الفكر الإسلامي الفلسفي في العصر الوسيط[1]
جان جوليفيه
حكمة وفلسفة
تتمثل الفلسفة في المعنى الأصلي للكلمة نموذجاً لخطاب ظهر في اليونان في لحظة ما من التاريخ، وكان لها نفس الصورة التحليلية والإثباتية التي للعلم. ويميَّــــــز من الفلسفة الحكمةُ، وهي طريقة في التصرف والتفكير تعبر عن نفسها بطريقة أكثر إراديةً في جوامع من الكلم يتكثف فيها معنى الحياة وتجربتها. وهذا ما نراه على الأصح في الثقافة اليونانية المأثورة وفي الثقافات السامية. ويُذكَر لقمان نموذجاً للحكيم العربي، وهو الذي نقل القرآن بعض تعاليمه في السورة التي تحمل اسمه. [السورة 31]. ولكن السورة تقول إن الذي أعطاه الحكمة هو الله، وكذلك نقرأ أيضاً في مواضع أخرى من القرآن لآل إبراهيم وداود وعيسى ومحمد. وبالإضافة إلى ذلك فالحكيم من أسماء الله، يطلقه القرآن أيضاً على الوحي الذي أنزله الله. فها هو إذن معنى جديد ذو مظهر ديني ونبوي يضاف إلى المعنى الاستعمالي للكلمات دون أن يمحوه. وبسبب هذا فإن الأفق الأعلى للعلم مشغول بالحكمة. ومع ذلك تأسس في الإسلام نموذج آخر لفكر ذي اتجاه مطابق: الفلسفة، وهي كلمة اُستُنسخت من الكلمة اليونانية، وكذلك الفيلسوف، وجمعه فلاسفة[2]. ولكن الحكمة بقيت في أفق الفلسفة؛ بل توحدت بها أحياناً كما سنرى. وقبل أن نتتبع الكلمة عن كثب سنبدأ بأن نصف تطورها بإجمال في إطار تاريخي أولي نستبعد منه كل نظر (spéculation)[3] ليس حصراً ومصطلحاً من الفلسفة. وسنحصر عرضنا في بضعة أسماء نموذجية بصفة خاصة.
فلاسفة وفلسفة
نستطيع دون تعدٍّ على التاريخ أن نعد الفلسفة الإسلامية قد انتشرت بالتتابع في ثلاثة أقاليم: فبعدما ولدت في القرن الثالث الهجري في داخل العالم الإسلامي، إن لم يكن في مركزه، تمثلت في المقام الأول بالكِندي " فيلسوف العرب " الذي عاش بين عامي 185 – 260 ه = 796 – 873 م تقريباً، مما يعني أن فترة نشاطه تلت العصر الذهبي للحكم العباسي. ويأتي بعده بجيلين تقريباً الرازي الذي توفي في حدود عام 315 ه = 927، والفارابي 259 ه – 872 م – 339 ه = 950 م، وهي فترة تصدُّع الخلافة في بغداد وانحطاطها. في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، تبرز في هذه المدينة حلقة فلسفية تكونت بين حلقات أخرى، من التوحيدي ومسكويه وأبي حسن العامري وأبي سليمان السجستاني... وفي هذا العصر تقريباً ولد ابن سينا (370 – 428 ه = 980 – 1037 م) الفارسي الأصل ورجلُ السياسة الذي شهد وعايش التناقضات التي هزت شرق الإمبراطورية. وفي نهاية هذه الحقبة، وعلى تخوم التيار يقع أخيراً الغزالي (450 – 501 ه = 1059 – 1111 م)، وهو صوفي ومفكر ديني ومعلم ساهم بمؤلفات هدفها توطيد العقيدة التي شرع بنشرها سلاطين السلاجقة. ويُذكر هنا أيضاً بوصفه خصماً شديداً للفلسفة.
ولْنمض الآن إلى الغرب، إلى إسبانيا أو الأندلس كما يسميها العرب: فبعدما أقصى العباسيون الخلافة الأموية (132 ه = 750) لجأ أحد أفراد الأسرة الأموية إليها، وهناك عُرف بلقب " الأمير ". وفي عام 317 ه = 729 م نادى أحد أخلافه بنفسه أميراً للمؤمنين، مؤسساً هكذا خلافة مركزها قرطبة. وبعد تفكك هذه الخلافة في عصر الغزو المرادي وبداية حروب " الاسترداد " الإسبانية ظهر ابن باجة الذي ولد في سرقسطة ومات (533 ه = 1138). ولمع في ظل الحكام الأوائل من الموحدين نجمُ ابن الطفيل (580 ه = 1185 م)، وعلى نحو أخص ابنُ رشد (520 ه – 595 = 1126 -1198 م). ثم بعده بوقت طويل ابنُ خلدون (732 – 808 ه = 1132 – 1406 م) الذي تأمّل في التاريخ ملاحظاً تقلبات سلالات البرابرة الذين توازعوا في إفريقيا الشمالية.
وإذا تتبّعنا الحدود الشرقية للعالم الإسلامي رأينا فيضاً من المفكرين والمؤلَّفات الغنية بالمضامين النظرية[4]، ولكنها تخرج إلى حد كبير عن إطار اهتماماتنا، تقوم خصوصاً على التصوف والتفسير الروحي للقرآن طبقاً للموروث الشيعي. ولْنذكرْ مع ذلك شهاب الدين يحيى السهروردي (549 – 588 ه = 1155 – 1191 م) الذي مات مسجوناً في قصرٍ محصَّنٍ لصلاح الدين في حلب. وبعده بعدة قرون يظهر مرداد (ت عام 1040 ه = 1632 – 32م)، والمولى صدر الشيرازي (979 – 1050 ه = 1571 – 1640 م)، وهما إيرانيان مثله.
ويمكن إقامة قرابات بين هذه الشخصيات كجماعات، أو بين كل اثنين. وكذلك إقامة مفارقات حية، مثلاً بين هذين المتعاصرين السهروردي وابن رشد. ولكن قد يكون من الواضح أكثر أن نعالج من جديد الأمور من بدايتها، أي أن نتابع الفلسفة منذ ولادتها، وأن نصف اللوحة الخلفية لها، وأن نحلل خصائصها لنرى كيف تتجلى هذه الخصائص ثانية، وتحت مظاهر مختلفة، وبدرجات متفاوتة لدى هؤلاء أو أولئك من المؤلفين الذين عددناهم.
