النجيل
من المجموعة القصصية " المدفع الخامس "صدار اتحاد الكتاب العرب عام 1989
الحلقة الأولى من ثلاث حلقات:
بعينيه المغمضتين يتأمل السماء التي ما شبع منها في سبعين عاماً!
قربي عجوزان يتجادلان: الأول: الحجار لم يصلّ طوال عمره، ولا سمعه أحد يوحّد الله؛ فكيف نصلي عليه؟ الثاني: لكن الرجل جاهد في فلسطين، تطوع في جيش القاوقجي. الأول: ونهب وعاد بما لا يعلم إلا الله. الثاني: وماذا نهب؟ مستعمرات اليهود؟ الغنيمة مشروعة، ونساء العدو في الحرب...
ماذا جلب الحجار من فلسطين؟ لا أحد يعلم. ولكن لا شيء يدل على أن الرجل جلب غنائم ثمينة. الأرجح أنه عاد ببعض أدوات البناء فقد ظل يعيش " على باب الله " من عمل إلى عمل، ومن حرفة إلى حرفة، وإن طغى عليه لقب الحجار. يرعى أبقار هذا مدة، ثم يغيب بين بدو " الرقاد " شهوراً يبني لهم بيوتاً وحظائر، ويصنع لهم " المداسات ". ثم إلى القرية مصلّح بوابير، وجمّالاً...
عمي الحجار أوصى أمس وصيتين: أن يدوروا به دورة الوداع في الأزقة المهجورة، وأن يدفنوه في مقبرة القرية.
وكوّموه في السيارة الوحيدة في القرية، وداروا به أزقة القرية التي لما تلتئم جراحها، وعادوا.
وكان مستحيلاً أن يدفنوه حيث شاء؛ فاللصوص قطعوا الطريق منذ سنين. فكما أن بينك وبين الجانب الآخر من التلال ما بين العين وجفنها فكذلك بينك وبين مقبرة الآباء والأجداد. قبْلها بخطوات شريط شائك تراه الأقمار الصناعية والحواسيب والأمم المتحدة قبل أن تراه عيناك.
ومع ذلك فأنت أوفر حظاً يا عمي الحجار من الذين ثووا على طريق حوران أو مقابر المدينة، وسط الوعر الموحش، أو بين النفايات والمجاري الآسنة، تعميك الشمس المرتدة عن سفح قاسيون الأبيض، وتزكم الروائح منخريك، ويتزاحم المساكين دفيناً على بقايا دفين. أما هنا، ولو أنها مقبرة جديدة، فأكفل أن تنام مرتاحاً إلى يوم القيامة، تحتك تراب طاهر، وفوقك سماء صافية. وسيأتيك منذ الآن من يبدد وحشتك فقد دشّنت المقبرة الجديدة للقرية. ولا تسأل كم غامروا حتى وجدوا لك هذا المكان تحت أقدام الذين كنت تشتهي أن تنضم إليهم.
لم يكن الحجار يحب الجنازات. لقيته مرة واحدة في المقبرة الأصلية التي تراها أمامك بمجرد أن ترفع جبينك. كانت على سفح التل المخروطي، يعلوه مزار شهير، وكان الوصول إلى القمة عسيراً، وقلما نجرؤ _ نحن الأولاد _ على ارتيادها؛ بل لم يصبح التل مقبرة إلا طمعاً في أن يتشفع لهم شيخ جليل يتوسد ذروته؛ فهو تل مهيب تلفه أسرار العرب والرومان، والموحدين والزنادقة، والمترهبين والدجالين.
على القمة أشجار البطم العملاقة، يتخللها السنديان والبلوط، تجتذب الريح القادمة من البحر الأبيض المتوسط عبر فلسطين والجولان ولبنان فتصدر حفيفاً مرعباً يخنق صوتك، يتوسطها الضريح الذي ما اهتم أحد أن يحقق أصله؛ ومع ذلك يؤمه كل من له مشكلة دنيوية أو أخروية من الجيران. ومجازر الخراف تستمر في أشهر الصحو وفاء لنذر أو طمعاً في مولود. وإذا تطاولتَ إلى الغرب انبسطت أمامك بحيرة طبريا وسهول الجليل، وإلى الشرق والجنوب سهول حوران. أما إلى الشمال فلا ترى إلا امتداد الغابة حتى مشارف القنيطرة.
