النحو العربي من التفهيم إلى التلقين
نشأ علم النحو العربي، دون تفريق هنا بين النحو والصرف، خادماً للعلوم الدينية وتابعاً لها. ومهما اختُلف في الرائد الأول لهذا العلم فإن معظم النحاة الأوائل هم كبار قُرّاء عصرهم، مثل نصر بن عاصم (- 89 ه)، وعيسى بن عمر الثقفي (- 149 ه) وأبي عمرو بن العلاء (- 154 ه).
على أن البداية الحقيقة كانت مع الأستاذين الجليلين الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه. وإذا لم يترك الأول مؤلفاً نحوياً فإن " كتاب" الثاني ينضح بآرائه وأجوبته و"قياساته"؛ فكانا بذلك مؤسسَي علم النحو من جهة، وزعيمي مدرسة البصرة النحوية من جهة أخرى. ثم ظهرت مدرسة الكوفة بزعامة الكسائي أحد القراء السبعة، والفراء صاحب "معاني القرآن".
تعمق الخلاف بين المدرستين، وأصبح عُرضة لتأثيرات غير علمية، بل مادة للتسلية في مجالس الخلفاء والوزراء. وكادت أهواء متنفذي مدرسة الكوفة، وعلى رأسهم الكسائي مؤدب الأمين والمأمون، تتحكم في مسار النحو. وأصبح من الصعب الاحتكام إلى معيار صحيح للحكم في قضايا الخلاف. فظهرت الحاجة إلى فهم متطور للغة، وكان علماء المعتزلة هم المؤهلين لهذه المهمة فأدَّوها خير أداء لأن "الاعتزال منهج يستند إلى تحكيم العقل، ومنهج في البحث والتجربة والاستدلال العقلي والشك والقياس"(1)
وسلسلة العلماء المعتزلة طويلة، ولكلٍّ إسهامه العظيم؛ منهم سيبويه صاحب "الكتاب"، والسيرافي شارحه، والرماني أحد رواد علم البلاغة. غير أن أعظمهم أثراً بعد سيبويه أبو علي الفارسي الذي تُنسب إليه مدرسةٌ في علم اللغة. ثم تلاميذه النجباء ابنُ جني صاحب "الخصائص"، والإمام الجرجاني صاحب "دلائل الإعجاز"، والمقصود إعجاز القرآن الكريم، وصاحب نظرية النظم المعروفة في البلاغة، والزمخشري رائدُ التفسير البياني للقرآن الكريم في تفسيره "الكشاف".
ولما كان النحو منذ ظهوره خادماً للعلوم الدينية، والعلومُ الدينية تهدف للفهم والإقناع، ولما كان المعتزلة يخاطبون العقل، فقد حرصت مدرسة الفارسي على أن تجعل من النحو علماً كسائر العلوم بما تعنيه كلمة "علم" من نزعة عقلية موضوعية بمقدار حرصها في الوقت نفسه على أن يصل الإنسان إلى الإيمان عن طريق العقل، فسلكت سبيلين إلى هذا الهدف، وهما:
أولاً: فهْمُ اللغة العربية التي اُستُنبِطت منها علومها فهماً موضوعياً عميقاً، وذلك من خلال مقولتين تؤلفان دعامتَي علم اللغة الحديث، وهما:
- اللغة ظاهرة اعتباطية.
- اللغة ظاهرة اجتماعية.
تعني المقولة الأولى وجود ظواهر في اللغة لا تُعلَّل، أَبرزُها العلاقة بين الألفاظ ومعانيها، أي بين الدالّ والمدلول. فعلينا تقبُّلُ هذه العلاقات الاعتباطية دون محاولة تعليلها.
وتعني المقولة الثانية أن المجتمع هو صاحب هذه اللغة، فعلينا تقبُّلُ ما قاله المجتمع في عصر الاحتجاج الذي يمتد حتى عام 150 للهجرة، باعتبار العلاقة الاعتباطية أساساً، أي دون أن نتساءل: لماذا قال العرب هذا أو ذاك من ألفاظ وتراكيب، ومن ثَم تطوير لغة المجتمع ما دام المجتمع نفسُه يتطور، وذلك عن طريق القياس.
