اللغة شؤون وشجون[1]
هذا الإسهام المتواضع يمكن أن يُعدّ من قبيل وضع الإصبع على الجرح، وربما رشِّه بالملح أكثر مما هو علاج له. وهو طرْحُ تساؤلات وافتراضات أكثر مما هو حلول وإجابات، ومحاولةٌ لتلمُّس المشكلة اللغوية على ضوء معطيات علم اللغة المعاصر، وتحريض لمن عنده الرغبة والقدرة على خوض هذه الأبحاث أكثرَ مما هو دراسة متخصصة في اللغة الشركسية.
وهو بهذه المواصفات جانب من اثنين: الجانب القائم في مثل أقطارنا، والجانب القائم في القفقاس، وهو وسط أغنى بحياته اللغوية وأكثر إتقاناً، وأوفر حظاً من الدراسة. ومن المؤسف أن من لا يتقن اللغة الروسية لا يستطيع أن يدرس اللغة الشركسية الأخرى، وهذا مما يفتقر إليه الباحث في جملة ما يفتقر.
ومع ذلك يسمع المرء من الجانب الآخر شكايات مماثلة لشكاوانا. منها من نُشر في أحد أعداد " أنباء موسكو " عن طغيان اللغة الروسية وانحسار الشركسية. ومنها حديث مسجل يسخر فيه أحدهم من الذين يظنون أنهم يتحدثون الشركسية وبين كل عشر كلمات مما يتحدثون واحدة شركسية وتسع روسيات. وهناك مسموعات شفهية ممن يزورون القفقاس أو يقدمون منها، كلها تشير إلى أن هناك مشكلة على تفاوت مستوياتها وأهميتها هنا وهناك. وهذا يؤكد ضرورة تضافر جهود كثيرة.
وما من لغة في العالم لا تشكو من مشكلة ما، حتى اللغات الواسعة الانتشار، المدوَّنة منذ قرون. وما من لغة إلا لها مجمع لغوي ومؤسسات تُعنى باستمرار بتطوير اللغة ومعالجة مشكلاتها، وخاصة التعليمية، للحفاظ عليها ولاسيما في ظروف مزاحمة اللغات العالمية كالإنجليزية.
عموميات في اللغة
اللغة وسيلة تفاهم واتصال بين المتكلمين بها. والمصطلح المستخدم في الفرنسية هو moyen de communication. وهي وثيقة الصلة بالتفكير. فهي ضمُّ محتويات الفكرة إلى أصوات منتجة بواسطة الكلام.
ويميز علم اللغات بين اللغات المنطوقة التي هي أرقى وسائل الاتصال (langue )، وبين اللغات غير المنطوقة (langage) مثل الرسوم وإشارات الطبول أو الصفير. ويبحث علمُ اللغة في النوع الأول الذي هو اللغة المنطوقة، والتي يقول أحدث الأبحاث العلمية إنها نتاج تطور حنجرة الإنسان البالغ بحيث تكونت حجرة واسعة فيها الحبال الصوتية التي تتيح إنتاج الأنغام المتنوعة، خلافاً للقرود، بل خلافاً للطفل قبل الثانية من العمر.
ويميز كذلك بين اللغة ( langue ) والكلام ( parole ) وهو تمييز هام جداً ؛ فاللغة ذات مظهر أو طابع اجتماعي، هي ملك للمجتمع كله، ويمكن، بل يجري حفظُها، ليس شفهياً فحسبُ بل كتابة ضمن معاجم اللغة وكتب اللغة والنحو والصرف. ولا يمكن، ولا يُسمح للأفراد بالعبث بها. أما الكلام فذو مظهر فردي لا يمكن وضعُ حدود له. يتنوع بتنوع المتكلمين، بجهد وإبداع فرديين. ولا يخفى أن الكلمة الواحدة في التعداد اللغوي تستعمل آلاف الاستعمالات فردياً، مثل " أكل " و" شرب".
ونتجاوز النظريات المتعددة في أصل اللغة من طبيعية ونفسية ولاهوتية... لنقول إنه لا خلاف الآن على أن أصلها هو الحياة الاجتماعية التي تُحيج الناس إلى التفاهم بهذه الوسيلة.
والدراسات اللغوية قديمة قِدمَ اللغات المكتوبة لأن كتابتها استدعت أبحاثاً لغوية، كتأليف المعاجم في السومرية، والشروح في العبرية. غير أنها على تنوُّعِها مرت في مراحل متمايزة. فقد بدأت بتوثيق اللغات، أي وصْفِ كل الأحداث الملحوظة للغة، ثم الدراسات المقارنة والتطورية التاريخية التي كان هدفها إثبات قرابة لغة ما إلى لغة أخرى، ولاسيما العبرية، بوصفها أم اللغات في مفهوم ذلك العصر. ثم إلى الهندية الأوربية بعد ما يسمونه منعطف اللغة السنسكريتية. تخللتها مرحلة البحث عن القواعد العامة للغات المعروفة باسم قواعد مدرسة بور رويال الفرنسية.
حتى إذا كان القرن العشرون دشّن كل من عالِمَي اللغة ماييه وسوسور ما يسمى علم اللغة العام أو الحديث أو المعاصر linguistique. فجرى التخلصُ من الأبحاث التاريخية بالنسبة لعلم اللغة على الأقل لأنها صارت من اختصاص التاريخ، والتخلصُ من الأبحاث المقارنة إلا في حدود ما تخدم به دراسةَ بنية اللغة واكتشافَ قوانين تطورها.