نحن الصغار نصعد فقط أيام الجنازات، وأحياناً الولائم. نلحق بالركب المسرع، نتزحلق على المنحدرات الصعبة، نتمسك بالفروع المتدلية على الحافتين حتى إن بعضها يسد الطريق عليك. ننظر بفضول إلى الحفرة التي ستكتم عما قريب سيرة إنسان كان يظن نفسه مركز الكون، أو ننظر بإجلال إلى الشرائط الخضراء التي تزينت بها الشجرات العملاقات حول الضريح المركزي. يكلفوننا بالمهمات الثانوية كجلب الماء للمشيعين، والطعام لمن يحفرون القبر؛ فالجنازة يؤمّها المئات من القرى المجاورة، تحت ثلج كانون، وتحت شمس تموز , بعضهم راجلاً، وبعضهم على دابته. وفي أيام الولائم نلهو بمراقبة حارسي الضريح، الكفيف العملاق، والمبصر القزم اللذين يداويان المرضى والعواقر من الأغراب.
ولكن التل كان موحشاً في ذلك اليوم البعيد، آخرِ يوم لنا عليه، والذي اجتمعت فيه بالحجار على التل. ما شهد التل جنازة أفقر من تلك: أولاد المرحوم الثلاثة، والحجار، وبضعة شباب، والملقّن.
حملنا النعش أكثر من كيلومترين حتى تشققت شفاهنا من العطش وانهدّ حَيلنا في حين كان أحدهم إلى ما قبل أيام يزاحم الآخرين ليكسب ثواب حمل النعش بضع خطوات؛ فماذا حدث؟
قريتنا التي تعد مئة أسرة على الأكثر تحضن الآن خمسة أضعافها من القرى الأقرب إلى الجبهة لأنها على تخوم حوران. وكل من له قريب أو بعيد في قريتنا تذكره في هذا المأزق. ولكن مؤونة الطعام نفدت، وما كان يكفي لشهر أُجهِز عليه في أسبوع. والموسم الجديد في الحقول، وأسواق القنيطرة مقفلة، ودكاكين القرية الثلاث أمحلت، والرجال يبحثون عن طريقة للتعجيل بالموسم بلا جدوى.
فلول الجيش تمر من هنا، والأرغفة التي كانت تُقدَّم إليهم بسخاء في الأيام الأولى للحرب تناقصت الآن، وسطول اللبن فرغت. يصل الجنود غير مصدقين أنه ما يزال هنا بشر، ويسألون عن نقطة تجمُّعِهم. يُحدّثون باقتضاب عن القادم البغيض وطيرانه الخرافي، ويمضون محتمين بالصخور الرقطاء. أفواج النازحين المصعوقين تسيل، تتقدمها قطعان الماشية المحملة بالحُصُر والبُسط والفرش وسائر المتاع. البقرة الحلوب بمئة ليرة؛ براتب موظف صغير تشتري اثنتين، غير الحلوب بخمسين؛ من يصدّق؟ البقرة تباع بربع ثمنها وأقل مع أن الموسم خصب والمرعى وفير، ولكنه الذهول الذي عقد الألسنة والرؤوس.
لا أحد عنده الوقت ليساوم أو ليحدّث: الإسرائيليون حيثما وصلوا ينذرون بالإخلاء في نصف ساعة، في ربع ساعة. طلقات في الهواء، بعض الضحايا والمفقودين. أخبار المدينة متضاربة. أحاديث عن معارك من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت. وبعضهم يحلف أنه ما رأى غريباً في المدينة. لا أحد يصدّق هذا أو ذاك. ولكن الأكيد أن الأعداء لا يبعدون عنا الآن أكثر من بضع مئات من الأمتار، يُفجّرون من حين لآخر لغماً أو آلية فترتفع سحابة على رؤوسنا، بل تصل رائحة إلى أنوفنا ممزوجة بأواخر عبق الربيع. أصول الأعشاب ما تزال خضراء وأعاليها تطلب من يحشّها. التلقين طال، والعطش استبد بنا، وأصوات الانفجارات تقترب. الحجار وحده يقوم باستطلاع صعب من خلال الأشجار الكثيفة، يحوم حولنا كأمّ حول صغارها مردداً: الأوغاد كيف وصلوا إلى هنا؟ أنا أعرفهم أجبن مَن خَلَقَ اللهُ؛ فكيف حدث ما حدث؟
في اليوم التالي يقود الحجار غارة على مستودع للمؤونة خلّفه الجيش: يتردد أكثرهم في الانضمام إليه فهو ضرب من السرقة! ويعتب عليه بعضهم ويصمه بأنه طوال عمره سِكّير أفّاق، ولكنه لا يتراجع: هذه أموالنا أصلاً، نسترجعها خيرٌ من أن يسرقها العدو. وتنتهي الحملة إلى نتائج هزيلة: ما إن حمل هو وصحبه بعض أكياس الدقيق إلى السيارة الشاردة التي اقتادوها من الطريق حتى ظهرت الدورية المعادية، وبلمح العين أقلعوا بها فهم عزل من أي سلاح.