وحتى لا نخرج عن موضوعنا نوضِح العلاقة بين النحو والقياس بتعريف الكسائي للنحو "إنما النحوُ قياسٌ يُتَّبَع". ونسوق مثالاً من أقيسة مجمع اللغة المصري، وهو قياس وزن "فُعال" للأمراض لِما دلّ على مرض من الأمراض الجديدة على العربية، كالزُّحار والرُّهاب والخُناق. وبالقياس وحده تستطيع اللغة أن تساير تطور العلم والمجتمع.(2)
ثانياً: إذا تجاوزنا الظواهر التي لا تُعلَّل فإن سواها يُعلَّل. والتعليل معناه الإفهام عن طريق العلاقة السببية. وأبسطُ أشكاله أن تقول: التاء في هطلتِ الْأمطار ُ، تاء التأنيث الساكنة، وحُرِّكتْ بالكسر لالتقاء الساكنين.
ولما كان النحو تابعاً للعلوم الدينية كما سلف، باستثناء الحديث لأنه لا مجال للاجتهاد فيه، وكان علم القراءات وعلم الفقه ساحتين لكثير من الخلافات، ألّف أبو علي الفارسي كتاب "الحُجّة في علل القراءات السبع" وجّه فيه القراءات السبع بما ينسجم مع مقولةِ اجتماعيةِ الظاهرة اللغوية، لأن القراء السبعة هم من عصر الاحتجاج، وكل ما قرؤوا به يجب قبوله، إذ أن الاختلاف في القراءات يعود إلى اختلاف اللهجات. ووجّه ابنُ جني القراءات الشاذّة في كتابه "المحتسَب" فأكمل صنيع أستاذه؛ فالشاذ أيضاً جزء من اللغة، "بقي على أصله مَنبهة على بابه" فيُحفَظ ولا يقاس عليه. ولا يخفى أن معنى "التوجيه" هنا هو التعليل، وإيجاد مكان له في اللغة.
جهد ابنُ جني لجعل العلل النحوية قوية شاملة لا يمكن نقضُها لتصل إلى القاعدة الجامعة المانعة، فترقى إلى مستوى العلل الكلامية، ويصبح النحو علماً. ونجد أمثلة لهذا العمل في باب "تخصيص العلل" في الجزء الأول من الخصائص.
وعاصرت مدرسةُ الفارسي المعتمدة على العلل والقياس مدرسةَ أبي حنيفة في الفقه التي تعتمد عليهما أيضاً. ومثلما تعقَّب النحوُ الفقه، بل أصول الفقه، في طرائقه العلمية وعناوين أبوابه، أصبحت اللغة أحد ثلاثة أركان في علم أصول الفقه إلى جانب نصوص الدين والمنطق.
تعرضت النزعة التعليلية في النحو إلى هجوم شديد. واتُّهِم أصحابها بإفساد النحو وإغراقه في علوم غير لغوية كالمنطق. وتناسى المهاجمون أن مبادئ المنطق الصوري أساسُ لأي علم. وكان أصحاب المذهب الظاهري في الفقه الذي ظهر في المشرق معادياً كل نزعة اجتهادية أشد المهاجمين ضراوة. ثم ما لبث هذا المذهب أن اندثر في المشرق الإسلامي لمنافاته منطق الحياة ليظهر من جديد في الأندلس، فألّف بتأثيره ابنُ مَضاء القرطبي كتابه "الردّ على النحاة" ينكر فيه العلل والتعليل، ويُنكر نظرية العوامل النحوية التي أسسها سيبويه. إلا أن صيحته ضاعت. وهاجم أبو حيان النحوي الأندلسي ثم المصري كبار علماء المعتزلة وعلى رأسهم الفارسي والزمخشري، متهماً إياهم بعدم فهم كلام العرب، وبعجرفة العجم. غير أن التاريخ أعطى كلاً حقَّه، فبقي أبو حيان واحداً من عشرات النحويين والمفسرين بل مئاتهم، وبقي تراث أبي علي وتلاميذه إلى عصرنا.
