المدفع الخامس
توسّدنا حقائبنا المغبرّة مشكلين نجمة مركزها ظل الزعرورة وأضلاعها أحذيتنا العسكرية السوداء التي بدأت الشمس تعشش فيها. نحن بانتظار السيارة التي ستعيدنا إلى معسكرنا بعد ثلاثة أسابيع حافلة في هذا الموقع خُيِّل إلينا أنها ثلاثة أعوام؛ بل تفقّدنا رؤوسنا باحثين عن بدايات الشيب التي لا بد ينتظر مثل هذه المناسبة من العمر.
تهبّ نسمة شمالية من حين لآخر لكنها لا تفعل أكثر من أن تدسّ رائحة عرق بعضنا في أنوف الآخرين، وارتسمت على ياقاتنا شرائط سوداء لزجة من عرق الأيام الفائتة، وتقطّعت أزرار أرديتنا. فوق رؤوسنا تتدلى الزعرورة شجيرة قميئة كمظلات كُتّاب العرائض أمام القصر العدلي متّسخة الفروع والأوراق. ربما كانت شجرة سامقة في عصر من العصور حتى صمدت وحدها في هذا الموقع وجللته باسمها، ولكن لم يبق لها الآن من بأس الماضي إلا أشواكها القاسية.
قبل ثلاثة أسابيع لما ترجّلت دبابة الرقيب عبد الرحمن من القاطرة مساء لم يكن يحمل أي علامة ترشده إلى الموقع إلا الزعرورة: قالوا له: تنــزل من القاطرة عند الجسر، تسير بالسلاسل على الطريق المعبدة إلى أن يلوّح لك جندي ببندقيته، فتترك الطريق المعبد وتنعطف يساراً حتى يلوّح لك جندي ثانٍ فتنعطف يميناً وتسير إلى أن تجد الزعرورة، فيستقبلك قائد فصيلة المشاة.
وعبد الرحمن دبابة في قلب دبابة: ساقاه أثخن من جذع الزعرورة التي فرضت اسمها على الموقع، وكفّاه خُفّا جمل. يباطح ثوراً إن شئت، ويأتي على قصعة البرغل وحده. ولكن أصعب ما عليه هو أن يحفظ أمر قتال من فقرتين ولا سيما إذا تخلله اليمين واليسار رغم أنه يحمل شهادة دار المعلمين. وعبد الرحمن لم تكن هذه الفصيلة فصيلته لولا أن لسانه طويل في الوقت المناسب وغير المناسب: سأل قائده يوماً مساعد السرية وهو الآخر رقيب وسيم متأنق يُمضي نهاره في رسم مخططات التمركز ومواضع الخنادق والحفر التبادلية بإتقان يعجز عنه أفضل الفنانين، سأله القائد عن أعمال الحَفْر المنفَّذة في غيابه؛ فأجاب باعتداد ضاماً قبضتيه الناعمتين:
_ يا سيدي لم نتوقف طوال النهار عن الحفر.
ولأن عبد الرحمن يرى في قائد سريته أخاً أصغر له رغم النجمتين على كتفيه، ولأن عبد الرحمن يعرف أن الرقيب الأنيق لا يُجيد إلا الخط والرسم فقد تطاول محتجاً على " ضمير الجمع ":
_ يا سيدي أراهنك أنه لن يقطع " ذَكَري " بمعوله!
ولأن قائده صُدم بهذه الصورة التي رغم صحتها لا يجوز رسمها أمام عسكره، ولأنه لم يكن لديه سجن يضم عبد الرحمن في هذا الظرف العصيب، والسرية على أهبة الانطلاق إلى الجبهة، لم يجد حلاً له إلا أن يقرر بهدوء:
_ عبد الرحمن، احمل بطانياتك وتوجّهْ إلى قائد الفصيلة الثالثة؛ لا أحد يتحملك إلا الملازم عبد الحميد؛ لا تُرِني وجهك بعد الآن!
وعبد الرحمن الذي دُفع به ليلة التحرك ليكون قائد مركبة الاستطلاع كان محظوظاً؛ فالقنابل المضيئة للعدو الذي أحس بحركة غير مألوفة على الجسر تنير طريقه؛ حتى ليستطيعُ القراءة على ضوئها، وفي لحظات انقطاعها ينوب عنها قمر هزيل. وزال من نفسه قلق اليمين واليسار بعدما أقنع نفسه بأن هذه مهمة الجنديين المكلفين بإرشاده، وبأنه يمكن أن يرى ما على الطريق من حشرات. ولكنه نسي أمر الزعرورة منذ استقبله قائد فصيلة المشاة وأرشده إلى قطاع الفصيلة.
وهكذا سجّل عبد الرحمن البطولة الأولى في خدمته الإلزامية!
نامت الفصيلة في تلك الليلة أهنأ نومٍ بعدما تبرع المشاة بحراسة موقعها لخطورته، ولأنهم الخبراء بالأرض والعدو والاتجاهات. وبعدما طمأنهم قائد المشاة أن الطلقات المنهمرة عليهم ما هي إلا رمي عشوائي من رشاشات تعمل وفق نظام محدد؛ ولذا بإمكانهم أن يناموا تحت دباباتهم ويتجولوا وراء الساتر الترابي بحرية. بل نامت الفصيلة إلى الضحى غير عابئة بالندى الذي بلل أغطيتهم.
