العلاقة التي لا تنفصم بين الإسناد، والتعريف والتنكير
من الغريب أن تلميذ المرحلة الإعدادية في مدارسنا يدرس بحث المبتدأ والخبر في الصف الأول، ثم بحث النكرة والمعرفة في الصف الثاني. والغرابة في هذا تقديمُ بحث الإسناد على التعريف والتنكير، فيدرس التلميذ فيه البحثين السابقين بالترتيب نفسه؛ بل لا يكاد كتابا الأول والثاني الإعداديين يضيفان جديداً إلى معلومات التلميذ السابقة سوى أنواع الخبر. وما إن ينتهي منهاج الثاني الإعدادي حتى ينتهي معه ذكر الإسناد والتعريف والتنكير. ونتيجة هذا المنطق الغريب نفسه نعلِّم التلميذ في الصفين السادس الابتدائي، والأول الإعدادي بحث المبتدأ والخبر معزولاً عن التعريف والتنكير في الوقت الذي لا يمكن فيه الفصل بين البحثين كما سنرى.
من الثابت أن اللغة العربية حظِيت بدراسة لم تحظَ بها اللغات الأخرى لأسباب كثيرة، منها قِدَمُها خلافاً للغات الأوربية باستثناء اليونانية. وإخلاص المشتغلين بها، وعلاقتها الحميمة بالعلوم الدينية، وبخاصة علم القراءات القرآنية، وعلم أصول الفقه. يقول المستشرق السوفييتي غراتشيا غابوتشيان في كتابه "نظرية أدوات التعريف والتنكير وقضايا النحو العربي" "تعرّضت مقولة التعريف والتنكير لتحليل دقيق في مؤلفات ممثّلي علم القواعد العربية التقليدية سيبويه وابن جني والزمخشري، وغيرهم"(1) ثم يقول "ويتميز علم القواعد العربية التقليدية بتركيز الاهتمام الأكبر على الجملة التي تشكّل الموضوع المركزي للدراسات النحوية. وتحتل عندئذ دراسة التركيب الإسنادي أهمية من الدرجة الأولى حيث أن جوهر الجملة نفسها يرجع في نهاية المطاف إلى الإسناد. ونجد هنا تشابهاً مدهشاً مع النظرية النحوية لمدرسة براغ اللغوية"(2)
فما هي النظرية النحوية لمدرسة براغ اللغوية التي تتشابه هذا التشابه المدهش مع معطيات اللغويين العرب القدماء؟ يُطلق على مدرسة براغ اسمُ المدرسة البنيوية الوظيفية، وهي من أحدث النظريات اللغوية العالمية. وواضحٌ من اسمها عنايتُها بدراسة وظيفة الكلمة في الجملة fonction. ومن الجدير بالذكر أن وزارة المعارف في مصر حاولت منذ زمن (1938) إصلاح طرائق التعليم باللجوء إلى النحو الوظيفي، ولم تنجح المحاولة.
ونعرض باختصار ما يهمنا في هذا البحث من منطلقات هذه المدرسة:
- جميع عناصر اللغة تستخدم في نهاية المطاف وسيلةَ اتصالٍ بين الناس.
- تنقسم الجملة إلى عنصرين أساسيين: أولاً: نقطة انطلاق أو ابتداء، أو أساس الكلام، وهو الذي يُعتبر معلوماً في الموقف الكلامي الحالي، ويسمى موضوع الكلام. ومثاله في العربية المعرَّف بــ "ال" العهدية، أو يمكن أن يُفهم، ومثاله في العربية المعرَّف بـــ "ال" الجنسية، كالإنسان والرجل والمرأة. وثانياً: نواة الكلام أي ما يُخبَر به عن نقطة ابتداء الكلام، ويسمى: محمول الكلام.
- يجب أن يكون موضوع الكلام معلوماً من السامع، أما محمول الكلام فيجب أن يحمل إليه معلومة جديدة له.(3)
وهناك تفصيلات أخرى، كأن يعرف السامع الموضوعَ والمحمول، ولكن لا يعرف العلاقة بينهما: محمد هو المدير.
فإذا عُدنا إلى صنيع اللغويين العرب في ميدان دراسة الجملة على ضوء البنيوية الوظيفية وجدنا ما يلي مراعين في عرضنا الترتيب نفسه الذي اتبعناه في عرض ملخص البنيوية الوظيفية:
- درس اللغويون العرب التركيب الإسنادي بعناية فائقة لم يولوا مثلها للتراكيب الأخرى كالتركيب الوصفي أو الإضافي، لأن التركيبين الأخيرين لا يؤديان أداء أساسياً وظيفة الاتصال في اللغة، تلك الوظيفة التي تعني وظيفة الإخبار. فالجملة في تعريفهم قولٌ يعبّر عن فكرة منتهية، أو عن معنى تام، أي تمّتْ به الفائدة الإخبارية. ولابد للغة كي تؤدي وظيفتها الإخبارية بين المتكلمين بها أن توصل أفكاراً تامة، أي معاني مفهومة؛ وإلا فلا معنى للكلام وللغة. ولهذا السبب أيضاً عُني اللغويون العرب بدراسة الحالات التي يؤلف اجتماع الكلمات المفردة فيها جملاً، مثل اجتماع الاسم بالاسم، والاسم بالفعل. والحالات التي لا يؤلف فيها الاجتماع جملة كاجتماع الاسم أو الفعل بالحرف، أو الفعل بالفعل، أو الحرف بالحرف.