"فلما ذهبت دولةُ المعتزلة غلبتْ دولة المحافظين في اللغة كما هو الشأنُ في كل علم"(3)، ودخلت الأمة عصر الانحطاط، فبدأ عصرُ المنظومات النحوية، وعصرُ تفتيت النحو إلى قوانين وقواعد متناثرة تُلقَّنُ عن طريق المنظومات. فتتالت مثل ألفية ابن مُعطٍ المصري، وألفية ابن مالك الأندلسي ثم الدمشقي. حتى "مغني اللبيب" لابن هشام الأنصاري، وهو من كتب إعراب القرآن الكريم، لم يسلم من أيدي الناظمين. وازدهر عصرُ الشروح والحواشي التي لم تُضِف جديداً على الأغلب، بل لم تفعل على رأي ابن خلدون غير بلبلة عقول المتعلمين.(4) فانتهى النحو إلى ما عليه اليوم من معلومات جافة متناثرة يحفظها المتعلم دون أن يفهم الكثير منها لينساها مع الأيام. وها هو مثال مما يعلّمه كتاب القواعد لتلاميذ الصف الثالث الإعدادي تحت عنوان "مواضع اقتران جواب الشرط بالفاء" يقول الكتاب بعد الحِكَم التي ساقها ما نصُّه بالحرف: "تأمَّلِ الحكم السابقة جميعها تجد في كل منها أسلوب شرط يتألف من أداة شرط وجملتين إحداهما جملة الشرط والثانية جواب الشرط. ثم انظر جُمل الجواب وحدها تجد كلاً منها قد اقترن بالفاء، وليس من سبب لذلك إلا لأن الجواب في الجملة الأولى اسمية، وفي الثانية فعليةٌ فِعلُها طلبي..." فأي علاقة سبية ربطت بين الاقتران بالفاء وكون الجملة اسمية أو طلبية حسب حصْرِ الكتاب:"وليس من سبب لذلك..." ولا يختلف هذا المنهج كثيراً عن طريقة ابن مالك في ألفيته:
واقرُنْ بفا حتماً جواباً لو جُعِل شرطاً لإنْ أو غيرها لم ينجعل
يقول الشارح ابن عقيل: "أي إذا كان الجواب لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفاء، وذلك كالجملة الاسمية وكفعل الأمر..."(6)
أما الرضي، وهو من أواخر النحاة المعلِّلين، فيقول: "الجزاء إن كان مما يصلح أن يقع شرطاً (أي يصلح للجزم) فلا حاجة إلى رابط بينه وبين الشرط لأن بينهما مناسَبة لفظية من حيث وقوعُه موقعَه. وإن لم يصلح لأن يقع شرطاً فلا بد من رابط، وأَولى الأشياء الفاءُ لمناسبتها الجزاء لأن معناها التعقيب بلا فصل، والجزاء متعقب للشرط كذلك"(7)
إننا لا نطالب بالطبع تلميذ الصف الثالث الإعدادي أن يفهم وحده نصّ الرضي، ولكن من حقنا أن نطالب مؤلف كتاب القواعد أن يشير إلى سبب ربط الجواب بالفاء، وهو لفتة بلاغية بارعة ُتسهم في تأسيس ذوق الطالب وتعميقه، بالإضافة إلى فهمه، وتربط علم النحو بعلم المعاني.(8) ومن حقنا كذلك أن نطالبَه بتعليل اختيار الفاء رابطاً دون الحروف الأخرى، فيحثَّ الكتابُ مدرِّس الصف على تتبُّع المادة العلمية والتعمق فيها. وما أحوَجَنا جميعاً إلى هذا التتبُّع والتعمُّق.
الحواشي
1 – في أصول النحو. سعيد الأفغاني ص 105 عن مقالة للأستاذ أحمد أمين في مجلة مجمع اللغة العربية بمصر.
2 – انظر أمثلة كثيرة لهذه الأقيِسة في " أصول النحو "، وفي معجم الأخطاء الشائعة لمحمد العدناني.
3 – في أصول النحو 104، نقلاً عن مقالة أحمد أمين السابقة.
4 – مقدمة ابن خلدون 1231.
5– كتاب القواعد 28 – 29.
6– شرح ابن عقيل الطبعة 14. عام 1964. 2 / 375.
7- شرح الكافية 2 / 262.
8- وإلى هذا يدعو باحثون معاصرون. انظر " القزويني وشروح التلخيص " للدكتور أحمد مطلوب. فصل بهاء الدين السبكي.