المجتمع المتخلف: نظام متسلط وإنسان مقهور*
في روايتي الكاتب الكولومبي الشهير ماركيز " أحداث موت معلن " و " ساعة نحس " يبدو شرف المرأة الموضوع المحوري؛ ففي الأولى يكتشف العريس ليلة الزفاف، بعد عرس أسطوري، أن العروس ليست عذراء؛ فيعيدها إلى أهلها قبل انبلاج الفجر، فيضطر أخواها إلى قتْل من تتهمه وهو سانتياغو نصار، لا المذنب الحقيقي. وفي الرواية الثانية تعيش البلدة حالة رعب دائم مما يسمى " المنشورات " وهي ملصقات سرية ليلية تبدو كالسراب الذي لا يمكن إدراكه، تفضح علاقات جنسية غير مشروعة أو مختلقة، فتضطَر بعضهم إلى القتل، والآخرين إلى هجر البلدة إلى الأبد.
يقيناً أن ماركيز لا يبغي كتابة رواية مثيرة، ولا اتخاذ شرف المرأة موضوع رواية إثارة تقليدية تحبس الأنفاس ثم تستدمي الأكفَّ تصفيقاً للدم المنبجس من صدر الضحية أو للشرف المستعاد، بل يرسم لوحة للمجتمع المتخلف، وهو مجتمع بيننا وبينه رابط التخلف رغم آلاف الأميال، كالذي بين سائر بلدان العالم الثالث رغم مظاهر الحياة الجادة أحياناً كالمدارس والمعامل، والزائفة أحياناً أكثر كالسيارات والحاسبات.
في دراسة له عن المجتمع المتخلف يعتقد الدكتور مصطفى حجازي أن أهمّ سماته هي مقاومة للتغيير تنبع من تضافر نظرة رضوخية إلى العالم الطبيعي (الرضوخ لسيطرة البيئة والقوى الماورائية) مع بنى اجتماعية ذات نمط تسلُّطي تُنشئ شخصية ذات بنية تسلطية، مما يخلق ويعمّم نظاماً من العلاقات يتصف بالسيطرة، يقابله رضوخ وامتثال يعرقلان عملية التغيير بإغلاق السبل أمام قوى الرفض.
ولا يعيد الكاتب حجازي السبب في هذه العلاقة التسلطية - الرضوخية إلى تقليد الأسلاف بقدر ما يعيدها إلى تحالف قوى معاصرة، داخلية وخارجية، ضد القطاع الأكبر من السكان. والعلاقات في هذا المجتمع إقطاعية أو شِبهُها، لا تقوم على العَقد الاجتماعي بل على التبعية، تحافظ عليها السلطة من خلال أنظمة ذات طابع استبدادي. فالعالم المتخلف عالمٌ فقدَ الكرامة الإنسانية بمختلف صورها، عالمٌ يتحول فيه الإنسان إلى شيء أو أداة قبيحة مبخَّسة، مع ملاحظة أن هذه الحدود قد تنسحب إلى أجزاء أخرى من العالم بلغت قمة التقدم التقني.
وإنسان هذا المجتمع إنسان مقهور يعاني من عنف الطبيعة (جفاف، فيضان...) وعنف المتسلط. ولا يخفى أن معظم الكوارث وأشد الأنظمة الاجتماعية والسياسية قسوة في العالم تتمركز في أشد أجزائه فقراً. وهو عاجز تجاه هذين النوعين من العنف، وقلِق باستمرار، ولا يملك وسيلة لمجابهة المفاجآت التي تحمل الخير والشر إلا تمسكه بالماورائيات، أي التمني السحري أو التعلق بالخرافة أو الاتكالية المفرطة.
ونتيجة لهذا العجز فهو مغلوب على أمره دائماً، يفقد الموقع التغييري الفعّال ويقع في أسلوب الترقب والانتظار. وإلى جانب عقدة النقص هذه يعاني من عقدة العار فهو خجِلٌ من ذاته، في حالة دفاعٍ دائم ضد افتضاح عجزه وبؤسه. وهو حساسٌ حساسيةً مفرطةً لكل ما يهدد المظهر الخارجي الذي يحاول أن يظهر به للناس، وهو ما يسميه الباحث الحجازي "الجرح النرجسي"، يعني به الكرامة المهددة. ولذلك تحتل العزَّة والكرامة مكانةً أساسيةً في وجوده، يستطيع أن يعيش دون خبز لكنه يفقد كيانه إذا فقد كرامته، فتنهار طاقته على احتمال مأساة القهر والبؤس.
