اللغوي العربي واللغات الأجنبية
من الطريف والمؤلم معاً أن المجلة الأولى التي سلّمتها المقال قبل غيرها بصفتها مجلة الجهة التي أعمل فيها، رفضته بحجة أنها من قبيل الشعوبية (كذا)! فنشرتها في مكان آخر.
لا شكّ أن كل دراسة للغةٍ ما تنطلق من اللغة نفسها، ولا شك أيضاً أن لكل لغة منطقها الخاص بها بصرف النظر عن المنطق العام الذي ينتظم العلوم كافةً، ومنها علوم اللغة. ولا نقصد بهذا العنوان إجراء دراسة مقارنة بين اللغة العربية ولغات أخرى، فهذه مهمة علم اللغة المقارن. بل نقصد ما يمكن أن يستفيده اللغوي العربي (ومدرس اللغة العربية مشمول بهذه التسمية) ومن ثَم اللغة العربية من اللغات الأخرى.
وسنظل ندور في دائرة النحو والصرف، وسينحصر تفكيرنا في ما فكر فيه القدماء فحسبُ إن لم نخرج من هذا الفلك التقليدي. وسنظل نسمي كتاب "الخصائص" لابن جني كتاباً في النحو والصرف كما في رسالة دكتوراه فضفاضة قريبة جداً من ابن جني، ونظل نتهم الجرجاني والرماني بالوقوع في شَرَك المنطق كما هو شأن كثير من باحثينا ما لم نُعِدِ النظر في هذا التراث على ضوء علم اللغة الحديث لأننا طوال القرون التي غفونا فيها، بل نمنا ملء جفوننا، تقدَّم الغرب حثيثاً، وأكمل المشوار الذي بدأه أسلافنا.
بدأ العرب دراسة لغتهم في القرن الأول الهجري مع نزول القرآن الكريم، وبدء تدوين الحديث الشريف، وما رافقهما من موضوعات طرحت نفسها على بساط البحث، مثل موضوع القراءات، وموضوع تفسير القرآن، والتثبُّت من صحة الحديث.
ولم تؤسَّس الدراسات الأولى اعتماداً على لغات أخرى، ولا كان بين أيدي الباحثين كُتُبُ نحوٍ أو لغة. والأدلة كثيرة، منها التفاوت الشديد بين مصطلحات النحو العربي ونظيره اليوناني، والتفاوُتُ في أقسام الكلم. ومن الأدلة أيضاً جهلُ الباحثين باللغات الأجنبية.؛ هذا الجهل هو نقطة ضعف هامة في مسيرة هذه الأبحاث، بقدْرِ ما هو إثبات لبراءتهم من التأثر باللغات الأخرى.
والطريف أن النحاة بعد الخليل كانوا على الأغلب من أصول أعجمية: سيبويه، الكسائي، الفراء... وكانوا حديثي عهدٍ بالعروبة والإسلام، وعلى صلة وثيقة بالفارسية اللغة الأم لغالبيتهم، ومع ذلك لم يحاولوا الاستفادة منها. ومن أولى المقارنات اللغوية بين العربية والفارسية ما نقرؤه نقلاً عن أبي علي الفارسي في كتاب الخصائص "ومن طريف اجتماع السواكن شيء وإن كان في لغة العجم فإن طريق الحسّ تتلاقى عليه البشر، وذلك قولُهم آزْذْ" للدقيق، و"ماسْتْ" لللبن، فيجمعون ثلاثة سواكن. إلا أنني لم أر ذلك إلا في ما كان ساكنه ألفاً..." ويتابع "ورأيت مع هذا أبا عليٍّ كغير المستوحش من الابتداء بساكن في كلام العجم"(1) ويتحدث عن "زمزمة المجوس"، أي صدور كلامهم من خياشيمهم وحلوقهم، لا من ألسنتهم وشفاههم. ويقول في موضع آخر: "وحدّثني أبو علي، قال: دخلتُ هيتاً (اسم بلدة، مصروف لأنه أعجمي ساكن الوسط) وأنا أريد الانحدار إلى بغداد فرأيت أهلها ينطقون بفتحة غريبة"(2)
بل إنهم لم يدرسوا اللهجات العربية دراسة كافية مع أن هذه اللهجات أصلٌ في القراءات السبع للقرآن الكريم. أو العشر، حتى القراءات الشاذة. ورغم أن هذه اللهجات تسببت في أكثر الخلافات اللغوية. ونعتقد أن ملابسات الدين الجديد، والسيادة القرشية، والخوف من التشتت، كانت وراء تجاهُل هذه اللهجات؛ حتى إن الحجاج فرض قراءة معينة على أهل الشام فرضاً. ونسجل لابن جني ولأستاذه أبي علي الفارسي السبْقَ في توجيه القراءات السبع: في "الحجة في علل القراءات السبع" للفارسي (- 377 ه)، و"المحتسب في القراءات الشاذة" لابن جني (- 392 ه) بعد ابن خالويه (- 370 ه) الذي لا يبلغ شأويهما. ونسجل كذلك لابن جني فتحاً عظيماً في موقفه الإيجابي المتفهّم طبيعة اللغة العربية، فتحاً نلمحه في عناوين بعض أبواب "الخصائص"، مثل: "باب اختلاف لغات العرب وكلها حجة" و"باب العربي يسمع من غيره..."