الظروف الأصلية للفلسفة الإسلامية
يجب أن نلاحظ أولاً أن الفلسفة ظهرت متأخرة نسبياً، أو على الأقل سُبقت بعلوم إسلامية كثيرة من الناحية الأساسية والنموذجية بدأت في التكون من القرن الأول للهجرة، والتي كانت في عنفوانها في القرن الثاني. وكان لكلٍّ من هذه العلوم نقطة انطلاقه بطريقة أو بأخرى لضرورات أوجدتها مشكلات ذات طابع ديني أو اجتماعي فرضت نفسها بسرعة على المسلمين الأوائل بعد وفاة النبي (ص): تفسير القرآن، والتنظيم السياسي، وطبيعة سلطة الخليفة وإدارة العدالة... ولْنذكرْ من بين هذه العلوم ثلاثة كان لها من ناحية النظر أهمية خاصة: علم الفقه الذي وجب عليه أن يضع موضع التنفيذ، وبالتتابع، القواعدَ القضائية للجماعة الإسلامية معتمداً على تعاليم القرآن، وما زوّدته به سيرة النبي (ص) وأقوالُه، وسيرة المؤمنين الأوائل، والأحكام التي صدرت من الخلفاء الأوائل. ومن وجهة النظر المنهجية وُضع هذا التدبير قيد الاستعمال، وأفرز عدداً من أصول الاستدلال الخاصة. ولْنذكر أيضاً علم المعجم والنحو المؤسَّسَين على أبحاث لغوية واسعة بين القبائل العربية، ويتضمنان أفكاراً أصيلة حول طبيعة اللغة والاتصال اللغوي، وهي أعمال أدت خصوصاً إلى المؤلَّف العظيم لسيبويهِ (ت 176 ه = 762 م). وأخيراً علم الكلام الذي هو شكل خاص من التيولوجيا[5]، وُلد وتطور في سياق الخصومات مع النصارى سكانِ البلاد التي فتحها العرب، وفي سياق الانشقاقات النظرية التي انبثقت مبكرةً في قلب الجماعة الإسلامية.، والتي راهنت غالباً جداً على أمور سياسية (يعيد الأشعري مؤلف أول كتاب يعالج هذه الانقسامات العقائدية بين المسلمين، يعيد أول حركة منها إلى الساعات الأولى من وفاة النبي محمد عندما تم اختيار خلفٍ له على رأس الجماعة) ولكن طبيعة المجتمع الإسلامي، وكذلك السياسة لا تنفصلان عن الدين. وهكذا عندما ولد الكِندي الفيلسوف الأول كان يسود ساحة النظريات عدد من الأفكار النظرية[6] من نماذج مختلفة. ولكنها تلامس كافة القضايا الكبيرة الممكنة: السلوك الإنساني، والخير والشر، واليوم الآخر، والرابط الاجتماعي، واللغة... بغض النظر عن الأبحاث التاريخية التي سنكتفي هنا بذكرها. وعلى صعيد مختلف جداً كان الإسلام قد عرف سابقاً عدداً من الزهاد الذين تؤلف أعمالهم وأقوالهم ما يكفي لأن يسمى " أدباً زهدياً ". ولا يُرى هنا في هذه الشروط التي كان بإمكانها أن تحدد بزوغ نموذج آخر من النظر إلا تغيُّرٌ في الموقع التاريخي والعقلي.
إن اسم " الفلسفة " يدل على علاقته بالثقافة اليونانية. والحال أنه منذ عصر الإسكندر، وبسبب تنوعات مختلفة عبْر كل هذه القرون، كانت هذه الفلسفة قد وجدت مكاناً لها في الشرق، سواءٌ عن طريق الانتشار أو عن طريق نموّها في مراكز محددة. وقد وجدها الفاتحون العرب في سورية خصوصاً، ثم إلى الشرق أكثر، في أماكن كانت الأرثودوكسية البيزنطية قد أبعدت إليها عدداً من الأقليات المسيحية: في بلاد ما بين النهرين وفارس. ولكن هذه الاحتكاكات ربما لم تكن كافية لتؤصِّل الفلسفة على الأرض الإسلامية. ويجب البحث أساساً عن مجموعة اجتماعية خاصة، وهي مجموعة الكُتّاب (السكرتاريا) التي كانت ضرورات الإدارة أوجبت إنشاءها. مسلَّحةً بخبرة إدارية استغرق بناؤها مدة طويلة. وهؤلاء الكتاب هم كذلك ورثة الثقافة الإغريقية والزرادشتية. وهذه النقطة الأخيرة تفسر تصاعُد اعتناق الثنوية التي قمعها الخليفة العباسي الثالث المهدي. ولكن يجب بشكل خاص أن نلاحظ هنا أن أولئك الكتاب كانوا تبنّوا العلوم الإغريقية: الطب والعلوم الرياضية والفلسفة أيضاً. وكانت هذه مجموعة عقائدية وثقافية أجنبية تماماً عن العلوم الإسلامية التقليدية التي كانت دعامتُها في المجتمع طبقة العلماء الجديدة التي تبنّت المسائل القضائية والدينية التي بدأت بالترسُّخ في ظل العباسيين. والحال أن هذه العلوم الأجنبية فرضت نفسها معتمدة خصوصاً على المشارقة، وعلى غير العرب الذين أسلموا منذ زمن قريب، والذين ظهر من بينهم تحديداً الكتّاب. ومن جهة أخرى لم يكن بمقدور الحكام النبهاء أن يغفلوا الفائدة العملية للعلوم الهيلينية: الطب بداهة، ولكنِ التنجيمُ أيضاً الذي كان السبب في ظهور علم الفلك. أما المنطق فقد سبق أن عرف ما تستفيد منه الفرق المسيحية المتجادلة. ويجب ألا ينسى مساهمة فارس والهند وخصوصاً في ساحة العلوم. ولكن كان العنصر اليوناني هو المسيطر في النهاية على كل هذا. وفي جميع الأحوال، ويجب أن نكرر هذا، تكونت الفلسفة من هذا الجانب. وكان المنعطف الحاسم عندما أسس الخليفة المأمون في بغداد، العاصمةِ الجديدة التي أسسها العباسيون، مؤسسةً سُمّيت "بيت الحكمة". ولْنتأمل هذه الكلمة التي تعود إلى مرحلة ثقافية ليست فلسفية بعدُ بالمعنى المصطلحي للكلمة. ومع ذلك ستولد الفلسفة من هذه المؤسسة. كان هذا البيت يحتوي خصوصاً على مكتبة ومترجمين يتقاضون أجوراً لتعريب المؤلفات الإغريقية المتاحة في المراكز الفكرية المختلفة من الدولة الإسلامية.
