ترنيمة الغسق الأخير
في الصباح أفاقت فاطمة مذعورة كمن غفت في سيارة عامة. هبّت إلى النافذة، فتوهجت شمس حمراءُ تهمّ أن تقتحم عالم البائسين. جفلت فتفحّصت قامتها. وجدت نفسها بثوب أبيض يكاد يرسم حدود ثيابها الداخلية: " عجيب! " تفقدت الأجساد المتراصة على الأرض، وموقد الغاز، ومفاتيح الكهرباء والماء: لا شيء! رددت ثانية: " عجيب! متى نمت؟ ولماذا بالثوب الأبيض؟" تعثّرتْ بحذاء ذي رقبة عالية، غريبٍ عن البيت، فتذكرت وصول أخيها ليلاً في أول إجازة، بعد أول غياب له عن البيت. لمحت نفسها في مرآة المغسلة؛ قالت " ولكن لماذا بالثوب الأبيض الذي لم ألبسه منذ رحلت أمي؟ لابد أني مرتبكة حتى نسيت ما فعلت؛ أتكون أمي مبتهجة لقدوم ولدها بزيّه الجديد؟! "
وكصورة تتخلق على الشاشة تذكرت كيف تركت الحشد الذي عانق أخاها تحت العريشة كما لو كان عائداً من أسر أو حرب، وانسلت إلى الحمام. رنّت في أذنيها وهي تتعرى زغاريدُ بعيدةٌ تهللت لها هُنيهة، ثم همدت فجأة كقطار حوّلت الريح صفيره، فاندفعت تنجز حمّامها بسرعة لئلا تُحرم من أخيها الغائب منذ ثلاثين يوماً.
ومن خلل الباب المشقَّق لاحقت بأذنيها تحركات أخيها وحديثه مع أهل البيت، ولكن الأصوات تناهت إليها مبحوحة كأنما يتجنبون إسماعها. كانت سطوتها قوية على المنــزل الذي أصبحت فيه مع الأيام أماً ثانية لبضعة عشر مذكراً ومؤنثاً ولاسيما بعدما توقفت عن متابعة الدراسة. تظل تأمر وتنهى، وتزعق في هذا وذاك حتى تفقد صوتها وينطفئ النهار، ويغمر الخِدْرُ الأجساد المتعبة، فتُجري آخِر تفقُّدٍ عليهم، وتلملم ثيابهم المتسخة.
حتى أبوها كان يحتاج ما يشبه تصريحاً منها كلما خطر له أن يصب لنفسه كأساً. وهي في هذا المساء، وككل مساء، كانت فقدت توترها مع انكسار الشمس، وغفرت للجميع كالعادة حماقاتهم الصغيرة والكبيرة، واستسلمت لخاطر مريح وهو أنها ستنام الليلة وفي البيت رجلٌ غيرُ أبيها الذي ما عاد يجري في عروقه سوى الدخان والكحول.
على المسمار المغروز خلف الباب كقذيفة لم تنفجر كانت علّقت بحذر ثوبها الأبيض الذي قلّما ترتديه لأن بيتها لا يُبقي عليه نظيفاً أكثر من ساعات. وفي الغسالة القديمة خلفها تكومت ملابس الشياطين الصغار، وفاحت منها رائحةُ عرقٍ واخزةٌ كرائحة رجل شبق. هبّت الزغرودة ثانية وهي تمر بيديها على ما تملكه الأنثى، وترنمت:
" يامّه القمر على الباب
نوّر قناديله
يا مّه أردّ الباب
ولاّ أنادي له "
غير أن القطار تاه عن سكّته مرة ثانية.