أوقع جهلُ المعجميين العرب باللغات القديمة، وهي لغات كان هناك، ولا يزال إلى عصرنا، من يتكلمها، كالآشورية والسريانية، وبعضها له صلة وثيقة بالعربية، سواء قلنا إن العربية فرع من اللغات السامية أم قلنا إنها أصلٌ بذاتها. أوقعهم هذا الجهل في تكلّفات كثيرة مثل شرحهم لكلمة "اللات" الصنم الجاهلي المعروف، فنقرأ في معاجمهم إن اللات أصله اللاتّ بالتشديد، اسمُ فاعل من "لتّ السويق: " أي خلطه وبلّه، والسويق هو الناعم من دقيق الحنطة والشعير. وعلى هذا فهو رجل كان يلتّ السويق لهم، أو صخرة كان عندها رجل يلتّ السويق للحجاج، فلما مات عُبدت [الصخرة]. وشكّ ابنُ سِيدة صاحب معجمَي "الـمُحكَم" و"المخصَّص" في هذا التخريج كله، ولكن غيره يسمي ذاك الرجل عمرو بن لَحْيٍ، وآخرون يقرؤون اسم اللات في القرآن بتشديد التاء (اللاتّ) داعمين هذا التوجيه.(3) ولا أظن مثل هذه التوجيهات مقبولة في علم اللغة اليوم، والأصوبُ هو القيام بدراسة تاريخية لأصل الكلمة، وقرابتها باللغات الأخرى. فالأرجح أنها إلهةٌ من عصر هيرودوت باسم "إليتا" تعبدها الشعوب السورية، يسميها هيرودوت بالزهرة السماوية. ومثلُ هذا في كلمة "الله"، وهي كلمة لا تخفى صلتها بنظيراتها في اللغات المعاصرة للعربية، بدليل أنه ليس في العربية أي كلمة أخرى فيها لام مُفخَّمة. وكلمة "اللهُمّ" القريبة جداً من "ألوميم" العبرية، حمل النحاة العرب الميم فيها على أنها عوضٌ عن يا النداء.
ولم يُتح للعربية وقواعدها أن تدرس في العصر الحديث على ضوء احتكاك العرب بالثقافة الغربية. وهناك شبهُ قطيعة بين حاملي لواء العربية وحاملي لواء اللسانيات الحديثة، على الأقل في قطرنا. وقد مضى عهد كان جيلُ مدرسي العربية السوريين، يتقن الفرنسية، ثم انحسر الاستعمار الفرنسي، ولغته، وثقافته عن قطرنا. وعاد مدرسو العربية جُهالاً غالباً بالفرنسية، كما هم جهال بالإنجليزية الكافية لمقارنة قواعد العربية بقواعد هاتين اللغتين، ودون أن يكفي القليل مما تعلموه من لغات قديمة كالعبرية سرعان ما تمَّحي من الذاكرة لعدم الاستعمال وعدم المتابعة، في دَرْج المعلومات التي تُحشى بها رؤوسهم.
وإذا تجاوزت المرحلة الجامعية الأولى إلى ما فوقها وجدتَ بَرَمَ الذين يحضِّرون الدكتوراه، وبرم المشرفين عليها أحياناً من اللغة الأجنبية التي يجب على الطالب النجاح في امتحان لمتابعة دراسته. ورغم أن الامتحان امتحان تقليدي، ويحفظ الطلاب عن ظهر قلب غالباً إجابات معظم الأسئلة قبل التقدم إليه فإن الناجحين فيه يُعدّون على الأصابع في كل دورة. ولا يتصور المرء أن يتصدى باحثٌ لقضية لغوية جدية وهو على جهل باللغات الأجنبية قديمِها وحديثها، لا يختلف عن شيخ الكُتّاب قديماً. إن الباحث في اللغة العربية، بل مدرِّسَها، محتاج، في غياب الدراسات الحديثة للغة العربية، إلى معرفة لغة أجنبية من اللغات المهمة، لسببين:
أولاً: متابعة الدراسات اللسانية والنظريات اللغوية العامة التي تظهر في الغرب لأننا أعجزُ اليومَ عن أن ندير ظهورنا لمثل هذه الدراسات؛ مضى العصر الذي كان العربُ فيه روّاد هذه الدراسات، واستطاعوا بالتماعات عبقرية في صفوفهم، وبجهودهم، وبتشجيع السلطة لهم، وتحت ضغط العلوم الأخرى، أن يُنشِئوا دراسات عظيمة كالدراسات الصوتية. ومضى العصر الذي ينغلق فيه شعب على نفسه ويبدع حضارته الخاصة. إن أوربا دخلت عصراً جديداً فيه منجزات تقنية عظيمة كالمخابر الصوتية، وفيه علوم مساعِدة للغة مثل علم تشريح الأعضاء، وعلم النفس اللغوي. وبثّت أوربا خلال قرنين من الزمان وأكثر لأسباب علمية صِرفة أو لدوافع استعمارية آلاف الباحثين هنا وهناك، جمعوا اللغات، ودرسوها وحللوها. ودفعت هذه العوامل متضافرة موقعهم في الدراسات اللغوية.