لا مجال هنا لنذكر بالتفصيل تاريخ هذه الحركة الواسعة من الترجمة انطلاقاً من ترجمات سريانية عن اليونانية في البداية. ولكن أكثرَ فأكثر فيما بعدُ عن الأصول. ويكفي أن نقول إنه أصبح في متناول القراء العرب عدد كبير من النصوص المنقولة من العلم والفلسفة اليونانيين، كأعمال إقليدس وبطليموس وجالينوس وأرسطو. ولم يكن كل شيء قد أصبح واضحاً في هذا التاريخ. ويُتساءل خصوصاً عن مصير كتابات أفلاطون التي لم نجد لها ترجمات عربية رغم أنها بعيدة عن أن تُجهل. وما هو أكيد هو أنه، بغضِّ النظر عن السياسة، تُرجم كل ما لدى أرسطو، وكذلك لعدد كبير من الأفلاطونيين الجدد. حتى إنه نُسبتْ مؤلفات إلى هذه المدرسة، إلى أرسطو مثل " عقيدة أرسطو "، وبالتأكيد " كتاب الخير المحض " أو "كتاب العلل " اللذين يبدو أن أولهما مؤلَّف لــ " بروفيروس "، والثاني لــــ " برقلس". وإذا مشينا قرناً تقريباً إلى الأمام وجدنا هذه الحركة تساهم في الفلسفة، ولكن سيكون من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن هذه الفلسفة اقتصرت على انتحال الأصول الإغريقية، أو على نسخها. لأن هذا افتراض لفرضية مستحيلة وهي اقتلاعها من وسطها الإسلامي. ويقال إن الخليفة المأمون رأى في منامه أرسطو يؤكد له أنه ليس هناك أي اختلاف بين الشريعة والفلسفة. وتروي هذه الحكاية كل شيء في كلمتين: وضعَ الفلاسفة قيد الاستخدام مناهج الفلسفة الإغريقية ومقولاتها، ولكن لمعالجة مشكلات هي حقاً مشكلاتهم. ومنذ البداية حدد الكندي بدقة أكثرَ هذا الوضع؛ ففي الصفحات الأولى من " كتاب الفلسفة الأولى " يشرح مستلهماً أرسطو أن المعرفة تنمو متراكمة من قرن إلى قرن، وعليه يجب التزود بما كان قد اُكتُشف في أماكن أخرى، وعُبِّر عنه بلغات أخرى. وأنه، من جهة أخرى، يعلِّم الفلاسفة والأنبياء الشيء نفسه في ما يخص الله والأخلاق. ولْنلاحظ رغم ذلك أن أقوالاً من هذا النوع لم تلق قبولاً من قِبل أهل السُّنّة الذين كان معيار الحق والخير عندهم يكمن في القرآنِ والتاريخِ الماضي وعصرِ فجر الإسلام وتنزيلِ الكتاب المقدس باللغة العربية. إننا نتعرّض هنا لنقطة توتر رئيسة بين الفلاسفة والسلطات الدينية للمجتمع الإسلامي، وهذه من ثوابت التاريخ الإسلامي. وهناك ثوابت أخرى كالاهتمام السياسي بالمسألة الدينية، والتأثر العميق بالعلم، والاهتمام الموجه كثيراً للمسألة السياسية... بالتأكيد لا يمكن أن نجدها لدى كل الفلاسفة، ولكن مع ذلك نستطيع أن نأخذ نقطتين أو ثلاثاً لخيط يقود إلى استكشاف أكثر تفصيلاً بقليل.
فلسفة ودين
إن أول هذه الجوانب هو أكثرها تعقيداً بالتأكيد لأنه أدخلَ كل القضايا الكبيرة تقريباً للميتافيزيق[7] الإغريقي للمرة الأولى. ولكن قبــِــل هذا لأنه يطرح المسألة التي يجب حلُّها قبل الولوج في موضوع العلاقات بين الدين والفلسفة. وقد رأينا بإجمال ماذا كان رأي الكندي في هذا الموضوع. أضِف إلى هذا أنه في موضعين من مؤلَّفه، أو بالأحرى في ما تبقّى منه، يشرح آيات قرآنية بلغة الفلسفة لأن الله في رأيه ينقل إلى النبي دفعة واحدة، وببضع صياغات مكثفة، ما لا يستطيع الناس اكتشافه إلا في كثير من الوقت ومع كثير من الجهد. ولكن هذين الطريقين: طريق العلم الإلهي وطريق العلم البشري، يوصلان إلى حقيقة واحدة بعينها. وربما كان من المهم أن نلاحظ أنه في أحد هذين الموضعين يعالج مؤلفات أرسطو وطريقة دراسة العلوم والفلسفة، وفي الموضع الثاني يستخدم علم الكون الإغريقي. (cosmologie)[8] والحق أن الكندي ينفصل في موضوع آخر عن أرسطو عندما يتعين عليه الاختيار بين الفلسفة والوحي. وهذا ما يفعله بشأن أزلية العالم (éternité)[9] الذي يرفضه. ولما لم يبق لنا إلا جزء ضئيل من كتاباته كان من المستحيل علينا معرفة هل يوفِّق بين هذه التناقضات وكيف. ويمكن افتراض أنه كان يكتفي، كما رأينا سابقاً، بإيجاد توافق عام بين الإيمان بإله واحد والعقيدة الأفلاطونية الجديدة في شأن " الواحد"[10]، وبإيجاد نقطة التقاء مع الأخلاق التي تزدهر فيها حِكمٌ قديمة. وعلى كل حال كان علينا أن نقدّم أولاً هذه العقيدة المعروفةَ معرفةً سيئة، ولكنها الشاهد على اندفاع الفلاسفة العرب الأوائل، وعلى بحثٍ ما يزال في بداياته ولما تُستعرضْ صعوباته. ولْنذكر أولاً موقعين متطرفين: من جهة موقع الرازي الذي كان يرى الفلسفة وحدها، لا النبوةَ، هي التي تفتح طريق الحكمة، ومن جهة أخرى موقع الغزالي الذي هاجم الفلاسفة مسلَّحاً بقدرته الجدلية لجعلهم " يتهافتون " على حد تعبير العنوان الشهير لأحد مؤلفاته " تهافتُ الفلاسفة "، ولإحلال العقيدة السُّنّية محل عقائدهم الفلسفية. ومع هذين المؤلفين، ولأسباب متعارضة، لم تعد تُطرح مسألة الوفاق بين الدين والفلسفة بعدما أقصى أحدهما الآخر.
