المنطق والنحو في القرن العاشر[1]
س. ه. م. فيرستيغ
- في أثناء المؤتمر الأول حول علم تاريخ علوم اللغة الذي انعقد عام 1978 في أوتاوا [ بكندا ] عالجت لورين كود الخلاف بين الشمولية والنسبية في علم اللغة المعاصر. وباختصار تَطرح القضيةُ نفسَها على النحو التالي: بين اللغويين من يسلِّم أن الذهنيات المتتابعة (PROCESSUS MENTAUX) لكل الناس محكومة بقوانين متطابقة بغض النظر عن لغتها الخاصة. وهذا يعني أن للعالم كله الإطار نفسَه من المرجعية. وبفضل هذا التطابق يمكن للناس أن تتواصل أفكارهم بلغة أجنبية. ويمكن أن تترجَم معلومات من لغة أخرى. وهناك من يدافع عن أن الاستدلال البشري (raisonnement) محدود دائماً بلغته الأم، وأن تقسيم الحقيقة الخارجية إلى أصناف، والأحكام التي يمكن أن تُحمل عليها هذه الحقيقة متعلقة بهذه اللغة، وهذا يجب تحديد قواعد الفكر لكل جماعة لغوية بشكل منفصل مع الأخذ بعين الاعتبار أن ترجمة لغة إلى أخرى مستحيلة.
- في المؤتمر نفسه حضرنا مداخلة ريشارد أوغل عن مفهوم النظام الطبيعي. يميز أوغل وجهتي نظر في مواجهة الظواهر اللغوية: الأولى تعد السيرورات النحوية طبيعية، أي منطقية بقدر ما تتطابق مع الأفكار الشمولية للفكر الإنساني. وأنصار هذا الاتجاه ينسبون كل الانحرافات عن هذا النظام الطبيعي إلى تأثير الاستعمال العامي والعام. ووجهة النظر الثانية تتخذ عدداً من القوانين النحوية نقطة انطلاق، وهي قوانين خاصة بكل لغة، ومحكومة بمبدأ المماثلة، ومستقلة عن كل معيار من خارج اللغة. وأنصار هذا الاتجاه يعدون الظواهر اللغوية طبيعية بقدر ما تتطابق مع هذه القوانين في حين أن الانحرافات بالنسبة إلى هذه القواعد هي وجوه للأسلوب.
- من البديهي أن هناك ما يربط هاتين الوجهتين: إذا سلّمنا بأن القوانين التي من خارج اللغة تنظم سياقات الاستدلال كما تنظم السياقات اللغوية فسنميل إلى أن نقبل كذلك أن هذه القوانين شمولية. ولكن إذا طُرح وجود قواعد نحوية مستقلة فسيكون الأكثر احتمالاً هو أن هذه القوانين مختلفة بالنسبة لكل لغة. وليس من مواضيع اهتمامي في هذه المداخلة أن أُظهر أن النحاة العرب كانوا سابيريين (sapirien) أو ديكارتيين[2]. قبل استقرار النحو، ولكن أريد أن أستخدم التمييزات التي تكلمت عليها قبل قليل لنفهم على نحو أفضلَ حقبةً من تاريخ القواعد العربية، تعرّف العرب خلالها الأعمال المنطقية والفلسفية في الثقافة اليونانية، أي في القرن العاشر الميلادي. وبفضل هذه المعارف الجديدة توصلوا إلى أن يقرروا موقعهم من القضايا الجديدة.