إلا أن العار كله يسقطه على المرأةِ، المرأةِ العورة، فيربط شرفه كله بالحياة الجنسية لها، فيصبح القتل مبرراً ومعترفاً به اجتماعياً تحت اسم "جناية الشرف"، وهو تحويل للعار عن مصدره الأساسي: الاستغلال والتسلط، إلى المرأة المستضعفة. وفظاظةُ الرجل المقهور الداخلية تتناسب في هذا الموقف مع ركاكته الداخلية.
وإذا لم تفِدْ الوسائل السابقة لاستعادة توازنه النفسي لجأ إلى العنف بدرجاته وأشكاله المتنوعة، من عدوانيةٍ مرتدةٍ على الذات، وهي تبخيس الذات والتماهي بالمتسلط، أو موجهةٌ إلى الآخرين، أو سلوك جانح حتى يصل العنف إلى التوتر الوجودي العام: انهيار التفكير المنطقي، وحجبُ وضوح الرؤية، وشلُّ القدرة على فهم الآخرين، يوازيها على مستوى التنفيذ السبابُ والتهديد والاشتباك.
هذا البنيان الاجتماعي الهشّ وهذا الإنسان المقهور، وقطبه الآخر السلطة الظالمة، هو موضوع روايتي ماركيز السابقتين.
البنية التحتية بنيةٌ هشَّــة: الأخوان القاتلان في "أحداث موتٍ معلن" رجلان هشان يدفعهما الضغط الاجتماعي إلى القتل. هما أشبه بطفلين؛ حتى إن سمعتهما الأخلاقية الطيبة تمنع بعض الناس من تصديق نيتهما القتل. صاحا أكثر من مرة: سيقتلان، لعلَّ أحداً ينقذهما من ارتكاب الجريمة، لكن سلبية الناس تدفعهما إلى ارتكاب جريمة يبدو أنه لا مفرَّ منها، كأن القدر فرضها عليهما. والضحية مسالم طيب القلب، يمتلك في بيته من الأسلحة ما يكفي لمواجهة عصابة غير أنه لا يفكر باللجوء إليها، ولا يبدي أي مقاومةٍ للموت. يموت دون أن يعيَ أنه يموت، غير مكترثٍ بالتحذيرات. ويبدو للقاتلين لحظةَ انهالا عليه بالسكاكين وكأنه يبتسم!
عشرات الناس عرفوا بنيةِ القاتلين، ولكن اتكال بعضهم على الآخر، والأخطاء القاتلة الناجمة عن سوء التقدير وعن الارتباك في اتخاذ القرار تتغلب على تنبؤاتهم وعلى تفسيراتهم للأحلام وعلى استشرافهم الروحاني للغيب.
حتى ممثلا السلطة العمدة والأب لا ينجوان من بعض خصائص الإنسان المقهور: السلبية والاتكالية. فالعمدة يتعامل مع القاتلين من منطلق الثقة البالغة بالنفس، فلا يلقي القبض عليهما بل يكتفي بتجريدهما من السلاح، ويوقن أنه ليس لديهما بعدُ من السلاح ما يقتلان به أحداً وكأن لا سلاحَ غير الذي معهما! وبعد آخر تحذير له يذهب إلى النادي للتأكد من موعد لعبة البلياردو. والمسؤول الديني يعلم أنهما سيقتلان، ولكنه "يظنُّ" أن هذا ليس من اختصاصه، بل ينسى إخبار أهل الضحية! تُـرى لو كانت الجريمةُ تخدش ظفر النظام القائم أكانا سلكا هذا المسلك؟!
