خير الدين التونسي المصلح المنبوذ

مَن مِنّا يعرف خير الدين التونسي؟
ليسوا كثيرين حتماً.
ولو كان خير الدين فناناً أو مطرباً، حتى لاعب كرة قدم، أو ملاكماً، لعرفناه.ولكنه لسوء حظه أو لسوئه، لم يكن هذا أو ذاك.
وأذكر أن أستاذاً جليلاً من زملائي تطاق اسمه مع اسم لاعب كرة قدم في ذلك الزمان، فلقي ترحيباً حاراً في المطار واحتراماً شديداً فيه.
ولو عاش خير الدين في قطر عربي كمصر لعرفه بعضُنا كما يعرف طه حسين ورفاعة الطهطاوي وأحمد أمين... ولكنه مرة أخرى عاش في عالم بعيد عنا وعن اهتمامنا نسبياً فلم يصل ذِكرُه إلا إلى القليل منا.
ومثلما كان حظه عندنا من الشهرة ضئيلاً، فكذلك حظنا في معرفة المزيد عنه؛ ذلك أن الرجل عاش حياة غير اعتيادية.
تصوَّرْ طفلاً يجد نفسه فجأة في غير وطنه، وفي أسرة غيرِ أسرته. وحين يشب عن الطوق يجد نفسه الرجل الأول أو الثاني في ذلك الوطن الغريب؛ فهل هذا منطقيّ؟!
وإن لم يكن منطقياً فهذا ملخَّص حياة خير الدين التونسي!
وُلِد خير الدين ابنُ من؟ لا هو ولا غيره يعرف، في حوالي عام 1810، فوجد نفسه وسْط أسرة غريبة، لا ربُّ الأسرة أبوه، ولا ربة البيت أمه؛ إنها أسرة تحسين بك نقيب الأشراف في إستانبول.
أما كيف وصل إليها فلا أحد الآن يعرف ذلك. ولك أن تتصور جماعة من تجار الرقيق الأبيض اختطفت طفلاً، حملته، في من حملتهم، إلى سوق النخاسة. ولك أن تتجاوز لوعة أبيه وأمه، ولكن لا يجوز أن ننسى التوقف عند الظروف التي جعلت أطفال القفقاس وشبابه وبناته فريسة لهؤلاء التجار، يعانون من حُرقتهم وحرقة أهاليهم، ويوزعونهم في شتى أنحاء المعمورة تحت اسمٍ قاتم مهما حاولنا إيجاد التفسيرات له: المماليك. ولا أغفر مطلقاً لذلك الفقيه الذي أصرّ متسلحاً بالدين أن يسوق الحكامَ المماليك حُماةَ مصر وسورية، إلى سوق النخاسة باسم الدين، مُتحججاً بأنهم لا يجوز أن يحكموا وهم أرقّاء، فيعرضهم للبيع دون أن يخطر له: لماذا جاؤوا بهم وأوكلوا إليهم حماية البلاد والدفاع عنها ضد أعتى عدوّين: التتر من الشرق، والصليبيين من الغرب، ولم يدافع هؤلاء الفقهاء الأحرار عن بلادهم!
لم يطل به المُقام في بيت تحسين بك، فقد قدِم سمسار للسلطان التونسي نفسِه، واشترى الطفل! ومرة أخرى نتوقف عند هذه المحطة؛ فكم من هؤلاء الأطفال اشتراهم سلاطين وأغنياء؟ وكم منهم اشتراه من لا نعلم؟ وكم منهم أُتيح له أن يعيش حياة مقبولة مقابل الذين ذابوا في محرقة العبودية الأبدية، أو جرفتهم أمواج البحر بعدما غرقت سفنهم؟!
عرف الطفل أنه شركسي الأصل، وأنه بيع في سوق الآستانة. ولئن لم نعرف موقف خير الدين من مصيره وما ساوره من أفكار ومشاعر حول أصله إن موقفاً واحداً يكشف عن أثر أصله في طريقة تفكيره: عرف أن له أخاً في مصر يشغل منصباً مهماً، ويملك ثروة طائلة. وخلافاً للتصرف المتوقع في مثل هذا الموقف، وهو أن يسارع إلى لقاء أخيه، آثر خير الدين بكرامته وحساسيته أن يكتم ما في نفسه خوفاً من التأويلات، فأبى أن يكاتبه ويتعرفه، واحتفظ بالسر في نفسه ولنفسه.