وقبل ثلاثة أسابيع قضت الليلة أمتع يوم في حياتها: لا درس رياضة صباحاً؛فهُم على مرأى من العدو ومرمى، ولا برامج تدريبية؛ فأي نفعٍ الآن في أن يكرروا للمرة العاشرة درس القناع الواقي أو الفصيلة في الهجوم؟! المهم الآن أن يتعرفوا موقعهم، ويحددوا ساتر الرمي واتجاه العدو، ومسافات الأهداف، وما إلى ذلك من أمور تداولوها في تدريبهم النظري كدروس محفوظات.
ونفخ جنود الدبابات في ذلك اليوم صدورهم، ومسّد أصحاب الشوارب شواربهم فقد تقاطر عليهم المشاة واحداً بعد الآخر غير مصدقين أنّ ما بين ظهرانيهم دبابات بلحمها ودمها، تسير على السلاسل وتحمل المدافع. وتلمّسوا بشوق ممزوج بالرهبة السبطانات والطُّلَم، وسرعان ما تحول الرقيب عبد الرحمن إلى مدرب ملهَم يشرح بأسلوب المعلم الأصيل ميزاتها الفنية والتعبوية، مستعيناً من حين لحين بأذكياء الفصيلة الذين يحفظون الأرقام بدقة، ويُطمئن في الوقت نفسه، حسب هذه الأرقام، أن شكوى الموقع ستزول؛ فلن تجرؤ دبابة معادية بعد اليوم أن ترمي أو تتقدم لأن ثلاث قلاع مدجَّجة بالمرصاد.
ومرّ ذلك اليوم الذي يتراءى لهم الآن موغلاً في القِدَم كأزهى ما تكون الأيام: سرعان ما تعرفوا الموقع: إلى الغرب تل متطاول كنمر يتمطى، فيه أربع عيون وأربعة أفواه مكشوفة مقيسةٍ مسافاتُها بدقة، وآليتان اكتشفوا بسهولة رغم الشبك الذي يغطيهما أنهما دبابتان، ومرصد إشارة على أحد الأفواه انتصبت فوقه غابة من الهوائيات. وإلى الشرق سهل الرقاد بصخوره البشعة وأرضه المتعرجة، تناثرت فيه بضع قرى تتميز بأشجارها. وإلى اليمين مواقع صديقة فلا خوف من هذا الاتجاه. أما اليسار فهو الاتجاه الأخطر لأنه مفرَّغ من قواتنا حتى التل الصغير الذي يبعد بضع مئات من الأمتار.
شتّان ما بين تلنا وتلهم! قالوا في أنفسهم: تلنا أشبه برأس عجوز فاغرة فاها الأدرد، تتوضع على رأسه الأصلع بضعة مدافع ورشاشات خفيفة. وتلُّهم عليه أربع قلاع، كل قلعة مسقوفةٌ بأربعة صفوف أو أكثر من حجر البازلت الأزرق بالإضافة إلى الإسمنت المسلح. ولكنْ ليجرؤوا على إخراج رؤوسهم منها أو تحريك دبابة! قال عبد الرحمن: سأضع القذيفة في فوهة الطلاّقة متى خرجت منها رصاصة واحدة مشيراً إلى راميه الذي أخجله إطراء قائده.
وظل عبد الرحمن يتبختر كديك مصارع، يمازح هذا وذاك، وزادَه حبوراً وفرة الغداء والفواكه حتى هتف الملازم الصامت منذ الصباح، وهي عادته عندما يكون غارقاً في همٍّ ما:
_ بدأ أبو جابر يقشّر التفاح!
مساءً توجه الملازم وعبد الرحمن لتفقُّد مسار الدبابات وطلاّقاتها وراء الساتر الترابي الطويل. بدا لهم بوضوح أن الذي صممها ليس خبيراً بقتال الدبابات؛ اكتشفوا ضيق المسار وصعوبة الدوران فيه، ووعورة بعض أجزائه وضحالة بعضها. وأصدر الملازم تعليماته بأن يبدؤوا منذ الغد بتحسين المسار. وظل عبد الرحمن يصغي باهتمام وهو يردد إثر كل ملاحظة من الملازم: " لعيونك سيدي، تكرم شواربك سيدي! "
ثم تذكروا الزعرورة، الأسطورة التي ألهمت الموقع اسمه؛ وما أشد ما خاب أملهم عندما وجدوها شجيرة قزمة أضعف من أن تتصدى للريح، غدت مرتعاً لأعشاش النمل والحشرات الأخرى.
_ هذه هي إذن!
ومطّوا شفاههم إلا أنهم وجدوا أنفسهم بلا وعي اقتعدوا الأرض التي عرّاها النمل، وأقبلوا يختتمون على كأس الشاي أعظم يوم في حياتهم: غدوا مسؤولين الآن، ليس عن حماية هذا الموقع بمشاته ومدافعه ورشاشاته، بل عن بضع قرى تعيش منذ ثلاثة أعوام وجِلة، تحمل زادها ومتاعها كلما اكفهرّ الجو، ثم تعود على أمل أن يندحر عنها يوماً الزاحف البغيض.
شيء واحد عكّر مزاج عبد الرحمن في آخر هذا اليوم الحافل: ما كاد الندى يغسل وجهه حتى فوجئ براميه المكلف بنوبة الحراسة يرتمي إلى جانبه مذعوراً:
_ يا حضرة الرقيب هجموا عليّ!