لما خرجت بالثوب الأبيض وجدت، على غير ما توقعت، البيت كله في الفراش. كانت تنتظر أن تسهر بقية ليلتها الصيفية على السطح تثرثر مع الرجل الجديد في البيت، والنسيم يهب في آخر الليل نقياً دون روائح المجاري والمعامل، والصغار اندسّوا في أحلامهم. كانت تود أن تحدّثه بصفته " أخاها الأكبر" على الرغم من أنه يصغرها بخمس سنوات، عن السلوك المتفاقم للأب، وانزوائه مع الكأس يوماً بعد يوم، ثم تعرّجَ على آخر أخبار قريبها العائد من جزر الكــنــز الأسود محمَّلاً بما يُقنع، لا حاملات البكالوريا فحسب، بل الطبيبات والمهندسات. قال: أُعجِب بفاطمة التي فارقها طفلةً، والتي رغم هبوب رياح العنوسة عليها تصغره بعقدين. " أصبحتِ صبية يا فاطمة " وتفحّص بعينيه نتوءاتها. ابتلعت فاطمة لعابها. وتابعته عينا الأهل باهتمام؛ فهو ضيف عزيز أولاً، وهو بنظرة شاملة عريس مقبول أولاً، وما يعيبه شيء. ما يزال في فتوته. سيتقبّل مواصفاتها المتوسطة، وستنعم هي بما تيسّر من رجولته وثروته، وسينعم هو برواء جسدها، وبما تستوي فيه النساء حين تُطفأ الأضواء.
خرجت فاطمة بثوبها الأبيض على رؤوس أصابعها محاذرةً أن توقظه بعد عناء المشوار. اصطدم كتفها في الممر الضيق بمسدسه الغافي في جراب أنيق. تحسست الحديد البارد، وتذكرت أنها ما رأت بهذا الوضوح سلاحاً منذ اختتمت تمارين الرمي في المدرسة. تصاعدت دمدمة بعيدة " على الدريئات المطابقة لأرقامكم.. عندما تكون جاهزاً.. نار! " وتغمض فاطمة العينين، وتحبس الأنفاس، فينطلق القاتل كالمجنون لا يسأل عمّن أطلقه، ولا إلى أين. وتتوجع فاطمة قليلاً ولكنها بضع صدمات وكفى!
" الثوب الأبيض يا فاطمة " وزغردت نسوة الحي. حقاً هو ليس بكراً ولا صبياً ولكنه رجل " ملء هدومه " آه ما كان أمتع أن تعابث شاباً في سنّها! كم اشتهت أن تُقطَف قبل الذبول! عشر سنين وهي جاهزة لكل ما يطلبه الزوج والأولاد، وكل شهر ينتفض جسدها طالباً حاجته، وحين يشمّ عطن الأولاد ينكفئ خائباً. حقاً كان حلمها صبياً ثم شاباً في سنها، لا كهلاً في العقد الخامس. ولكن من هي حتى تتمرد عليه؟! امرأة عادية تظل تفوح منها رائحة الغسيل والطبيخ! تكاد تنسى أنوثتها إلا دقائق صحو معدودةً. طالما حلمت في صباها بشاب يتأبّط ذراعها في طريقها إلى المدرسة، ولكنها الآن امرأة عادية، لا هي جميلة فيتخاطفَها العرسان، ولا هي قبيحة فتقطعَ أملها وتستريح. ولا هي موهوبة في شيء فترتفعَ بأحلامها عن أفق البيت الآمن و"الزوج الذي فيه النصيب". يكفيها أن تخرج بضع سنين، سنتين، سنة، من غابة الجليد التي تحاصرها، أن تهصر ذراعان قويتان هذا الجسد الظامئ.آه ما كان أطيبه! وتأوي فاطمة إلى العريس الحلم، وتُصِمّ أذنيها عن شخير بضع وعشرين رئة في الغرفة الخانقة , تستسلم لوطء الحبيب.
