بين الحرفة والآلة - معركة غير متكافئة ونتائج مدمرة
لو نمنا في الكهف المشهور بضع مئات من السنين، ثم فتحنا أعيننا لنتأمل ما تركته حضارة القرن العشرين من بصمات فنية إنسانية، مقارنةً بما تركته الحضارات التي سبقتنا بخمسة آلاف من السنين أو أكثر لوجدنا قرننا العشرين هو الخاسر. لاشكّ أننا سنجد أبنية شاهقة، ومدناً هائلة، وشوارع مستقيمة، ومعامل جبارة، وترسانات هائلة من الأسلحة الخرافية، غير أننا سنفتقد النتاج الفني الذي يعكس روح الإنسان ويعتصر جهده كالذي تركنه الحضارات السابقة.
لماذا؟ لأن التكنولوجيا المعاصرة العملاقة قتلت في الفنان روح الحرفي.
منذ القرن الحادي عشر انبعث النشاط التقني في أوربا بفضل التجارة والحروب، فقد تمّ الاتصال بثقافات الشرق التقنية الأكثر تقدماً، فأخذ الغرب من بيزنطة، الدولةِ الرومانية الشرقية، الموزاييك والنسيج، ومن العرب الريّ والمنتجات الكيميائية وتربية الخيول، ومن الفرس القرميد والسجاد، ومن الصين الحرير والخزف، ومن جيرانهم الكوريين المطبعة الخشبية. وتعلم الغرب استخدام كثير من النباتات للطعام وللدواء.
هذا التقدم التقني (غيرُ الآلي) المصحوب بالتقدم الزراعي، مثل اختراع الروافع ذات البكرات، والطواحين، والمراكب ثلاثية الأشرعة، حرر اليد العاملة البشرية من العمل الشاق لتنصرف إلى مهمات أخرى، فوُجِدت يد عاملة (حرة)، لا مُسترَقّة. وطغى هذا النمط من الاقتصاد على القسم الأعظم من أوربا منذ القرن السابع عشر.
وكانت " الأصناف " المهنية (الكارات بمفهومنا) عماد هذه الحرية الصناعية. إنها هيئات مستقلة تحكم نفسها بنفسها، وتقوم بتربية أعضائها، ومراقبة انضباطهم ووسائل معيشتهم، وتعنى بصحتهم، بل بأرامل رفاقهم ويتاماهم. وتحدد هذه " الأصناف " لنفسها معايير للتنفيذ النوعي دون الانجرار إلى إغراء الإنتاج الكمّي الكبير. غير أن إلغاء القوانين للأصناف فتح الطريق للممارسات اللاإنسانية في بدء الصناعة الآلية الحديثة التي هي نتاج تزاوج العلم بالتطبيق، برؤوس الأموال، هذا التزاوج أو الاتحاد الذي يعده بعض مفكري الغرب مؤامرة صامتة على إنسانية الإنسان.
وهكذا فإن الحرية الجديدة التي نادى بها منظّرو الرأسمالية والنظام " الحر " كانت حرية الإقلاع عن نظام الحماية والضمان الاجتماعي عن طريق " الأصناف " أو الكارات، وبالتالي ترْك المهنيين عُزلاً من السلاح والحماية أمام غول الآلة الرأسمالية العملاقة، وحرية استغلال العمال من قِبل الذين يملكون تجهيزات الإنتاج الغالية.
تميزت المرحلة قبل الرأسمالية، مرحلةُ ازدهار الحرية، بتنوع وجودِها، واحتفاظها بخبرة الإنسان منذ آلاف السنين. فطاحونة الماء تعود إلى اليونان قبل المسيحية، وطاحونة الهواء إلى بلاد فارس في القرن الثامن، ودولاب الفاخوري إلى ألفي عام أو ثلاثة. والحبوب والثمار إلى العصر الحجري، وكذلك الرسوم والمنحوتات.