تبدو العلاقة بين السلطة المستبدة والإنسان المقهور أوضحَ في "ساعة نحس"، وساعة النحس هي الساعة التي سينفجر فيها الرعب المدمر، والتي يتوجسها الجميع. مكان الرواية قريةٌ في مجتمع أمريكا اللاتينية يصفها أحد أشخاص الرواية بأنها قريةٌ شبحية، مجتمع هشٌّ مرقَّـع بخيوط العنكبوت. الموت جاهز كل لحظةٍ للانفلات فيها، حتى إن "الحياة ليست سوى تتابع فرص متتالية من أجل البقاء على قيد الحياة" يعيش المجتمع حالة رعبٍ دائم من جرائم النظام، ومن المنشورات الفاضحة الهادفة إلى زعزعة الاستقرار الذي بدأ يرجع إلى البلدة بسبب نافذةٍ صغيرة فتحت على هواء الديمقراطية. والناس في القرية ضحايا سلطةٍ تجعلهم يقتل بعضهم بعضاً، أو يهجرون وطنهم إلى الأبد حاملين عظام موتاهم كي لا يفكروا مرةً أخرى به. أمامهم تمتثل قريةٌ أبيدت عن بكرة أبيها في أسبوع نتيجة المنشورات اللعينة. يستيقظ واحدهم كل يومٍ وهو موقنٌ أنهم سيقتلونه، وتنقضي سنوات انتظارٍ للموت أمرُّ من الموت نفسه.
يعيشون حالة من الزِّيف الاجتماعي: الرجال الذين يقتلون زوجاتهم منفعلين بمنشورٍ معلَّـق لا يحمل أيَّ جديد سوى ما تناقله الناس شفاهاً، تهيج غرائزهم لدى رؤيتهم راقصةً تتعرى قطعةً قطعة، فيبدأ كبيرهم بالتبول على مرأى من الآخرين الذين يقلدونه في حركات جنونية. ونساؤهم يدخلن السينما بأكمام قصيرةٍ يكملنها بأكمام مستعارة لتحاشي مخالفة تعليمات الأب الذي يطردهنَّ من الكنيسة إذا خالفنَ.
وسيلتهم في مجابهةِ وضْعِهم أسلحتُهم الماورائية الغيبية كما سلف، وهي منسجمةٌ مع مصيرهم: كل هذا [ما يجري في القرية] مقدَّرٌ ومكتوب على حد تعبيرهم. الأمطار والثآليل والصداع رموزٌ دائمةٌ للشؤم. والأحلام تنضمُّ إلى رموز الشر: تحلم طفلةٌ بقطٍّ بلّوري، فيجد الأب وهو يتفقد آثار الفيضان قطةً ميتةً بين الزهور. وتحلم الأرملة برائحة بقرةٍ ميتةٍ فتملأ عفونتها أجواء القرية في اليوم التالي.
وتصل شفافية الإنسان المقهور نتيجة تماهيه اللامحدود بعالم الغيبيات وتراثه الممتد عشرات القرون إلى مرحلة الاستشراف والتنبؤ: الأرملة السابقة "تحس أن شيئاً كان آخذاً بالانهيار منذ زمن بعيد قد انتهى الآن" ثم تستسلم للموت. والفتاة مينا، لحظةَ تنبأت بحمام الدم القادم، رآها الكاهن "تنبثق بشعرٍ أسود قاتمٍ، وشحوبٍ كشحوب العجوز العمياء" فتقول العمياء جدَّتها "لقد قلت لكم: ستمطر رماداً متَّـقداً فوق رأسها". وعينا الجدة العمياء المثبـتتان تبدوان كأنهما تنفذان إلى سر الأشياء.
قطبا هذا النظام، السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، متضافران: السلطة الدنيوية تتمثل في العمدة وهو عسكري ذو طبعٍ دموي، سلاحه دائماً هو العنف رغم هدوئه الظاهري "من يخلق لي الفوضى فسأحشره في النعش" قتل هو ونظامه الكثير من الناس، تقولها له المرأة الفقيرة بلا مواربة. مازالت ليالي العنف السابقة تقضُّ مضاجع الناس، ليالي الاقتحام، والأحذية العسكرية، وصليل الأسلحة، وأزيز الرصاص. لم ينج من المعارضة من قمعه سوى الطبيب البشري وطبيب الأسنان الذي يصف شرطي العمدة بالقاتل، ولا يخفي أمنيته في موت العمدة.