وعلى ضوء تلك الأبحاث والنظريات يمكننا أن نعيد تقييم نتاج أسلافنا، لنفهمه بدلاً من أن نجتر التعريفات نفسها والحدود ذاتها ومواضع الخلاف؛ فما أسهل أن نفهم اليوم المبتدأ والخبر على ضوء البنيوية الوظيفية، وسبب كون المبتدأ معرفة والخبر نكرة، أو كونهما كليهما معرفتين، وما أوثق الصلة بين قضية الإسناد وقضية التعريف والتنكير، تلك الصلة التي اكتشفها النحاة العرب منذ سيبويه قبل أن تكتشفها البنيوية الوظيفية المعاصرة، ثم تجاهلتها الكتب المدرسية، بل المؤلفات المتأخرة على تعدُّد مستوياتها. (4)
ثانياً: تعميق فهمنا للغة العربية نفسها على ضوء اللغات الأجنبية؛ فزوايا النظر تختلف من أمة إلى أمة. وكل زاوية تكشف مخبوءاً له لم تكتشفه الزاوية الأخرى. ووجهات النظر المتفاوتة يكمل بعضُها بعضاً. وكثيراً ما لا يتفق النحاة على تعريف أو على حدٍّ لصعوبة التعريف من جهة، وللافتقار كما سلف إلى وجهات نظر أخرى. وهذه أمثلة مما يمكن أن يستفيد منه معلم اللغة العربية على مستوى دون مستوى الدراسات المتقدمة، من خلال اللغة الفرنسية، وهي لغة قريبة في كثير من خصائصها من اللغة العربية:
- عرّف بعض النحاة العرب المصدر بأنه حدثٌ مجرد من الزمان.(5) وقال بعضهم: حدثٌ في زمن غير متبيِّن.(6) وحجة الفريق الثاني أنه لا يجري حدث دون زمان، وهو رأي سديد منطقياً. وبالرجوع إلى التعريف الفرنسي للمصدر نتوصل إلى التوفيق بين الرأيين، وهو: "الحدثُ في الإمكان"، وهو تعريف لا يأتي على ذكر الزمان، بل ينصبُّ على إمكان تحقُّق الحدث بغضِّ النظر عن الزمان الذي يتحقق فيه. ويمكن جمعُ التعريف العربي الثاني والتعريف الفرنسي بقولنا: "حدثٌ في زمان غير متبين ولكنه في الإمكان"، أو بين التعريف الأول والتعريف الفرنسي: "حدثٌ مجرد من الزمان ولكنه ممكن"، فترى أن الجمع الأول أوفقُ، وبذلك يمكن الاقتناع بهذا التعريف العربي الثاني أكثر من الأول.