يقول المؤرخ المصري الشهير الموضوعي العميق، المنصف دوماً بتفكيره، أحمد أمين، في الوقت الذي ما زالت فيه كلمة " شركسي" مسبّة في مصر، والذي أفرد لخير الدين – بين عشرة زعماء – أربعين صفحة من كتابه " زعماء الإصلاح في العصر الحديث "، يقول: " الشراكسة قبائل بدوية تشغل البقعة الشمالية الغربية من بحر قزوين، وجزءاً من سواحل البحر الأسود... وفيهم فضائلُ البداوة من الشجاعة والكرم، ويمتازون بالنظافة والجمال. وعُرف ذلك عنهم، فكان الصغار والفتيان والفتيات يُخطفون ويصدَّرون إلى المملكة الإسلامية منذ العصر العباسي الأول".
وفيما يؤرخ أحمد أمين مولد خير الدين بعام 1810، يؤرخ مقدِّم كتابه المنصفُ الشنوفي التونسي ولادته بعام 1822، غير أنه يقول في آخر ترجمته له إنه توفي عام 1889 عن سبعة وسبعين عاماً، وعلى هذا يكون تاريخ ولادته عام 1812.ويُفهَم من المصدر الثاني أنه بيع مرتين في تونس. ومهما يكن فقد التحق خير الدين بقصر الباي، وتلقى تعليمه وتدريبه هناك. ثم ألحقه الباي بالجيش التونسي ليتعلم من البعثة الفرنسية المرسَلة إلى تونس للإصلاح. يقول أحمد أمين " وكان هذا (يقصد التحاقه بالجيش) يوافق مزاجه الشركسي. وأصبح جنرالاً (أمير لواء خيالة) عام 1852.
عاشت تونس في القرن التاسع عشر أوضاعاً سيئة من كافة النواحي. فمن جهة غزا الاستعمار الفرنسي والاستعمار الإيطالي والتجار اليهود البلاد معاً للسيطرة على التصدير والاستيراد، فكانت النتيجة تدهوُرَ الصناعة ونزيف الذهب والعملة المحلية إلى الخارج، وهيمنة فرنسا على تجارة تونس. ومن جهة أخرى سوءات الباي في التعامل مع الأجانب، كبيع المحصول سلفاً بأبخس الأثمان، والاقتراض المستمر من الغرب، وسوءاته في إسناد المناصب إلى اللصوص، أمثال الوزير الأكبر مصطفى خزنه دار، وأمين الخزانة ابن عياد. ثم فساد الأوضاع الداخلية العامة من تدنٍّ للتعليم وضيق أفقِ كثير من رجال الدين. ومن الجهة الأخرى كانت الدولة العثمانية أضعف من أن تتصدى للأوربيين. وهكذا قُدِّر لخير الدين، وليدِ شمال القفقاس، مجهولِ الأب والأم، أن يناضل على كل هذه الجبهات.
أوفد خير الدين إلى فرنسا عام 1853 لمقاضاة ابن عياد المسؤول عن جباية لضرائب، والذي اختلس 60 مليون فرنكاً، ولجأ إلى فرنسا وتجنّس بجنسيتها. ولم يكتف بهذا المبلغ الكفيل بإفقار بلد صغير كتونس، بل طالب تونس بأربعين مليوناً أخرى. أوفِد خير الدين إلى فرنسا لمقاضاة هذا اللص، واستمر في مرافعاته أمام القضاء الفرنسي (18 وثيقة باللغة الفرنسية) حتى تمكن من هزيمة خصمه، بل انتزع منه 24 مليوناً عاد بها إلى تونس.