- -1 : حاولت أن أبرهن في موضع آخر أنه منذ الحقبة الأولى للقواعد العربية (القرن الثامن) تُكتشَف تأثيرات يونانية. ولكن هذه النظرية ليست ملائمة هنا. فإذا وُجد في الحقبة الأولى تأثير بواسطة المدارس البلاغية وأقاليم الإمبراطورية الرومانية التي فتحها العرب فإن هذا التأثير كان محصوراً بساحة المصطلحات والاختيار بين الصيغ (PARADIGME)، ولكن هذه الاحتكاكات لم تولِّد النظرية اللغوية للعرب. وفي جميع الأحوال لم تعرف الثقافة العربية تراثاً منطقياً للتحليل اللغوي يمكن أن يُقارَن مع ما لدى اليونان. إن النحو العربي هو نتاج قضايا عملية طرحت نفسها منذ بداية الفتوحات. أحس المسلمون بالحاجة إلى أداة لحماية لغتهم، التي كانت في الوقت نفسه لغة الشعر الكلاسيكي والقرآن، ضد التأثيرات المؤذية لكل أولئك الذين كانوا يخاطرون بتهجينها، سواء كانوا عرباً أميين أم غير عرب. كانوا يعدون اللغة العربية فريدة لا تقارن بأي لغة أخرى من حيث غنى مفرداتها وجمالها الصوتي وبنيتها العقلانية، ولم يكونوا يهتمون باللغات الأجنبية BARBARE. لقد اختار الله هذه اللغة لإبلاغ وحيه الأخير إلى محمد. وهذا ما كان يُظهر بوضوح أن لهذه اللغة طبيعة خاصة. وكذلك لم يتساءل العرب عما إذا كانت قوانين اللغات الأخرى مثل قوانين لغتهم. ولما كانت اللغة العربية قد خُصّت بالبنية النموذجية والنظام الصحيح انسجاماً بالمقارنة مع كل اللغات الأخرى، ولما كان الوحي الإلهي إلى محمد هو الوحيد الصحيح، بدت لهم مقارنة اللغة العربية بلغات أخرى خالية من أي معنى.
2-2 بعد حقبة سيبويه (791 م) الذي كان في كتابه المميَّز قنّن لأول مرة اللغة العربية، ينفصل النحاة العرب، حسب التراث العربي، إلى مدرستين: مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة. وقد انتقد المستعربون المعاصرون هذا الفصل، واعترضوا على أصالة المدرستين. ومع ذلك فليس لهذه المسألة أهمية في قضية العلاقة بين المنطق والنحو في القرن العاشر ما دامت المدرستان لم تختلفا على كل حال في نظرياتهما العلمية، ولا في مناهجهما المستعملة في حل القضايا اللغوية. فالمدرستان، إن كان هناك مدرستان حقاً، كانتا تحكمان في ظواهر نحوية بمعونة معايير كعذوبة الصوت والانسجام والبساطة. أو بمعايير ذات طبيعة نحوية ذاتية ولم تلجآ إلى معايير ذات طبيعة منطقية. عملت المدرستان بمفهوم القياس اللغوي، ولم تبحث أيٌّ منهما عن علاقة متبادلة بين القوانين اللغوية وبين القوانين التي تنظم العمليات الذهنية[3].
- – 3 منذ عام 850 تقريباً ستتركز دراسة اللغة في العاصمة العباسية بغداد، المركز الثقافي والعلمي للثقافة الإسلامية. وهناك (بغداد) أسس المأمون (حكم 813 – 833) أكاديمية المترجمين (بيت الحكمة) حيث كان علماء من كافة أقاليم الخلافة بدؤوا في ترجمة سريعة بشكل ملحوظ لكمية ضخمة من المؤلفات اليونانية إلى العربية بواسطة السريانية بالنسبة لأغلبهم. وينصبّ هذا النشاط عموماً على مؤلفات طبية وفلكية، في حين أن المؤلفات المنطقية والفلسفية الأولى، وقبل كل شيء المؤلفات الأرسطية، لم تظهر إلا في عصر متأخر. ومن البديهي أن أُلفةً ما مع المناهج الجديدة كانت قد نشأت قبل حقبة الترجمات الرسمية عبر الاحتكاك الذي كان للنحاة مع المترجمين الذين معظمهم مسيحيون سوريون يعيشون ويشتغلون ببغداد. وبهذه الطريقة أمكن الحصول على عدد كبير من النظريات والمصطلحات الفلسفية. ويُعدّ اشتغال الفراء طوال عمره تقريباً في بغداد خلال العصر العباسي أمراً ذا دلالة.