طرح سوسور الفكرة القائلة إن كل لغة في كل لحظة في حياتها هي في تطور مستمر، ولكن يمكن إخضاعُها في زمن مستقطع لدراسة سكونية أو تزامنية statique ou synchronique، بغضِّ النظر عن التطور الذي تعرضت له اللغة. وهكذا انقسم علم اللغة إلى علمِ لغةٍ تطوري أو تعاقبي évolutive ou dyachronique، وعلم لغة سكوني أو تزامني. وتنضم الطريقتان موضِحة إحداهما الأخرى.
دشّن سوسور بهذا المنهج عهد الدراسات الوصفية descriptives للغات، أي الإمساكِ بلغة ما، في زمن محدود قد يكون سنة أو اثنتين أو عشراً، ووصفِها صوتياً وصرفياً ( تغيرات الكلمة ) ومعجمياً ( معاني المفردات ) ونحوياً ( تركيب الجملة )، دون اعتبار للتطور الذي طرأ عليها في مراحل حياتها السابقة. وهذا ما جرى بغزارة من قِبل الباحثين الأمريكان في خلال الحرب العالمية الثانية حين غزت الجيوش الأمريكية شعوباً آسيوية لغاتُها غيرُ مدوّنة. وهو ما جرى أيضاً في الاتحاد السوفييتي حين انضوت تحت راية الدولة الجديدة شعوب لغاتُها غير مدونة.
وهذا ما جرى أيضاً في العالم العربي قبل ثلاثة عشر قرناً حين انبرى علماء اللغة العربية لجمعِها من القبائل ووضعِ المعاجم لها، ثم استنباط قواعدها، ووصْفِ أصواتها الذي نجد تفصيلاته في كتب التجويد والقراءات القرآنية. ولكن الفرق بين حالة اللغة العربية التي جرى جمعُها بمعزل عن التأثيرات الجنبية الخارجية، ومن منطلق خدمة الدين الجديد، وتعليم العربية لغير الناطقين بها، وبين حالة اللغة الشركسية التي جمعها أهلها وغيرُ أهلها، وبتأثيرات خارجية غالباً، هو أن دراسة اللغة العربية انطلقت من اللغة العربية نفسها رغم وجود لغات مدروسة آنذاك كالعبرية واليونانية. قال العرب: الكلمة اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ، دون أن يأخذوا التقسيم اليوناني مثلاً، انطلاقاً من الوظيفة التي تؤديها الكلمة في الجملة. أما اللغة الشركسية فقد خضعت في مصطلحاتها وفي أبجديتها على الأقل للغة الروسية، وهذا ما سنعود إليه بشيء من التفصيل.
وانطلقت البنيوية أو السوسورية في دراسة اللغة من حقيقتين كبيرتين:
- كل لغة هي نظام إشارات اعتباطية، أي لا علاقة حتمية أو سببية بين الألفاظ وما تشير إليه في الطبيعة.
- كل لغة هي ظاهرة اجتماعية.
وترتّب على الحقيقة الأولى إهمالُ الجهود المبذولة لإنشاء صلة بين الألفاظ ومدلولاتها، وفهْمُ سبب إمكان تأليف آلاف الكلمات من عدد محدود من الأصوات لا يزيد غالباً عن الثلاثين.
وترتَّب على الحقيقة الثانية جملة أبحاث خطيرة، ولا سيما البحث في ما يُعرف بـــــ الاستعمال والقياس، وتطور اللغة لملاحقة التطور الحياتي المستمر، وماذا يموت من الألفاظ، وماذا يعيش. وكيف تتسع اللغة بألفاظها التي لا تتجاوز بضع عشرات من الآلاف لمضاعفاتها من المعاني، ومعايير اخطأ والصواب في اللغة، ثم فهم الآثار المترتبة على الاحتكاكات المجتمعية.
درس علمُ اللغة المعاصر اللغة على ثلاثة مستويات:
- مستوى صوتي: يحدد أصوات اللغة. وينبغي هنا عدم الخلط بين الأصوات التي هي ملفوظة، والتي هي أصل اللغة وتتعلق بالجهاز الصوتي، وبين الحروف التي هي تمثيل خطي لهذه الأصوات عن طريق ما يسمى الفونيمات phonemes، ويحدد العلاقاتِ بين هذه الأصوات كعدم تعاقُب بعضها ( العين والحاء في العربية مثلاً والسين والشين، وعدم التقاء ساكنين ) ويحدد القوانين الصوتية العامة كالتبدلات الصوتية ( الإعلال والإبدال في العربية: قام: أصله قوم، وازدهر أصله: ازتهر )
- مستوى صرفي أو معجمي: على مستوى الكلمة المفردة، يدرس انتقالها من معنى إلى معنى، ومن زمن إلى زمن، ومعانيها الدلالية كالمحسوسات والمجردات.
- مستوى نحوي: يدرس العلاقات بين الكلمات في التراكيب والجمل والكلام.
بين الأصوات والكتابة
إن دراسة النظام الصوتي معقدة جداً، ولاسيما لمثل اللغة الشركسية. والسبب أنه لا تسجيل لدينا للأصوات الملفوظة قديماً، أعني التسجيل الوصفي، لا التسجيل الآلي. وهو تسجيل متوفر للغاتٍ أخرى، أعني به وصْف مخارج الأصوات وصفاتها من جهْر وهمس وإطباق...واستناداً إلى مثل هذا الوصف يمكن الاطمئنان إلى أن الضاد التي ننطقها في سورية ومصر مثلاً ليست الضاد الحقيقية. وكذلك يُخمَّن صوت الجيم الفصيحة، لوجود أكثر من جيم كالجيم اليمنية، والجيم المصرية، والجيم الشامية.
