي هو اعتقاد المؤمنين الذين يتقبلون مهرباً منهجياً أكثرَ منه طريقة ديالكتيكية يمكن أن تبلغ حدَّ التوليف النظري الخصب. ومن المهم توضيح هذا الحكم بالاعتماد على النصوص التي يعرض فيها القاضي بنفسه منهجَه.
2 – وصية منهجية من مؤلف المغني
" هذا ولا ظُلمَ أعظمُ من خروج المرء عن طريقة الصواب في العلم والعمل؛ فإن في ذلك من الخسران في الحال والعاقبة ما لا مزيد عليه. وقد قال الله تعالى ﴿ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السُّبُلَ فتفرق بكم عن سبيله﴾ (الأنعام 6). وهذا الصراط المستقيم لا يُعلَم بالمشاهدة، فالواجب على المرء أن يتبع الأدلة وينظر فيها ليعلم وليكون عملُه بحسب ذلك؛ فالطريقةُ في ذلك واحدة، والخروجُ منها السبُلُ المتفرقة التي لا يمكن حصرُها لأن الجهل لا طريق له يحصره "
هذا المقطع من " فضل الاعتزال " الذي ينهي فصل المقدمة[40] هو ملخص بشكل من الأشكال للوصية المنهجية للقاضي التي يمكن أن نطَّلِع عليها في نهاية الكتاب العشرين من المغني. ينهي القاضي خلاصته الكلامية بتعداد المبادئ المتبنّاة لإعداد مؤلَّفه:
"اعلم أن ما يدخل تحت تكليف المكلَّف ضربان: أحدهما العلم، والآخرُ العمل. فأما العلم فلأن وجوبه يتضمن وجوب ما يوصَل به إليه من النظر والفكر وما يتعلق بذلك، وهو على ضربين: العلمُ بما يلزمه أن يعرفه كالعلمِ بالله تعالى وبتوحيده، والعلمِ بالشرائع والنبوّات. والثاني العلمُ بالعوارض في ذلك لأنه قد يلحق المكلَّف شُبهة فيلزمه عند ذلك التوصل إلى ما يدفعها به. ويدخل في باب العلم وجه ثالث وهو ما يزيده شرْحَ صدرٍ من تأكيد الأدلة وتأكيد حلِّ الشبهة، ويدخل في ما يلزمه أن يعتد به من العلم سوى ما ذكرناه. وإنما بسط العلماء القول عند ذِكرِ أصول الدين من أجناس الأعراض وما يجري مجراها من حيث كان العلم بها مدخلاً في ما قدمناه من حل الشبهة وتأكيد الأدلة "[41].
تفرض هذه الأسطرُ استنتاجين أساسيين:
أ – كل سلوك إنساني مشروطٌ بهذا التكليف الذي هو حصراً ذو أصل إلهي. ويترتب على هذا أن المعرفة المــــــُـــــثلى هي المعرفة العقلانية لله، ومعرفة وحدانيته وعدله. والممارسة الفضلى هي الممارسة التي تتقيد بالقوانين الإلهية، وبتعاليم النبي والمؤمنين.
ب – وبالتالي فإن الواجب الأول للإنسان العاقل المكلَّف هو أن يضع تفكيره ونظره موضع التطبيق. وهذه هي وسيلة بلوغ العِلم الوحيد الصحيح الذي يزودنا بالعلامات المقنعة، ويبتعد عن الأخطار الظاهرة.