-
– 4: وعلى النقيض من هذا كان المنطق اليوناني قد أصبح مألوفاً نوعاً ما لدى النحاة الذين جاؤوا يعد أربعة أجيال. وسنقتصر على النحاة التالية أسماؤهم: الزجّاج (ت 923)، وابن السراج (ت 928)، والزجّاجي (ت 949) والسيرافي (ت 979)، والفارسي (ت 987) والرمّاني (ت 994)، وابن جنّي (ت 1002)، حتى لا نذكر إلا أفضل المعروفين بين نحاة القرن العاشر. إن التراث العربي يتهمهم بمزج النحو بالمنطق[4]. ويُروى أن النحوي ابن السرّاج كان يحضر درس المنطق والموسيقا للفيلسوف الفارابي (ت 950)، في حين أن أستاذه كان يتلقى منه تعليمه النحوي[5]، وهو تنسيق موفق جداً كان مسؤولاً بلا شك عن عدد كبير من هذه المبادلات بين النحاة وأنصار الموجة الجديدة. ويستحقّ الزجّاج خصوصاً الذكر لأنه كان تلميذاً لمعظم نحاة هذه الحقبة، وكان يعرف الوسط الذي نحن بصدده. وأعماله، بغض النظر عن أصالتها، كوّنت واحداً من أكثر المصادر أهمية في دراسة تأثير المنطق على النحو.
- : جوبِه العرب وهم يترجمون المؤلفات المنطقية والفلسفية اليونانية إلى العربية ويدرسون النتائج بتراث مختلف جداً عن تراثهم الخاص؛ فإن التراث اليوناني كان مبنياً على تحليل علاقات اللغة بالفكر، وكان تراثاً قد أُعدّ طوال قرون. وكان النحاة خصوصاً هم الذين استجابوا لهذا التحدي وللحوافز التي تمثلها هذه النماذج الأجنبية؛ فقد أجبرهم تدّخُلُ النظريات اليونانية على تحويل موقعهم في مواجهة نظرية اللغة. وقد طُرحت قضيتان هامتان: مسألة العلاقة بين اللفظة ودلالتها، وهل الدلالات متطابقة بين كل الأمم والكلمات وحدها هي التي تختلف حسب اللغات أم أن الدلالات متصلة اتصالاً حميماً بالكلمات ومختلفة إذن لكل لغة؟ وهي المسألة الشمولية مقابل النسبية. أما المسألة الثانية فهي معايير الكلام الصحيح؛ فهل يجب أن يخضع الكلام إلى قوانين الفكر الإنساني أم إلى القوانين النحوية المستقلة؟
- : المسألة الأولى وهي العلاقة بين الدلالة واللفظة امتزجت غالباً طوال هذه الحقبة بمسألة ما إذا كان النحوي جديراً أم غير جدير بالتكلم على الدلالات؟ ويتعلق الأمر بتحديد ما إذا كانت الدلالات (المعاني) مختلفة في كل لغة أم لا؟ فإذا كانت مختلفة فهي بداهة تخص ساحة النحو، والنحوي هو القادر على الكلام عليها. وعلى النقيض إذا كانت متطابقة في كل اللغات يمكن أن يقال إن النحوي يستطيع الاهتمام بدراسة الألفاظ في كل لغة خاصة فحسبُ، والمنطقي هو الذي يجب أن يدرس دلالات كل اللغات.
- : وهذا الأمر هو موضوع مناقشة شهيرة بين الفيلسوف المترجم أبي بشر متّى بن يونس (ت 970) والنحوي السيرافي (ت 979)[6] يستغل السيرافي مجلساً ليلياً في حضور الوزير ليسخر من متّى ونظريته المنطقية. وكان متّى قد دافع عن نفسه بأنه يجب استخدام المنطق ميزاناً فهو أداة لتحديد ما هو صحيح في الكلام وما هو غير صحيح، ولتمييز الدلالة الصحيحة من الدلالة الخاطئة، وكان يريد البرهان على أن بين الكلمات في اللغات المختلفة أساساً عاماً هو الدلالة العامة لكل هذه الكلمات، وأن المنطقي هو القادر على الاهتمام بالكلمات في رأي متّى، في حين يجب على النحوي الاقتصار على دراسة لغة معينة. ولا يحتاج المنطقي في رأي متّى إلى القواعد في حين أن النحوي محتاج إلى المنطق، فقد لا يستطيع دراسة الكلمات دون معرفة دلالاتها[7]. وبالمقابل يدافع السيرافي عن أن الدلالات مرتبطة ارتباطاً حميماً بالاتفاق (CONVENTION) ضمن لغة خاصة، ولذا يجب معرفتها قبل إمكان دراسة الدلالات. وجب أن نقول في هذا الخصوص إن متّى كان مترجماً سورياً تعلّم اللغة العربية لغةً ثانية فكان من السهل على السيرافي إبراز عدم فهْمِ متّى لدقائقها.، ولا لدقائق اللغة التي استخلص منها دروسه في المنطق وهي الإغريقية التي كانت لغة ميتة. فكان مستحيلاً عليه أن يتعرّف دقائقها، وكانت، تبعاً للسيرافي، خاطئة[8].