مرت الكتابة الإنسانية بمراحل متعددة، بدأت بالتمثيل الرسمي للألفاظ ( الصور ) كرسم صورة رأس ثور للتعبير عن الثور، انتهاء بتوصُّل العقل الإنساني إلى تجريد الصوت المفرد ( نظامنا الحالي). والسبب هو أن اختراع الكتابة يتطلب مستوى معيناً من الوعي اللغوي عند الشعب المخترِع. ويلاحَظ أن الكتابة لا تتطابق مع الأصوات الملفوظة في جميع اللغات. فليس غريباً وجود مشكلات كتابية في الشركسية، وإن كانت لها أسباب أخرى غير التي لسائر اللغات. ويمكن الاستشهاد بمثال اللغة الفرنسية، فليس سهلاً على المبتدئ معرفة سبب وجود أكثر من حرف للكاف k,q,c، ولا الفرق بين é,è,ê ai,eai. ولا سبب وجود أحرف كثيرة لا تلفظ في الكلمة... وربما كانت المشكلة أوضح في الإنجليزية. وهذه مسائل يبحثها ويدرسها المختصون، ويجدون لها أجوبة عبر تطور اللغة وعلاقتها باللاتينية، ولكنها عبء على المتلقي، وقد تكون المشكلة معكوسة في العربية والعبرية بسبب عدم كتابة الحركات.
وفي اللغة الشركسية هذه المشكلة، مشكلة عدم التطابق، محلولةٌ لعدم وجود الكتابة المثبِّتة لهذه الأصوات.
والأساس في الأصوات هو ما يسمى بالفونيم. وهو أسرة أصوات لا تسمح لأحد أعضائها أن يحل محل الآخر، مثل أسرة النون في العربية ( نون بغنّة ونون بلا غنة، وإخفاء وإظهار)، أي أنه لا تنتج كلمة جديدة من حلول نون بغنّة محل نون بلا غُنة مثلاً. ومثال أوضح في كلمة "ابتسام" فلا فرق بين أن ننطق الباء عادية أو بقلقلة. وفي الشركسية ( اسم الولد في لهجة القبرتاي، واسمه في لهجة البجدوغ، واسمه في لهجة الأبزاخ).
من الطبيعي أنه يستحيل الآن معرفة الأصلي من أصوات الشركسية والمستجد منها. وقد يكون صحيحاً أنها جميعها أصلية مع افتراض ضئيل، وقد يكون بعضها نتيجة احتكاكات بلغات أخرى، كانتقال الصوائت ( حروف المدّ) إلى الجرمانية. غير أن الأقرب للعقل والمنطق وبالقياس إلى الدراسات الصوتية في اللغات الأخرى أن أصوات الشركسية لم تكن بهذا العدد، وبهذا التشابك،وهي فكرة أوحى بها إليّ أستاذي عالم اللغات المرحوم عبد الهادي هاشم. فالثابت أن صوائت ( حروف مد) لاتينية تحولت إلى صوائت قريبة في الفرنسية، واختفت أصوات أخرى، مثلاً vita اللاتينية تحولت إلى vie في الفرنسية. والتطور الصوتي في لغة الغاسكون أوصل اسم القط في اللاتينية gallus إلى شكل واحد gat فاضطرت هذه اللغة إلى ابتداع اسم جديد للديك... وقوانين التطور الصوتي معقدة حتى للغات المدروسة جيداً كاللغات اللاتينية. وتتداخل بأحداث تاريخية.
وفي اللهجات العربية المحلية يلاحَظ وجود أكثر من صوت للقاف الفصيحة، فهي قريبة من الغين في دير الزور، ومن g في البدوية ومن الهمزة في الشامية، وكذلك الألف التي تُمال في لهجات الساحل السوري ولبنان، وواضح أن هذه بقايا لغات قبائل يحفظ القرآنُ الكريم بعضها، وشواهدُ النثر بعضها الآخر مثل الكشكشة والعنعنة...
السؤال الآن: ماذا كان سيحدث لأصوات العربية لو تأخر تدوينها إلى القرن العشرين، بل إلى القرن العاشر؟
- كان لابد من دخول أصوات جديدة مثل تجليات القاف والجيم.
- وكان لابد من إحداث خلخلة في المعجم ( وهو مستوى آخر من مستويات اللغة )، مثلاً: كلمة "قمر" كانت تحولت إلى "أمر في الشامية، وهذه كلمة جديدة.
ولا تزال لهذه الظاهرة عواقب محدودة مثل حلول السين أو التاء محل الثاء، أو الزاي محل الذال. غير أنها تبقى محدودة الأثر لسبب هام جوهري وهو تدوين أصوات العربية في وقت مبكر، وتمييز فونيماتها، ووصْفُها، ووجود المعاجم التي نحتكم إليها.
