تواقيع على عريضة الانتماء إلى الوطن
الجائزة الأولى لمسابقة تشرين عام 1980مع تعقيب للأديب الكبير رئيس لجنة التحكيم المرحوم حنا مينة يقول: " كنت أتمنى أن تحمل القصة غير هذا العنوان. ومنشورة في مجموعة " المدفع الخامس " الصادرة من اتحاد الكتاب العرب.
_ 1 _
على جدران الغرفة شبه العارية اختتم الحلقة الأخيرة من المعركة التي أخرجها بنفسه وقادها بهزيمة ساحقة للعدو. ثم حرر ذراعه المتشنجة من أسر زوجته وانقلب على جنبه الآخر متحسراً: " يمكنك أن تتحكم في أي تجربة من تجارب حياتك إلا الحرب فهي تُفرض عليك فرضاً. ليس مستحيلاً أن تكرر أي تجربة إلا تجربة الحرب "
غداً سيحاصره زملاؤه في المدرسة وفي ذهن كلٍّ منهم عشرات الأسئلة عن الحرب. ستتفرس عيون طلابه وجهه باحثة دون جدوى عن شظايا المعركة، عن وهج بطولات سمعوا بها في الصحف والإذاعات. مسّد ذراعه المخدَّرة. شدته زوجته من أذنه برفق قائلة: " كأنك لم تفرح بتسريحك هذه المرة! هكذا تعود إليّ بعد غياب الشهور؟ "
تجنّب دخول معركة لا هدف لها في ساعات الليل الأخيرة فتظاهر أنه لم يسمعها، واستمر يضع اللمسات الأخيرة للمؤتمر الصحفي المقبل بانتظار الصباح البعيد:
_ 2 _
" حين التففنا حول التل وصلت قبل الجميع إلى خط تبدُّل الانحدار. فوجئت بدبابة معادية على مرمى حجر مني. أول مرة في حياتي أرى عدواً بهذا الوضوح. بدت لي للوهلة الأولى وحشاً خرافياً من وحوش جدتي. لم ينتظر المعمر إيعازي فلقّم المدفع إلا أن الرامي صرخ يائساً: " سهم التسديد في السماء؛ تقدّمْ يا سائق أو تراجعْ إلى أرض مستوية! " تشنجت يد سائقي على ساعد تبديل السرعة فلم يُفلح في التقدم أو التراجع.عليّ في مثل هذه الحالة أن أعدّ إلى العشرة فإن لم أصب الدبابة المعادية انسحبت قبل أن تصيبني هي. تجمدت عيناي على السبطانة المعادية كحمامة ترقب فوهة البندقية. وفي اللحظة التي تحركت باتجاهنا حدث شيء يندر أن يحدث حتى في حكايات جدتي: هوى برج الدبابة المعادية، وارتفعت نافورة من اللهب الأزرق. وبعدما تأكدت أن ما حدث حقيقة، وأن الذي أصيب هو العدو تلفّتُ حولي فلمحت على يميني أواخر زوبعة الغبار التي أثارتها قذيفة دبابة الرقيب مصطفى... "
_ 3 _
" وماذا في ذلك؟! طبيعي أن تصيب دبابة هدفاً معادياً على بُعد أمتار منها ". تسلق الباص القادم واستند إلى أحد أعمدته متجنباً كغيره من الركاب مشمع المقاعد البارد. خبّأ دفتر التحضير تحت كنزته كعادته بعد سنوات العز الأولى للمعلم. تشاغل بمراقبة الصاعدين والنازلين، ولكن ركاب هذه الساعة المبكرة يُعدّون على الأصابع. ثم عاد يجمِّع خيوط حكاية أمتع من سابقتها:
" عاد معمر دبابتي جابر أبو حسن من سرية المدفعية المتمركزة بجوارنا محتمياً من حين لآخر بالأثلام التي حفرتها عجلات السيارات الحربية، فاستقبله زملاؤه ساخرين:
_ أظننت أن جميع مَن في سلاح المدفعية يعرف أخاك العريف " الركن " دحّام أبو حسن؟!
لم يردّ عليهم. تسلّق الرشاش ديشكا، وفك مثبِّته. قلت له:
_ ماذا تفعل يا جابر؟
نظر إليّ حانقاً كأنه يريد أن يقول:
_ لا دخْلَ لك بالرشاش، هذا من اختصاص المعمر!
ولما دسّ أول الشريط في علبة المغلاق صرخت به:
_ ليس الرمي على الطائرات لعبة. المدرعات لا ترمي الطائرات إلا في حال انقضاضها عليها.