- : يبدو أن مناقشة الأعمال المنطقية والأعمال النحوية غدت في القرن العاشر أشبهَ بالنماذج المتطابقة (كليشه). هناك تمييز آخرُ غيرُ هذا الذي تكلمنا عليه عما قريب يشدد على شمولية المنطق؛ يقول الفارابي إن قوانين المنطق شاملة لأن الفكر الإنساني يتبع نماذج ثابتة متطابقة لكل الناس. إن العلاقة بين المنطق وبين العقل وبين المدرَك بالعقل (INTELLIGIBIA) هي نفسها إذن تلك التي بين النحو واللغة والكلمات: يصوغ المنطق قوانين شاملة تحدد كيف يجب على الكلمات أن تعبر عن المدرَك بالعقل (INTELLIGIBIA) في لغة معينة. وفي مؤلَّف لأحد تلاميذ متى وهو يحيى بن عدي (ت 974 م) والذي كان مثله فيلسوفاً ومترجماً من أصل سوري مسيحي، نجد ثانية استنتاجات مصوغة ببداهة أخّاذة. ويدرج يحيى استنتاجاته في إطار علميّ مستخدماً نظام المفسرين المشائين[9] لشرح الاختلاف بين المنطق والنحو[10]. وفي رأيه يختلف المنطق عن النحو في الموضوع والهدف؛ فموضوع المنطق هو دراسة الكلمات ذات الدلالة التي تحدد الأشياء الشاملة، وهدفه هو تنسيق هذه الكلمات لتوليد الحقيقة. وموضوع النحو على العكس هو دراسة الكلمات على ما هي عليه، سواء كانت دلالية أم غير دلالية، وهدفه هو إعطاؤها صيغة نحوية مطابقة للعادات اللغوية عند العرب[11]. وما يُستخلص من كل هذه المناقشات هو أن المنطقيين كان عندهم إعجاب عميق بالفلسفة، أي بالنظريات الفلسفية لدى الإغريق التي عرفوها عبر ترجماتهم، وربما كان النحاة يقبلون استخدام الفلسفة الأرسطية لمناقشات تقنية لقضايا ذات طابع منطقي على أن تبقى ساحة النحو وقفاً على النحاة المحترفين. وفي رأيهم أن أحكام المناطقة التي تتعلق بالكلام الصحيح مؤسسة على معرفة متوسطة بالعربية ومعرفة غير مباشرة بالإغريقية.
- – 1: رأينا أنه في النزاع الذي كان يعارض العرب فيه بعضهم بعضاً كان المناطقة يختارون نظرية شمولية تنطبق بموجبها القوانين نفسها في كل اللغات؟ وهذه القوانين تحدد التفكير الإنساني كما تحدد الكلام. وعلى العكس كان معظم النحاة يشعرون للدفاع عن نظريتهم أن لكل لغة قوانينها الخاصة التي تؤلف موضوع الدراسات النحوية. ومع ذلك فقد أفسح دخول المناهج المنطقية لكثيرين من نحاة هذا العصر مجالاً لتغيير في الموقف بمقدار ما كانوا يقبلون وجود مبادئ منطقية في القواعد النحوية للغةٍ ما. وكانوا يحاولون إذن تأسيس نظرياتهم النحوية على مبادئ منطقية. ومع هذا الاستنتاج وصلنا إلى القضية الثانية وهي معايير الكلام الصحيح: هل يجب استنباط مجموعة قواعد اللغة grammaire بدراسة القوانين بين الكلمات syntaxe أم مبادئ مثل التناغم euphonie والانسجام... إلخ. أم يجب البحث في الأحداث اللغوية ومعايير الكلام الصحيح عن نظام أعلى يتخطى النظام اللغوي، أي في القوانين المنطقية نفسها التي تحدد حركات النفس؟ وباختصار: هل هناك توازٍ بين القوانين اللغوية والقوانين المنطقية؟
4- 2 لنأخذْ جملة بسيطة مثالاً: في جملة " ضرب محمد زيداً " وضعنا " محمد " في حالة الرفع لأننا لاحظنا أن الكلمة التي تدل على من فعل شيئاً، أي الفاعل توضع دائماً في حالة الرفع في كل جملة، ولكن إن تساءلنا: لماذا يجب دائماً وضعُ الفاعل في حالة الرفع فإن القواعد هي التي يجب أن تزودنا بتفسير لهذا السؤل. إن النحويين لهم خيار كامل في الأدلة التي يبرهنون بمساعدتها على أن الفاعل يوضع في حالة الرفع بعمل الفعل. إن الأدلة التقنية التي يقررون بها هذا النوع من القضايا هي القياس، وهو القياس التقني اللغوي الذي يتخذ التشابه بين الظواهر اللغوية نقطةَ انطلاق.