ويقترح الفارابي بالمقابل توليفاً بين الفلسفة والدين، ويحكم لصالح الطرفين. ويستخدم لهذا الغرض علم النفس ونظرية المعرفة التي أعدّها أرسطو ومفسّروه الإغريق. يميز إذن في النفس الإنسانية الشعور والخيال والعقل بالقوة[11] (pussanceintellect en puissance )، أي القدرة على تلقّي الصور المعقولة (intelligible). هذه الصور التي زوده بها العقل الفعال (intelligible agent) الذي هو الأخير بين القدرات العقلية الصِّرفة (intelligence pure) التي تنبثق الواحدة منها من الأخرى حسب تراتُبٍ أوّلُ مرتبة فيه هو الله. إذن فالإنسان الذي يستقبل عقله المعقولاتِ استقبالاً كاملاً يصبح عاقلاً، حكيماً، فيلسوفاً. إن هذه الصيغة حيث الكلمتان الأخيرتان: حكيم وفيلسوف، تعبّران عن التلاقي بين صيغتي المعرفة اللتين ميّزنا بينهما في البداية. وإذا كان خياله فضلاً عن ذلك حاداً حِدّة شديدة فإنه سينقل هذا المضمون العقلي إلى تمثُّلات (representation) تخيُّليةٍ واسعة الخيال. والإحساس بها سيصنع بدوره رؤى مدرَكة عملياً، كالنبي الذي يعبر عن المعقول بصور مؤسسةٍ حقيقةً. ويشرح تنوعُ التخيلات تبعاً للأنبياء تنوُّعَ الأديان. وهكذا لا تتعارض الفلسفة والدين، ويعبِّران، وهما يستمدان من المصدر نفسه وبطرق مختلفة جداً، عن الحقائق نفسها. أما التيولوجيا (علم الكلام) فإنها لا تشغل إلا مكاناً هامشياً، مكتفيةً بالاستدلال على مسلّمات الدين بطريقة أقل دقةً. وسيقول ابن الطفيل بدوره إن الموروثات الدينية تعبّر بصيغ رمزية عن الحقائق التي يدركها النظر الفلسفي بحد ذاتها. ولكن ابن رشد يُضفي على هذه الأفكار مظهراً منهجياً جديداً: إنه يأخذ كمبادئ، من جهة، نصوصاً قرآنية حيث الدراسة العقلانية فيها للعالَم حتميةٌ، ومن جهة أخرى نظرية المعرفة الأرسطية التي تميز الحجج المقنعة، والحجج الجدلية، أو الممكنة فقط، والحجج الخطابية. إن الأولى منها تناسب العقول الأكثر دقةً وتؤسس العلم والفلسفة، والأخيرة منها تكفي للعقولِ الأكثرِ بساطةً وغيرِ القادرة على متابعة الاستدلالات الصعبة. ويتجلى الشرع الإلهي في هذه الصيغة، ولكنها كلَّها تعبِّر في هذا الشأن عن الحقيقة ذاتها: إن الدين والفلسفة لا يتعارضان، بل يتكلمان لغتين مختلفتين فحسبُ. أما الحجج الجدلية التي ليس لها، لا يقين الدلالات المقنعة، ولا البساطة الآسرة للحجج الخطابية، ولا تكفي الفلاسفة، ولا تستطيع تنوير الناس البسطاء الذين ستوقِع بهم على الأرجح في الشك، فإنها من صُنع المتكلمين.
يعرض ابن رشد هذه الأفكار في رسائل نظرية قصيرة، ويضعها موضع التطبيق في مؤلَّف كلامي يبحث فيه بحثاً عميقاً المشكلات التقليدية الرئيسة التي يطرحها علم الكلام. ويبيِّن بُطلان الحلول التي يقدمها المتكلمون ويفسخها بمجرد الرجوع إلى القرآن والحديث النبوي. أما الفلسفة فلا توجد إلا كآثار كما يقول الكيميائيون، أي قليلة جداً، في " هذا الاكتشاف للحجج المقنعة في العقائد الدينية ". إن هذا التفسير للعلاقات بين الدين والفلسفة لم يلق نجاحاً تاريخياً لأنه شكلٌ من أشكال نظرِ القلة اجتماعياً، ومحصور في بضع حلقات، فاختفت الفلسفة على يد رجال الدين والمتكلمين والفقهاء وهم الأقرب إلى العامّة، وهم الذين كان على الحكام أن يحسبوا حسابهم حتى لو كان الحكام من جهتهم يثمِّنون الأبحاث الفلسفية. وهكذا اُضطُهد ابن رشد لنشاطه الفلسفي.
كان الوضع النظري في الإسلام الشيعي مختلفاً دون أن يعني هذا أن فلاسفته لم تضطهدهم السلطات السنّية أولاً ثم فقهاؤهم ثانياً، بل يعني أن الإشكالية الأساسية كانت مختلفة؛ فبالنسبة إلى الشيعية لا يقتصر فهمُ النص المنزل على حرفيته الموضّحة عند الضرورة بشروح فقهية أو تاريخية: إن للوحي " ظاهراً " و" باطناً "، واختراقه إلى أعماقه موضوع معرفة ذات أساس مُسارّي[12] تتطلب توليفاً من طراز خاص، وتتطلب فكَّ رموزٍ يدخل فيها التأمل الروحي والتجربة الزُّهدية، وكذلك الفلسفة في صيغتها الجديدة على الأقل، والتي هي أفلاطونية جديدة أكثرَ منها أرسطية، أخذتها عن ابن سينا خصوصاً. فلا يرى إذن في هذا الوسط الشيعي هذا الشرخ، دعْكَ من التناقض في بعض الأمكنة بين ممارسة النظر الفكري والنظر الديني. ولهذا لا يمكن الحديث عند الاقتضاء عن فلسفة شيعية، ولو أن الشيعية تضم فلاسفة أُصلاءَ. ويمكن أن نذكر منهم فلاناً وفلاناً. ولكن لا أكثر من هذا للسبب الذي قلناه، وهو أن ساحة الحرب الكلامية إجمالاً، والتي هي إحدى سمات الفلسفة، كان الإسلامَ السني، في حين أن المفكرين الشيعة بحثوا أكثر عن الحكمة الشاملة. وهكذا يقرر السهروردي تأسيس " حكمة الإشراق " وهي عبارة ترجمها ه. كوربان إلى (orientale théosophie)، أي اللاهوت الفلسفي الشرقي. ومن المفهوم جداً أن المقصود بالشرق هنا هو معنى الإشراق أكثر مما هو المعنى الجغرافي، وهو ما يجعله مرجعاً رئيساً لبزوغ الإشراقات المعقولة. وفي مقابل هذه الكلمة القديمة " الحكمة " التي تتردد دائماً فإن اللفظة الجديدة "فلسفة " تأخذ إذن بالتبايُن معنى أكثر خصوصية ومصطلحية، وباختصار أكثر تحديداً. ونلحظ هنا وضعاً ليس خاصاً بالإسلام ولكنه وُلد بالضرورة من المواجهة بين دين مؤسس على نصوص منزّلة وفلسفة بالمعنى الخاص للكلمة: تنازُعٌ في الاختصاص أكثرُ عسراً على التحليل والحل إذا كان الفلاسفة في الوقت نفسه مؤمنين بهذا الدين؛ فبعضهم يسعون إلى التوتر، وآخرون يبحثون عن حلٍّ للتوتر مقيمين علاقة بين الكلمتين، أو بالأحرى رابطين بينهما في توليف: قد رأينا هذا الجمع بين هذه العناصر يوضح الإمكانات المتحققة في الفلسفة الإسلامية.