وفي اليوم بعد التالي تظهر في مدخل القرية سيارة جيب تترجل منها أحذية غريبة وخرائط؛ فيتطاول السؤال الوقح على كل ما سواه: وماذا بعد؟ أيعقل أن نفعل ما فعله سابقونا فنحمل متاعنا ونمضي؟ وإلى أين؟
الوحيد الذي ما تساءل إلى أين هو الحجار. رأيته يرحّل العجائز والنساء والرجال على طريق حوران عدة أيام ثم يتأبط ذراعي ذات يوم، ويمضي بي إلى حيث سار غيري ويقول لي:
_ أنا يا بن أخي لا مكان لي إلا هنا، لا أستطيع أن أعيش في غير هذا الوعر؛ أما أنت فلم يعد لك محل هنا؛ لا تستحِ، الحق بهم!
فمضيت.
_ 2 _
على هذا الطريق قبل عقد من الزمن حين كان الناس يعيشون على أرضهم في الجولان قادني الحجار كما يقود عجلاً. حقاً لم أكن غريباً عن هذا الطريق ولكني لست فلاحاً متمرساً كفلاّحي قريتي. كانت أفسدتني مقاعد الدراسة. أمي تكدّ ذهنها بحثاً عن لقمة ترطّب بها فمي، وأبي التعيس حريص ألا يوقظني خوار ثوريه المتأهبين لنهار العمل؛ فقد سهر الولد على مصباحه، وشهد له المعلمون بالنباهة، وأوصوه ألا يُلبسه المداس والشماخ، ولا يعوّدوه عاداتهم من نوم مبكر، وبرغل، وبصل...
إلى أن أصبحت معلماً!
يومها أخذ عمي الحجار بيدي. قال له أبي: هذا الولد غشيم، من حضن أمه إلى المدرسة، ومنها إلى حضن أمه. لم يخالط الناس، ولا خبرة له بالحياة، أنت تعرف.
وكان يعرف دون حاجة إلى توضيحات أبي.
يا لربطة العنق اللعينة التي خنقتني بها وزارة التربية عامذاك! حسبتُني لن أكون معلماً دونها. عقدتها في تلك الضحوة القائظة، وسرت بجانب عمي الحجار قاصداً المنفى الذي قذفتني إليه.
وحسبتني سأسبقه؛ فبيننا أربعة عقود، وظننته سيترنح من السُّكْر عما قريب؛ فما كنا نعرف عن هذا الرجل سوى أنه يسكر ليلاً ونهاراً، بل ما سمعنا بالعرق إلا مقروناً به. تقدّمني ورأسه في السماء وخفاه تمرقان بين الصخور والأشواك، وأنا أنتظر في كل لحظة أن يهوي فاقد الوعي فتنزّ عروقه خمراً، فأعود به إلى القرية، إلى آخر المغامرة. غير أنه ظل يخبط يمنة ويسرة بلا تراخٍ. زاغ الأفق الأزرق، وتداخلت التلال الرمادية الجرداء أمامنا بحواف السماء التي بدأت تبوخ شيئاً فشيئاً من حرارة الأرض. لم يعد للطبيعة أمامنا شكل ولا طعم: أتى الفلاحون على ما زرعوه، والماشية على ما جادت به الطبيعة، إلا مربعاً من أشجار متفرقة تبدو كخصلة شعر على رأس أصلع.