- اسم الفاعل في العربية هو "ما اُشتُقّ من فعل لمن قام به يدل على معنى الحدوث"(7) أو "ما يجري على من يفعل فِعله، أي يشبه المضارعَ في وزنه، ويعمل عمله في التقديم والتأخير"(8)
وهو في الفرنسية: حدثٌ في غمرة التحقق، وهو صيغة فعلية إلى حد ما. ونحن نعلم أن الفعل المضارع في العربية هو المساوي لاسم الفاعل، وأنه يدل على الحال والاستقبال. وعلى ضوء التعريف الفرنسي يتعمق فهْمُنا لمعنى "الحدوث" في التعريف العربي، وفهمُنا لاشتراط أن يكون اسمُ الفاعل واسم المفعول دالاً على الحال أو المستقبل في حال تجرده عن "ال" ليعمل عمل فعله، وهو أن يكون الحدثُ في غمرة التحقق. ومن وصف اللغة الفرنسية للمصدر واسمي الفاعل والمفعول بأنها "صِيَغٌ فعلية فقيرة"، (ما يقابل شِبه الفعل في العربية) ومن إصرار التعريفات العربية على الجمع بينها وبين الفعل في تعاريفها، نفهم أن هذه صيغٌ وسيطة بين الاسم والفعل، صنّفتها اللغة الفرنسية في صنف الفعل، والعربية في صنف الاسم، لسبب وظيفي، وهو أن الاسم في العربية هو ما يصح أن يكون مسنداً إليه، أي مبتدأ أو فاعلاً، بغضِّ النظر عن المعنى. وكلٌّ من اسم الفاعل والمفعول يتضمن ضميراً مستتراً، ولكن احتماله للضمير أضعفُ، وتعديه إلى مفعول به أضعف، ولذلك يعملان عمل الفعل بشروط، لا على الإطلاق. ونعرف لماذا لا تعرب الكاف أو الهاء فاعلاً، مثل: دخولك الدارَ... رغم صحته في المعنى، فافتقار المصدر إلى الزمن حرمه من هذا الإعراب، وهذا يوضِح أحد أسباب عدم تطابق الإعراب والمعنى في النحو العربي.(9)
- ونفهم من المقارنة أن الفعل المطاوع في العربية: انكسر وتكسّر، يقابله في الفرنسية الفعل الضميري verbe pronominal، أما الفعل المبني للمجهول فيقابل الفعل الفرنسي المسبوق بضمير خاص للمجهول "on"، لا الصيغة التي تُركَّب بتحويل المفعول به إلى موقع المسند إليه.
- ونفهم كذلك معنى ضمير الشأن بمقابِلِه في الفرنسية ضمير التفخيم emphase. ونفهم أيضاً أن للضمير المنفصل وظيفة المسند إليه، ووظيفة التوكيد، ووظيفة الرابط الإسنادي بين المبتدأ وخبره في مثل: زيدٌ هو الناجح.
- إن ورود " كان" الزائدة بين المبتدأ وخبره في بعض الشواهد الشعرية القديمة، ووروده بينهما في الفرنسية دائماً يحملنا على التفكير في أن هذا الفعل "الزائد" قد يكون بقايا لغة قديمة لم يكن فيها زائداً، بل رابطاً إسنادياً يؤدي الدور الذي يؤديه في الفرنسية المعاصرة.
وبعدُ فما أكثر ما يشعر مدرس اللغة العربية بالحاجة إلى مصطلح أجنبي أو مفهوم أجنبي أو مقارنة بلغة أجنبية في مثل شرحه للمصدر الصناعي مثلاً، ومسوِّغ صياغته. وفي شرحه معنى الشعر الغنائي، والشعر الملحمي. ولماذا اللغة العربية حميمة تنعقد فيها القرابات التي لا تُحصى بين المفردات لتؤلف أسرة كبيرة كالأسرة العربية، لا أسراً "نووية"، أي مؤلفة من الأبوين وأبنائهما كما الأسر الأوربية...
...
نحن نحيا في عصر امتزاج جديد للثقافات بعد الامتزاج الأول في العصر العباسي. والثابت أن الأسلاف ترفّعوا عن الاستفادة من اللغات الأجنبية في عصرهم، ولا ندري ماذا كان حظها من الدراسة عدا اليونانية والعبرية. ولا عيب أن نعترف الآن بقُصورنا، ولاسيما في المشرق العربي، في الدراسات اللغوية كما هو الشأن في الساحات الأخرى. إن كثيراً من التحديات تنتصب أمام اللغة، وأمام العاملين فيها، وكثيراً من الصعوبات تقف في طريق تعلُّمها وتعليمها. وسيكون من المضحك أن نعود إلى كتب الخلاف مثلاً لحلّ قضية لغوية معاصرة لأن عصر الاحتجاج والشواهد ولّى، وأُشبِع النحو بحثاً وشواهد واحتجاجاً، وكثرت كتبُه ومبسَّطاته في الأسواق، فلا ضرر أن نوسِّع آفاقنا، ونعيد النظر في نحونا وبلاغتنا على ضوء النظريات اللغوية المعاصرة، وعلى هَدْيِ لغات أخرى؛ فذلك خيرٌ من أن نجترّ التأليف في النحو، وخيرٌ من أن نقلِّب كتب الخلاف وشواهد النحو.
الحواشي
1 – الخصائص 1 / 90 – 91. مع ملاحظة أن ابن جني يكاد يكون الوحيد غير الفارسي، إذ أنه روميّ.
2 – م. س 1 / 92.
3 – لسان العرب وتاج العروس (لتّ).
4 – انظر مقال "العلاقة التي لا تنفصم بين الإسناد والتعريف والتنكير" في هذه المجموعة.
5 – جامع الدروس العربية للغلاييني 1 / 164.
6 – شرح المفصل لابن يعيش 7 / 2.
7 – شرح شذور الذهب لابن هشام 385.
8 – شرح المفصل لابن يعيش 6 / 86.
9 – انظر مقال "الإعراب بين الصناعة والمعنى" في هذه المجموعة.