وكاد عبد الرحمن يُطيح برأس راميه وهو ينتفض من رقدته:
_ نعم، من هجم عليك؟
_ لا أعرف. شيء مثل الضبع زحف من وراء المستر؛ صرخت به أن يتوقف، ولم يردّ عليّ.
_ وسلاحك؟
اتضح أن الرامي ألقى سلاحه وهرب!
ركض عبد الرحمن شاهراً مسدسه الذي بدا لعبة أطفال في يده الضخمة حافي القدمين، لا لردّ المهاجمين بل حرصاً على البندقية أن تقع في يد المشاة فيسودّ وجه الدبابات منذ اليوم الأول. كان كل شيء على حاله: البندقية تترنح غاضبة على حافة المستر وقد امتلأ فمها تراباً، وحارس المشاة يتمشى في قطاعه مدخناً بحذر، وسكون مطبق يلف الأفق.
صرخ الرامي مذعوراً:
_ هؤلاء هم!
جثم عبد الرحمن لحظة ثم انتصب ورفع الرامي من تلابيبه بيده اليسرى، وهمّ أن يصفعه بالأخرى. ثم ألقاه كقط مذنب على التراب:
_ آخ منك يا...!
كانوا ثلاثة جنود ملثمين ببطانياتهم، عائدين بخمول مع أول ضوء من الكمين الليلي المعتاد في السهل الفاصل بين حقلي الألغام المتقابلين. وكانوا أبعد من أن يسمعوا أمر الرامي المبحوح بالتوقف، ولا سيما أن زملاءهم، حراس المشاة، ألِفوا رؤية عناصر الكمين قافلين كل صباح في موعد ثابت. أما التفاصيل الإضافية من ضباع وهجوم فكانت، لا بد، من نسج خيال الرامي الذي استسلم لرحمة عبد الرحمن:
_ ماذا أفعل بك الآن؟ آه ماذا أفعل!
وتصلّبت ساقا الفيل واحمرت عيناه واختلجت شفتاه. وما كان يمنعه من دفنه في مكانه سوى حارس المشاة الذي ما زال يذرع القطاع متثائباً حيناً، ومدمدماً حيناً بأغنية ريفية.
_ أقسم بالله لأُنسينّك الدلال الذي ربّاك فيه أهلك يا...! لو كان فيك خير ما رسبت في الكفاءة أربع سنوات. تتباهى في حقول الرمي كالطاووس، وترمي سلاحك هنا وتهرب! أقسم إذا بدر منك شيء آخر لأدفننّك وأمضي إلى الجحيم!
ظل الرامي الأمرد الذي رسب أربع سنوات في الكفاءة يتجنب عبد الرحمن طوال الأيام التالية، وهم يعملون في حفر المسار وتنظيفه، أو يَقيلون في الخيمة حين تنتعل الزعرورة ظلها، أو تحت الزعرورة حين تُفرج عنه. واستمرأت الفصيلة البرنامج اليومي: العمل منذ الصباح الباكر في الحفر والتنظيف وترميم المساتر حتى يلتمع القدران الزاهيان تحت شمس الهاجرة في ساحة الموقع، فيُهرَع المكلفون بإحضار الطعام. وظل العريف العجوز سخياً على الدبابات يخصهم بأجود قطع اللحم وأكبر البرتقالات، ولا ينسى الحصة الإضافية لعبد الرحمن. ولم يتذمر زملاء العريف؛ فهؤلاء قبل كل شيء ضيوف سيرحلون بعد شهر على الأكثر، ثم إنهم أمل المشاة منذ الآن في ردِّ الحيف الذي ينزل بهم في كل اشتباك وهم يراقبون من مخابئهم بلا حيلة دبابات العدو تعربد فوق التل ولا أحد يرد عليهم؛ فأحسن ما يملكونه برج دبابة قديمة لم يفهم أحد منهم لماذا ترمي بها إلى اليمين فتقع طلقتها إلى اليسار، حتى نسي الصديق والعدو على السواء أمرها.
وبعد الغداء والقيلولة يتوجهون إلى الزعرورة العنيدة وقد أصبح ظلها نظيفاً مستوياً مع الأيام، ويثرثرون كأن لم ير أحدهم الآخر منذ أمد بعيد. وتعجبوا في سرائرهم من الألفة التي بدأت تنشأ في حضن أمهم الجديدة، وأحسوا بأن خدمتهم المنصرمة كانت، لولا المهارات التي اكتسبوها في السلاح والرمي، لعبة مملة تبدأ باجتماع صباحي، يتلوه درس رياضة، فدروس روتينية بصموها بأفضل من المدرب نفسه، ثم مشاريع تقليدية حفظوا مراحلها عن ظهر قلب: خط الانطلاق، منطقة التحشد، خط الانتشار... ثم يعودون إلى المعسكر ليُحبسوا أسبوعاً ينظفون دباباتهم ويعيدون تزويدها بالوقود والزيت والماء، تتلوها تمارين الرمي المتتابعة وفق نظام مألوف، تنتهي هي الأخرى بأسبوع آخر من الصيانة. أما هنا فكل شيء مختلف: الدبابات لا تتحرك مطلقاً فلا مجال للحديث عن صيانة جدية لها، والحَفر يستهلك ساعات الدوام قلن يلومهم أحد إذا ضبطهم مساء تحت الزعرورة، والحراسة فقدت وحشتها بعد أيام؛ حتى الرامي ألِفَ منظر عناصر الكمين عائدين، وألِفَ القنابل المضيئة، وتعوّد أن يمسك بندقيته بإحكام بعدما كاد الرقيب عبد الرحمن يخنقه من صدره. وتورّدت خدودهم من وفرة الطعام والفاكهة وتفتُّحِ الشهية حتى أعرب الذين طال انتظارهم للتسريح عن تحمُّلِهم لوضعهم لو أكملوا خدمتهم هنا. وحسد الأجدُّ منهم جنود المشاة على حياة " الترف " التي يحيونها، ولم تثنهم مبالغات المشاة في وصف غارات الطائرات المعادية عن أمنياتهم.
