خواطر عابرة حول كتاب "الشراكسة" للباحث الأستاذ ممدوح قوموق
ليس المطلعون على أحداث الحرب الظالمة التي شُنّت على الشراكسة فاقتلعتهم من جذورهم كثيرين حتى بين المهتمين بالتاريخ والثقافة الشركسيين لأسباب:
- التعتيم على هذا التاريخ من قِبل الذين يملكون وثائقه.
- التدخلات السياسية وغير السياسية في الموضوع (الدين والعصبيات المتنوعة مثلاً)
- ضعف إمكانات الشعب الشركسي المادية والإعلامية.
- عدم امتلاك الحرية التامة في كتابة هذا التاريخ وتحليله خوفاً من إثارة حساسيات دينية أو سياسية أو إثنية بل شخصية أحياناً.
- قلة المتفرغين القادرين على كتابة هذا التاريخ أكاديمياً، لا على شكل مقالات عابرة أو محاضرات في مناسبات معينة، وبالتالي تبقى حلقات غير مترابطة، وينقصها التحليل.
- ولهذه الأسباب وغيرها، كقلة الاهتمام أحياناً، والرغبة في تجاوز تلك المراحل الصعبة من حياة الشعب، وتعدد اللغات التي يقرأ ويكتب بها الشراكسة، وتشتت أهواء الدارسين بين عثماني وإسلامي... ظلت معلوماتنا في الموضوع محدودة ومجزَّأة تفتقر إلى التحليل والربط بظروفها السياسية والتاريخية والجغرافية.
- ضمن هذه الظروف الصعبة جاء هذا الكتاب يلبي حاجة ملحة للمكتبة الشركسية وللقارئ الشركسي وغيره، واسع الحجم لأن مؤلفه يعود بالتاريخ إلى القرن الثالث عشر ويمتد إلى بدايات قرننا الحالي: الحادي والعشرين. وهي حقبة طويلة جداً لا يتسع لها مجلد مهما طال.
ولذلك يمهّد الكاتب بأن عمله تحليلي، لا تاريخي بمعنى سرد التفصيلات التاريخية، بل يعلن أن هذا ليس من اختصاصه.
وقد يتساءل بعضنا: وما الفائدة الآن من الرجوع إلى هذا الماضي الأليم بما يشبه جلد الذات؟ فأذكِّره بحديث تلفزيوني للكاتب المتعدد المواهب الدكتور محي الدين قندور في قناة "روسيا اليوم" قبل سنوات يناشد فيه شبابنا ألا يتحولوا إلى أداة بأيدي قوى لا تريد لنا الخير فيحدثَ لنا ما حدث في الحرب القفقاسية. وهذا جانب مهم في عمل الأستاذ ممدوح يصعب اختصاره في بضع كلمات.
ويدرك قارئ الكتاب إلحاح هذا الموضوع القديم ظاهرياً حين يعلم من المؤلف أن إبعاد روسيا عن منطقة الشرق الأوسط، وقبلها عن استنبول كانا هدفين رئيسين من تلك الحرب، وبالنتيجة إبعادها عن اتفاقية سايكس_ بيكو الشهيرة. ويعرف من المؤلف أن ما يجري في سورية الآن تكرار لما جرى أثناء حروب القفقاس. ويعرف أن "الإسلام السياسي" المعاصر تكرار للإسلام الذي فرضته قوى متعددة في أثناء تلك الحروب: الدولة العثمانية التي كانت تعتبر كل منطقة مسلمة في العالم جزءاً منها، ومن حملوا راية الإسلام، جاهلين بأي شيء آخر من الحرب والسياسة، فكانت تصر على أن الشراكسة مسلمون منذ قرون عديدة في حين تثبت الوقائع ان إسلامهم جاء في أواخر القرن الثامن عشر وما بعده في ظروف قاسية، وبطرق تنفِّر أي إنسان منه. إن الأمر لا يتعلق بالإسلام نفسه بل بطريقة نشره.
ومن قبيل ذِكْرِ الشيء بالشيء فقد كتب الروائي المعروف من جمهورية الأديغي إسحاق ماشباش روايتين تؤرخان أدبياً، لا تاريخياً اختصاصياً، لمرحلة طويلة من تلك الحرب التي دامت قرناً كاملاً: الأولى بعنوان "خان جري" وهو شخصية تاريخية معروفة من أسرة إمارة. تغطي الحرب من بدايات القرن التاسع عشر إلى ما قبل نهاية الحرب باثنين وعشرين عاماً وهو تاريخ وفاة بطل الرواية. والثانية بعنوان "حجر الرحى" تُكمل تاريخ الحرب إلى نهايتها.