العقل intellect
لدى الحديث عن النبوة رأينا ظهور موضوع العقل: إذا لم يكن أرسطو قد خصص (على الأقل في كتاباته الأصلية) إلا بضع صفحات له فإنه أثار حتى نهاية مدرسة الإسكندرية مقداراً من الشروح والاختلافات التي لا تخص المعرفة المجردة فحسبُ بل التماسّ contact مع الكائنات العلوية المستقلة عن المادة. والواقع أنه حسب اللاهوت الأرسطي، الذي جُدِّد جزئياً بالنظرية الفلكية astral لأفلاطون[13]، تتحرك الأفلاك السماوية بالعقول، والعالَم كله[14] يميل إلى إله هو " إله الفكر " pensée de la pensée. وتابع الفلاسفة أسلافهم الإغريق في هذه النقطة.؛ فعندما يصف الفارابي الوحي المنزل إلى محمد بأنه علاقة بين عقل أحدهم و" العقل الفعال "[15] يجعل طريقة الشرح التي يستعملها في مكان آخر ليعالج المعرفة العلمية والفلسفية قضيةً إسلاميةً تخصيصاً. ولكن ابن سينا مضى إلى أبعد في هذا الطريق: وصف سلسلة كاملة من الحالات التي يمر بها العقل البشري: سلسلة منضَّدة تبدأ بقابلية الانفعال البسيطة يتبعها إعداد للانضمام إلى العقل الفعال الذي يُفيض على النفس الصور المعقولة، ثم تستطيع النفس بإرادتها الانضمامَ إلى العقل الفعال، وهذه القدرة هي العقل بالفعل (intellect en acte)[16] أو إذا تُؤمِّل على أنه كمال فهو العقل المكتسب الذي هو أيضاً الصورة المعقولة المفاضة (دون أن تتحول النفس مع ذلك إلى هذه الصورة): يرفض ابن سينا قطعياً هذه الطريقة من إلغاء النفس في موضوعها. وأخيراً فالدرجة العليا من هذه السلسلة هي العقل القدس، وهي حالة يكون فيها التأثير على نفس الروح القدس (esprit saint) (لنلاحظْ هذا التعبير القرآني) قريباً كلياً من الفيض ثانية على الخيال الذي سينتج أفعالاً مرئية ومسموعة. وليس هذا بعيداً عن الفارابي وشرْحِه للنبوة. ولكن ابن سينا يفصِّل التحليلات أكثر، ويُعِّد هكذا وصْفَ التجربة الصوفية التي يحاول بحثها في مكان آخر.
ولكن هنا طريقين ممكنين على الأقل: الأول منهما فلسفي بشكل أكثر دقةً، وقد تبعه ابن رشد، وابن رشد كما هو معلوم يُجهد نفسه في العودة إلى النظرية الأرسطية الحقيقية منتزعاً منها عناصر حادثة adventice[17] تندمج فيها عبر القرون. ولكنه لا يمتنع في مؤلفاته من الاغتراف من هذا الشارح أو ذاك مما يعطي لفكره دوراً أفلاطونياً جديداً واضحاً بما يكفي؛ فالعقل في رأيه واحدٌ لجميع الجنس البشري، كما أن العقل " المادي "، أي العقل بالقوة [18]كالعقل الفعال (في حين أن رأي ابن سينا هو أن هذا الأخير وحيد). إن السعادة العليا للإنسان تتألف من تفعيل كل هذه المعقولات، أي في لحظة الانتقال إلى معرفة كلية، وهو الوقت الذي سينتج فيه الالتقاء (الوصلي) بالعقل الفعال. وها هنا شيء كالغبطة العقلية سيتكلم عليه سبينوزا لاحقاً، ولكن خصوصاً على بلوغ تفكيرٍ ما إلى التأليه بالفكر الذي يتتابع ولاسيما عند الإسكندر الأفروديسي[19] وعند ثاميستيوس[20]. ولكن لنلاحظْ أن العقل الفعال عند ابن رشد ليس الله.
أما الطريق الآخر فيتألف من الاستفادة من التشابه بين نظرية العقل في الصيغة التي أعطاها إياها ابن سينا من جهة، وبين علم مراتب الملائكة (angelologie )، ونظرية الروح المعروفَين في الفكر الشيعي انطلاقاً من القرآن، وتعليمات الأئمة من جهة أخرى. وهكذا يطابق السهروردي بين العقل الفعال للفلاسفة والملَك المكلف بنقل التنزيل إلى الأنبياء (ange de la prophetie) الذي هو أيضاً الروح القدس. ولكن هذا الضم يحتل مكاناً في لوحة ميتافيزيقية جليلة لا تنبع من الموروث اليوناني فحسبُ، ولا من تراث الأفلاطونيين، ولا من تراث أرسطو، بل تستعمل من جديد الأفكار الزرادشتية القديمة عن النور: من نور الأنوار تنبثق سلسلة من الأنوار الفائضة (كما تنبثق العقول لدى لفارابي وابن سينا) وعمودياً على هذا الخط من الفيض تنتشر مجموعة من الأنوار الملائكية التي هي بمجموعها أفكار أفلاطونية أُضفي عليها طابع شخصي. ثم يسيطر كلٌّ على نوع؛ وبهذا النظام يتعلق الروح القدس الذي هو هكذا قدس ange النبوّة وقدس البشرية. ويتأكد مع هذا المثال كيف يمكن أن تكون توليفةٌ مركبةً بشكل خاص، ومتوازنةً بين عناصر قادمة من أصول كثيرة (يونانية وإيرانية) يعاد التفكير فيها ضمن إشكالية، وفي خدمة معطيات إسلامية صرفة.