بعد أربعة قرون سيسطع نجم الإيجي. ومن المناسب في سبيل هذا الهدف أن نبذل جهدنا للتفكير في الأجسام وفي أجناس الكون. إن هذا البحث يقود إلى التيقُّن من وجود الله، خالقِ الكون الذي توجبُ كل المظاهر الرجوع إلى موجِد لا زمان له intemporel ولا جسمي incorporel. إن المعرفة الإنسانية تتضمن أساساً التمييز بين قرينة الحق وقرينة الباطل. ولا يتحدد الحق والباطل بدورهما إلا بالرجوع إلى المعرفة الصحيحة الوحيدة، وهي معرفة الله والشرعِ الذي يمليه علينا. إن المعرفة، كما رأينا كثيراً من المرات، ليست بحد ذاتها موضوع بحث. بل لأجل ما تزوّدنا به. إن نظرية المعرفة المعتزلية رغم إلحاحها على العقلانية لها هدف أخلاقي أساساً، بل هدف إثبات الوحي، ويترتب على هذا أن من يبلغ مثل هذه المعرفة عليه نقلُها. وأفضل طريقة للتعليم هي تأليف المؤلفات؛ فهذه المؤلفات تتحدى الزمن وتعبر القرون. ويؤكد لنا القاضي بهذه المناسبة أنه وضع في مؤلَّفه الجامع مادة كافية للنظر لمن يريد الانكباب عليه. والحق أن المغني مؤلف تعليمي واسع عملي لفنّ معرفة الله الخالق. والمجلد الثاني عشر من هذا الكتاب الجامع منهجٌ معرفي مبطَّن بهدفٍ هو الحرب الكلامية، والخصم المقصود هو الأشعرية من جهة، ومن جهة ثانية هو، كما رأينا، أنصار الاعتزال الأول.
ولكن ماذا يمكن أن تكون القيمة المعرفية noetique لإبستيمولوجيا تخضع بالتأكيد إلى تدخُّل الافتراضات المسبقة للحرب الكلامية، وتعتمد أساساً على العقيدة؟ كيف يمكن تحديد بحث عقلاني لا يهتم بمظاهر العالم لمادي والنفس البشرية إلا بقدر ما تساوي الحلولُ المتوصَّل إليها التأكيداتِ المتضمنةَ في الوحي؟
طريقة تفكير الكلام المعتزلي
إن موقفاً مبهماً يخلق مواقف متناقضة ومشوَّشة جداً. ولا يمكن للعقل إلا أن يتبنى الحلول التوافقية. ونظراً إلى أن البحث العقلاني تقوده عقائدية يجب الوصول إليها حتماً فإن الموقف الكشفي ملغى بتلك العقائدية نفسها. وبهذا الخصوص تبدو وجهة النظر الأشعرية أكثر تماسُكاً في هذا الموضوع. وبصدد المعرفة فالسُّنّة التقليدية التي تؤكد تقدُّم الوحي على العقل، والتي لا توافق على حق تحقيق المسلَّمات الخاصة بالكتاب المقدس أو تعليلها منطقية مع نفسها. إن التأكيد، كما يفعل المعتزلة، على أن الكتاب المقدس يحتوي على كل ما يستطيع العقل اكتشافه بنفسه يفرض ازدواجية المبادئ التي لا يمكن إلا أن تجر إلى الاستبداد بالنتائج. وأيضاً أليس من المدهش أن عدداً من النقاشات ينتهي بالجملة التالية "والمعلومُ خلافه". وما يسبق هذه الجملة هو عرضُ دلالة الخصم. والحال أن العكس، أي رأي القاضي، بعيد عن أن يكون أكيداً أو على الأقل مبرهَناً. ويحدث أيضاً أن يُقرأ "وبُطلان ذلك دلالة على فساد هذا القول" كما هي الصيغة المستعملة في المقطع الذي يحاول فيه القاضي إثبات أن النظر يولِّد بالضرورة العلم الأكيد، وأن الشُّبهة، أي شبهة الخصم، ليس لها تأثير على العقل. والحق، تبعاً للقاضي، أن النظر لا عمل له إلا استخدام الدليل المقنع لأنه مقنع: "مثال هذا ما يقوله أصحاب الطبائع إن الإحراق إذا وجب أن يكون واقعاً بطبع النار لأنه يجب وجوده عنده فيجب عند قوة الدواعي أن يكون التصرف واقعاً بالطبع. فإن أدّاهم هذا النظر إلى الجهل بحال القادر فيجب إذا نظرنا في مثله أن يتولد لنا الجهل، وفي بُطلان ذلك دلالة على فساد هذا القول"
تعتمد هذه الدلالة بداهة على تأكيدات اعتباطية ليست حقيقتُها مبرهَنة، وتسوِّغ الرفض الاعتباطي لرأي الخصم فحسب. إن نظرية الفعل المنتج من الطبيعة مرفوضة بمساعدة الجزم الذي يؤكد أن للبرهان خاصية توليد العلم. والواقع أننا لم نخرج، كما يشير الجويني، من ساحة القوانين الطبيعية.