وعُيِّن بعد عودته وزيراً للحربية، فقام بإصلاحات كثيرة كتوسيع الطرق وتنظيمها، وإنشاء مصنع بخاري لبناء السفن. وتولى عام 1861 رئاسة المجلس النيابي الأول الذي يكاد الباي التونسي مجبراً على انتخابه بجهود خير الدين وإلحاحه. وله موقف جريء فيه:يرفض المجلس مشروعاً اقتصادياً فرنسياً، فيقول الباي: لقد وعدتُ فرنسا وعداً قاطعاً بالموافقة؛ فيرد خير الدين: ولماذا جمعتنا إذن؟!
غير أن جهود خير الدين اصطدمت في طريق الحكم النيابي الدستوري بمعارضة متعددة الأطراف؛ فالباي ووزيره الأول يريدان مجلساً صورياً لا يراقب سلوكهما، ولا يعترض على شيء. وقسم من رجال الدين يعارض بحجة أن أحكام القانون سياسية لا شرعية. وفرنسا تحرض الباي على رفض قرارات المجلس؛ يقول نابليون الثالث في أثناء زيارة إلى الجزائر وقد قدّم له الباي نسخة من قانون الشورى التونسي: "إن العرب إذا استأنسوا بالعدالة والحرية لم نسترح معهم في الجزائر!"
وهكذا استقال خير الدين من المجلس وسافر في مهمة خاصة إلى أوربا، وما أكثر ما سافر إليها. وطاف في سفراته زهاء عشرين بلداً أوربياً كان لها أثرها الهام في تكوين شخصيته، إذ لم يبحث خير الدين عن المتعة والفرجة، بل تعمّق في دراسة المجتمعات الأوربية وأسباب تقدمها. فدرس أنظمة الحكومات والبرلمانات،حتى مقتنيات المكتبات العامة فيها. وخرج عام 1867 بكتابه الوحيد والمهم "أقدم المسالك في معرفة أحوال الممالك".
وفي عام 1869 تولى بعد تردُّدٍ رئاسة اللجنة المالية المؤلَّفة من ممثلين لفرنسا وإيطاليا وبريطانيا لتصفية الديون الأوربية على تونس، والمقدَّرة بــــ 160 مليون فرنكاً. وللحقيقة فقد كان خير الدين عدواً دائماً لسياسة الاقتراض من الغرب لإدراكه أخطارها. ولكن المؤسف أن ما حلّ بمصر من جراء الديون حلّ بتونس، وفي وقت واحد تقريباً.
تمكن خير الدين في خلال ترؤسِّه اللجنةَ من وضع حد لتدخلات الأوربيين وحصر نفوذها. ونظم ميزانية الدولة، وخفض الضرائب، ونظّم طرق تحصيلها. وأدخل إصلاحات هامة في النظام الاقتصادي، مثل إعفاء الأشجار المثمرة المزروعة حديثاً من الضرائب عشرين عاماً. وأسس صندوقاً للشكاوى حمل مفتاحه في جيبه. وسمح للمشتكي ألا يذكر اسمه. وألغى الحملات العسكرية المرافقة لحملات تحصيل الضرائب لِما تفعله من سلب ونهب. فعاد إلى الناس الهدوء والأمان، وإلى الحكومة الهيبة والنفوذ. ونتيجة لهذه الإصلاحات ترك الرجل الحكم وفي البلاد مليون هكتار مزروع، وبعدما تسلّمها وفيها ستون ألفاً.
وفي عام 1877 استقال من كافة مناصبه (الوزارة والمالية)، وعومل من السلطة التونسية معاملة شبهِ معتقل، فمُنعت عنه الزيارات، وبُثّت حوله العيون. غير أن إلحاح السلطان عبد الحميد على سفره إلى الآستانة أحرج الحكومة التونسية فسافر. لقد أخلص له الوطن الثاني له كل الإخلاص فلم يتنكر له، بل تنكرت للسلطة التي يناسبها أكثرَ وزيرٌ كخزنه دار يسلخ جلود أبناء الشعب بالضرائب، والباي غافل عن آلام الناس، وعن الأخطار المحدقة بالأمة، فمنعت الجماهير الحزينة – كما يقول أحمد أمين – من وداع الزعيم الذي كانت مصلحةُ الشعب همَّه الدائم. بل حاول أن يبيع أملاكه للتونسيين بسعر مخفض فمنعت الحكومة الناس من شرائها.