بدا لي أني سأختنق في حذائي المدني اللماع. كان آخرَ ما ابتاعه لي أبي مع ربطة العنق ليكونا جواز دخولي إلى مملكتي الجديدة. وشرعت الخدوش المتتالية تهتك حرمته كلما تعثرت. وتهدّلت مِزَقٌ من أديمه ككفّ حصاد غر. وتمنيت مداساً أو خفاً مثل خف عمي الحجار أخفيه قبل دخول عالمي الجديد كما تفعل نسوة بلدي حين يرتدن المدينة. ولما انتبه الحجار إلى مأزقي تأملني ثم تقدّمني إلى مرج أخضر يبدو كواحة في صحراء، في وسطه نبع ماء ضحل، وحوله ألّف النجيل ذلك المرج، ورائحة رطوبة باردة محمَّلة بعبق العشب الطري تدافع حرّ الصيف.
قال وهو يقتلع عرقاً من النجيل لفّه حول سبابته:
_ هذا هو النجيل يا بن أخي! حيث ينبت لا بد أن في الأرض خيراً. ينغرز قامتين وثلاثاً بجذوره القوية. وكلما أمحلت الأرض تشبّث أكثر فأكثر. هو صحيح يُفسد التربة، والتخلص منه صعب إن لم يكن مستحيلاً ولكنه خير من القفر الذي حولنا، تأكله الماشية عند الحاجة أفضل من أن تجوع.
وما لبث أن خلع خفيه، وجفف العرق المنزلق عليهما بطرف سترته، ثم قال:
_ " الكندرة " لا تصلح لهذه الأرض يا بن أخي؛ البسهما إلى مشارف المدرسة!
_ 3 _
في نصف ساعة تكون في قريتك!
يا إلهي، بعد ست سنوات من فراقي لقريتي، وفراقي للحجار، وانقطاع أخباره، أصبح على مسافة نصف ساعة منه؟
نفس الطريق الذي وضعك عليه الحجار مرتين: مرة حين أصبحت معلماً، حبيس بزتك وعقدتك وحذائك اللماع، ومرة حين ودّعك محمَّلاً بلحاف ومخدة إلى حيث تجمعات النازحين وباصاتهم في " الحارّة "، نفس الطريق تسلكه الآن.
ولكن في الاتجاه المعاكس!
ما أصغرك يا وطني، أنت في حجم الكف!
ظننتني وصلت إلى شواطئ المتوسط أو حدود العالم الجديد ونحن ندور طوال الليلة الفائتة، نمشي ونتوقف، ندور يميناً، ندور يساراً، ودخان المحركات وصخبُها أصابا أمعاءنا بغثيانٍ زاد من دوار رؤوسنا. فلما توقفنا وجدتُني في سهل " الرقّاد" على مرمى عصا من قريتي!
الحقُّ لما تفقدونا بالعدد والاسم توجّست ما لم أتوجسه في ما سبق. نحن نعرف أننا في حرب؛ ولكن شبحها يحوم حولنا فحسبُ معاركَ جوية وبرية، قصفاً مجنوناً. فلما اصطففنا على محور التحرك زال كل شك في أننا الآن وسط المعمعة.
أترجّل غير مصدق! بيوت القرميد تستقبل الشمس، والطريق المعبّد يخترق الغابة كأفعى سوداء؛ غير أن التلال تغيرت أشكالها، غدت حليقة الرؤوس، وآلاف الأشجار الأزلية تنتصب وجلة وقد سفعتها النار، والهشيم تحتها بلون الموت.
أستطيع أن أميز بيتنا، وبيت جيراننا، كل بيوت أهل القرية. شجرة كينا باسقة في دارنا، وشجرة توت عند جيراننا، ومجموعات من أشجار التين هنا وهناك. والعين، وساحة القرية، والطاحونة، والمدرسة الابتدائية في الجانب الجنوبي، والمزبلة، والبِرَك الثلاث تغفو تحت شمس تشرين الواهنة كأن لا حرب ولا ضرب!
يا إلهي!
بيني وبين مولدي نصف ساعة!
سهل الرقّاد ملأته الأشواك منذ أن هجره الفلاحون. نبحث عن مخابئ وسط بحر الأحجار والصخور الرقطاء. نُسرّ لعثورنا على صيرة ما تزال منتصبة فنلطأ وراءها، ونبحث لأجسادنا عن فسحة ترتاح فيها من رحلة الليل.
ونجد بعد جهد، ولكن القلب يأبى أن ينام، ويظل شيء مجهول يعصرني، يملأ شراييني. طائرات وقصف ومعارك ودماء و...
إلا أن شاغلاً واحداً هو الذي يشغلني: القرية!
إذا غامرت وغرّبتُ كان الجنونَ بعينه، وإن لم أفعل نهشني الحنين!
ومساء يبحثون عني.