وأضحت الزعرورة مزاراً فلم يعودوا يحسدون زملاءهم في السرية الذين يمتلكون أشجار الكينا الباسقة، ولم يؤخّرهم عنها شاغل يوماً من الأيام إلا يوماً استنفرهم فيه الملازم لإنهاض جمل محمَّل أقعى مُضرباً عن متابعة مهمته رغم توسلات صاحبه، فرفع عبد الرحمن أحد شِقّي الجمل ورفع الآخرون شِقه الثاني، ويوماً تبارز فيه فلاحو الفصيلة فحصدوا حقل جارهم الذي ما انفك، وقد أصبحوا قريبين إلى قلبه، يغمرهم باللبن والبيض، وثلاثة أيام صدّقت نبوءة قائدهم الأعلى الذي تفقّدهم قبل أيام ثم أعلن بلهجة بين الوعد والوعيد:
_ لن تعودوا إلى الوحدة الأم ما لم تتعمدوا بالدم!
24 حزيران 1970
أرسل الملازم الرقيب عبد الرحمن وراميه منذ الصباح إلى البرج المهمل. خاطب عبد الرحمن راميه بودٍّ غير مألوف، وارتجل الرامي صليباً وهمياً رسمه بعينه على المسافة المطلوبة، وأحكم عليه المدفع الذي لم يحرَّك فيه ساكن منذ سنوات حتى عششت العناكب في أرجائه وحتى خشي عبد الرحمن ما هو شر من العناكب فأشعل ناراً خفيفة حول البرج ثم انكبّ على الطلقات المهجورة ينظفها بعناية ليزيل الشحم والصدأ، وتفقّد الزنادات، وبذل جهداً شديداً مع راميه لإحكام المنظار لأن مفاتيح دبابتهما من قياس آخر، وأثنى على ذكاء راميه الذي ابتدع للتو مفتاحاً فريداً حل به المشكلة وكفل أن تأتي القذيفة لا على المنعة فحسبُ بل في فمها، وكانت كفالته موثوقة فالمهارة الوحيدة التي يتمتع بها هي مهارة الرمي. ثم اختتما الصيانة بمسح عاجل لسبطانة المدفع وأجزائه المتحركة.
ولما عادا إلى المسار وجدا اهتمام الملازم غير اعتيادي بدليل أنه جمع الفصيلة وراجع معها من جديد موقعها ومواقع الجيران، ومحاور التحرك المحتملة، ومسافات الدبابات والمنع المعادية، وخطوط فتح نيران المدافع والرشاشات. ولما لمح تساؤلاً في عيني عبد الرحمن أفهمه بتحفظ أن اشتباكاً يوشك أن يقع. وبعد الغداء لم يسمح لهم بالقيلولة المعتادة، وأوعز بتفقد مستويات الماء والوقود والزيت من جديد، وبتجربة أجهزة الإشارة والأسلحة، إلى آخر ما هنالك من مفردات صرفوا النظر عنها في الأيام السابقة.
وانتظرت الزعرورة أصحابها ذلك المساء عبثاً فقد كانوا منذ الساعة الخامسة على أهبة الاستعداد. زلزلت الأرض في الثامنة إلا ربعاً بمئات القذائف من المدافع انهالت على التل المعادي وما وراءه. ففضحت صفرة الوجوه الرعب الذي ألقاه الدويّ في نفوسهم، بمن فيهم الملازم وعبد الرحمن. وتلقى الملازم أمراً بمناوشة العدو بدبابة واحدة فادعى عبد الرحمن أن موقعه المعزول نسبياً أصلح لهذه المهمة، واضطر الملازم للموافقة بتحفظ فقد كان يخشى حماقات عبد الرحمن؛إذ لا يستغرب أن تضرب النخوة برأسه فيندفع وحيداً إلى المنعة المقابلة أو يقتحم حقل الألغام.
ناءت الدبابة بثقل الفيل الذي هوى عليها، وصرّ الكرسي صريراً مؤلماً تحته. وحذّر راميه بمقدمة حذائه الشبيه بقارب:
_ لا أحد غيري يعرف سرّك يا حسان؛ إياك أن تُحوِجني إلى استعمال هذا الحذاء!
هوت الطلقة الأولى حسب تعليمات الملازم على مرصد الإشارة المتربّع بأناقة وقحة على رأس المنعة، تبعتها ثانية وثالثة. وجرّب عبد الرحمن أنواع القذائف لضمان تدمير هذا المرصد المتبجح بأسلاكه ووصلاته الفضية وسط بحر من الحجار السوداء. وغضب في نفسه لأن ساعة الغياب لا تناسب الرمي من موقعه فما يزال وهج الشمس المنكفئة في عين الرامي. ونسي الرامي كل ماضيه بعد الطلقة الأولى. واطمأن إلى أنه محا عار تلك الليلة " البعيدة " ليلةَ هاجمته " الضباع " بإصابته المحكمة منذ المحاولة الأولى.