4- 3: بعد هذا الشرح تطرح مسائل أخرى نفسها: لماذا يفعل الفعل بالضبط حالة الرفع في الفاعل؟ لماذا يأخذ الفاعل دائماً النهاية (ــــــــــُ) وليس نهايةً أخرى؟
هذه المسألة الأخيرة هي التي لا تستطيع حلها إلا بأدلة خارج – لغوية، أو بأدلة منطقية. وفي الحالة السابقة فإن التفسير الذي يُقدَّم هو تفسير بسيط جداً عموماً: الاسم يدل على جوهر (substance)؛ وجوهرٌ ما لا يمكن أن يوجد إلا في ثلاث صيغ (modes) الأولى بينها والأقوى هي الضمة، وفي هذه الحالة يؤسس التفسير باستعمال تعابير منطقية بسيطة. ولكن هناك أيضاً أسئلة تفسح المجال لمناقشة فلسفية مثل مسألة الضرورة المنطقية لوجود ثلاثة أقسام للكلم[12].
- -4: في مؤلَّف الزجّاجي تثليثٌ لمعايير النحو والكلام يعكس هذه المستويات الثلاثة للتعليل: فحسب الزجاجي هناك ثلاثة أنواع للبرهنة، أي ثلاثة أسباب أو معايير أو ضوابط. في المقام الأول العللُ التعليلية، أي الضوابط التي تحدد سيرورة تعليم لغةٍ ما، وهي قواعد النحو التي تعلمنا صرف الكلمات. ثم العلل القياسية، وهي معايير النحاة التي تشرح قواعد النحو منهجياً وعلمياً بمساعدة القياس، وهو القياس التقني. وأخيراً العلل النظرية وهي المعايير النظرية والتأملية التي تزوِّد النحاة بالشرح النهائي والتحديدي، وكان بعض النحاة، ومنهم ابن السراج، يدعونها بالشروح النهائية (عللُ العللِ) وكانوا يدعمون فكرة إمكانية البحث دائماً عن علل نهائية. ومع ذلك لم يكن هذا وضعاً مستحسناً لدى كل النحاة، فيلاحظ ابن جني مثلاً أن هذا الوضع يُفضي إلى "لا تناهي العلل" لأنه تبقى دائماً علةٌ أبعدُ من سابقتها. ويضيف أن العلة النهائية هي غالباً إيضاحٌ وشرحٌ لنظريات النحاة، وليست على حقيقية.