أنت ابن هذه الأرض، ستقود دورية للبحث عن طلائعنا التي انقطعت أخبارها.
النجيل. الحلقة الثالثة والأخيرة.
مشيت مرتين على هذا الطريق بحذاء رقيق. تقفّعت قدماي على هذا الوعر وأدمتهما الأشواك. أنجدني الحجار بخفّيه في المرة الأولى، وقسرتني المهانة في المرة الثانية على تحمُّل الألم. أما الآن فحذائي متين تتكسر تحته الأحجار. الغبار والعرق رسما بقعاً عشوائية رطبة على بدلتي. ورائي رقيب هادئ يجفل من خفق جناحي طائر أو فحيح أفعى، ويتقزز من مرأى حشرة أو طنين ذبابة. ولكنه ساعة الجد يضحي بما لديه مقتنعاً. يظنني بصلابة الصخور التي تعاندنا مادمت ابن هذه الأرض. وأعرف أنه يكاد يكون مرآتي مع فارق ضئيل في العمر والخبرة لصالحي.
أنا لم أتعرف ريفنا مثلما تعرفه آباؤنا ومعاصرونا الذين لم تقتلعهم كتب الجبر والنحو، ولكني بالمقابل مستعدّ مثله لأن أبتلع عند الضرورة عجزي وجبني، وهذا ما يوحّدني بالرقيب الذي يتكلم مثلي لغة رصينة ويعرف بضع كلمات أجنبية. وكياني تتناهبه انفعالات متضاربة ولو أنها جميعاً تدفعني إلى الأمام.
أين أنت يا عمي الحجار؟
سؤال ما وجدت له جواباً شافياً في السنوات الستّ الماضية: " وأين سيكون؟ تراه عند رعاة الرقاد يتسكع من أسرة إلى أسرة، ويسولف " " وماذا على بال الرجل؟ لا امرأة ولا أولاد؟ " " الأهبل لو سجل اسمه في الاستمارة الصفراء لحصل على دخل ثابت لا يحلم به لولا النزوح "
هذا كل ما استطعت أن أعرفه.
كلما خطونا إلى الأمام اقتربت أصوات الرمي المتبادل، وازداد لسع ليل الخريف النديّ. الصمت الذي يرين على كل ما حولنا يملأ القلوب برعب صوفي، والرقيب غارق في خواطره، يمشي خلفي متوكلاً على الله وعليّ. وأنا كبرت عن اليوم الذي قذفني فيه إلى سهل حوران، إلى الأمان.
وأمي التي ما كانت تدع مطالبي تطأ الأرض ترقد عالياً في التل المخروطي الذي تنعقد حوله الآن غيمة خرافية تلف أسرار سكان التل الأبديين. وأبي الذي دلّلني صغيراً يصطف كل يوم في الرتل وراء كوة الخبز، ثم يقتعد سور الحديقة مع أترابه يلوكون سيرة الماضي. وأنا خبرت التعب والغبار والجوع والعرق. وكان عليّ أن أتوّج هذه الخبرات بخبرة الحرب؛ غير أن اختباري الأول سيكون قاسياً: أمام أمي التي ترقبني بقلق، وأمام معلمي الحجار.
مع كل خطوة يهيمن عليّ الحجار، وراء كل صخرة يجب أن يكون، وراء كل صيرة، في أدغال اللوز البري الذي يميز تخوم قريتي، في الحشيش الذي لم يجرؤ الرعاة على الوصول إليه فتجعّد سنة على سنة، في مرج النجيل الذي أنقذني فيه من حذائي. الحجار هو الوحيد الذي يمكنه بعد سنوات الهجر أن يتبيّن الدروب التي طمستها الأعشاب والأشواك والوحشة. أنا وغيري نعرف الاتجاه والملامح العامة ولكننا نجهل التفصيلات الحميمة، نجهل المطبات والمزالق أمامنا، وحقول الألغام، والآبار المهجورة.