وتذكّر باعتداد أنه كان الأول في أي مسابقة للرمي، وأنه كان الوحيد بين زملائه القادر على رسم خط مائل بفوهة السبطانة حتى استحق أكثر من إجازة على براعته. وطبّق السائق دون حاجة إلى إيعازات عبد الرحمن الوقفات المطلوبة وأن تظاهر الأخير بأنه هو الذي يقود الرمي ويوجّه الجميع. ولما اطمأن الطاقم لمصير المرصد جرب الرامي أن يدسّ لقمة في فم الطلاقة نفسِها فانحرفت الأولى متراً أو أقل، فصحح الثانية حتى خيِّل لعبد الرحمن الذي يرصد الرمي من منظاره أن الطلقة دخلت فمه هو ولم تمسّ أسنانه من فرط الدقة؛ فشدّ رأس الرامي بيده الحرة وقبّل قلنسوته هاتفاً:
_ الآن صرت بطلاً!
سال خطان رفيعان من عيني الرامي حفرا مجريين لهما إلى طرفي فمه عبر الغبار الذي حجب قسمات وجهه، وأفلت المدوِّرين من يديه متنهداً برأسه على قاربي عبد الرحمن.
كان لا بد لحماقة عبد الرحمن أن تتجلى بصورة من الصور؛ فقد نسي فتحة النجاة مفتوحة، ولم يكن بمقدور الملازم ولا أي قوة في الدنيا أن يُفهمه ذلك عبْر جهاز اللاسلكي، وهو مشغول بلغطه الذي يعلو جلبة الدبابة، فتعفّرت وجوه الجميع بغبار استحال معه تمييزها. واضطر الملازم أن يرسل أحد الجنود ليوقظ عبد الرحمن من سكرته، فلما تمكن من إيقافه نسي الملازم أن يحاسبه على الفتحة والمخازن القليلة التي سقطت.
وهلّل فرحاً فقد عاد عبد الرحمن منتصراً!
25 حزيران:
غلبَنا النعاسُ منذ أشرقت الشمس؛ فقد سهرنا الليل كله. أصلحنا ما خربه عبد الرحمن خلال معركته، وتداركنا النواقص والأخطاء التي اكتشفها الملازم في نظام المستر بعد التجربة الحقيقية. ولم يسمح لنا بفكِّ البطانيات؛ فهل يُعقل أن يبتلع العدو الإهانة التي لم يسبق لها مثيل؟! حتى ولو سمح لنا بالنوم ما كان لنا أن نغفو فتذهب عنّا نشوة النصر.
صدقت نبوءة قائدنا، وبقي أن يصدق الشق الثاني من وعده الموجه إلى عبد الرحمن:
_ سمعت أنك قائد دبابة فحل؛ إذا أثبتَّ فحولتك أمام العدو فلن تعود معلماً، سأرسلك إلى الكلية الحربية متجاوزاً تقدُّمك في السن.
وزارنا وفد رسمي وشعبي من مضيفينا المشاة برئاسة قائدهم وعضوية العريف العجوز الذي حدّثهم مستاءً أن قائد الكتيبة سأل في غياب قائد الفصيلة عن الموقف في الموقع فلخص العريف الموقف في كلمتين:
_ " يشخون على الواقف "!
فكاد القائد يلطمه عبر الهاتف:
_ نعم؟ هل تمزح معي؟!
وعجب العريف ما الذي " يُزعِّل " في هذا؟ وتلمّس أعضاء الوفد الدبابة البطلة غير مصدقين أن موقعهم رد على العدو المتغطرس، بل بادره. ثم انصرفوا بعدما عرضوا كل الخدمات الممكنة مهللين:
_ حياكم الله يا رجال بيّضتم وجهنا اليوم!
لم يكذَب العدو توقُّعنا؛ فبعد أن أرخى لنا الحبل إلى الظهيرة ونفّذ أهدافاً في عمق دفاعاتنا استدار إلينا لحظة إنزال الطعام من سيارة الغداء. غردت معدة عبد الرحمن للقدرين اللماعين، ولولا الخجل من الملازم لسعى إليهما ولو بدبابته. وسرعان ما نسيهما عندما تأكد أن الطائرات تستهدفه بالذات. لا بد أن العدو اكتشف وجود سلاح جديد في الموقع، ولابد عرف نوعه، ولكن الذي لم يعرفه هو قوام هذا السلاح وأماكن توضُّعه بالضبط. ومع ذلك كانت المسافة الفاصلة بين الموت والحياة ضئيلة للغاية، فهو يرى ساتراً ترابياً يمتد مئتي متر تقريباً لا يشك أحد في أن الدبابات وراءه على نحو من الأنحاء، والذي لم يعرفه بالتحديد هو مواقع حُفَرها رغم أنه يستطلع هذا المكان كل صباح بطائرة ثقيلة درج الجنود على تسميتها " أم كامل ". اليوم عرفت الفصيلة أن تلك الطائرة العتيقة لم تكن تتنزه؛ فقد رأوا كل قصف مدفعي أو جوي ترافقه طلعة لتلك الطائرة التي تكاد تلامس الأرض، فتصحح للعدو رماياته.