وفي الآستانة كان بانتظاره مفارقةٌ من مفارقات الدهر وهي تعيينه وزيراً للعدل! وفي ظل من؟ في ظل السلطان عبد الحميد مضربِ المثل في الاستبداد، فأبى خير الدين ، وأبى حتى اقتنع السلطان، واكتفى بتعيينه وزير دولة. إلا أن المفارقة العظمى كانت بانتظاره، فإذا به يعيَّن رئيساً للوزراء! ويُفرض عليه ألا يعتذر ولا يتحجج بأي حجة!
جهد خير الدين في الآستانة، كما في تونس، لإنقاذ الدولة العثمانية المريضة من أدوائها القاتلة. كانت الدولة مهزومة أمام الروس. والأسطول الإنجليزي في البوسفور، والوضع المالي متدهوراً، ومشكلة قبرص، ومشكلة الأرمن، ومشكلة الخديوي إسماعيل... اتّبع خير الدين سياسة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فاتفق مع الروس مع ضمانات للمسلمين في بلغاريا وتخفيضات في التعويضات الحربية. وانسحب الأسطول الإنجليزي، وحُلَّت مشكلة الأرمن.
ومرة أخرى ينفر منه السلطان عبد الحميد مثلما نفر منه باي تونس، فيخرج من الوزارة بعد ثمانية أشهر يقول عنها أحمد أمين: عمل فيها ما لا يعمله غيرُه في ثمانين عاماً!
وعاش في الآستانة أعوامه الأخيرة حتى وافته المنية عام 1889.
مواقف وآراء:
يعتزّ التونسيون بخير الدين، وينفون عنه كل التهم التي حاول أعداؤه الانتقاص من مكانته بإلصاقها به؛ من ذلك أنهم يقولون إن لقب "التونسي" لم يُطلق على أحد من المماليك غير خير الدين رغم وجود كثيرين منهم، فكأنهم منحوه الجنسية التونسية، وهي جنسية مهمة لأن أعداءه اتهموه اتهامين متناقضين:
-فريق اتهمه بـــ" العثمانية" إن صح التعبير، وتعني الارتباط بالدولة العثمانية في وقت كانت فيه النزعات الاستقلالية عن العثمانيين واضحة في العالم العربي، كالتي في مصر. وهي نزعات مشروعة دون شك. غير أن المتفهمين حقيقة خير الدين يفسرون هذه النزعة العثمانية،- وكان كثيرون من مفكري العالم العربي يتخذونها في مصر وسورية – على أنها بالإضافة إلى عمق تديُّنه وشعوره بالرابطة الإسلامية، محاولة للوقوف في وجه الأطماع الاستعمارية الـمـُطبِقة آنذاك على العالم الإسلامي كوحوش مكشِّرة.
-وفريق اتهمه بـــ"الأوربية"، أي محاولة طبع تونس بالطابع الأوربي، من خلال كتابِه الشهير الداعي إلى العدالة والحرية والديموقراطية، وترجمتِه هذا الكتاب إلى الفرنسية. واستغل هؤلاء منحه امتياز مدِّ سكة حديدية من الجزائر إلى تونس لشركة فرنسية. ويسوِّغ أنصاره هذا المسلك، وهو مسلك له إشكالات كثيرة لا مجال لذِكرها هنا، ويقولون إن الأمر كان قد انتهى، وكانت تونس قد خضعت عملياً لفرنسا بعدما أرهقتها ديون الباي. ويقولون إن فرنسا لم تستعمل أصلاً هذه السكة لاحتلال تونس. وينسى أعداء خير الدين أن استقالته من الوزارة كانت في الأساس احتجاجاً على تزايُد النفوذ الفرنسي، وينسون أحد مواقفه الجريئة، حين رفض الامتثال لتهديد ضابط بحرية فرنسي بعدم السفر.