على أن مهمة الرواية أو أي جنس أدبي آخر تختلف عن مهمة الكتاب التأريخي _ التحليلي لاختلاف طبيعة العملين. ولا شك أن إسحاق استند إلى معلومات ووثائق باللغة الروسية على الأقل، ولم يخرج عن حقائق التاريخ، وإن كانت له وجهات نظر مختلفة عن وجهة نظر الأستاذ قوموق. وكم أتمنى لو يُتاح للمهتمين بهذا التاريخ عقد ندوة أو "طاولة مستديرة" أو أي شكل من أشكال اللقاء لتبادل المعلومات والآراء وتعميقها.
أقول هذا، لأن أسرة خان جري: هو وأبوه الذي اغتيل بإيعاز من الممثل العثماني في قلعة أنابه، حاولت مراراً وعلى امتداد الرواية إقناع الشراكسة بإقامة دولة دون جدوى. ويتفق إسحاق مع استنتاجات قوموق بأن القيصر الروسي ومؤامرات الدولة العثمانية، والدسائس البريطانية تضافرت لاقتلاع الشراكسة من أرضهم.ويخرج قارئ إسحاق ماشباش _ بعد استبعاد الأسباب الخارجية، أعني التدخلات والمؤامرات الدولية التي يسهب فيها الباحث قوموق _ بالأسباب الذاتية التالية لخسارتنا الحرب:
- روح الحرية الفردية المفرطة، كالعصافير البرية حسب تعبير الكاتب، لدى الشراكسة التي تمنعهم من الانقياد للزعامات.
- والروح القبلية التي ظلت حاجزاً بين الشراكسة مهما تعاونوا في مناسبات معينة.
- ولم يخل الشراكسة، كأي شعب آخر،من خونة وجواسيس للعدو، ينقلون إليه الأخبار الطازجة.
هذه العوامل وغيرها منعت من تأليف " الدولة " التي كان يرجى منها أن تجعل لنا كياناً دولياً.
أتيت على ذكر هذين المؤلَّفين لأن الأستاذ ممدوح يجيب على السؤال الذي يطرحه إسحاق في ما يتعلق بالدولة بأن الاعتداءات التي لم تتوقف على بلاد الشراكسة منذ حملات التتر لم تُتِح لهم الفرصة لتأسيس دولة، ومع ذلك كانت لهم تنظيمات شبيهة بالدولة، وأن غيابها لم يمنع القبائل الشركسية من التعاون وتقديم العون العسكري لمن يحتاجه. وبأن السياسة القيصرية كانت ذكية بحيث لم تهاجم بلاد الشراكسة كلها في وقت واحد بل اتبعت سياسة القضم التدريجي للأرض. وقد يُضاف إلى هذا السببِ الثاني الحاجةُ إلى الاعتراف الدولي بالدولة المنتظرة. ويُضاف إلى كل ما سبق الاستنزاف البشري الذي خضعت له شركيسيا باختطاف أبنائها إلى مناطق أخرى كالشرق الأوسط.(انظر بشأن الدولة ص 216 و217 ثم 447)
من البديهي أن يعترض أنصار المادية التاريخية بأن الشراكسة لم يصلوا في تطورهم الاقتصادي إلى مرحلة تأليف الدولة. وأن يقول غيرهم:إذا كان العرب أو المسلمون بكل زخمهم التاريخي والعقائدي لم يستطيعوا تأسيس دولة بالمعنى الحديث للدولة التي تعني في الفرنسية والإنكليزية الثبات على عكس ما تدل الكلمة العربية من التحول، ونسبة الدولة إلى أسرة حاكمة بعينها: الأموية والعباسية؛ فهل يُلام الشراكسة في هذا؟! ولكن يبقى من المشروع أن أتردد بين تعليلي الكاتبين. وأن أميل بعض الميل إلى جانب إسحاق ماشباش في الإلحاح على هذا الوجع.