وفي غمرة إرادته الموافقةَ بين ما لا يتوافق لا تنجو دلالة القاضي من الوقوع في التناقض الداخلي، وكذلك فإن دحْض الخصم يقود غالباً إلى الدور. ويكفي مثال واحد: إن نظرية أبي عبد الله التي يطالب العقل بموجبها بمعرفة الله تعتمد على الدلالة التي هي: إنه سيكون من القبيح عدم الانكباب على هذه المعرفة. وهذه طريقة لتبنّي الأوامر الإلهية لا علاقة لها باللجوء إلى التعليل المنطقي.
والواقع أن غموض المنهج المعتزلي يسبب التباساً، أو على الأقل تشابكاً في الميادين المعرفية والأنتولوجية والأخلاقية. كان المتكلمون، وهُم الفلاسفة بدافع العقل، متكلمين بدافع الإرشاد الإلهي، أو بتواضع أكثر، بالغاية التي اختاروها، أو بالأحرى قبِلوها. إن فضولهم العقلي يمكن أن تُترك له الحرية إلى اللحظة التي يجب فيها أن تكبَح ويعود إلى النظام بأمر العقيدة. وهذه الطريقة في السلوك واضحة في شروح نظرياتهم الطبيعية، وتَستخدم الوقائع لتزويد هؤلاء المتكلمين بحججهم التي تغذي حربهم الكلامية. والموقف المعاكس لهذا الموقف العقلي هو كثرة رجوع مؤلف مثل عبد الجبار إلى ظاهرة الاعتماد الفيزيائية ليشرح توالد المعرفة عن طريق البحث العقلاني. إن ما يؤلِّف الخاصية المولدة للنظر هو الدليل المقنع، وكذلك فإن ما يسمح لقوة الدفع (الاعتماد) بإنتاج الصوت هو الصدم " المـــُــــــصاكّة ". ومن المؤكَّد أيضاً أن مثال الإصابة والرمي مستعمل أيضاً. وقد لجأ القاضي غالباً إلى مثال السهم والهدف لنقد براهين الخصوم " الشُّــــــبَه" التي تتعارض مع صحة النظر. ليس للنيّة قيمة في حد ذاتها دون ارتباط بالهدف المرجوّ بلوغه. والتكليف هو عقال الإنسان الواعي المكلَّف بقصد، وكما أنه ليس هناك نظر غيرُ مهم فكذلك ليس هناك قصدٌ غير مهم. وهكذا يصبح التكليف محور مناقشات الجزء الثاني من المجلد الثاني عشر من المغني.
تسبّبت الخاصية المبهمة لنظرية المعرفة المعتزلية في وضع حدود للمحاولة العقلية ووضعِها في مستوى البحث التجريبي. ونتج عن هذا أن تطبيق هذا المنهج تطلَّب معجماً غير وافٍ بالغرض، وبقيت المصطلحات مبهمة غالباً. ويكفي دليلاً على هذا تواتُرُ كلمةِ "شيء" التي تعيّن على السواء المجرد والمحسوس. إن غموض النية نتيجته الخاصّيةُ المبهمة لطريقة التعبير. وقد رأينا سابقاً أن فكرة الصحة (الإمكان) قد اُستُخدمت منسوبة إلى درجات ذات قيَمٍ مختلفة، وكذلك فكرة العقل تتجاوز غالباً الدلالة المصطلحية المنوطة بها إلى مفهوم العقل المكلَّف. وقد بيّن الفصل الأخير أيضاً أن تصوُّر المعقول هو في منتصف الطريق بين المعنى المصطلحي الذي قرره الفلاسفة وبين المعنى التجريبي فحسبُ لمن يجهل هذا العلم. والسبب في هذا هو أن وجهة نظر الكلام المعتزلي، كما لدى المتكلمين عموماً، مادية جداً. حتى إنه يمكن الكلام على طبيعية الفكر لدى المعتزلة. ويستلهم منهجه المرجعي عن طيب خاطر من الأفكار الميكانيكية والفيزيائية. ويعتمد النفس المعتزلي كذلك على تصوُّر الوحدة العضوية panbiologique للقوى الفيزيائية. والواقع أن كافة أعمال الفرد العاقل تفسَّر بالحياة. "إن الحياة عندنا توجبُ الحكم للجملة المدركة "
لِنلاحظْ أن كلمة "جملة" المستعملة هنا لتعيين الكائن النفسي كلمة بليغة، فالوعيُ وعاؤه القلب، وفكرة النفس ليست ميتافيزيكية، بل هي بيولوجية. والحياة التي أتاحها الله هي أصل كل حياة. والأنتولوجي كأنه يتكرر على المستوى التيولوجي. وبين مجال الحي ومجال مصدر الحياة لا مكان لعالَم المثال archetype؛ ولذا لا شيء في الإدراك إلا المعطى الحيوي، أي المحسوس بقدر ما هو مضبوط من الكائن الحي. وينتج عن هذا غياب التمييز الواضح بين الإحساس والإدراك الحسّي.