بقايا جنود لنا، والحجار، وأطلال قرية هي كل ما نصبو إليه الساعة. دوي مدافع بعيدة، وأزيز رشاشات متقطع كما في أفلام الحرب. حواسّي كلها متحفزة. في أذني موسيقى الكون، وخلاصة عمري تمر أمام ذهني، وأعصابي مشدودة. هنا أسرة من الصفصاف، وهذه بئر حُفرت قُبيل النزوح. وفي الأفق شجرة منفردة حولها أنقاض لم نتأكد يوماً من ماضيها، تحسبها حيناً بيتاً مهدماً، وحيناً مرصداً قديماً أقامه الأجداد في وجه قُطّاع الطرق. يقولون: قتلوا أحدهم هنا، بل دفنوه حياً لشدة ما عانوا منهم، ولذا لا نمر بالمكان ونحن صغار إلا وعلى شفاهنا ما نحفظ من أدعية وصلوات. كنا ندعو الشجرة المنفردة بشجرة الغربان، هي الحد الشرقي لبيوت القرية، اعتادت الذئاب أن تفترس الخراف والحمير في الوهدة القريبة منها فلازمتها الغربان.
في هذه الوهدة، وتحت أشجار الصفصاف بالضبط قضينا نساءً ورجالاً يوماً بكامله تحت القصف المعادي، بنادقنا الصدئة تتدلى من رقابنا، ورؤوسنا منكَّسة، نختبئ بين النساء. الآن لا ذئاب ولا خراف، ولا يراعة تضيء، ولا صرصار يبدد وحشة الليل. الحيّ الوحيد يجب أن يكون الحجار.
ولكن أين الحجار؟
قطعنا مضارب الرعاة منذ زمن، وما بيننا وبين القرية إلا رمية حجر. أيُعقل أن يعيش الحجار وسْط القرية بين الأنقاض التي تتساقط عليها قذائف الجانبين طوال النهار؟ ثم ماذا في القرية؟ لا بشر ولا طعام، لا مواشٍ ولا دجاج.
أنسى نفسي وأتقدم منتصباً. أغمض عيني فيعود المئات إلى البيوت التي هجروها. ليس صعباً أن تتعرف بيتك غير أن البيوت مهدمة، والأسيجة تداعت على الأزقّة الضيقة، وأشجار السرو نمت بجنون فقطعت المسالك بين البيوت. والدوالي كأنها تتحدى الموت المحيط بها فنزلت عن عرائشها وزحفت على الطرقات، فما تجرؤ أن تقطع الطريق مع أنك تعرف أنه لا حيَّ الآن إلا في جحره، بل يعمّقه ويحصّنه. المنهل والملاءات السود تغمره بالنساء. الشباب اقتعدوا ظل شجرة التين التي تحرسه. آه يا شجرة التين! سبعة مواسم وأنت تحملين وتتساقط ثمارك دون أن تمتد إليها الأيدي. والكهول ابتعدوا خطوتين يتحسرون على الشباب الآفل. وثمة على الطريق في منعطف ما مراهق يُحضّر ككاتب هربت منه أفكاره ما سيقوله لأنثاه بعيداً عن عيون الرقباء، وخصلتان تنطان على صدر غُفل، وكهلٌ يبحث عن ابنه المراهق وعجله الفتيّ.
ولكن أين أنت سارح؟
تراك نسيت المرصد المهمل تحت شجرة الغربان؟! أنت الآن في حرب، لا في نزهة.
أعود على أعقابي يتبعني الرقيب المهذب صامتاً.
وفجأة:
ضوء شمعة أو ضوء سيجارة، أو هما معاً، ورائحة عرق إن لم يخطئ أنفي، وصوت يهمّ أن يصيح:
_ من؟
نفس الرائحة على نفس الطريق، لا أنا أخطئه، ولا هو يخطئني، إنه عمي الحجار!
أيعقل أن يمر أحد من هنا ويفلت من الحجار؟
المخفر الذي بناه الأجداد لمنع اللصوص امتلكه الحجار منذ سنين، وجنودنا الذين عبروا رافقهم وعاد بهم. ولكن المهمة عسيرة، ونحن استعجلنا.
يا لأشياء الحجار الفقيرة! فراش تعافه الكلاب، وصندوق خشبي، وموقد، ولا يدري أحد ماذا يأكل، وكيف يحيا؟
ولكنه حيّ!
وأمامه إبريق شاي آبى أن أراه إلا كأس عرق، وبقايا طعام لا تعرف مصدره؛ فالحجار يأكل حتى التراب، وجنود امّحت عن وجوههم آثار القلق وكأنهم في حضن أبيهم.
والرقيب المثقف ورائي لا يدري ماذا حدث، وأمامه قائده يهوي في أحضان رجل يفوح منه عرق الجولان.
وأمامي ثلث قرن مضى من عمري، وعِرق النجيل.