وكان هدف الحرفة هدفاً فنياً؛ فالحرفي يحاول إدخال شيء من البهجة إلى دورة الحياة اليومية الفقيرة. ولم تكن الحاجة إلى الغذاء والملجأ، ولا الرغبة في استغلال القوى الطبيعية حافزاً لبناء الصروح الضخمة كالمعابد والكنائس، حتى الأهرامات والمدرجات. ولكي يعبّر بناة هذه الصروح عن أعمق مشاعرهم الذاتية كانوا يطرحون على أنفسهم أعسر المشكلات التقنية، مستعينين بفكر تجريبي جريء إلى حد يتجاوز أحياناً قدراهم الفعلية، كما كشف عن ذلك انهيار أكثر من برج مما بنَوه. وهذه الإنجازات الرائعة لم تدخل في صنعها القوةُ العضلية والمهارة الميكانيكية فحسبُ بل الانفعالات والمشاعر والأوهام والخرافات؛ إنها ردُّ فِعلِ الجماعة الإنسانية أمام الحياة. وباختصار لم تكن الغاية من هذه الأعمال الجليلة الصروحَ نفسها بل معنى الحياة ومدلولها وقيمتها، بدليل أن الأجيال البشرية المتعاقبة ما تزال تفهم نفحة هذه الأعمال الخالدة وتنفذ إلى روحها.
يقول لويس ممفورد في كتابه " أسطورة الآلة ": " لو لم يُحكم على الحرفة بالموت عن طريق الأجورِ التي لا تُشبِع، والأرباحِ الهزيلة، ولو أنها حُميتْ بالفعل، وخُصِّصت لها الاعتمادات الكافية كتلك التي خصصت للصناعات الجديدة لأصبحت تكنولوجيتنا، حتى الدقيقةُ منها أغنى وأنجع".
بل لم يكن من الممكن إحرازُ التقدمات الكبرى الطارئة في صنع التجهيزات الأوتوماتيكية للغزل والنسيج وسواهما لولا مساعدة العاملين الحرفيين الذين انتقلوا من خراطة الخشب إلى خراطة المعادن، وإلى تنفيذ النماذج، والذين استغلوا خبرتهم الحرفية لترجمة تعليمات العلماء والمهندسين. وكان سببُ التفوق الإنجليزي في إنتاج الآلات الأوتوماتيكية انطلاقاً من القرن التاسع عشر هو تتابُع المعلمين الحرفيين الذين حققوا اختراعات هامة كمخرطة البراغي التي أتاحت بدورها إنجاز آلات أكثر تعقيداً بفضل الرهافة العظمى في الدقة التي تحققت بواسطة يد الإنسان.
لقد أخفقت الولايات المتحدة بعدما قصفت فييتنام الشمالية (آنذاك) ثلاثة أعوام في تعطيل صناعة الأسلحة ونقل الجيوش والذخائر فشلاً ذريعاً بسبب قدرة حكومة فييتنام الشمالية على إصلاح الأضرار بفضل استنفارها للمهارات اليدوية والحرفية في شعبها، وحشْدِ العضلات البشرية قبل الآلات، وباستخدام أجهزة بسيطة تدار باليد لرفع الأثقال ونقل الماء.
لم يُقدّر المجتمعُ البشري الكنزَ التقني الهائل الذي دمّرته الآلة الحديثة، ولا الإمكاناتِ الشخصيةَ الحرفية، وإلا كان عارض الاستسلام المتزايد والمتسارع لسطوة الآلة الصناعية العملاقة. ولم يكن هناك مسوِّغٌ لإبادة الحرفة والحرفيين على مذبح الآلة العملاقة، بل كان بقاء هذه الحِرَف مجالاً للخيارات الإنسانية، ومُلهِماً لروح الاختراع للتقنيات الحديثة.