بالثوب الأبيض تقوم فاطمة مع شروق الشمس وتتوقف عند المسدس الأسود المتربص في خندقه " من أين له هذا الشيطان ولما يمض عليه شهر؟! " وتشم رائحة العرق من حذائه ذي الرقبة العالية " اكتملت رجولتك بهذا الحذاء والبزة الخشنة " وتتلمس رداءه وبنطاله المنشورين للشمس المشرقة " ما أسرع ما كبرت يا صغيري وأصبحت رجلاً يرتدي حذاءً ثقيلاً بشوّاطات طويلة وبزّةً يهابها الجميع؛ وأنت الذي كنت أمسح له إلى وقت قريب منخريه وغير منخريه. لم تكمل الإعدادية، ولكن لا بأس! وماذا جنيت أنا من شهادتي الإعدادية بل الثانوية؟! المهم أنك صرتَ رجلاً. ومنذ الآن لن تمد يدك إلى أبيك، ومنذ الآن أستطيع الخروج معك واثقة أن معي رجلاً. لِيظنَّ الناس ما يظنون! لا ضيرَ. أنت أول عود يستوي في هذا البيت. وسترعى إخوتك، وتصبح أباً لهم، يستقبلونك على مدخل الحارة، ويتخاطفون ما تحمل إليهم، ويتسابقون على من يأتيك بعلبة الدخان "
" بالثوب الأبيض يا فاطمة تخرجين إلى الشمس. آه، منذ متى وأنت تشتهين استقبال الشمس بهذا الثوب؟! تقتعدين ظل الداليةِ، الأخضرِ الوحيد في المدى، فترسم الدالية وشياً على ثوبك الأبيض. يعابث الوشيُ ما حُلِّل من ثوبك وما حُرِّم. والعصافير تثرثر في فجوات الجدران التي اتخذتها ملاجئ كأنما انتقلت حمى المدينة إلى حينا، ثم تتقافز على الأرض التي تشد إليها الجميع. فيقفز قلب فاطمة هلَعاً عليها من القط القبيح المتربص بها , ولكن في كل مرة تحس فيها فاطمة أن العصافير سقطت في الفخ تنجو، وفي كل مرة تجلس فيها فاطمة هنا تردّ القط اللعين. ولكنه لا ييأس. العناقيد تدلّت برعاية الله ورعاية فاطمة، ولن تذبل كما تذبل فاطمة. سيأكل أخوها منها، وستأكل العصافير، ولن يطولها القط الشرس المترصد هنا وهناك.
الشمس ما تزال في خدر أمها كما علموها في المدرسة، وذراعا فاطمة العاريتان تقشعران من لسع الندى المخيِّم على ضفتي النهر الذي ما عاد يحمل الآن إلا الأوساخ فترتفع سحابة تسودّ شيئاً فشيئاً مع ارتفاع صخب السيارات المتكاثفة على الطريق العام القريب. تندسّ في السيارات وجوهٌ كالحةٌ ملفَّعة بكوفيات حمراء وسوداء تحمل في أكفِّها الخشنة زوادة النهار، وأحذيةٌ مسلَّحة. ونسوةٌ يغزون بالتين والتفاح أسواق المدينة، وصِبيةٌ يتاجرون بكل ممنوع. وجوهٌ مستطيلة ووجوه مستديرة، وجوه سمراء ووجوه شقراء. كلٌّ يمضي في غايته غير مدركٍ إلى أين ولماذا. وفاطمة تكاد تنضمّ إلى هذه القافلة الأبدية التي ما وعت يوماً سِرّ وجودها.
وسينهض أخوها وقد شبع نوماً لأول مرة منذ ثلاثين يوماً. وسيمر في طريقه على الأجساد النحيلة المتراصّة من برْد الندى.وسيتفقد مسدسه وبزته وحذاءه، ثم يتوجه إلى الدالية التي لا تغيب عن الأنظار صيفاً وشتاءً؛ صيفاً هي متنفَّسُهم، وشتاءً تتورم براعمها فتستأذنها قطرات المطر فتصل إلى الأرض هادئة.
حين وضعت فاطمة على الموقد إبريق الشاي لتحتسيه مع أخيها الذي عاد برأس حليق مسمرّ من الجهد والغبار، لأول مرة بعد ثلاثين يوماً، نقزت من صريف وقح خلفها أدركته بحسها الأمومي: " إياك يا ولد! " صرخت في ذاتها، وأسرعت إلى طاولة الكوي التي فردت عليها رداء أخيها، خوفاً عليه من المكواة المحتدة. " إياك والعبث يا ولدي " صاحت أعماق فاطمة " الصغار أمانة في عنقك، أبوك لا نفع فيه، وأنا لن أدوم لكم، وأنت الوحيد الذي نشف جلده. آه يا أخي ما أصعب أن تكون أباً وأماً وأختاً معاً. دعنا نتناول الشاي قبل أن تنعقد زوبعة الصغار".
استدارت فاطمة فرأت عينيها في فوهة قزمة: " إياك والعبث يا أخي؛ كفى هزلاً. أعرف أنك تعلمت استخدام السلاح، وتعلمت أن طلقة المسدس الحقيرة تقتل جملاً فلا داعي للمزاح فيهما " رأتهما تقدحان وقاحة، قالت" كفاك تمثيلاً؛ اِفعل هذا على الحدود، لا هنا ".