5-1: يمكن القول عموماً إن غالبية النحاة كانوا يلاحظون الاختلاف بين موقف منطقي يحاكم أحداثاً لغوية بمساعدة قوانين مشتقة من قوانين الفكر، وموقف نحوي صرف يبحث عن شروح في نظام اللغة نفسها: يقول الزجاجي بوضوح: إن أهداف النحاة مختلفة، أو يجب أن تكون مختلفة، عن أهداف المناطقة. وبالنسبة إلى معاصريهم فإن استعمالاً واحداً للتعابير المنطقية كافٍ لاتهامات شديدة للنحاة المذنبين، فقد خلطوا النحو بالمنطق، كابن كيسان. ولكن الحقيقة أنه لم تكن إلا أقلية من النحاة تريد الوصول إلى تغيير جذري للقواعد. وفي هذا الصدد يمكن الاستشهاد بحالة حُنين بن إسحاق (ت 876 م) المترجم الشهير، والذي تُنسب إليه قواعد اللغة العربية " على طريقة الإغريق". وبين النحاة خصوصاً هناك ابن السراج تلميذ الفيلسوف الفارابي، والذي كان يريد إعادة كتابة النظرية النحوية التي وضعها سيبويه عن طريق تصنيف صارم ومنطقي. وهناك فيما بعد الرماني شارحُ كتاب سيبويه، والذي يُروى أنه كان مفتوناً بالمناهج المنطقية. وعندما نقرأ مؤلفات هؤلاء النحاة نُصدم مع ذلك بالتأثير الثابت للموروث العربي رغم استعمال التعبيرات الجديدة، ورغم اتهامات الخصوم.
- -2: والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بتوجُّه جديد للنظرية اللغوية، بل بالبحث عن صيغة (mode) جديدة، وليس باكتشافات أو آراء جديدة، بل بتقليد لنماذج أجنبية. وليست هذه ظاهرة معزولة في تاريخ علم اللغة: من المناسب أن نذكر هنا النَهَمَ الذي بدأت به الكتب التعليمية المدرسية بعد الحرب [ العالمية الثانية ] باستعمال المصطلحات المستعارة من علم اللغة الحديث. وحتى هذه الساعة تتحدث كتبٌ تقليدية عن " بنية عميقة " وبنية سطحية "[13]. ومثال آخر على مستوى العلم هو وصْفُ اللفظ في قواعد اللغات الأجنبية، فمن وقت لآخرَ لا تتحدث هذه القواعد عن أصوات وحروف، بل بشكل أكثر علمية عن " فونيمات " (phoneme)[14] دون أن يؤثر ذلك على الوصف الذي أُنجز سابقاً لهذه اللغات. ويبدو لي من المحتمل أن كل هذه الحركة الإبداعية، حسب المصادر العربية، لدى مجموعة من نحاة القرن العاشر لم تكن في جانب كبير منها إلا تجلياً لرغبة النحاة في المساهمة في النماذج (modeles) الجديدة خوفاً من أن يُنظر إليهم على أنهم يؤرخون أو يحوزون آراءً تجاوزها الزمن، وأنها لم تكن نتيجة ثورة حقيقة في العلم. وفي المحصلة فإن المناقشات العلمية في هذا العصر كانت تخاطر غالباً بأن تتورط في التباس كلي نظراً إلى أن المتحاورين يتكلمون على مستويات مختلفة. ومن المميَّز في المناقشات النحوية في القرن العاشر أن النحاة كانوا يجابَهون في كل لحظة بأدلة معزولة مأخوذة من المنطق أو الفلسفة أو علم الكلام. ومما له دلالة أن كثيرين من نحاة هذا العصر كانوا من المعتزلة وهم مجموعة من المتكلمين الذين كان المنطق الذي تبنَّوه حديثاً يؤلف أحد أهم العناصر في منهجهم الكلامي والفلسفي.
6– 1: في هذا المجتمع المشبع بالتأثير اليوناني سرعان ما اتضح للنحاة أن نظامهم كان مهدداً بأن يتجاوزه الزمن، وألا يكون إعداده كافياً للإجابة على الأسئلة الحديثة التي تطرح نفسها على اللغويين. وكان عليهم تكييف مصطلحاتهم وتقديم براهينهم لإرضاء الحاجات الجديدة حتى لا تفقد القواعد اسم العِلم. ويروي التوحيدي (ت 1012) مناقشة مع نحوي طُرح عليه سؤال يتعلق بطبيعة ظروف الزمان والمكان، فوافق مضطراً على أن اختصاصه ليس له جواب على هذا النوع من الأسئلة؛ فقد كان عليه أن يعرف شرح البنى النحوية لهذه الظروف، ولكنه كان يجهل طبيعتها وتصنيفها. ونجد هذه الظاهرة نفسها عند الفارابي الذي يعتذر عن ترجمة تصنيفات الأدوات حسب المصطلح اليوناني ما دام النحاة العرب لم يميزوا هذه التصنيفات بمصطلحات خاصة. ولذا كان مضطراً إلى استعارتها من الإغريق.