*****
ظهر كتاب خير الدين " أقومُ المسالك " عام 1867، ويُضفي عليه ظهوره في هذا العام أهمية خاصة فهو نتيجة تجربة تونسية بحتة لبلدٍ جرّب البرلمان والدستور، ثم أقلع عنهما. وكانت المسألة الشرقية وصلت إلى ذروة التأزم بعد خصومات محمد علي باشا مع العثمانيين، وظهور حركة العثمانيين الجدد. وفي العام نفسه أصاب تونسَ قحط شديد مصحوب بالكوليرا أوديا بثلثي سكان البلاد، بالإضافة إلى استفحال الفساد الداخلي، ووطأة الضرائب، وتزايُد النفوذ الأجنبي.
وهو كتاب سياسي، لا كتابُ رحلات، حذا فيهة حَذْوَ ابن خلدون في تاريخه الشهير، فجعل ابن خلدون مقدمة للكتاب أهم من الكتاب نفسه، وكتب خير الدين مقدمة هي برنامج إصلاحي لمجمل الدولة العثمانية.
يرى خير الدين أن رأس الداء في ما يصيب الأقطار الضعيفة كتونس ليس في عوادي المناخ، بل في الحكم المطلق المستبد. فيحذِّر السياسيين ويغريهم معاً بالتماس ما يصلح حال الأمة الإسلامية ويمدِّنها. ويحذر الغافلين من المسلمين من تماديهم في الإعراض عما يُحمَد من سيرةِ غير المسلمين، والموافِقةِ لشرعنا، لمجرد ما طُبع في عقولهم من أن جميع ما عليه غيرُ المسلمين من السيَر والتراتيب يجب أن يُترك، وأن تآليفهم يجب أن تُنبَذ. ولذا يدعو إلى الاقتباس من الغرب.
لماذا؟ لأن المهم هو التمدن، والتمدن هو الحكمة. ويحتج بالسلف الصالح الذي اقتبس، وبالفقهاء المالكيين (أغلبية المغاربة على المذهب المالكي). ومن أمثلة الاقتباس منطق اليونان.ويحاجّ كثيراً في هذا الموضوع إذ كيف نشتري الملابس والسلاح والأثاث من الغرب، ثم لا نقبل اقتباس فكره؛ إنهم بهذا المسلك (استيراد السلاح واللباس...) يُفقرون البلاد. فلْنتعلمْ من الغرب كيف نصنعه خيرٌ من أن نستورده حتى إن الرسول الكريم أوصى خالد بن الوليد بمقاتلة أهل اليمامة بمثل سلاحهم: السهم للسهم والسيف للسيف.
يقول التونسي ولو أدرك الرسول هذا الزمان لأبدل ما قاله بالمدفع والسفينة. والمفكرون الأوربيون يقولون: إن الدول التي لا تنتفع بعلوم جيرانها تقع تحت سطوتها. ولقد كانت أوربا ضعيفة بعد انهيار روما إلى أن جاء شارلمان فاعتنى بالعلم , وبعد وفاته عادت أوربا من جديد إلى التخلف.
ماذا نقتبس؟ لا اقتباس من الدين المسيحي الذي هو أصلاً دينُ تبتُّلٍ وزهد، بل من التمدن الإفرنجي. وليست أوربا متقدمة بفضل مناخها، ولا بفضل الدين المسيحي البعيد عن السياسة. وهو يرفض رفضاً تاماً هدْم الذاتية العربية الإسلامية، وهدْم القضاء والعدالة الإسلامية بإحلال مجالس وقوانين أوربية في الوقت الذي يعارض فيه أيضاً موقف السلفيين المعارض لكلِّ تفتُّح على الغرب وحِوار معه " مُعرِضين عن استكشاف الأحوال الداخلية والخارجية، مكتفين بمقولة الرجوع إلى السلف الصالح"
ماذا نقتبس إذن؟ وكيف؟
نقتبس في حدود الشريعة الإسلامية، ونقتبس المعارف والتنظيمات الأوربية المؤسسة على العدل والحرية. وهما (العدل والحرية) أصلان في الشريعة الإسلامية الكاملة الرائعة. لقد كانت شريعة رائعة، ولكن الخلل بدأ في جسم الأمة منذ بدأت الانقسامات في صفوفها. وأكمل العثمانيون هذا الخلل بالجيش الإنكشاري. وزادها سوءاً التدخلاتُ الأجنبية.