وكما أن الطبيعة تأنف من الخواء فكذلك النظام العقلاني للمعتزلة يستبعد كل إمكان وهمي (افتراضي) virtuel ضاماً في حدوده مجمل الواقع. ليس في الإنسان ما تحت الوعي. فالنائم غير المنتبه غير واع كلياً، والنائم من وجهة نظر الوعي يشبه الإنسان الميت أو المجنون. وبهذا الخصوص فإن مفهوم التَّرْك ذو دلالة، فليس التَّرك مجرد الإغفال لأن " أتْركَ " معناه في الفقه: تجنب شيئاً ليكمل شيئاً آخر. فالترك هو خلاف الفعل وأكثر، " هو ضد الشيء وأمرٌ زائد عليه. وكذلك عندما يتأمل مجال غير المدركات فإن عكس الوجود " العدم " ليس غياباً صِرفاً للكائن، إنه ما هو موجود بطريقة ما، ولكنه لم يعد موجوداً. هذه الملاحظات تجد تفسيرها في التأكيد على أن النظر المعتزلي لا يمارَس إلا على الأحداث. ولا يقبل هذا العلم مفهوم الكمون potentialite. ويرفض الكلام المعتزلي أي فجوة بين مجال المرئي والمخفي (الشاهد والغائب)، وهذا يفسر اللجوء المثابر، بل المفرط إلى " الاستدلال بالشاهد على الغائب"، أي إلى التعليل بالقياس. وبالإجمال فالكلام المعتزلي هو التعبير عن نمط من التفكير يتوجه في الوقت نفسه إلى مستويين مركَّبين للكائن، ولا يقدم أي دليل على الوحدة التي يمكن تصوُّرُها بينهما. وينتج عن هذا أن الأفكار النظرية المحددة بمثل هذا النظام ممهورة بطابع سكوني يحرمها من القيمة التوالدية. النظرُ كما يفهمه القاضي، وبهذا المعنى تعريفيّ caracteristique. إن خصوصية الكلام المعتزلي هي توليد اليقين عن طريق الطابَع المثبت للدليل. وليس إذن إلا آلة منفعلة، نوعاً من العدسة المكبِّرة. وبالامتحان العقلي فالإنسان لا يفعل إلا تحقيق الحقيقة المتضمَّنة في الدليل المقنع الذي وضعه الله على طريقه. وهناك فكرة أخرى ذات دلالة أيضاً على تجريبية المنهج المعتزلي، وهي فكرة "الحال"؛ فالحال ليس كما لدى الباقلاني مقولة منطقية (اعتبار ذهني) بل هي حالة نفسية خاصة، وهذه الخصوصية هي التي تسمح بتمييز الحالات النفسية المختلفة في ما بينها. وبالنتيجة فالمعيار الإبستيمولوجي هو حالة للنفس. إن سكون النفس هو السمة المميزة التي تسمح للكائن أن يعرف أنه يعرف. والإبستيمولوجيا المعتزلية ليست نظرية للمعرفة النظرية بل استخدامٌ لسيرورة تسمح بإدراك العلاقات بين الفروض الإلهية والقدرة الإنسانية. إن المعرفة الإنسانية هي الوعي بالفرْض المعتمِد تماماً على أصل هذا الفرض: الله ومعرفة وجوده. والمقصود بالنتيجة هو إبستيمولوجيا تعتمد على أخلاقية ذاتية. ويُستنتج من شروح القاضي أن الآلة الأساسية للغنوصية المعتزلية هي الشهادة التي لا تُدحض للتجربة الداخلية، وليس الخاصة المخصبة للدليل المنطقي. إن الشعور بأننا خالقو أعمالنا الخاصة واقعٌ لا يُناقش؛ حتى إن أي دليل لا يمكن أن يلغيه. وانطلاقاً من هذه الواقعة الخالدة نستطيع أن نستقرئ من المخلوق إلى غير المخلوق، أي إلى وجود خالق للكون. والخصم القائل بالحتمية حين ينفي القدرة الخالقة للإنسان يضع نفسه في موضع استحالةِ الدلالة على وجود الخالق.