كان للعرب لهجات كما لغيرهم ؛ فكيف أمكن التغلب على هذا التنوع اللهجوي رغم أنه تجلى في القرآن في ما يعرف بالقراءات؟
حلت سيادة قريش المشكلة، حتى بقوة السيف أحياناً. وقد روي أن النبي أمر أصحابه وقد خاطبه أحدهم:"يا نبيء الله" بالهمز: "أرشِدوا أخاكم فقد ضلّ". فقد عزّ عليه هذا الهمز وهو من قريش. ومعروف أن الحجاج والي البصرة فرض، ولا يزال فرضُه قائماً، قراءة معين للقرآن، وهي رواية حفص عن عاصم، بسبب ما انتشر من مشاحنات بين المسلمين على صحة القراءة رغم أن النبي أفتى بصحتها جميعها: "نزل القرآن بسبع لغات كلها كافٍ شافٍ" ومعروف أن ما يسمى الآن لهجة كان يسمى في القدم لغة، وما يعرف اليوم باللغة كان يسمى اللسان.
والسؤال الذي يتبعه هو: لو دُوِّنت اللغة الشركسية في وقت مبكر ودُرست ووُصِفت، وكان لها علماؤها والقائمون على دولة لها هل كانت أصواتها تشعبت بهذا الشكل المفرط من أشكال الشين والتاء والباء واللام؟ لاشك أن لهجة ما كانت سادت بطريقةٍ من الطرق: كثرةِ متكلميها، أو القوة المسلحة أو السيادة السياسية، وكانت اللهجات الأخرى انحسرت عن اللغة المكتوبة أو الأدبية. وبقيتْ على الأكثر في الاستعمال المحلي، وعُرِفت التطورات الصوتية سالِفُها وطارئها.
أكثر من ذلك: إن تقارب الأصوات يأتي أحياناً من تغير الأصوات تبعاً لجاراتها. فصوت الجيم في "اجتماع" قريب من الشين لولا القلقلة. وصوت التاء في الكلمة الشركسية "كتابي" تحول إلى صوت آخر. وفي الفرنسية حرف الدال في حرف الجر dans، وكذلك في dent، بمعنى السِّن، هو الضاد العربية.فلا يُستبعد أن يكون هذا سبباً إضافياً لهذه التقاربات الصوتية التي أشكالها الحرفية واحدة في اللغات المدونة سابقاً، وتنتمي إلى فونيم واحد.
المشكلة الثانية للغة الشركسية:
عانت اللغة الشركسية، وتعاني، بسبب تأخر تدوينها، واتكائها المفرط على الروسية من أشكال الحروف التي لها رموز مركبة مثل القاف والغين والحاء والخاء، على أن في الفرنسية والإنجليزية أيضاً حروفاً مركبة كالشين،والفاء، وليس الذنبُ ذنب الروس طبعاً الذين وضعوا هذه الأبجدية فهم اهتدوا بأبجديتهم، بل تكمن المشكلة في أن طريقة كتابة الحروف تنبع من خصائص اللغة نفسها. وهذا ما فرض على العربية أن تستغني عن الحركات فلا تضع مقابلات لها. رغم أن هذا الافتقار يُصعِّب جداً قراءتها على غير أهلها، وكذلك الأمر في اللغة العبرية التي يستحيل قراءتها على المبتدئ دون شكلها. والسبب في اللغتين كون الغالبية العظمى من كلماتها ثلاثية الأصول، وتحويل الحركات إلى حروف يُضيِّع أسر الكلمات. وإلى هذا السبب يعزو ماييه افتقار الأبجدية الفينيقية إلى أحرف المدّ، وإلى تناوب حروف العلة في تصاريفها: كَتَبَ، كُتِبَ،كُتُبٌ...
ومعروفٌ أيضاً أن اللغة اليونانية استعارت من الفينيقية بعض أشكال الحروف لتعويض النقص في أبجدية أوغاريت التي لا يعدّها الأوربيون أول أبجدية كاملة لافتقارها إلى الصوائت القصيرة ( الحركات) كما سلف، مما يعني إمكانية الاستعانة بأبجديات أخرى لإنشاء نظام الكتابة، ومما يعني أيضاً أنه ما من أبجدية مفصَّلة على مقاس كل لغة، بل المهم هو اختيار الأنسب.
إن الذي جرى لكتابة اللغة الشركسية هو الاعتماد المطلق على الأبجدية الروسية على ما يبدو، ودون غيرها من الأبجديات، بغضِّ النظر عن مدى ملاءمة هذه الأبجدية لها أو عدم ملاءمتها. وعندنا مثالان قريبان: الفارسية التي جُدِّدت أبجديتها بالأحرف العربية، والتركية باللاتينية، ولكن بجهد ذاتي صِرف.
ولا شك أن التغلب على الصعوبة الأولى، أعني تعددَ الأصوات وتقارُبَها، كان ينبغي أن يتمّ بتسهيل الرموز الكتابية باختصارها إلى رمز واحد مستعار من اللاتينية مثلاً.
ويقودنا هذا الحديث عن الأصوات والكتابة إلى الحديث عن المستوى الثاني للغة، وهو نظامها الصرفي والمعجمي. بل لا يمكن فصل النظام الصوتي عن الصرفي إلا لغرض الدراسة، فلا تغيير صرفياً إلا بتغيير صوتي. والصرف تغيُّرٌ يطرأ على اللفظة فيغيّر معناها جزئياً، مثل: كتب، كاتب، مكتوب، وما يقابلها بالشركسية. ويعني النظام المعجمي مفردات اللغة المجموعة في المعاجم.