اندلعت النار في دقائق معدودة في أرجاء الموقع، بل في كل مكان يمتد إليه النظر. تسلّقت دبابة معادية التل وقصفت مرصدنا فتخلخلت أحجاره وإن لم تتصدع، واشتعل الهشيم حوله، وتعذّر على قائدي الفصيلتين المرابطَين فيه أن يريا شيئاً؛ بل أن يرى أحدهما الآخر من الغبار والدخان. وسدد المراسل بارودته القناصة إلى الدبابة لولا أن قائده ردعه , ولما تسلقت الدبابة الثانية المرتفع حزم قائد فصيلة الدبابات تجهيزاته الفردية وانطلق إلى دبابته " قد يرتكب عبد الرحمن إحدى حماقاته ولا سيما أنه مغترٌّ بإنجاز البارحة " وأفلح بصعوبة في إقناعه بأن هذه الدبابة طُعم هدفه كشفُ ما في الموقع بالتحديد، ثم الإجهاز عليه بمختلف صنوف الأسلحة.
لم يطل تأوه عبد الرحمن على صيده الضائع؛ مسح زوج من الطائرات مسار الدبابات، وألقى حزمة من الصواريخ أكدت صحة ما توقعه الملازم فقد أصاب أحد الصواريخ الرشاش المثبت على ظهر دبابة عبد الرحمن دون سائر الدبابات، وسقط أمام مقدمة الدبابة فبهر عيون أفراد الطاقم جميعاً وقفز كل منهم راكضاً إلى اتجاه وهو يظن نفسه الناجي الوحيد؛ حتى إن أول تقرير وصل إلى الملازم من الرامي هو أن الجميع قُتلوا؛غير أن الملازم رده طالباً أن يفتش تحت الدبابة بعد انحسار الغبار، فعاد إليه من جديد مبشراً:
_ لا أحد تحت الدبابة!
_ اذهب وابحث عنهم إذن!
والتأم شملهم بسرعة، وكلٌّ يلوم الآخر على انفراده باتجاهه وتفكيره في نفسه فحسبُ. واستقروا تحت دبابة الملازم الذي طمأنهم بأن قلعة حديد كالتي فوقهم يصعب على مثل هذه الصواريخ وعلى قذائف الدبابات أن تفعل شيئاً بها.
إلا أن النهار طال، واستمر جنون العدو بدبابتيه على التل، ومدافعه خلفه وطائراته. والتهبت خنادق المشاة، ووجفت القلوب عندما انبرت الطائرات ترش الخنادق مباشرة غير أن الأرض أكملت دورتها فحلّ الظلام. استبد الجوع بالبطون مع توقف القصف المجنون فزحف المشاة والمدرعات من كل اتجاه صوب القدرين وأجهزت عليهما متجاهلة أن البرغل فسد بنار الشمس.
لم يُتح لنا أن نستريح ليلتنا: لا بد أن نغير مواضع الدبابات. ولم تلبِّ الحُفر الجاهزة شروط الملازم لأنها ليست أكثر من مخابئ لا تسمح بالرمي، أو حفر هزيلة لا تستر عورة الدبابة. وبعد استطلاع عاجل عاد متخذاً قراراً حاسماً: يجب الانتقال إلى المنطقة الخالية من القوات على يسارنا!
انضم إلينا حشد من جنود المشاة بقيادة عجوزهم ولكننا جميعاً مرهقون وأدواتنا قليلة. تقدّم جارنا الفلاح الذي حصدنا له في يوم فائت حاملاً عدة الشاي وكثيراً من الخبز واللبن. ولما فهم مهمتنا عاد بعدد من السواعد والمعاول والمجارف تمكنتْ بعد صراع مرير مع وعر الجولان أن تحفر ثلاث حفر.
تعدّينا على الزعرورة أول مرة منذ احتضنتنا: اقتطعنا بضعة أغصان طرية منها ومسحنا بها آثار السلاسل وهي تترك حُفَرها القديمة إلى مساندها الجديدة. ثم غفونا بانتظار الصباح؛ غير أن برد الليل وحموضة البرغل فعلا فعلهما مما اضطر العريف أن يضيف إلى تقرير البارحة في الصباح التالي وهو يجيب قائد الكتيبة:
_ الكل يمسك ذيله بأسنانه ويركض إلى أقرب كنيف!