حاول إقناعي بأن قائد سرية المدفعية وبّخنا جميعاً _ نحن المدرعات _ لأننا لا نؤازرهم في محنتهم مع الطيران المعادي. قلت له: هذا كلام _ إذا صحّ _ غير مسؤول. نحن الذين نقدِّر متى نرمي ومتى لا نرمي. انتزع الشريط من الرشاش منفعلاً وبصق في الهواء. ثم أشعل لفافة وانزوى في مكمنه "
_ 4 _
حسناً! وهل هذه حكاية تُروى؟
لم يتغير شيء في ساحة المرجة من شتاء العام الماضي وإن بدا له أن قاع النهر تحت نصب الشهداء قد غاص قليلاً. ما يزال أبطال الإنتاج يرتجفون برداً ينفضون عن أجسادهم قطرات الندى، وأغنياء المدينة غارقين في أحضان نسائهم، وفقراؤها يتراقصون مع هبات الهواء النشطة، يكاد يعرفهم واحداً واحداً لكثرة ما قطع هذه الساحة إلا الذين انضموا إليهم خلال الشهور التي غابها في الاحتياط. ستبدأ الحصة الأولى بعد أقل من نصف ساعة، وسيعود أولئك المراهقون إلى مناكدته، وسيقطع كل ظهيرة الطريق ذاته وقد حفرت الطباشير أصابعه وسدّت حنجرته:
" ونحن مشتبكون مع العدو سدّ وجه الملازم فياض فجأة منظاري. تعرّفته بصعوبة رغم أني أعايشه طوال شهور الاحتياط فأيّ مجنون يخرج من دبابته في هذه الساعة؟! ربما طرق بابي طويلاً قبل أن أسمعه إذ لم يكن نوع من أنواع السلاح يخطر ببالك إلا ويعربد: مدافع ميدان، مدافع م / ط، طائرات، دبابات...
صرخ في أذني وهو يدسّ رأسه في الفتحة نصف المغلقة:
_ دخيلك! توقّفَ محرك دبابتي وما عندي بطاريات ولا هواء مضغوط!
لم ينتظر سائقي أوامري: وثب من مقعده، وجرّ حبل القطر الفولاذي الذي بثُخن الساعد متعثراً بالصخور والأشواك _ في العادة يجره اثنان على الأقل _ وعلّقه بدبابة الملازم. وظل يقفز من الأرض إلى مقعده، وبالعكس إلى أن ردّ الروح إلى الدبابة المنكوبة فأغلق بابه على عجل وقال لاهثاً:
_ أنا ثالث سائق يشحط اليوم دبابة الملازم!
_ 5 _
" وهذه الأخرى حكاية باردة! وماذا كان يفعل أي جندي مكان سائق دبابتي، وأي قائد دبابة مكان الملازم فياض؟ " فكر وهو يتسلق الباص الثاني الموصل إلى المدرسة " لعل الملازم فياض وجد عملاً بعد ما صدر قرار توظيف الجامعيين المشاركين في الحرب! المسكين كان حلمه أن يصبح مدرساً إلا أن شهادته كسدت. حتى وظيفة المعلم أصبحت عزيزة! سيقول لي المدير كعادته كل سنة: " يا أستاذ لا تضع عقلك في عقول هؤلاء الصبيان؛ أخشى أن تؤذي أحدهم بنزقك " غير أن هدنة الصباح لابد أن يخرقها تصرُّفٌ طائش من أحدهم فتذهب نصيحة المدير أدراج الرياح:
" عندما حطّ حسان بباب أول خيمة في صباح ذلك اليوم أدرك أنه ليس كسائر الأيام: لم يمازحه أحد من الجنود. كانوا يتسلَّون في الأيام الفائتة بمداعبة رأسه المجزوز كخروف ربيعي وحمارِه المفصَّل على جسده النحيل فيما يملأ هو كيسه ببقايا الخبز اليابس. وقف مشدوهاً إلى أول دبابة صادفته: عشرات القطع الكبيرة والصغيرة متناثرة على غطاء الدبابة المنشور، حدائد سوداء وشرائط طويلة تتلوى كأنها الأفاعي... تأمل مبهوراً طريقتهم في حزم الشبكات. وبهره أكثرَ منظرُ الدبابات المستحمة بشمس تشرين. اتّكأ بصدره على حماره متمنياً لو سمحوا له بالعبث بهذه المتناثرات. ثم فجأة _ وكأنما تذكر موعداً هاماً _ اعتلى كيسه الفارغ وقفل راجعاً. وقبل أن يصل إلى القرية كانت أسراب الطائرات تتجه غرباً، وغضب الأرض قد حل بالسماء...
يركض حسان الآن بين الدبابات المصطفة تحت ضوء القمر، يذرع الرتل ذهاباً وإياباً بقدميه الحافيتين مع أقرانه من أطفال القرية، هواةِ جمع الخبز اليابس، يودِّعون جيران البارحة المتأهّبين للمجهول بأرغفة الخبز المشروح "
_ 6 _
حين دخل الصف قرعت ثمانون قدماً الأرض دفعة واحدة، واصطفّ أربعون رأساً مجزوزاً أمام عينيه. تفحّص الأقدام شبه الحافية، تلمّس منظاره وكمّامته وجعبة الخبز المشروح. ثم أوعز لهم بنبرة لم يألفها في نفسه:
_ اجلسوا يا أبنائي، سنبدأ اليوم عاماً جديداً!