- -2: مما لا يمكن دحضُه أن المدخل إلى النظريات المنطقية كان له تأثير لا رجوع عنه على تطور الفكر اللغوي للعرب؛ حتى إن النحاة الذين كانوا يعارضون هذا التأثير كالسيرافي لم يستطيعوا على مرِّ الأيام الهروب من ضغط الدرْجة (الموضة) الجديدة. وكان المصطلح اليوناني يزحف رغماً عنهم إلى أعمالهم. ومن الضروري أن نضيف أن هذا التأثير كان سطحياً غالباً، فلم تكن هناك تعديلات جذرية على النظريات الدارجة، بل كانوا يحاولون تكييف النظام النحوي مع الشروط الجديدة لجعلِه مقبولاً في أوساط المثقفين.
- 3: إن تأثير المنطق بديهي في عدد كبير من مظاهر الموروث النحوي في القرن العاشر. وأريد أن أختتم بذكرِ أهمها:
6-3 -1: شعر النحاة بأنفسهم مجبرين على تعريف مفاهيم النحو التقليدي أو تقديم تعريفات حديثة وفقاً لقواعد أكثر حصراً. وحتى نقتصر على مثال واحد نذكر أن سيبويه عرّف الاسم بهذه الكلمات: الاسم: رجلٌ، حصانٌ، جدار. وهو ما ليس إلا تمثيلاً في رأي نحاة القرن العاشر. وكان عليهم دراسة الشروط التي تفرض التعريف في المنطق من وضوح وقابلية للعكس وكمال، وذلك من أجل تقديم تعريفات كاملة. وعند الزجاجي على سبيل المثال فصلٌ كامل في تقنية تعريف الشيء. وهناك أيضاً نحاة لجــؤوا إلى التراث الأرسطي لتعريف الاسم والفعل. وعليه فإن هناك تعريفات عربية ليست إلا تبنياً للتعريفات الأرسطية.
6 – 3 – 2: كان عليهم أن يقرروا تحسين التعريفات، وعموماً تحسين كل مناقشة نحوية بمعونة المصطلحات المنطقية والفلسفية المستعارة من ترجمة المؤلفات المنطقية اليونانية. إن استعمال الـــ" الجوهر " و" العرَض " فرض نفسه في مناقشات أقسام الكلم واستعمال المبتدأ ولخبر في أبحاث النحو، وأمكن الحصول هكذا على أزواج من الألفاظ، بعضُها من أصل نحوي وبعضها من أصل منطقي: فمثلاً أقسام الكلم في أبحاث النحو: اسم، فعل، حرف. وفي مصطلح المناطقة: اسم، كلمة، أداة. ولفظتا المبتدأ والخبر لدى النحاة هما: الموضوع والمحمول لدى المناطقة. وتجد في المناقشات النحوية في ذلك العصر كثيراً من المصطلحات من هذا النوع، والتي ظلت شائعة إلى حدٍ ما في المراحل التالية.
6– 3 -3: هناك علاقة بالتأكيد بين إدخال المنطق وبين الاهتمام الذي بدأ في القرن العاشر باستقدام موضوعات جديدة. إن المناقشات مع المترجمين والفلاسفة ولّدت الحاجة إلى فهم اللغة.، ولاسيما أصلها. وهي قضية لم تكن قد أثيرت سابقاً.
- – 3 – 4: كان ما يمس الجانب الشكلي من البرهنة قد أصبح ملحّاً في الكتابات النحوية. وكانت قد جرت محاولة في السابق لإثبات النظريات اللغوية بمساعدة الشواهد الشعرية قبل الإسلامية، أو بمساعدة الدلائل التي هي سليلة الحس السليم والبداهة اللغوية. ومنذ هذا العصر توجّب الاحتماء من الاعتراضات من كل صنف. ومع الزمن أصبح النحاة أمهرَ فأمهر في البرهنة على طريقة السفسطائيين. ولكنهم يستعملون هذه البراهين خصوصاً لإثبات صحة أعمال النحاة. كانت هذه البراهين سليلة كل العلوم الفرعية دون الاهتمام بتجديد ساحة نحوية حصراً. وسواءٌ وُجدت مدرستا البصرة والكوفة أم لم توجدا فالأكيد هو أن عدة البراهين العقلية الدقيقة الجديدة التي نجدها لدى ابن الأنباري مثلاً (ت 1181)، هذه العدة بكاملها اختُرعت في ذلك العصر.