26 حزيران
انهالت الطائرات منذ أول ضوء على غطاء كتاني كنا تركناه ضحية فوق إحدى حفر الأمس ,وحفرت المسار والساتر خطوة خطوة. وبدأ قلق خفيف يدغدغ أمعاءنا منذ اكتشفنا أن العدو يخطط ليخرق على أحد المحاور غير البعيدة. افترض الملازم من وجهة نظر تعبوية أن المسيل الفاصل بين الوحدتين الصديقتين والذي هو محط اهتمامنا منذ ليلتنا الأولى في هذا الموقع أنسب مكان للخرق. ولما بالغ العدو في قصف موقعنا الأصلي البعيد عنا بضع مئات من الأمتار فحسبُ أضاف الملازم احتمالاً ثانياً وهو أن يكون ذاك الموقع هدفه إذ ليس من المعقول أن يستمر في حراثته إلى ما بعد الظهيرة من أجل حفنة دبابات ورشاشات وبرج مهترئ. يريد الأرض محروثة أمامه ممهدة دون طلقة مقاومة. رسم الملازم مخطط نيران دقيق، واستخلص من الخريطة ومن الطبيعة نقاط علام حدد مسافاتها بدقة متناهية ضماناً للإصابة. وكرر كل قائد وسائق ورام ومعمر مهمته ودوره في المعركة التي تبسط ظلها عليهم شيئاً فشيئاً مع امتداد ظلال التلال والأشجار. غير أن كل مخططاته _ على روعتها وإتقانها _ بدت له كلعبة الخريطة التي كان يلعبها مع أقرانه وهم أطفال على بيادر القرية في الليالي المقمرة وفي بساتينها. فمهما فاجأ العدو ومهما دمر من آلياته فسيظل من أحلام اليقظة أن يصمد بثلاثة مدافع أمام رتل أنيطت به مهمة على هذا المستوى. بدا له أنه حمّل فلاحي القرية جهداً لا طائل تحته حين جهزوا له هذه الحفر، وبدا له أنهم حمّلوه مسؤولية أجسم من أن يستطيع حملها وحده. راقت له وهلة فكرة المناورة بدباباته الثلاث أوسع مناورة لتشتيت العدو، ولكنه مهما ناور فستظل ثلاثاً ولن تصبح عشراً ولا خمساً. وأدرك أن تضحيته بنفسه وبفصيلته ستبقى رخيصة مهما ظهرت له ولغيره نبيلة، ولن ترد العدو عن فلاحي القرية الذين ما بخلوا عليه بشيء والذين وضعوا أملهم في هذه الفصيلة مثلما وضعه جنود المشاة، ولن ترد العدو أيضاً عن العريف العجوز الذي انتظر طويلاً يوماً يسجل فيه انتصاراً ولو محدوداً يختتم به خدمته ويظل يرويه لأولاده. تمنى الملازم لو يغيب عن الوعي بضع ساعات ليعود بعدها وقد زال الكابوس الجاثم على صدره. تضاءل وتضاءل، وتباعدت الأشياء من أمام عينيه حتى بدت له الزعرورة من مخبئه عجفاء كهلال وليد. بدت له أمسياتها حلماً جميلاً بددته قسوة مسؤولية اليوم والموت المرتقب بلا ثمن. لن يكون في أحسن الأحوال أكثر من فارس من فرسان القرون الوسطى يقوم بمغامرة يائسة. أحس بخزي مرّ نحو فلاحي القرية الذين لولاهم لهرسه العدو بالسلاسل اليوم أو ساقه حياً أمامه. وأحس بخزي مرّ نحو جنوده لم ينقذه منه سوى اتصال هاتفي يحذره مما توقعه منذ الصباح.
انتفض من هواجسه: يجب أن يفعل شيئاً أجدى من هذه المشاعر النبيلة!
انتضى خريطته ومخططه من جديد، ثم هتف لعبد الرحمن الرابض على مدخل الحفرة كصقر جائع:
_ عبد الرحمن يجب أن نستفيد من البرج المهجور، هو مدفع مثله مثلنا، ينقصه أن يناور فحسب؛ ولكن موقعه في حدّ ذاته أعظم مناورة، سيفاجأ العدو به.
وجاء الجواب المألوف:
_ لعيونك سيدي!
ولما كان مستحيلاً أن يرسل أحداً لهذه المهمة العسيرة غير عبد الرحمن، ولما كان مستحيلاً على عبد الرحمن أن يزحف وسط الصخور والأشواك هذه المسافة، اقترح على الملازم أن يسير منتصب القامة مرتدياً سترة مدنية فوق بزته العسكرية و " شماخاً " كالذي يرتديه أهل القرية. وقبل أن يوليهم ظهره أمسك بأذن حسان وقاده إلى الملازم:
_ أوصيك به يا سيدي؛ هو ولد طيب وذكي ورام ماهر.
ولما كان ضيق الزمان والمكان لا يسمحان بوداع رومانسي اكتفى عبد الرحمن ببضع كلمات مشتتة كمعلم لم يُحضّر درسه:
_ خاطركم يا شباب، لا يهمكم! البرج سيرمي رغماً عنه كُرمى للزعرورة وللعريف العجوز ولأهل البلد، سنردهم!
عقّب أحدهم:
_ صار عندنا أربعة مدافع!
فأضاف الملازم مشيعاً عبد الرحمن الذي يزداد ضخامة كلما اقترب من البرج:
_ وعبد الرحمن مدفع خامس!