الوجود:
وفي الختام سنذكر مسألة فلسفية أخيرة يمكن أن نقول عنها إنها أصلية تماماً بما أنها لم تُطرح إلا استثنائياً جداً من قِبل الإغريق، ولم تُستثمر على كل حال بحد ذاتها، وهي مسألة الوجود بمعنى أن تكون موجوداً، لا ما هو موجود. وهي مسألة طرحت في القرآن نفسه ولو ضمنياً: التأكيد على الله الخالق ينطوي على أن هذا العالم المخلوق الذي وُجد كان يمكن أيضاً ألا يوجد (خلافاً للعالَم الأزلي لأرسطو والذي لا تنطرح حتى مسألة وجوده). وطرح " الكلامُ " من جهته وعلى طريقته هذه المسألةَ بخصوص وجود الأشياء وعلاقتها بالإرادة والعلم الإلهيين: هل يمكن القول إن الأشياء قبل أن تُخلق كان لها وجود ما، أو على الأقل كان لها اسمُها " أشياء "، وأن الله يعلمها؟ أم أنه ليست هناك طريقة لوجود الأفكار الأفلاطونية من جديد ومطابقة الأزل مع ما هو غيرُ الله؟ أما التحليل الأول الفلسفي الصرف فهو احتمالاً عملُ الفارابي الذي يميز في كل شيء موجود ماهيته quiddite أو ذاته essence))[21]، وبأي واسطة يكون هو هو وجودَه. إن الوجود لا يتطابق مع الذات، ولا يندرج فيه كذلك؛ وإلا فبإدراك ذات الإنسان مثلاً لا يمكن تصور إنسان غير موجود. إذا أخذت إذن الذات في حد ذاتها فلن تكون إلا غير موجودة: إذا أمكنت نسبةُ الوجود إلى وجود خاص، وبكلام آخر: إذا أصبح [ الوجود ] ذاتاً محسوسة لفرد فإن هذا الوجود يأتيه من مكان آخر. ويُتحقّق هكذا أن هذه هي حقاً الفكرة الدينية عن الخلق التي هي في الأصل من هذه الجِدّة الفلسفية. والحال أنه من أجل هذه النقطة يتناول ابن سينا رؤى الفارابي ثانية ويشرحها: تتضمن نظريته في الذات والوجود، في المقام الأول، تمييزاً بين الوجود الخاص للذات المتحقق في كل فرد، وبين وجوده الشامل عندما يفكر بها في الروح، وبين وجود الذات الذي لا هو كوني ولا جزئي، وأن لها ذاتاً بما أنها موجودة فحسب. يتضمن الميتافيزيق دراسة هذه الجواهر المأخوذة بحد ذاتها تبعاً لبنيتها الخاصة وفي إمكاناتها الصرفة. والواقع أن تمييز واجب الوجود والممكن يؤلف المحور الثاني لهذه النظرية. إن الله [ هو ] واجب الوجود بذاته والوحيد في الوجود، والأشياء توجد بالضرورة بسبب أن الله يخلقها، ولكنها بنفسها تنتقص إلى مجرد الإمكان.، فتميل إلى العدم non être، ولذا فالوجود عارض للذات فهو عَرَض accident[22]. وفي التحليل الأخير فإن هذه العقيدة هي فلسفة الذات نظراً إلى أن الذات هي موضوع الميتافيزيق، وبسبب ضرورة ذاته يوجد الله الذي هو أصل كل موجود مخلوق.وعلى العكس تماماً يضع مولى صدر الشيرازي الوجود قبل الذات، وتبعاً له فالعقل يحلل الوجود أو بالأحرى الموجود étant إلى ماهية ووجود. والماهية بالنسبة إلى الفكر هي الأولى، ولكن في الواقع الخارجي فالمبدأ principe هو الوجود لأن الوجود هو الماهية نفسها في واقعها؛ إنه الوضع نفسُه للشيء واللاشيء non chose الذي قد يتعلق به، فالوجود لا يأتي من الانضمام إلى الذات بل بالعكس الماهية محمولة الوجود الذي توحدت به وحدةً أقوى من وحدة العرض بالذات sujet[23]. ومن الله ينبثق أول وجود فائض يدل عليه مولى صدر بالأسماء القرآنية: الروح القدس، الأمر الإلهي الخالق، ثم تنبعث بدرجات كل الموجودات existants حتى إنه، مرة أخرى، ورغم أنه مع تكوُّن حديث للإدراك، نجد ثانية في جذور هذه النظرات في الذات والوجود فكرة الخلق التي يؤكدها القرآن بقوة.
هذه هي إذن بعض الموضوعات التي يسِم تكرارها بأشكال مختلفة الفلسفةَ الإسلامية وسْماً كاملاً، وخصوصاً الفلسفة في صيغتها الإسلامية. ومن المفهوم أنها لم تقتصر على هذا، فإنه لم يتمّ إلا استشفافٌ من بعيد لغنى النظر الشيعي مع كتاباته المتعددة بالإضافة إلى أنه اكتفينا بذكْرِ ابن خلدون؛ بل إننا لم نمسّ الأعمال الواسعة للصوفي ابن عربي. إن هذه النواقص مهمة، إلا أنه كان علينا أن نضع حدوداً؛ وعليه لم نذهب إلى أبعد من حدود الفلسفة بالمعنى الحصري للكلمة. وحتى هنا أهملنا ملامح سنكتفي الآن بالتذكير بها أو الإشارة إليها: الميل إلى التفكير الأخلاقي الذي لوحظ سابقاً لدى الكندي الذي نعرف عنه سلسلة من الأقوال المأثورة، ورسالة عن الحزن. ويلاحَظ في حلقة بغداد خصوصاً التمييز الــمُلحّ بين النفس والجسم، وهو سمة موروثة عن الأفلاطونية (دون أن تكون غريبة عن أرسطو)، والذي هو سمة ثابتة تقريباً لدى كل هؤلاء الفلاسفة، كثبات الصورة الميتافيزيقية لكونٍ مسَلسَلٍ شيئاً فشيئاً من المادي فالروحي، والاهتمام الحي بالعلوم، وهو ما نلحظه عند كثيرين: الكندي ذو الفكر الموسوعي كتب في كل الموضوعات تقريباً من الرياضيات إلى الصيدلة، ومن علم التعدين إلى العطور. والفارابي اهتم بالموسيقى، وابن سينا وابن رشد كتبا أبحاثاً طبية انتشرت وقتاً طويلاً بعدما تُرجمت إلى اللاتينية. وقد يكون من الواجب أن نصف أيضاً تنوُّع الأجناس الأدبية التي مارسها كل هؤلاء المؤلفين: رسائل قصيرة للكندي، إلى موسوعة ابن سينا الذي أعاد تقديم كل نتاج أرسطو، إلى الرواية الفلسفية التي يروي فيها ابن الطفيل كيف أن طفلاً وُلد ذاتياً في جزيرة مقفرة يكتسب فيها تدريجياً إلى سن النضج كل المعرفة الممكنة. وليست هذه إلا ملامح مختارة اختياراً شبهَ عشوائي من تاريخ غنيٍّ غنىً خارقاً لولاه ما كانت الفلسفة الغربية على ما هي عليه.