من الصعب الإجابة على مثل هذه الأسئلة، ليس في ما يتعلق بالشركسية، بل بكل اللغات: من أين أتت ألفاظ اللغة؟ وما أصولها ومصادرها؟ ولكن من السهل أن نتقبل وجود الكلمات التي تحاكي أصوات الطبيعة، مثل بحر، هواء ( بالشركسية) أو تحاكي الانفعالات النفسية، مثل ( أفّ بالشركسية yxyx). ولا بد من تقبل النظرية السائدة اليوم وهي الاعتباطية arbitraire أو immotivé لدواعٍ كثيرة أهمُّها أنها سرُّ مرونة اللغات وسرُّ عدم تشابهها. وهو موضوع طويل ليس مجال عرضه هنا.
وجرت جهود كثيرة في اللغات الأوربية لإثبات أصلها الهندي – الأوربي. وطُرحت كذلك محاولات في العربية لإثبات أصلها الساميّ أو نفيه. ويمكن أن تُطرح في الشركسية مثل هذه الأسئلة، غير أن الثابت هو أن معجم اللغة هو أشدُّ مستوياتها تأثراً وتغيراً، فالأصوات يستحيل تغيُّرُها بعد تدوين اللغة، وما زاد على المدوَّن منها يسمى على طريقة ابن جنّي " الأصوات القبيحة" كالزاي التي في " كازوز، أو مازوت". وعليه يمكن التساؤل عن عدد الأصوات القبيحة في الأبجدية الشركسية، كما يُضيف بعضنا في سورية إليها العين والهاء. والنظام النحوي لا تجري عليه تحولات جذرية، وهما – الصوتي والنحوي – أساس اللغة وسرُّ ثباتها.
إن المعجم مخزون اجتماعي يتكون عبر قرون وقرون من الحياة، يمكن أن يضيف إليه الارتجال نسبة محدودة ولاسيما في غياب التدوين، ويضيف إليه على نحو أخطر الاحتكاك المجتمعي باللغات الأخرى. وليس هناك لغة في العالم اختلط أصحابها بغيرهم إلا اغتنت بمفردات غريبة عنها. حتى اللغات الواسعة الانتشار كالإنجليزية والفرنسية والعربية، دعْك من التركية والفارسية. إلا أن اللغة عندما تستعير كلمة من غيرها تُخضِعُها لقوانينها الصوتية والصرفية، وهو ما يسمى في العربية بالتعريب، ويعني إحلال أصواتها محل الأصوات غير المتآلفة معها، فعرّبوا رودريغ إلى " لِذْريق " وغريك إلى "إغريق" والشراكسة عربوا " صابون " إلى " سابن" وأحمد إلى " أخُمت"، غير أن طول الاتصال بالعربية محا الحدود بينها.
يُقدَّر عدد مفردات أوسع معاجم العربية بـــ 80 ألف مادة، دون أن يعني هذا ان معانيها تساوي هذا العدد. والمعجم الذي أصدره المجمع الفرنسي فيه 35 ألف كلمة عدا الكلمات التقنيةَ. وتتطلب الحياة المعاصرة مع ازدهار العلوم، وتكوُّن لغة خاصة بكل علم، عدداً أكبر من هذا بكثير. واللغة العربية لم تُستنفَد طاقاتها المعجمية بعد، ( أوزان الثلاثي وتقليبات الأصل الثلاثي ) فهي قادرة على توليد 54 فعلاً من كل اجتماعٍ لثلاثة أحرف، وهو رقم فلكيٌّ إذا وجد من يحسبه. فلماذا لم تفعل العربية هذا؟ والسؤال نفسه عن الإنجليزية والفرنسية، فلكل منهما إمكانات خاصة له للتوسع كالنحت والسوابق واللواحق (prefixe.suffixe ).
هناك قطبان للغة إذن يتجاذبانها: الاستعمال والقياس. الأول يضغط باتجاه تقليصها على الاستعمال الاجتماعي، والثاني باتجاه توسيعها بما يتناسب مع تطور الحياة. والضابط لهما المحافظ على التوازن بينهما هو نظام اللغة، أو نظام الأنظمة الذي يشمل المستويات الثلاثة: الصوتي والصرفي والنحوي. فإن تجميدها يجعلها عاجزة عن مواكبة الحياة،وهذا ما أصاب اللغة الشركسية. وتوسيعها الزائد يجعل أصحابها عاجزين عن فهمها.
تميل اللغة بوصفها نظاماً إلى المحافظة على حدود معينة لها، فتواكب الحياة بإجراءين: أحدهما ما يسمى بـــالمجاز، أي انتقال اللفظة من حقل دلالي إلى حقل آخر. وما أكثر المجاز في كلامنا دون أن نعيه، وخذ مثلاً فعل "ارتفق" الذي يعني الذهاب إلى الحمام "التواليت"، وما تفرع عنها من معان: المرافق الحكومية مثلاً. وكلمة "الحكومة" التي تعني قديماً الحكم القضائي... وثانيهما: إيجاد لُغَيّةٍ للاختصاصات المتنوعة: لغة النجارين أو لغة الفلاحين... حتى لَيصعب مع الأيام فهْمُ تلك اللغيّات على غير أصحابها. ولكن المجتمع يتكلم في النهاية لغة يفهمها الجميع.
ما الذي ضبط الاستعمال في اللغة؟ إنه التدوين المعجمي ؛ ففي اللغة العربية يُمنع بشكل عام ونظري استعمال لغة لم ترِد في ما يسمى لغة الاحتجاج، أي اللغة القائمة بين ما قبل الإسلام بـــ 150 عاماً ( عصر امرئ القيس ) وما بعده بـــ 150 عاماً أيضاً. وهي لغة جمعت من أواسط الجزيرة العربية، أكثرها من الشعر وأقلها من القرآن الكريم لمحدودية كلماته.