وهذه هي أصالة المعتزلية التي تنقل تجربتَها الداخلية وبداهتها المباشرة إلى مستوى المبدأ المنهجي. وبهذا المعنى فالإبستيمولوجيا المعتزلية نظريةُ معرفةٍ تعتمد أساساً على التجربة، وتنطوي على قصدية أخلاقية للمعرفة، والأمثلة، عندما تُقدَّم، مستقاةٌ دائماً من الحياة اليومية. إن كل ما سبق يفسِّر أنه من وجهة نظر النظام المرجعي المستخدم فإن نمط تعبير المغني، كما هو نمط تفكير المؤلف، يقع في نقطة التقاء الكلام والفلسفة. ولكن لماذا بقيت المعتزلية الجبائية، كما تشهد النصوص المعروفة، مغلقة أمام شروح فيلسوف كالفارابي مثلاً؟ ألم يكن المتكلمون قادرين على الاستفادة مما حملته الفلسفة الفلسفية أم كانوا يرفضون أن يُخضِعوا لها استنتاجاتهم؟
وجواباً على هذا السؤال يمكن الاحتجاج بأن المتكلمين الجبائيين لم يكونوا مناطقة، ولم يكونوا يفهمون شيئاً من المنطق أو لغة الفلسفة عموماً. ويروي ابن القفطي بهذه المناسبة حكاية تتعلق بيحيى بن عُدي الذي دُعي إلى مناقشة مع متكلمين فكان يعتذر عن الإجابة قائلاً: لا أفهم لغتهم ولا يفهمون لغتي. وكذلك الجبائي في كتابه " التصفُّح " لم يفهم شيئاً من لغة أرسطو.
هل يجب أن نعتقد أن عدم فهْمٍ كهذا ناجم عن استحالة فهم المعتزلي لغوَ المنطقي، كما قد يكون من المستحيل على المنطقي أن يدخل في أفق المتكلم؟ أم يجب أن نظن أن كل متكلمٍ أسيرٌ لنمط المعرفة الذي تبنّاه أو لنظام التصورات الخاص بطريقة تفكيره؟ يبدو من الصعب على كل حال أن نتقبل فكرة أن متكلماً كالجبائي لم يفهم شيئاً من كتابات فيلسوف كالفارابي. ومهما تكن الأسباب التي تفسر عدم الكفاية المنطقية لاستنتاجات الكلام فإنها لم تفُتِ الفارابي الذي لم يمتنع عن إشهارها، ليس دون شيء من الشجاعة. وقد ذكر ج. فاجدا الحِدة التي هاجم بها المعلم الثاني (الفارابي) الطريقة التي أدرك بها الكلام العقل. وهناك متخصص آخر في الفلسفة هوج. جوليفييه (صاحب مقال الفلسفة السابق) اهتم بالمسألة اهتم بالمسألة وكتب: إن استعمال المتكلمين كلمة " عقل" جدير بالملاحظة، فهو يشهد دخول كلمة أتت من الفلسفة على معجم علم الكلام. والواقع أن الفارابي يوضح أن المتكلمين يقدّرون أنهم يستعملون الكلمة في المعنى نفسه الذي منحه إياها أرسطو (المعلم الأول)، وهو ادّعاءٌ يرى فيلسوفنا أنه لا أساس له. وقد يكون من المهم أن نجد ثانية نصوصاً معاصرة أو متقدمة على الفارابي يُحتمل أن تؤكِّد زعم المعلمِ الثاني في الفلسفة. وربما أمكن حينئذ أن نضع الإصبع على تأثير محتمل للكندي على اعتزال عصره.