لحظةَ تجمَّعَ مصير فاطمة في دائرة لا تتسع لصرصار بالغ احتارت بِمَ تفسّر ما يحدث: أخوها الذي ربّته كولدها وفرحت أن صار رجلاً، خُيِّل إليها أنه تحاشى محادثتها ليلة أمس كأنه يضنّ بأشواقه أن يبددها. وأبوها أضرب عن مواله المعتاد بعد الكأس الثانية أو الثالثة. قالت: ربما هما متعبان. ولكن ليس من عادة أخيها أن ينام قبل أن يرشها بسطل ماء وترشه. هل أصبح رجلاً في ثلاثين يوماً؟ وصوتٌ بعيد تلاشى منذ سنين أوعز لها أن تدخل الحمام وتخرج منه بالثوب الأبيض. ما أشدَّ ما كانت ترتعد من اللون الأبيض في حكايات أمها عن القديسين والشهداء! "
رأت المسدس ضخماً بين يديه الغضتين، تلتف أصابعه الطفولية بصعوبة حول المخزن الذي ينوء ببضع طلقات: " ما يزال أترابك يلعبون في الحارة بمسدسات الماء ". اتسعت عيناها في دائرة المسدس فانحبس الماء في فمها. تحسست ثوبها الأبيض، ورفعت يدها عن المكواة كمن يرفع راية الاستسلام. قرأت في عينيه مظالم القرون. قالت الفوهة الفاغرة: " أنتِ متهمة يا فاطمة، أنت متهمة. أنت ليس أمامك إلا أن تدخلي هنا " أجابت " عيب يا أخي؛ لا تنصّب نفسك حاكماً على أختك التي ربّتك ". " سنحسم أقوال الناس؛ ألا ترينهم يتغامزون حولنا؟ ". " لستُ مجبرة أن أبرّئ نفسي أمام الناس "، قالت " سيحترق الرداء يا ولد؛ كُفَّ عن هذا العبث! ". " لا تشغليني عما رجعت لأجله! "."وكأنك جادٌّ". " ومن قال إني ألعب؟! ". " ولكن لا حقَّ لك في محاسبتي، لم أُسئ إلى أحد ". " هو نفسُه أضرب عنك لأنك استسلمت؛ الرجل لا يتزوج من تستسلم له " " ولكن...". " ولكن ماذا؟ تريدين أن أعيش عمري حاني الرأس؟! ". " كان عليك إذن أن توجه إليه المسدس قبلي"." أنتِ التي استسلمت". " كفى يا أخي، دعني أشرح لك "." لا داعي؛ المسدس لا ينتظر الشروح والتبريرات". " ولكن الأمر ليس كما سمعت ". " لن أدور بين الناس أشرح لهم الظروف...". " دعني أرفع المكواة، سيحترق الرداء ". " لا حاجة إليه بعد اليوم! "
لما تحركت يده للتسديد تراءى لها تلميذُ المدرسة الكسول الذي كانه: دائماً يداه ملطَّختان بالحبر، دائماً نسي طاقية الطلائع. منخراه يسيلان. شكاوى المعلمين لا تنتهي. ومع ذلك ما ضاق صدرها به يوماً. كانت ولية أمره؛ حتى وهي طالبة كسول مثله في الإعدادية ثم الثانوية. ودائماً تتعهده ولا تفي بوعدها. تعنّفه لحظة ثم تنسى دورها وتعود إلى طبيعتها.
لحظة انطلق الحكم حاسماً كانت محتارة أين تضع المكواة. ارتسم في الجفنين اللذين سيبقيان مفتوحين رعبٌ جمّد البؤبؤين إلى الأبد. وارتسمت على الوجه ضراعة تخللت كل المسامّ. همّت فاطمة أن تركع على ركبتيها كمحكوم يطلب الصفح من قاضيه ولكن الصدمة ردّتها قبل أن تطلبه. انفتح في صدرها ثقب صغير على مقاس الطلقة. ولكن القلب كله انقذف من ظهرها في غمضة عين، وتعلّق بالدالية الجافلة. انبجس، كما في أفلام السينما، سائل أحمرُ تنشّى منه الثوب الأبيض في موضع القلب. وخفتت الأغنية كصفير قطار استقر في محطته الأخيرة.
الأسبوع الأدبي العدد 206 22 /3 / 1990