نقول "بشكل عام" لأن اللغة تظل تغتني عن طريق القياس شريطة ألا يخرج عن نطاق النظام اللغوي أولاً، ولا يتعارض مع القياس ثانياً، كاغتنائها بأسماء الآلات، وأسماء الأمراض الجديدة المقيسة وفق قواعد اللغة.
ونشير إشارة عابرة إلى أن استعمال الناس للغة لا يتطلب هذا العدد الهائل من المفردات، وأن 500 – 600 كلمة كافيةٌ للتواصلات الضرورية، وأن 2000 كلمة حد مقبول لفهم اللغة، وأن في العربية وغيرها كثيراً من المترادفات والمتقاربات.
فما هو الوضع في اللغة الشركسية؟
المعجم المطبوع في مايكوب عام 1960 من 700 صفحة عدد كلماته 17000 كلمة تقريباً فهل اللغة الشركسية فقيرة بالمفردات بالقياس إلى العربية 17 /80 مع إدراك أن مفردات العربية ستزيد كثيراً إذا عُدَّت بطريقة المعجم الشركسي؟
ونشكو في القفقاس وخارجها من هذا الفقر.
ونلجأ إلى اللغات المجاورة، ونبدأ كل حديث بكلمتين شركسيتين، ثم نكمل بلغة أخرى.
وتتعمق المشكلة حين يجري حوار بين شراكسة القفقاس وشراكسة المهجر، مجبرين على الالتزام بالشركسية فحسبُ، ولاسيما إذا خُضنا في موضوعات سياسية أو اقتصادية أو أدبية.
إذا وافقنا على فقر اللغة فلا بد أن السبب هو التأخر في تدوين اللغة، ولا يقتصر التدوين على المعجم، بل يتجاوزه إلى التراث كله. وهناك قانون عام يقول إن كل لغة تفقد كل 700 – 800 عام خُمس مفرداتها، فإذا افترضنا عمر الأمة الشركسية ألفي عام فقد فقدت نظرياً ثلاثة أخماس معجمها.
والغريب أن واضعي المعجم الشركسي، وهم مشكورون على جهودهم، أهملوا الكلمات القديمة المهجورة، وأهملوا المفردات الخاصة ببعض اللهجات، بالإضافة إلى ما يسميه كاتب المقدمة بالبذاءات والشتائم، وكأن معاجم اللغات الأخرى تتخلى عنها!
وفي المعجم الصادر عام 2010 خمسون ألف كلمة. ولكن إذا اعتبرنا كلاً من أَبان، (وأعتذر إذ أكتب الكلمة بالعربية: أبان: خندق صغير ) وأبان صغير، وأبان كبير، أدوات حفر الأبان، وصنع الأبان، كلمة مستقلة ففي العربية مليون كلمة على الأقل: كتب، كاتَب، اكتتب، استكتب، كاتِب، مكتوب، مكتب... وكذلك إذا اعتبرنا الاسم الروسي ( الفرنسي الأصل ) avant – garde اسماً شركسياً، واكتفينا بشرحه بالروسية فماذا يستفيد من لا يعرف الروسية، رغم أن من السهل شرح الكلمة التي تعني: طليعة حراسة.
هذه الإهمالات مقبولة، بل مطلوبة، لمثل اللغة العربية المتخمة، ولكن ماذا وصل إلينا نحن من القديم؟
أعتقد أن ما وصل من نصوص قديمة إلينا لا يتجاوز ملاحم النارت، وعدداً من الحكايات والأحاجي والأمثال... وهو تراث ليس كبيراً أولاُ، وهو ثانياً تراث لا نعرف إن كان وصل إلينا بلغته الأولى، والمنطق يقول إنه لم يصل، أعني هل وصلت ملاحم النارت بصيغتها الأصلية ليس قبل ألف عام بل مئة عام؟ ومعروف أنه ما من موروث شفهي انتقل حرفياً من جيل إلى جيل.
وإذا لم نوافق على هذا الافتراض، وهو فقر اللغة، وتمسّكنا بإمكانية التواصل بحوالي ألفي كلمة فكيف نعجز عن التواصل بأكثر من هذا العدد؟
- هناك مفردات ميسورة ومبذولة لا نستعملها لطغيان ثقافة اللغة المجاورة لنا، بل المهيمنة علينا، وطغيان فكرها، سواء في التسميات المادية، مثل أيام الأسبوع وألفاظ الأعداد. والتسميات المعنوية مثل حزين، متردد...
- وهناك مفردات ننساها شيئاً فشيئاً لانصرافنا عن الحياة الاجتماعية الاقتصادية التي كنا نحياها في قرانا. وبإمكان كلٍّ منا أن يجالس مُسناً من الريف يكبره قليلاً ليعيد اكتشاف الكثير منها.
- وهناك مصطلحات يمكن صياغتها بسهولة أو بصعوبة، مثل مطعم وملعب ومقصّ...
- وهناك مصطلحات عالمية لا ضير في استعمالها، من قبيل الراديو والتلفزيون، والمصطلحات العلمية.
غير أن وضْع المصطلح ليس مسألة فردية، إنه يحتاج إلى العُرف المؤدي إلى التواتر فالاطِّراد:
اصطلاح x استعمال > عُرف. أي أن الاصطلاح يجب أن يؤيده الاستعمال ليصبح عُرفاً.
عُرف x تواتُر > اطِّراد. أي أن استعمال هذا العُرف دون انقطاع يؤدي إلى الانتشار.