غير أن آمالاً عظيمة كانت عُقدت على الآلة في القرن التاسع عشر، فقد رأى فيها المفكرون " رمز الحرية الإنسانية، وعلامة هيمنتنا على الطبيعة، وعنوان قوّتِنا، وشعار شخصيتنا " لأن التقدم التقني يحرر الإنسان من ذلّ العمل المديد، فيطيل حياته، ويزيد استقلالَه الذاتي عن حاجاته وعن محيطه الخارجي، ويفسح له مجال التأمل ومتابعة الدراسة... فماذا كانت النتيجة؟
امتصت الآلة الحديثة الإنسان، وفرضت عليه قواعدها وقوانينها، فبقي الإنسان نسخة من الآمر الميكانيكي، وانتهى إلى جهاز خدمة رخيصٍ، مُعَدٍّ للتنبيه على نقائص العمل أو إصلاح الثغرات في جهاز يفوقه كثيراً. يراقب الآلة عبر شاشات ومؤشرات ومنبهات، فماذا بقي لهذا العامل أو المهندس من إنسانية؟!
وأجبرت الآلة العملاقة الحديثة التي دشّنت عصر الرأسمالية الغربية ملايين الناس على ترْكِ أراضيهم وورشاتهم بعدما دمرتها، وعلى اللحاق بمصانعها، فصاروا أقل رفاهية غذائياً وصحياً من العمال الزراعيين الذي هم أشد طبقات المجتمع بؤساً، وحولتهم الآلة إلى عبيد مأجورين لها بدل أن تستخدم الآلة لمحو عبودية الإنسان.
حقاً لم يخلُ العمل الحرفي من سلبيات كالإرهاق العضلي والأمراض المهنية التي تسبب بعضَها المواد المستخدمة كالجلود والرصاص، ثم الرتابة القاتلة في بعض الحرف كالنسيج؛ بل إن بعض الحرف كصناعة السجاد الفارسي المتقن كان يستغرق عمر العامل الحرفي كله، غير أنها لا تقاس بسلبيات العمل المجزَّأ المسلسل في المصنع الكبير. فلم تستطع الآلة العملاقة بكافة أساليبها الصحية حماية العامل من الآثار المدمرة للمواد الداخلة في الصناعة، ولم تنقذه من السأم. وإذا كان الحرفي أفنى حياته كاملة في صنع سجادة فقد بقيت السجادة شاهداً خالداً على فنه وروحه وجهده؛ فماذا يبقى من أثر للعامل الذي يُفني العمر وراء سلسلة من سلاسل الإنتاج أو شاشةِ مراقبة؟
ومع ذلك كانت هذه الأعمال المملة تتم في مجتمع أسري أو رفاقي، وبوتيرة تفسح المجال لبعض التسلية كالحديث والغناء. ووفّر بطء العمل الحرية والليونة للحرفي خلافاً للآلة الني لا تدع مجالاً للعامل أكثر من التنفس، وبعض الاستراحات المؤقتة. وكما أن الآلات التي تحتاجها الحرفة كانت ملكاً شخصياً رخيصاً قابلاً للاستبدال، سهلة النقل، خلافاً للآلة الصناعية العملاقة.
حقاً لقد تحسّن ظاهرياً نصيب العامل المادي نتيجة ازدهار النظام الرأسمالي وشيوع الضمان الاجتماعي والخدمات الصحية والتعليم والراديو والتلفزيون، ولكن العمل نفسه لم يعد على درجة كافية من التنوع والجاذبية وإغناء الشخصية. ولم تعد هناك أهلية حرفية كافية لإصلاح الأعطال الطارئة على المنظومة الأوتوماتيكية. ويميل النظام الآلي إلى أن يصبح صلباً غير قابل للتلاؤم، مجرداً من الإنسانية بنسبة ترتفع مع ارتفاع درجة الأتمتة. إن الحفاظ على مجموعة واسعة متنوعة من الاهتمامات الحرفية كان من شأنه أن يشكل ضمانة للاستقلال الذاتي الإنساني، وعاملاً أساسياً للضمان الاقتصادي، كما يقول المثل العربي " صنعة في اليد أمان من الفقر "، وعاملَ توازن مقابل الإسراف في المكننة، في عالم يشهد فيضاً مستمراً لليد العاملة عن حاجة الإنتاج.