مفهوم العمدة للديمقراطية الشكلية التي وفَّـرت شيئاً من الاستقرار في السنتين الأخيرتين لحكمه هو أن الحكومة هي التي تمتلك صلاحية منع أي شيء. بل يسخر من هذه الديمقراطية، يقول للأب: اعطس يا أبتاه فنحن في ديمقراطية! في ظلِّـه يقتل القاضيَ السابق لقاضي الرواية لأنه صرَّح وهو سكران أنه هنا لضمان نزاهة الانتخابات! ويبرق إليه مسؤولوه جواباً عن استفساره عن موظف الأحوال المدنية "استقبِـلهُ بالرصاص" لماذا لأن الشرطة صادرت الوثائق الانتخابية للحزب المعارض في الانتخابات السابقة فبقي أكثر الناس دون وثائق، أي فقدوا مواطنيتهم ولايريدهم استرجاعها.
لا ينسى طبعه حين يقتحم عيادة طبيب الأسنان رغم أنه في الفترة الأخيرة أصبح عدواً للقتل، لماذا لأن الفرصة مواتيةٌ له للإثراء: يبتز أموال الأغنياء الذين لا يتدخلون في شؤون السلطة، ويساوم غيرهم. ويضيِّـق على المواطن البائس كارميتشل الذي هو أبعدُ الناس عن السياسة لأنه يرفض بدافع شرفه الشخصي الفطري المساومةَ على ممتلكات موكله. العمدة "ليسَ أكثر من لصّ" في عرف الناس. والأحداث تعيده إلى أصله المفترس: عندما يتعلق الأمر بالمنشورات الأخلاقية يرسل ثلاثة جنود احتياطيين برصاص خلبيّ، أما عندما يتعلق بالمنشورات السياسية فإنهم ثلاثة قتلةٍ أصلاءَ برصاص حقيقي. حتى الأب لا يسلم من تهديده بالموت إن خطا خطوةً أخرى لمعرفة حقيقة ميتةِ الفتى الذي ضُبطَ يوزع المنشورات.
والسلطة الدينية وظيفتها تخدير المجتمع لتجميد الأوضاع بممارسات غير جذرية، مثل منع بعض الأفلام بحجة لا أخلاقيتها، ومنع النساء من ارتداء الأكمام القصيرة، وتلقي الاعترافات، مقابل التغاضي عن المنشورات المختلفة التي تبثُّ حالة الرعب بحجة أنها أعمال حسدٍ في قرية مثالية. يفخر الأب بأن الأبرشية كان فيها أحد عشر بيتاً للدعارة انخفضت إلى بيتٍ واحد، وبأن هذه القرية أكثر قرى الولاية الرسولية تديُّـناً في حين أن منشورات الفضائح تدمر الناس روحياً وجسدياً، وساعة النحس قادمةٌ لا ريب فيها.
الكنيسة متصدعةٌ والجرذان تعبث فيها؛ حتى الماء المقدس لا ينجو منها. وما زال عمل الأب "إخفاء غرائز الناس بقشرة، ووضع لصاقات لترقيع الأخلاق مع الإدراك الكامل بأن كل شيء تحتها ما يزال على حاله". يقول له الطبيب المتنور "هذه المعالجة لم نفعلها نحن الأطباء حتى في القرون الوسطى" أما هو فيعتقد أن "شيئاً من الإيمان في عمل خادمة الكنيسة سيجلب الفئران إلى المصائد كالخراف" يصمُّ أذنيه عن مشكلة القرية الرئيسة قائلاً " علينا عدم الالتفات لصوت الفضيحة، علينا الوقوف فوق مسالكها والتمسك بقانون الرب" يقول له الطبيب "الرب ليس مسؤولاً عن هذا الذي يجري".
النظام السياسي نظامٌ مترهل رغم الواجهة البرلمانية، فهو واجهةٌ هشةٌ سرعان ما يخرقها الرصاص لدى أول بادرة خطر. نظامٌ يده طويلةٌ جداً، يحقق العدل بالرصاص، لا بالأساليب الديمقراطية المألوفة: يقول أحدهم لوالدة الفتى المعتقل بتهمة توزيع منشورات سياسية وهي تدفع ما تملك ليكتب لها مذكرة احتجاج "إن تقديمها لهم كتقديمها لخنزير". يغتالون الطلاب في الشوارع لأنهم بشائر الوعي وحمَـلَـتُهُ. والتعذيب أسلوبٌ بديهي حتى ليصلُ إلى التصفية الجسدية.