وفي نصٍّ آخر يفضح الفارابي وهو يتكلم باسم الفلسفة وضرورتها للنظر منهجَ الكلام. ويحاول أن يشرح أسباب كونه هجيناً نوعاً ما؛ فيصرّح في مقطع من كتابه "الحروف": " والملّة إذ كانت تعرف الأشياء النظرية بالتخييل والإقناع، ولم يكن يعرف التابعون لها من طرق التعليم غير هذين، فظاهرٌ أن صناعة الكلام للملة لا تشعر بغير الأشياء المقنعة، ولا تُصلح شيئاً منها إلا بطرق وأقاويل إقناعية، ولا سيما إذا قُصِد إلى تصحيح مثالات الحق على أنها الحق. والإقناع إنما يكون بالمقدمات التي هي في بادئ الأمر مؤثّرة ومشهورة، وبالضمائر والتمثيلات، وبالجملة بطريقة خطابية".
والنتيجة: لا يستطيع المتكلم بلوغ المسائل النظرية إلا حسب وجهة نظر الرأي العام والعفوي. وفي هذا يبقى في مستوى الإنسان غير العالِم. ويستطيع على الأكثر إثبات كلامه بالمنهج الجدلي، فيتميزُ هكذا من غير العالم، ويتميز أيضاً بأنه في خدمة الملة. وبقدْر ما تقيم هذه الملة علاقة ما مع الفلسفة فالمتكلم أيضاً هو في خدمة الفلسفة من خلال الملة. والحقيقة أن المتكلم يبحث عن إثباتِ ما كانت الفلسفة أثبتته عن طريق البراهين القاطعة، مستخدماً أدلّة مستخلَصة من المعنى العام هي في متناوَل الجميع. ولهذا تُظهر خطأ في الاختصاص.
وهذه هي القضية المنوطة بالفلسفة بخلاف الكلام ومناهجه. إن معرفتنا بالنصوص المعتزلية التي لا يزال عدد منها مخطوطاً لا تكفي بعدُ لنستطيع أن نحدد إلى أي حد كانت أفكار الفارابي مؤيَّدة بالبرهان. ولكي نكون قادرين على تقييم دور المعتزلة الجبائية وخصوبة شروحها علينا أولاً العودة إلى أبحاث الاعتزال الأول. وسنحاول، مدقِّقين في بعض الموضوعات المهمة مثل نظرية الطبائع للجاحظ ونظرية المعنى لـمـُـــعمَّر، توضيحَ الأسباب التي حارب القاضي لأجلها هذه الأفكار بحيوية. وبالإضافة إلى هذا فإن دراسة النصوص المخطوطة التي هي في طريقها للنشر كــــ " الفائق " للملاحمي، أو التي تنتظر النشر كـــــ " مسائل الخلاف " لأبي رشيد النيسابوري، و" التذكرة " لابن متويه، وأصول الدين للملاحمي، وشرح عيون المسائل للحاكم الجُشمي، ستسمح لنا بامتلاك نظرة شاملة أكثر تحديداً ودقة عن المعتزلية الكلاسيكية. إن رؤية شمولية قد تكون قادرة على جعلِنا نفهم كيف جرى تطور هذه المدرسة، وماذا كانت أهمية التأثير الذي مارسته على مدارس الكلام الأخرى. ويمكن منذ الآن أن نقول سلفاً إنه كان دوراً حاسماً على الأشاعرة الأوائل كالباقلاني والماتريديين الأحناف. وبالتالي إذا كانت مشاغل الحرب الكلامية قادت المعتزلة إلى التورط فهل يمكن القول: في قضايا عقيمة؟ يمكن التأكيد على أن المعتزلية عاشت من جديد على يد متكلمين آخرين بفضل الخميرة التي أسستها الفلسفة اليونانية التي استفاد منها آخرون كالغزالي والرازي وأيضاً ابن تيمية.