لم يكن هدف النظام الرأسمالي رفاهية الإنسان بل الحرص على تحويل النشاط إلى ريعية سريعة. الهدف هو مضاعفة الحاجات الإنسانية الوهمية أو ملاءمتها مع القدرة الميكانيكية. إن التكنولوجيا تتطلب لتستمر في اندفاعها أمرين:
1-إتلاف أكبر كمية من السلع للإبقاء على جهاز الإنتاج دائراً؛ فكلما زاد الاستهلاك توجب على العامل المزيد من الانخراط في الإنتاج، فتتوفر له سلع مادية كثيرة، ولكن الوقت الكافي للاستمتاع بها يقل شيئاً فشيئاً، مع ملاحظة عدم طلب سلعة إلا من نتاج هذه الآلة العملاقة.
2-تلاشي كل أنماط النشاطات إلا ما يستلزم الاستخدام المسعور للآلة ومنتجاتها، أي ترك العمل اليدوي والحرفة.
إن أفراد المجتمع الاستهلاكي مستَلبون (فاقدو الإرادة) بأكثر من شكل. فالتخصص الرأسمالي فتت العمل، وأدى إلى انقسام طبقي ثنائي بين الوسطِ العمالي، وسطِ الانقياد والتنفيذ، ووسطِ التنظيم، أي وسطِ السلطة والتقرير. وفرض هذا النوع من الاستلاب على العامل خمود الذهن والخضوع الكليّ للآلة. إنه يتلقى أوامر تمّ إعدادها دون معرفته، وعليه الاكتفاء بطاعتها.
وهو مستلب في استراحته. كان وقت الفراغ في المجتمعات البدائية متصلاً بكلية الحياة، بالأعياد الدينية الكثيرة، وبالظروف الجوية (تعاقب الفصول). أما الآن فقد شطرت حياة الإنسان إلى شطر للعمل وشطر للراحة والترفُّه، غير أنه رفاهية فارغة مصطنعة لأن العمل الذي يمارسه عمل فارغ، فلا رفاهية إنسانية حقاً إلا بعد عمل إنساني.
وهو مستلب بصفته مستهلِكاً، فهذا الهجوم المحموم للاستهلاك خلّف وراءه الملايين من المفلسين والحدّيّين (الذين يعيشون على مهن ثانوية صغيرة قابلة للخسارة بسرعة) والرِّحِّيلين الذين يرحلون دوماً، لا إلى حيث يشاؤون، بل إلى حيث تشاء الآلة العملاقة.
واقتلعت الآلة الحديثة الإنسان من وسطه الجغرافي الريفي، وحرمته من الإحساس بالفصول وبالمناخ، فتجرّد من بيئته وإطاره الأرضي، ومن احتمائه بالطبيعة والناس، إلى الاحتماء بأمثاله من المقتلَعين المتشابهين الذين فقدوا ملامحهم الشخصية.
أصبح إنسان المجتمع الصناعي إنساناً خيالياً يبحث عن أحلام ضائعة في أشرطة السينما والتلفزيون والفيديو. يتقمص شخصيات نجوم الفن والرياضة، محروماً من روح الابتكار والتجديد، متّكلاً على ما تقدمه له الآلة العملاقة جاهزاً. تحوّل إلى إنسان " قطيع " تمحو البرجوازية وآلتها الصناعية ملامحه الفردية يوماً بعد يوم؛ فما أضيق الأملَ في أن يسترد يوماً ملامحه الإنسانية الأصيلة!
*مجلة الحرفيين السورية