وقد يتطلب الأمرُ تدخُّل سلطة رسمية. أما وضْعُ مصطلحات وكلمات جديدة من قِبل هواة ومتحمسين فلا فائدة منه. ولا عبرة بأساتذة الطب والعلوم في سورية الذين وضعوا المصطلحات لأن هؤلاء كانوا في مواقع التدريس والتأليف، أي كانوا بمقام سلطة رسمية.
ويُلاحظ في اللغة العربية انحسارُ كثير من المصطلحات الأجنبية ( مقابل دخول غيرها ) مثل الهاتف والمكيف والسائق وأجزاء السيارة... لدخول هذه الأسماء ميدان التعليم، أي تواترها.
إن تأثُّر لغة بأُخرى أمر طبيعي منذ القديم ؛ فاللغة الرومانية تأثرت باليونانية رغم أن الرومان كانوا الفاتحين، والتركيةِ بالعربية، وهم الفاتحون كذلك. والآن تعاني اللغة الفرنسية، على غناها وانتشارها، من مزاحمة اللغة الإنجليزية، إلى حدّ التفكير بفرض غرامات على المطبوعات التي تستعمل كلمات إنجليزية لها مقابِلُها الفرنسي، وهو ما أثار سخرية الأوساط الفرنسية لأن استعمال اللغة لا يتم بأوامر. غير أن الإفراط في هذه الاستعارة يُفقِد اللغة وجهها الأصيل، ويحوِّلها إلى لغة هجينة. ومن الثابت أن اللغة وسيلة تفكير وتعبير عن خصائص من يتكلمونها؛ فالعربية تشتق كلمة " صديق " من الصدق، والفرنسية من الحب، والشركسية من التقارب في العمر. ولاحِظْ كلمة " عار" في لهجة الأبزاخ!
وتفقد اللغة مسوِّغ وجودها، وتموت بالتأكيد متى عجزت عن أداء وظيفتها الاجتماعية الإبلاغية، وعن كونها وسيلة تفكير. وقد شهد التاريخ موت كثير من اللغات بعدما كفّت عن أن تكون وسيلة اتصال، كاللاتينية ولغات أوربية كثيرة اندثرت باندثار شعوبها، أو ذوبانها في شعوب أخرى.
وبالمقابل يشهد التاريخ ميلاد لغات هجينة، لا قاعدة لها إلا وظيفتها التواصلية، مثل لغة " البيدجين" pidgin، وهي لغة إنجليزية بقواعد مبسّطة، ومفردات مشوهة صوتياً من كلمات شرق أقصوية. ولغة السابير sabir ذات الأصل الفرنسي – الإسباني. ولغة beach lamar الخليط من الإنجليزية والألمانية. بل يتحدثون عن لغةٍ من هذا النوع تنشأ حالياً في دولة الإمارات. واندثرت بالمقابل لغة الإسبيرانتو المصنعة التي أُوجِدت للتفاهم العالمي بقواعد مبسَّطة لسبب واضح وهو فقدانها للأساس الاجتماعي التاريخي. وتتحول بالمقابل اللغة الإنجليزية إلى لغة عالمية، ليس لكثرة المتكلمين بها ـ فربما سبقتها الإسبانية والصينية، بل لقوة الدولتين اللتين تتبنيانها.
إذا كان كل هذا فكيف يجري التفريط، بوعي أو دون وعي، بلغة قائمة تختزن تراثاً وتاريخاً وملامح نفسية، وصوراً أدبية، وأفراح شعب وأتراحه؟ إنها ستتحول مع الأيام، حتى بوجود عشرات الكتاب الذين يكتبون بها الشعر والقصة والرواية ... إلى لغة تراثية تمشي على رِجلٍ واحدة هي رجل الأدب، كما حدث للاتينية التي تحولت إلى لغة تراتيل وصلوات، مع ملاحظة أنها لم تمت تماماً لاستخدامها مصدراً للمصطلحات العلمية.
إنه حتى بافتراض اللغة الشركسية لغة فقيرة- ويتعلق غنى اللغة وفقرها قبل كل شيء بأصحابها- فلكل لغة وسائلها في التوسع كالاشتقاق في العربية، والسوابق واللواحق préfixe-suffixe في الفرنسية، والنحت... وهي وسائل لم تُستنفَد، بل لم تستعمل.
لا ضيرَ من الاعتراف بأن اللغة الشركسية تجمدت قروناً طويلة إلى أن انبعث فيها شيء من الروح نتيجة قيام شكل من الحكم المحلي ووضع أبجدية لها. ولكنّ تجمد اللغة فترة زمنية لا يعني موتها. فاللغة العربية تجمد الفصيحُ منها من القرن الخامس للهجرة = الحادي عشر للميلاد إلى الثالث عشر = العشرين، أو لنقلْ بعد عصر ابن خلدون والمفكرين الدينيين من أمثال الغزالي وابن تيمية، حتى عادت إليها الروح مع القرن العشرين بفضل ظهورِ أعداد متزايدة من الأدباء والصحفيين والمصلحين الدينيين والعلماء، ونفْضِ الغبار عن كثير من الألفاظ المهجورة لاستخدامها للمعاني الجديدة ( كلمة جريد أو صحيفة مثلاً). وجرى تعريب أسماء الآلات والأمراض وفق القياسات الصحيحة المعروفة، مثل وزن " فُعال " للأمراض: زُكام، رُهاب، خُناق...بفضل مبادرات شخصية حيناً، وجهود مجمعية حيناً.