- ميَّز العلماء العرب الجملة الاسمية من الفعلية من جهة، والمبتدأ من الفاعل من جهة أخرى، لأن الجملة الفعلية لا تقبل التقسيم الوظيفي إلى موضوع للكلام ومحمول له، في حين تقبل الاسمية هذا التقسيم. فالمبتدأ والفاعل يتطابقان في مثل هاتين الجملتين: نجح التلميذ، التلميذ نجح، من حيث أن كلاً من المبتدأ والفاعل قام بفعل النجاح. وهذا ما يُثير التساؤل لدى التلاميذ وغيرهم، أعني تمييز المبتدأ من الفاعل. وهذا التمييز سِمةٌ من سمات المعالجة الوظيفية للغويين العرب فقد نظروا إلى الخصائص الشكلية للكلمة. وانتبه العلماء العرب إلى هذا التمييز، فبيّنوا أن الجملة الفعلية، مثل "نجح التلميذ" "خبر ابتدائي"، أي خبرٌ يسمع به المتلقي لأول مرة، فلا يمكن فصل الفعل عن الفاعل لأن فائدة مثل هذه الجملة تحصل من مجموعهما. ولهذا أيضاً عرّفوا الفاعل بأنه اسم مرفوع يلي الفعل، ويُسنَد إليه ذلك الفعل. أما الجملة الاسمية، وهي مقلوب الفعلية "التلميذ نجح" فهي "خبر غيرُ ابتدائي"، أي أن السامع سمع به قبل. وبتبسيط وإيجاز شديدين نوضح الفرق بينهما فنقول: إننا نخبر السامع الذي لا فكرة مسبقة لديه عن التلميذ، فنقول: نجح التلميذ. في حين نخبر من سمع بالتلميذ سابقاً، كأن يسأل: هل نجح التلميذ؟ بقولنا: التلميذ نجح.
ومن هذا الفهم المتقدم على عصره عرّف النحو العربي المبتدأ بأنه اسمٌ مجرَّد من العوامل اللفظية (كالفعل وحرف الجر...) ليُسنَد إليه؛ يقول الجرجاني "لا يؤتى بالاسم معرّى من العوامل إلا لحديثٍ (خبرٍ) قد نُوي إسناده إليه. وإذا كان كذلك فإذا قلتَ: "عبدُ الله" فقد اشعرتَ قلبه (قلب السامع) أنك أردت الحديث عنه"(4) وهذا هو بالضبط ما تسميه المدرسة الوظيفية: موضوع الكلام. فإذ جئت بالحديث فقلتَ مثلاً: قام، أو خرج، فقد علم ما جئت به"(4) وهذا هو أيضاً ما يُسمى محمول الكلام. ولما كان محمول الكلام يجب أن يكون نكرة عدّ اللغويون العربُ الفعلَ نكرةً لاعتبار وظيفي صِرفٍ، وهو أنه يجوز الإخبار به، لا الإخبار عنه. وللسبب نفسه فإن أدقَّ تمييز بين الاسم والفعل هو: الاسم ما يصح أن يكون مسنداً إليه ومسنداً، والفعل ما يصح أن يكون مسنداً، لا مسنداً إليه.
- في الجملة الاسمية: وهي القابلة للتقسيم الوظيفي إلى موضوع للكلام ومحمول له يجب أن يكون المبتدأ معرفة لأنه لا معنى لإخبار السامع عن شيء لا يعرفه، ويجب أن يكون الخبر نكرة لأنه لا فائدة من إخبار السامع بشيء يعرفه. أي أن الوظيفة الإخبارية للغة تدور ضمن هذه الحلقة، وهي إخبار السامع بشيء لا يعرفه عن شيء يعرفه أو يمكن أن يعرفه كالمعرفة الجنسية، نحو: الأسد حيوان مفترس. أما إذا كان السامع يعرف المبتدأ والخبر فالفائدة تتحقق من إسناد أحدهما إلى الآخر: محمد هو المدير. ويُستحسن الفصل بينهما في هذه الحالة بضمير يسميه البصريون: ضمير الفصل، ولا محلّ له من الإعراب، ويسميه الكوفيون: ضمير العماد: محمد هو المدير.
على ضوء هذه العلاقة الوثيقة بين الإسناد من جهة، والتعريف والتنكير من جهة، وعلى ضوء هذا التطابق المدهش بين حصيلة علم اللغة لدى اللغويين العرب القدماء وبين أُسُس المدرسة البنيوية الوظيفية المعاصرة، نقترح أن نقدِّم في مناهجنا المدرسية بحث التنكير والتعريف على بحث الإسناد، مع ملاحظة أنه لا نكرة ولا معرفة إلا في جملة. ثم نضيف إلى بحث المبتدأ والخبر في منهاج أي صف من الصفوف ضرورة كون المبتدأ معرفة، والخبر نكرة. ونسهم بذلك في ترسيخ كون اللغة منظومة متكاملة في ذهن المعلم والمتعلم معاً.
صوت المعلمين العدد 107 تشرين الثاني 1987
الحواشي
1 – غابوتشيان ص 5.
2 – م. س ص 36.
3 – الموجز في شرح دلائل الإعجاز. جعفر دك الباب. 117 – 118.
4 – دلائل الإعجاز للجرجاني 101 – 102.