- – منذ الدراسات النحوية الأولى اقتنع النحاة بأن اللغة العربية بوصفها جزءاً من الطبيعة والخلق الإلهي كانت برهاناً إضافياً على القدرة الكلية لله. وعلى كمال خَلقه. وبعد الصدامات مع العلم الجديد للمنطق لوحظت هذه العقيدة أيضاً بشكل أكثر حِدّة حتى داخل التفاصيل الأشد دقة فأصبح كل عنصر من اللغة برهاناً على كمال الجميع. والنظام اللغوي العربي بكامله يؤلف نظاماً متكاملاً منسجماً يتماسك الكل فيه. والكل يستطيع أن يشرح نفسه بنفسه، وسيُبنى للبرهنة على عقلانية هذا النظام والقواعد التي تحدده صرح وحيد للثقافة العربية والديانة الإسلامية.
[1] الحواشي للمؤلف ما لم يُشر إلى غيره.
[2] ديكارت فيلسوف فرنسي معروف بمنهجه. أما سابير فهو لغوي وأنتروبولوجي (علم الإناسة) من أصل ألماني (1884 – 1939)ينتمي إلى مدرسة البنيوية الوظيفية في اللغة أو مدرسة براغ التي تعنى بدراسة وظائف الكلمات المحلات النحوية: مبتدأ، خبر...) في التركيب اللغوي. (المترجم)
[3] ن الغريب أن يحكم الكاتب هذا الحكم في حين أن بين المدرستين اختلافات جوهرية جداً. (المترجم)
[4] ذكر الاتهامات الموجهة إلى النحاة العرب ابن الأنباري مثلاً في " نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء".
[5] انظر في موضوع الاتصالات بين ابن السرج والفارابي " عيون الأنباء في طبقات الأدباء " ابن أبي أصيبعة.
[6] كتاب الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي، نشرة أحمد أمين، القاهرة 1939 – 44، الجزء الأول ص 108 ومواضع أخرى. ونقل المؤلف هذا النقاش حسب ما كان رواه له علي بن عيسى الرماني النحوي.
[7] المصدر السابق 1 / 114.
[8] يمكن أن نجد ثانية هذا النقاش الذي جرى بين متّى والسيرافي، وأستاذه في المنطق السجستاني. وفي خلال هذا النقاش يؤكد السجستاني أن النحو منطق عربي، والمنطق نحو عربي. انظر كتاب المقابسات، تحقيق السندوبي، القاهرة 1929 ص 169 – 170.
[9] المشّاؤون هم أتباع أرسطو الذي كان يعلّم وهو يمشي في " الليسيوم " بأثينا.
[10] يحيى بن عدي: مقالة في تبيُّن الفصل بين صناعة المنطق الفلسفي والنحو العربي. منشورات أندريس في مجلة تاريخ العلوم العربية، العدد 1 عام 1978.
[11] المصدر السابق. ويمكن أن نقول إنه كان يجري في الوقت نفسه نقاش في الشعر العربي على موضوع مماثل وهو: هل للكلمات أم للدلالات السبقُ في نقد العمل الأدبي. كان الجاحظ (ت 868) قد قال قبل ذلك إن المعاني (الدلالات) مبذولة للجميع وكل الناس يفهمونها في حين أن قيمة الشعر تتعلق بالأسلوب.
[12] الزجاجي في " الإيضاح في علم النحو ". تحقيق مازن المبارك. القاهرة 1959، ص 42.
[13] يقصد مصطلحات العالم اللغوي الأمريكي تشومسكي، صاحب نظرية " القواعد التحويلية التوليدية ". (المترجم)
[14] ليس للكلمة مقابلٌ عربي دقيق، وتعني إحدى وحدات الكلم الصغرى التي تساعد على تمييز نطق لفظة ما من نطق لفظة أخرى في لغة أو لهجة، كالفرق بين جبل وحبل وقبل مثلاً في العربية. (المترجم).