يكدس أقطاب النظام الثروات بالابتزاز والتهديد، والانتخابات مقترنةٌ دائماً بالمذابح، والدولة تمولها عن طريق مصادرة أموال بعض الناس ومواشيهم بأي حجةٍ من الحجج. ومهما جرت الانتخابات وتبدلت فالوضع هو "الفرق بين ما مضى وبين ما نحن فيه الآن هو أن السياسيين كانوا في السابق هم الذين يقودون أما الآن فالحكومة هي التي تقود" و"سنتان من الخطابات ومازالت حالة الطوارئ نفسها، والرقابة على الصحافة نفسها، والموظفون أنفسهم... تبدلت الحكومة ووعدت بالسلام والأمن. وصدّق الجميع أول الأمر، ولكن لم يتغير شيء." الذي يأتي حزبه إلى السلطة ينتفع بكل الوسائل، ثم تدور عليه الدائرة. ينتقي النظام أعواناً له من جواسيس أمثال مونتيل: "لقد اغتنى غنىً فاحشاً في تسع سنوات، غير أن اللعنة لا تفارق هذه الثروة، فأرملته تدفع الثمن هي وأولادها إلى الأبد، ووكيله كارميتشل المسكين يأبى ضميره وصدقه أن يفرِّط في ثروةٍ اؤتُـمنَ عليها فيتعرض لأشدِّ المحن ليتنازل عنها للعمدة. وينتقي انتهازيين كالحلاق لحزبه في السلطة، يقول "الشرطة يهددون الخصوم السياسيين بالموت وأنا أشتري أراضيهم ومواشيهم بالسعر الذي أفرضه أنا. عندما تنتهي الانتخابات أكون مالكاً لثلاثة أقضية ولا وجود لمنافسين أمامي، وهكذا أبقى ممسكاً بالمقلاة من يدها ولو تغيرت الحكومة" غير أنه هو الآخر ينبشون بلاط محله في ساعة النحس رغم تماهيه بالسلطة.
غير أن المجتمع لا يخلو من مناضلين، وهم عصب الحياة ونافذة الأمل. منهم الطبيب البشري خيرالدو الذي يضع الأب في موضعه الصحيح أكثر من مرة، ويندد بدوره السلبي في المحافظة على ركود المجتمع والتقصير في معالجة سلبياته. ثم يصر دون جدوى على تشريح جثة الفتى ضحية التعذيب. كان وزوجته يوزعان النشرات السرية، يقضيان الليل محاولين معرفة مكان الأعيرة النارية واتجاهها، ينتظران وقع الأحذية العسكرية وقعقعة السلاح وزخّة الرصاص التي ستفتت الباب، غير أنهما ينجوان في اللحظة الأخيرة بسبب خطأ العمدة في التشخيص. ومنهم طبيب الأسنان الذي يرفض معالجة العمدة، ثم يتنازل بدافعٍ إنساني محض ولكن محتفظاً بعزة نفسٍ نادرة، معيِّـراً العمدة بخوفه من الملقط، ساخراً من طلبه المخدرَ "إنكم تقتلون الناس دون تخدير" غير مخفٍ رغيته في موت العمدة في عيادته.
ومنهم المرأة التي اتخذت أرض البلدية مأوىً مع سائر البؤساء، والتي يحاول العمدة التودد إليها، لا تنغرُّ بمجاملاته وتودده، فتستقبله "بكل الفتور الذي تستطيعه" وتتمنى له التخمةَ، وتتهمه بإفساد القرية "لقد كانت قريةً لائقةً قبل أن تأتوها أنتم". ومنهم كارميتشل الذي لا يتدخل في السياسة لأنه يطعم أحد عشر فماً، ولكنه لا يفـرِّط في ما اؤتمنَ عليه. ومنهم القاضي الجديد...
كيف استطاع ماركيز، في رواية صغيرةٍ أو روايتين، أن يغوص في أعماق مجتمعه وأعماق مواطنه المقهور بهذا العمق الشُّـمولي والترابط؟ أهي العبقرية وعمق الفهم وحدهما؟ أم إفلاته من سلطان التابَـوات (المحـرَّمات) التي ما تزال تجثم على صدر الكاتب العربي، حتى في منفاه؟!
*منشورة في مجلة " إلى الأمام" العدد 43. 25 /10 / 1990