[1] انظر الحاشية 9 من حواشي مقال الفلسفة السابق. (المترجم)
[2] رسالة في العقل. نشر بعناية موريس بويجس. والترجمة إلى الفرنسية لــ:ف فاجدا. ويبدو أن فيها خطأ في الترجمة أو الطباعة، ففيها: الرأي المشترك عند الجميع والأكثر، بدلاً من أو الأكثر. والنص المثبت هنا منقول بحرفه من رسالة الفارابي بالعربية. ص 7- 8. (المترجم)
[3] انظر الحاشية الثانية والثالثة من مقال الفلسفة السابق. (المترجم)
[4] هكذا تترجم المؤلفة. انظر الحاشية رقم 9 من حواشي مقال الفلسفة. (المترجم)
[5] مقالات الأشعري ص 526 و481
[6] طبقات الشافعية 3 / 357 – 358
[7] لم ترِد الكلمة في المعجم الفلسفي. ولكن الكاتبة تترجم إليها كلمة الحدوث التي تعني في لغة المعتزلة نقيض القِدم. (المترجم)
[8] شرح الأصول الخمسة 120 – 121
[9] انظر الحاشية 12 من حواشي مقال الفلسفة. (المترجم)
[10] انظر الحاشية 12 من حواشي مقال الفلسفة. (المترجم)
[11] المغني 11 / 309 – 406
[12] م.س 11 / 121 – 134
[13] م. س11 / 307
[14] انظر الحاشية السابقة. (المترجم)
[15] المغني. م. س 11 / 367 – 370
[16] م. س 11 / 370 – 371
[17] م. س 11 / 371 – 375
[18] م. س. 11 / 375 السطران 19 – 20
[19] م. س م. س 11 / 377 السطران 1 ت 3
[20] تعني " جوهر في علم الكلام ما يسمى في الفرنسية SUBSTANCE وما يسمى الذَّرّة ATOME (المترجم)
[21] انظر الحاشية 9 من حواشي مقال الفلسفة. (المترجم)
[22] نزعة ترمي إلى مزج الدين بالفلسفة وتشتمل على طائفة من الآراء المضنون بها على غير أهلها. وتطلق خاصة على جماعة من المفكرين في القرنين الأول والثاني للميلاد. (المجمع المصري). والأصل GNOSE فلسفة تقول إنه يمكن معرفة الأشياء الإلهية، ويُترجم أيضاً بعلم العرفان. (المترجم)
[23] الكلمة منسوبة إلى NOESE التي تعني الفعل الذي تفكر فيه، وتعني الصفةُ ما يتعلق بالفكر والمعرفة. (المترجم)
[24] تعني الكلمة عموماً الأخلاق. وتلتبس كثيراً في استعمالها صفةً بالكلمة الأخرى MORALE التي تتعلق أكثر بالتعليمات المقبولة في عصر ومجتمع معيَّنين. أما كمصطلح فتعني ETHIQUE العلم الذي يبحث في الأحكام القيَمية التي تنصب على الأفعال الإنسانية من ناحية كونها خيراً أو شراً. (المترجم)
[25] للكلمة معان كثيرة، منها: ما يؤلف الذات والوحدة لنوع ما، ومنها المحسوس الذي لا وحدة له ولا ذاتية مادية. وتعني موضوع الفكر الذي يُلحظ ككائن محروم من كل تحديد خصوصي.(المترجم)
[26] المغني م. س 12 / 21
[27] مقالات الأشعري 482
[28] فضل الاعتزال 129
[29] تعني بوجه عام القدرة على الإدراك والتفكير. وبوجه خاص الإدراك العقلي في مقابل الإدراك الحسّي. (المترجم)
[30] المغني 11 / 379. ويجب ان نقرأ [ ما ] يُتوصّل... (المترجم)
[31] انظر الحاشية 14 من حواشي مقال الفلسفة. (المترجم)
[32] المغني 12 / 161 السطر 14 – 15
[33] RATIO كلمة لاتينية لها معان كثيرة منها العقل والذكاء والحكم والفهم الصحيح. (المترجم)
[34] اُضطُررنا إلى ترجمة التركيب هكذا حتى لا نقول: النظر النظري. (المترجم)
[35] انظر الحاشية 9 من حواشي مقال الفلسفة. (المترجم)
[36] ONTOLOGIE هو أحد بحوث الفلسفة الرئيسة الثلاثة. وهو عند أرسطو علمُ الموجود بما هو موجود. (المترجم)
[37] انظر الحاشية 6 من حواشي مقال الفلسفة. (المترجم)
[38] علم الإناسة: دراسةٌ لجماعة البشرية الفِطرية من حيث كونُها كائنات حيةً ذات عقل وثقافة. (المترجم)
[39] للكلمة معنيان: أولهما نظرية خلق العالم المؤسسةُ على سِفر التكوين GENESE بالمعنى الحرفي، والثاني نظرية يخلق الله تبعاً لها كل نفسٍ في لحظة تصوُّرِها. (المترجم)
[40] فضل الاعتزال 138 ص 17 – 22
[41][41][41] المغني 20 /ب ص 254.