فما السبيل؟
بتواضع شديد، وبتركيز شديد أيضاً، أعود ودون كلل إلى قضية الاستعمال الاجتماعي بمعناه الواسع، عبْر قضية اللهجات التي تُظهِر الشركسية كأنها لغتان أو أكثر. كل اللغات لها لهجات، وهي تسدّ على الأرجح الفجوات الدلالية القائمة في اللغات الرسمية ( الكلاسيكية )، وتتكون ثانياً وفقاً لما يسميه علماء اللغة بـــ " قانون المجهود الأدنى La loi du moindre effort " الذي يعني ميل الإنسان إلى الإيجاز في التعبير، يسميه ابن جني " الاستخفاف "، مثل " ليش" اختصار لــ" لأي شيء"... بالإضافة إلى ما تحمله العامية من الروح الشعبية المحلية وجمالياتها وخصوصياتها التي تعجز عنها الفصحى. فما المانع من احتفاظ كل " قبيلة " شركسية بلهجتها مع وجود لغة شركسية رسمية واحدة، ولو على حساب تضحية كل لهجة بشيء من حِملها، وما المانع من سدّ فجوات كل لهجة بمفردات من لهجة أخرى: مثال الغرفة في الأبزاخ والقبرتاي؟
ومصير اللهجات يتبع المصير السياسي غالباً، والمصير الاجتماعي ؛ فقد انقرضت، أو كادت، اللهجات الفرنسية والإنجليزية بسبب التطور الاقتصادي، والانصهار السياسي. وهذا يؤكد مرة ثالثة ورابعة الدور الهام للاستعمال الاجتماعي للغة. وقد تتباعد اللهجات، كما في حال الأمة العربية، نتيجة التأثير الاستعماري والتجزئة السياسية. وبالمقابل نرى انحسار هذه الفوارق اللهجوية في أحاديث النخبة والمثقفين.
ولكنّ هذا كلَّه لا يعني الرضوخ لهذه اللهجات وتطويع اللغة لها، فهناك لغة عربية واحدة يفهمها جميع العرب، ولغة فرنسية واحدة... مع وجود أشكال مختلفة لنطق العربية أو الفرنسية. وفي الوقت نفسه فإن تكريس اللهجات المختلفة كتابة وتدويناً واستعمالاً، أدبياً ورسمياً، لابد أن يؤدي مع الزمن إلى تثبيت وجودها كالهنغارية والتشيكية. وهذه حال لهجتي القبرتاي والأديغي في القفقاس.
في الحالة الأولى، حالِ وجود لغة قومية واحدة، تتعايش اللهجات في الاستعمال اليومي، وتسير في طريق الاندثار والتقارب مع اللغة الرسمية بازدياد الثقافة والتعليم، وفي الحالة الثانية فعلى اللغة الرسمية السلام.
إن الاختلافات اللهجوية الشركسية ليست خطيرة لأن جذور الأغلبية الساحقة من المفردات واحدة، وإنما تختلف قليلاً أو كثيراً بسبب زوائدها التصريفية ( "سأذهب" باللهجات الثلاث)، وبالقليل من أصواتها المتقاربة: ( ثابت باللهجتين ﭖــته، بده)، وهي ذات مخارج متقاربة. والدليل على عدم خطورة اختلافات اللهجات هو أننا نستطيع التفاهم بها.
والنظام النحوي ( نظام إنشاء الجملة والكلام ) نظام واحد، أعني موقع الفعل من الحملة، والفاعل والمفعولات...
ومثلما اُصطُلح على لغة والحدة في جمهورية الأديغي باعتماد لهجة " الجمكوي" يمكن الاصطلاح على لهجة واحدة كتابياً. واعتماد مثل هذه اللغة يساعد أولاً في زيادة التقريب، بل الدمج، بين أصحاب هذه اللهجات، ويزيل شيئا فشيئاً بقايا الروح القبلية،إن صحّ التعبير، التي توطدت نتيجة تخصيص كل" قبيلة " بمنطقة جغرافية، وكيان مستقل نوعاً من الاستقلال.
وهو يوحِّد جهود المهتمين باللغة لدى هاتين الجمهوريتين بل الثلاث. وهم علماء ليسوا كثيرين حتى تتبدد جهودهم. وفي ظل دولةٍ واحدةٍ تتبنى لغة واحدة يمكن إيجاد هيئات لغوية وعلمية قوية ذات سلطةٍ موحدةٍ، والسلطة أمر مهم بدليل عجز المجامع اللغوية والمؤسسات اللغوية العربية كمركز التنسيق العربي، قادرةٍ على التصدي لمشكلات كثيرة في اللغة، بعضُها إرثٌ ثقيل من الماضي، وبعضُها نتاج طبيعي للتقدم والحضارة، مثل المشكلات الكتابية، والمشكلات المصطلحية، وطرائق التعليم ؛ حتى وإن تطلّب مثل هذا الإصلاح الاستغناء عن جزء من التراث المكتوب. ولا شك أن كثيراً منه يستحق الاستغناء. ولم يصل عمره بعدُ إلى القرن. وأمامنا تجربة إيران قديماً، وتركيا حديثاً. وإعادة كتابة ما يستحق الخلود بأبجدية مناسبة.
إن اللغة ليست مهمة جيل أو اثنين ؛ إنها مهمة مستمرة ما دام الشعب الذي يتكلمها على قيد الحياة.
- [1] محاضرة ألقيت في الجمعية الخيرية الشركسية بدمشق في تسعينيات القرن الماضي.