الفلسفة والفكر الفلسفي في القرون الوسطى اللاتينية:يجب أن نتكلم أيضاً على التأثر الذي مارسه عدد من المؤلفات الفلسفية المترجمة من العربية في القرون الوسطى اللاتينية التي كانت، كما نعلم الآن، حقبة حاسمة في صياغة الفكر الأوربي. والحقيقة أنه تطورت وسْط الجيشان العقلي الذي يسم القرن الثاني عشر للميلاد حركةُ ترجمة واسعة من اليونانية والعربية. كان للغة العربية، وهي التي تهمنا الآن، مراكز في مقاطعات المجابهة بين المسيحية والإسلام، والتي كانت آنذاك إسبانيا وصقليا. وهكذا تُرجم كثير من الأعمال العلمية والفلسفية. ولْنذكرْ بين هذه الأعمال الفلسفية رسائل الكندي والفارابي وموسوعة ابن سينا.وقد تلقّف الغرب هذا الإسهام الجديد بلهفة. اهتم اللاتينيون أولاً بابن سينا خصوصاً بسبب أن أعماله، كما قلنا، أعادت تقديم مجموعة الأعمال الأرسطية بكاملها، وبسبب أن الفلسفة المخصَّبة بالأفلاطونية الجديدة حيث كانت الاهتمامات الدينية محسوسة تمازجت جيداً مع وجهة نظر القديس أوغستين[24] فكانت تبدو إذن قابلة للمقارنة مع الفكر المسيحي. ويعرف عدد من الأبحاث التي يعود عهدها إلى ما بين القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر التي تجهد لوصْل فكر ابن سينا بفكر أوغستين، والتي تقارب مثلاً بين نظرية " الإشراق بالكلمة الإلهية " illumination par le verbe ونظرية العقل الفعال. ونجد هذا التحالف ثانية لدى عدد من متكلمي القرن الثالث عشر scolastique. ولكن هذا القرن كان أيضاً قرن اكتشاف أرسطيٍّ كبير هو ابن رشد الذي كانت حظوته عظيمة. وكانت قد ترجمت شروحه على أرسطو، الدقيقة والثاقبة والملأى بمعلومات ثمينة عن تاريخ الفلسفة، وكانت هذه المؤلفات تسهِّل بطريقة فذّة فهْم النصوص، وتقدّم نماذج للتأويل في العمق. وقد فرضت نفسها خصوصاً على أساتذة الفنون، أي أولئك الذين كان عملهم يرتكز على تعليم الفلسفة بين علوم أخرى، أي شرح كتب أرسطو. ولكن هذه المؤلفات كانت أيضاً جديرة بأن تسترعي اهتمام المتكلمين الحريصين على الفلسفة. ويخطر في الذهن هنا اسم القديس توما الأكويني[25] الذي أولى اهتماماً كبيراً لأعمال ابن رشد. ومع ذلك، ولأنه بالتحديد متكلم، لم يستطع موافقته على بعض النقاط التي يعرض فيها الفكر الأرسطي فحسب كفكرة أزلية العالم éternité du monde، ولا على أفكار أخرى كان يقدّم لها تأويلاً شخصياً (وحدة العقل الفعال والمنفعل، والتي تذهب ضد الإيمان بالخلود الشخصي لكل إنسان). ولكن هذا لم يكن ضرورياً لمعلمي الفنون الذين لم يكن عملهم يجبرهم نظرياً على أن يأخذوا بعين الاعتبار في تعليمهم مسلَّمات العقيدة التي كانت علماً غريباً عن علمهم الخاص. وعرض بعضهم كبويس دو دسي وسيغار دو برابان في جامعة باريس فلسفة أرسطو كما كان يصوغها ابن رشد دون أي تعديل، مشيرين فقط إلى التمايُز بين ما تعلّمه الفلسفة وما يؤمن به المسيحي. إن هذا الفصل للمجالات، المعبَّر عنه بــــ " الرشدية " كان معارِضاً بداهةً لمثال المعرفة الموحَّدة التي سادتها ونظمتها التيولوجيا (الكلام)، والتي هي سمات رئيسة للعقيدة الكلامية. وبالإضافة إلى ذلك بلوَر شكوكَ السلطات الدينية بخصوص أرسطو والعرب، وشكوك المتكلمين الأشد تحفُّظاً أيضاً، والذين صدرت عنهم الإدانات منذ عام 1270 وخصوصاً عام 1277 واحدة تِلو الأخرى من قِبل أسقف باريس إتيين تامبييه، والتي تمس على نحو خاص هؤلاء المؤلفين (وكذا توما الأكويني على بعض طروحاته). لقد أثّرت هذه الإدانات بداهة على تاريخ الكلام فقد أنقصت جداً تأثير ابن رشد ولكنها لم تُلغِه لأننا نراه يظهر من جديد منذ بداية القرن الرابع عشر. وبالنتيجة استردت الرشدية قوة دفعِها بشكل أساسي في إيطاليا. وامتدت إلى عصر النهضة، بل أبعد من هذا، ولكن دخلت معها عناصر جديدة. وهكذا فإن تآلُفها مع فلسفة إسكندر الأفروديسي ولّدت رشدية مادّية، وهي ما لم تكُنْها الرشدية اللاتينية الأصلية، ولا فلسفة ابن رشد نفسِه. ولْنلاحظْ أن التأثير الذي مارسته فلسفة ابن رشد على القرن الثالث عشر لم تمنع فلسفة ابن سينا من الاستمرار. ويكفي أن نذكِّر هنا بأن توما الأكويني وجون دون سكوت استلهما منه رغم اختلاف الطرق لبناء الميتافيزيق الخاص بكلٍّ منهما.
هذه هي باختصار الملامح الرئيسة للتأثير الذي مارسه فلاسفة الإسلام على الغرب المسيحي، والتي بُحثت باختصار شديد. ولكن قبل أن نختتم، وبالضبط في هذا الصدد،من المناسب أن ننبِّه على خطأ يجب استئصاله من تاريخ الأفكار؛ فقد اعتبر الغرب زمناً طويلاً أن الفلاسفة المسلمين هم وحدهم ورثة الإغريق من جهة، ومموّنو توما الأكويني وجون دون سكوت من جهة أخرى، وهما سِمتان واقعيتان من اللوحة، ولكن أهميتهم بالنسبة إلى البقية فرضها نوع من لفْت النظر المتصل تاريخياً بالعلاقات الاستعمارية، ويجب اتخاذ وجهة نظر أكثر دقة في هذه الأمور، وأن نفهم جيداً أنه إذا ذهب اللاتينيون في القرنين الثاني عشر والثالث عشر يبحثون عن العلم والفلسفة عند العرب فلأنهم كانوا يفتقرون إليهما في حين كان الإسلام غنياً بهما، وأنهم إذا جعلوا من هذا عادة أصيلة فإن فلاسفة الإسلام فعلوا مثل هذا مع الفكر الإغريقي الذي التقوا به أولاً عبْر توسُّع الإسلام. بيد أنه يجب أن يبدأ إعادة توازنٍ في التاريخ الحاضر لنتمكن من أن نحل حلاً صحيحاً رموز التاريخ الماضي.
[1] الحواشي كلها للمترجم إلى العربية
[2] يشير المستشرقون إلى الفلسفة العربية بــــ falsafa والفيلسوف العربي بـــ faylasuf لتمييزهما من phlosophie وphilosophe
[3] " النظر " في المعجم الفلسفي هو speculation. وهو المصطلح الذي يستعمله المتكلمون العرب.
[4] نسبة إلى speculation.
[5] علم اللاهوت أو علم أصول الدين بالمقارنة مع علم الفروع الذي هو الفقه، والأول هو الذي يتناول صفات الله وحرية الإنسان والإمامة ومسألة خلق القرآن وأزليته.
[6] نسبة إلى speculation.
[7] Metaphisique تعني عالَم ما وراء الطبيعة، آثرنا استعمال المصطلح الأجنبي كما هو لانتشاره.
[8] Cosmologie فرع من الفلسفة ينصبّ على دراسة القوانين العامة للكون في أصله وتكوينه ونظامه، ويقابل علم الوجود ontologie.
[9] نظرية أزلية العالَم.