أجاد الكاتب في لغة سلسة بلورة الأدوار المتكاملة عن قصد أو عن غير قصد للدول العظمى الثلاثة: روسيا والدولة العثمانية وبريطانيا في التآمر على شركيسيا التاريخية التي كانت تحتل الجزء الأعظم من القفقاس،من حيث المساحة وعدد السكان، إلى جانب الجرأة في تناول الدور السلبي لـــ "الإسلام السياسي" وإن كان التعبير معاصراً. إن مشكلة تناوُلِ الإسلام ورموزه المقدسة وشبه المقدسة هي أن الناس يخلطون بين الإسلام والمسلمين، وبين النص وقارئه أو مفسره؛ وهو ما دفع علي بن أبي طالب إلى القول بأن القرآن لا ينطق بل ينطق به الرجال، وأنه حمّال أوجُه. ولهذا يستطيع أي جاهل حفِظَ بضع آيات وأحاديث، وحضر بضع حلقات للشيخ، ولا سيما في ظروف "الصحوة الإسلامية" المشؤومة اليوم التي أنتجت عشرات المنظمات الإرهابية التي تقتل الإنسان بأسهل مما تقتل حشرة تحت ستار تطبيق التعاليم الدينية، يستطيع هذا الجاهل أن يكفّر من يشاء، فيحكم عليه بالقتل الذي يقول كتاب الله فيه ﴿من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً﴾ (المائدة 5 / 32) ومعلوم أن قتل النفس بالنفس هو القصاص الذي جعل الله فيه حياة للناس﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب﴾ (البقرة 2 / 179) وأن الفساد في الأرض معروف، وهو الجريمة عموماً كقطع الطريق على المسافرين، مما يفصِّل فيه الفقهاء، وليس التكفير الذي لا يمكن تصنيفه إلا قسراً في باب الارتداد، وقتْلُ المرتدِّ إن اتفق عليه الفقهاء له شروط كالاستتابة والإمهال ثلاثة أيام...؛ فأين هؤلاء حتى من هذه الأحكام موضوع الخلاف. فيُحمد للكاتب اجتراؤه على بعض الرموز التي ما تزال مقدسة كالشيخ شامل، أعني انتقاده لقصر نظره السياسي وضحالة معلوماته العامة، تلك الضحالة التي جعلته يتعجب بعدما استسلم فنُقل إلى روسيا من اتساعها. وشنُّه، معتمداً على فرسان القبرتاي هجوماً عبْر بلادهم التي لم يكن بقي فيها أكثر من بضعة آلاف (انظر ص 316).وكذلك لنائبه محمد أمين الذي التفّ حوله الأبزاخ ، ورغم ذلك فرض عليهم الإسلام بقوة جيش من المرتزقة، فنظم حفلات ختان جماعية للرجال. غير أن الأسوأ في الرجلين أنهما، بعد أن تسببا بالكارثة الكبرى للشراكسة، خذلا جموع المؤمنين بهما واستسلما للعدو بكل بساطة، وتقاضيا منه رواتب مجزية إلى آخر العمر. فعاشا حياة مريحة في الوقت الذي أخرجا فيه الشيشان والداغستان مبكراً من الحرب، فتفرّغ العدو للشراكسة.
لماذا لم تحدث تسويات تنقذ من بقي في أواخر الحرب من مقاتلين وناس يائسين يخوضون حرباً انتحارية (الأبزاخ والشابسوغ والأوبيخ) فوصل الأمر إلى الاقتلاع من الجذور؟ يجيب الكاتب بأن جرائم محمد أمين الذي حرض الفلاحين وعامة الناس فقتلوا زعاماتهم بحجج تبدو " شيوعية متطرفة " في مقاييس اليوم أفرغت القفقاس من القيادات السياسية الواعية، وتولى القيادة في السنوات الأخيرة قيادات حربية أكثر منها سياسية.
وسواء وافق القارئ على تحليلات المؤلف أو استنتاجاته أم لم يوافق، يبقى عمل الأستاذ قوموق " الشراكسة والصراعات الكبرى حول القفقاس والشرق الأوسط من منتصف القرن الثالث عشر حتى مطلع القرن الحادي والعشرين" الصادر في نالشيك أيار 2015، عملاً بُذل فيه جهد أكاديمي كبير، بنَفَسٍ تحليلي صبور دؤوب، يختلف عن أي عمل آخر في ساحته بشموليته وعدم اكتفائه بالسرد، بل اهتمامه بالتحليل والربط بين الأسباب والنتائج.