قطع عبد الرحمن المسيل الذي استعصى على أخفاف الجمل قبل أيام مترنحاً بين الصخور والأشواك المنتفشة كهررة متحفزة للهجوم، يطبطب مأخذ جهاز اللاسلكي على قفاه مع كل خطوة. وكأنما توجه بلا وعي إلى الزعرورة حتى حجبها عن أبصار رفاقه، ثم ما لبث أن انحرف عنها ملتحماً بسماء التل المعادي. ولما وصل إلى برجه كان العد التنازلي لساعة الصفر قد بدأ: امتدّ رأس الأفعى على الطريق الممهد الذي كان يوماً من الأيام طريقاً هاماً، وبزغت في الوقت نفسه من بين سُحب الدخان شمس منعكسة على آليات صديقة قادمة من الشرق. دار رأس الملازم لحظة وكأنه في عالم مسحور، ثم أدرك أن حجم العمليات أكبر منه ومن فصيلته، وأن هجوماً معاكساً لقواتنا بدأ غير أنه ما يزال بعيداً. تنهّد قائلاً " نسيت أننا لسنا وحدنا " ولكن مسؤوليته أصبحت أدقّ: يجب أن نصمد أمام الرتل المهاجم إلى حين وصول قواتنا. ساعة، نصف ساعة... صعب عليه أن يقدّر الزمن الضروري لوصولها في هذا الوعر الوحشي إلا أنه يجب أن يصمد بأي ثمن وبأي طريقة. استنجد بالله وبأوليائه أن يوصل عبد الرحمن سالماً إلى البرج، وأن يمنع أي استعصاء في المدفع الرابع الذي غلّفه الإهمال والنسيان سنين طويلة. أما المدفع الخامس فكانت حماقته مأمونة مادام الرابع عاجزاً عن التحرك. وتوسّل بمن ينفع ومن لا ينفع أن يشدّ أزر فصيلته التي لما يبلغ أكبر عناصرها الخامسة والعشرين باستثناء عبد الرحمن وهو طبعاً، بل لم تنبت لحى بعضهم إلى الآن، ومع ذلك فُرض عليها اختبار قاسٍ من المرة الأولى. ظل يقيس مسافات الأفاعي الزاحفة والشمس المنبجسة من الشرق والمدفعين الثابتين إلى الشمال إلى أن انهال أول سوط من مدافعنا على الأفعى الزاحفة، فزفر بقوة:
_ يا لَمدافعنا الحبيبة!
وتبلورت الصورة أمام عينيه: لا شك أن اختيار هذه اللحظة من مدافعنا هو لإجبار العدو على أن ينتشر في المسيل الذي استعصى حتى على الجمل ويترك الطريق الممهد. ومع انجلاء الصورة اتخذ قراره النهائي " لا يُعقل الآن بعدما لاحت طلائع قواتنا من الشرق وانضمت مدفعيتنا، بل الهاون العجوز، أن أحاربه على مخططي. يجب أن أزيد وضعه تعقيداً وهو متورط في الصخور التي تقدح شرراً تحت سلاسله. يجب أن أساهم بدوري وأنا أقرب المدافعين. أما الصمود من حُفرنا فلا جدوى منه الآن. قد ندمر له ثلاث آليات أو أربعاً أو خمساً؛ ولكن ماذا بعدُ؟ لا بديل حين يتفاقم الوضع من مناورة جريئة وذكية تموّه قلة عددنا وتموّه موقعنا.
لا تذكر الفصيلة كثيراً من التفاصيل وسط زوبعة البارود والحرائق، تذكر فقط أن عبد الرحمن كان في أفضل أيامه فلم يطلق إلا بعد اشتباك الفصيلة، وتذكر أن آليات العدو التي لما تغُصْ في المستنقع الصخري انكفأ بعضها واتجه بعضها نحو عبد الرحمن. أما متى توقف عبد الرحمن فلا أحد يستطيع أن يحدد الآن. أما أهل القرية الذين توكلوا على الله وعلى الدبابات فاحتاروا في أمر الحركة الدائبة التي نفذتها ثلاث دبابات رشيقة كانوا يتصورونها سابقاً كأفيال ثقيلة فإذا بها تذرع المسيل والتباب كالغزلان، تنفث النار من حين إلى حين، تنقضّ على أعدائها كفهود تتصيد في غابة، ثم تبتلعها الصخور والمنعرجات.
تناهت إلينا رائحة اللحم المشوي أول مرة في حياتنا، إنها رائحة لا تخطئها الأنوف مهما خالطها. ولكن لم يخطر لأحد أن يحصي خسائر العدو؛ كم دمرنا؟ ومن منا أصاب ومن لم يُصب؟ لم يسأل أحدنا هذه الأسئلة لأن السؤال الذي ظل يؤرقنا هو: هل نستطيع الصمود في وجهه وكيف؟
انضممنا إلى النسق الصديق المهاجم لنعود إلى موقعنا القديم بعدما دُحر العدو. وكأننا حددنا الزعرورة نقطة التقاء وجدنا أنفسنا في خلال دقائق تحتها دون موعد، ووجدنا بجانبنا قائد وحدة صديقة يقفز من دبابته ويطبطب على ظهورنا كأخ حميم:
_ هؤلاء أنتم إذن؟ حيرتمونا وحيرتم العدو، كأنكم عفاريت انشقت عنكم الأرض!
زفّنا المشاة ثانية إلى مرابضنا الأصلية وهم يسردون لنا ما لم نشهده نحن من أمجاد مدفعينا اللذين صفعا من موقعهما مجنبة العدو ومؤخرته، ولم ينسوا عريفهم العجوز الذي أدرك أول مرة في حياته قيمة مدفعه. وارتمينا على أعتاب الحُفر مرهقين لا يجري في عروقنا إلا زهو انتصار الليلة الأولى، زهو منديل الدم.
ولكن سرعان ما سرت رعشة في قلوبنا:
_ أين مدفعنا الخامس؟ كان ينبغي أن يكتسح الفصيلة الآن باحتفاله وضجيجه!
تبادلنا نظرات واجمة، أدرك كل منا ما في نفس الآخر فقد صهرتنا نار الأيام الثلاثة في نفس واحدة. لم يطل قلقنا: ارتسم عبد الرحمن أمام عيوننا يعانق الشمس القانية التي تغيب وراء التلال.