[10] هو الأقنوم الأول من أقانيم أفلاطون الثلاثة، وهي مبادئ العالَم، وترتيبها: الواحد، والعقل، والنفس الكلية. وهو أيضاً ما لا يقبل التعدد بحال، ويُطلق على البارئ جلّ شأنه؛ فالله هو الواحد الأحد.
[11] يقابل العقل في الفرنسية مصطلحان: أولهما raison التي تعني القدرة على التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل... وintellect التي تعني القدرة على إدراك اللامحسوسات، وما يعين على التجريد واستخلاص المعاني الكلية. وقد فهم المعتزلة كما سنرى في المقال الخاص بهم العقل بالمعنى الأول. وعالجه الفلاسفة بالمعنى الثاني.
العقل بالقوة خاصية ما يمكن أن يحدث وإن لم يوجد بالفعل. ويقول ابن رشد: القوة هي الاستعداد في الشيء والإمكان الذي فيه لأن يوجد بالفعل.
والعقل الفعال intellect actif ou agent يعده الفلاسفة المسلمون في نهاية سلسلة العقول الفلكية، وسمَّوه العقل العاشر الذي يدير شؤون الأرض، ويقابله العقل المنفعل passif وهو العقل في تقبُّله الصور الذهنية، وقد يسمى ايضاً العقل الهيولاني.
وتعني intelligence القدرة على التحليل والتركيب، والتمييز والاختيار. وتقابل الوجدان والإرادة في التقسيم الثلاثي للظواهر الفلسفية.
وتعني intelligible ما لا يمكن معرفته إلا بالإدراك العقلي، وتقابل المحسوس.
[12] نسبة إلى المسارّة، وهي احتفالات كانت تقام لإيقاف عضو جديد على بعض أسرار الديانات القديمة، والجمعيات السرية الحديثة.
[13] النظرية الفلكية asturale لأفلاطون: لما كانت صفة الأبدية لا تناسب العالم الذي له بداية فقد قصد اللهُ أن يضع للأبدية صورة متحركة هي الزمان. ولإحداث الزمان أوجد الشمس والقمر والكواكب الأخرى. ونجد النظام في هذا الكون في حركة الأفلاك، وهذا النظام يؤذِن بوجود إضافات رياضية هي حالة بين الوجود الحسي ووجود الصورة. ويقابلها وسَط ووسيط بين الصورة والمحسوس. وهذا الشيء هو النفس الكلية التي وُجدت بين المتشابه واللامتشابه.
[14] تعني univers مجموع أجزاء الكون، وهو ما سوى الله سواءٌ كان عرَضاً أم جوهراً. أما كلمة monde فتتعلق بالناس.
[15] العقل الفعال intellect actif ou agent يعده الفلاسفة المسلمون في نهاية سلسلة العقول الفلكية، وسمَّوه العقل العاشر الذي يدير شؤون الأرض، ويقابله العقل المنفعل passif وهو العقل في تقبُّله الصور الذهنية، وقد يسمى ايضاً العقل الهيولاني.
[16] يقابل العقل في الفرنسية مصطلحان: أولهما raison التي تعني القدرة على التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل... وintellect التي تعني القدرة على إدراك اللامحسوسات، وما يعين على التجريد واستخلاص المعاني الكلية. وقد فهم المعتزلة كما سنرى في المقال الخاص بهم العقل بالمعنى الأول. وعالجه الفلاسفة بالمعنى الثاني.
العقل بالقوة خاصية ما يمكن أن يحدث وإن لم يوجد بالفعل. ويقول ابن رشد: القوة هي الاستعداد في الشيء والإمكان الذي فيه لأن يوجد بالفعل.
والعقل الفعال intellect actif ou agent يعده الفلاسفة المسلمون في نهاية سلسلة العقول الفلكية، وسمَّوه العقل العاشر الذي يدير شؤون الأرض، ويقابله العقل المنفعل passif وهو العقل في تقبُّله الصور الذهنية، وقد يسمى ايضاً العقل الهيولاني.
وتعني intelligence القدرة على التحليل والتركيب، والتمييز والاختيار. وتقابل الوجدان والإرادة في التقسيم الثلاثي للظواهر الفلسفية.
وتعني intelligible ما لا يمكن معرفته إلا بالإدراك العقلي، وتقابل المحسوس.
[17] تعني adventicte الحدوث الذي هو نقيض القِدم في لغة المتكلمين. والقِدم صفة الله فحسبُ، وكل ما عداه فهو حادث أو محدَث. وتستعمل ماري برنان في مقالة قادمة المصطلح العربي الحدوث والحادث باللغة العربية في مقابل اللفظة الفرنسية.
[18] العقل بالقوة خاصية ما يمكن أن يحدث وإن لم يوجد بالفعل. ويقول ابن رشد: القوة هي الاستعداد في الشيء والإمكان الذي فيه لأن يوجد بالفعل.
[19] ذكره ابن النديم في " الفهرست " ص 515 ضمن كتاب شُرّاح كتاب ارسطو " السماء والعالَم "
[20] ذكره ابن النديم كذلك في " الفهرست " ص 515 في الموضع السابق.
[21] تعني quiddite الماهية، وماهية الشيء هي ما به الشيءُ هو هو. وهي من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة. وتعني essence الذات أو الجوهر، أي حقيقة الموجود، وتقابل العَرَض accident. وتعني sujet أيضاً الذات في نظرية المعرفة، وهو ما به الشعور والتفكير، فتقف الذات على الواقع وتتقبل الرغبات. وتوجِد الصور الذهنية، وتقابِل العالم الخارجي.
[22] تعني accident العرَض، مقابل essence التي تعني الذات،كما سبق.
[23] تعني quiddite الماهية، وماهية الشيء هي ما به الشيءُ هو هو. وهي من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة. وتعني essence الذات أو الجوهر، أي حقيقة الموجود، وتقابل العَرَض accident. وتعني sujet أيضاً الذات في نظرية المعرفة، وهو ما به الشعور والتفكير، فتقف الذات على الواقع وتتقبل الرغبات. وتوجِد الصور الذهنية، وتقابِل العالم الخارجي.
[24] سانت أوغستين (354 – 430) رجل دين إفريقي من آباء الكنيسة، وأستاذ البلاغة. تحوّل إلى المسيحية بعد اكتشاف الأفلاطونية الجديدة. تدعو نظريته إلى عدم التخلي عن العقل. ويؤكد التصديق وفهْم ما يصدق على جمال الخلق، وذنوب الإنسان سببُها هو نفسه، لا الله. كان له تأثير على الفكر الأوربي حتى ظهور المدرسة الكلامية في القرن الثالث عشر، وموقعٌ مهم في الفلسفة، وخصوصاً فلسفة المعرفة ونظرية المعاني.
[25] توماس الأكويني (1225 – 1274) أكبر فلاسفة العصور الوسطى المسيحية. له شروح على أرسطو ومؤلفات ورسائل. يرى أن الله فِعلٌ محْضٌ لا متناهٍ، والهيولى مبدأ الفردانية.