إنه ضد التقليد الأعمى للغرب؛ يقول " من المحال نقلُ مؤسسات بلد ما إلى بلد آخر حيث طبائع البشر متغايرة، وكذا أخلاقهم وتربيتهم وظروف مناخهم. والمقلدون فشلوا لأنهم لم يجنحوا إلى إصلاحات جوهرية تتلاءم والحاجات الحقيقية للبلاد وطبائع سكانها"
يبدو واضحاً تأثُّر خير الدين بابن خلدون. ولا عيبَ في هذا فابن خلدون مفكر عالمي تأثر به الغرب، وكان رائد علم الاجتماع والاقتصاد. وهو تونسي أيضاً؛ فلا بد أن له في تونس مكانة خاصة. والفكرة التي يظهر فيها هذا التأثر واضحاً هي "الظلمُ مؤذِن بخراب الدول". إنه ضد الحكم المطلق، ضد العمل بالرأي الواحد، فهو مذموم ولو بلغ صاحبه ما بلغ من المعارف والكمال. ويستشهد بنابليون الأول، ويعقّب بتنديد الوزير الفرنسي "تيارس" بديكتاتورية نابليون قائلاً إن النصارى جُبِلوا على حب العدل بشهادة النبي الكريم. وإذا كان لابد من ديكتاتورية فلسبب ضروري، ولمدة مؤقتة.
وعلى العلماء معاضدة السياسيين لغرض إحياء القيم الإسلامية في حدود مراعاة الوقت في تنزيل الأحكام، وعليهم الاجتهاد دائماً في التشريع لأنه إلى جانب النصوص لابد من معرفة الأحوال التي تعتبر في تنزيل تلك النصوص. إنه الحكم المؤيَّد بقانون. وليس دعوة إلى نظام حكم معين. بل إلى جانب العدل والحرية ومشاركة أهل الحل والعقد للملوك في المسؤولية بموجب قوانين. وقد عارض السلفيون هذه الدعوة بحجة أنها تحدّ من سلطة الخليفة، ولاسيما حين تولى خير الدين منصب الصدر الأعظم في الآستانة؛ فيرد عليهم بالقرآن الكريم ﴿واجعلْ لي وزيراً من أهلي هارون أخي...﴾ (طه 20 /30). ويجوِّز خير الدين خلْعَ السلطان الجائر، ويقترح التعليم العالي لأبناء الأسرة الحاكمة. ويفهم الوزارة على أنها وزارةُ تفويض، لا وزارة تنفيذ.
ولا يكلّ خير الدين من الاستشهاد والتمثيل لموضوع العدل والحرية والديموقراطية. فالعدل عزُّ الدين، وبه صلاح السلطان، وقوة الخاص والعام. وبه أمْنُ الرعية وغيرهم. ومن أمثال الفرس " الملك أساس، والعدل حارس" والغزالي:" إنّ وليَّ الأمر يحتاج إلى ألف خطة، وكلها مجموعة في خصلتين إذا عمل بهما كان عادلاً، وهما عمران البلاد، وأمن البلاد".وابن العربي " المشاورة أصل في الدين، وسنة الله في العالمين، وهي حق على عامة الخليقة من الرسول إلى أقل الخلق". وقبل هذا وذاك قال عمر بين الخطاب" أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فلْيقوِّمْه! ".وقال علي بن أبي طالب " لا صواب مع ترك المشاورة".
ويستشهد بابن خلدون " الملك من آثار القوة الغضبية في الإنسان، ولذا أحكام صاحبه في الغالب حائدة عن الحق، مجحفة" وقد يوجد ملوك يُحسِنون التصرف دون أهل المشورة ولكنهم نادرون، وتزول حسنات هذا الملك بزواله. فالمشورة أجلَبُ لخير المملكة وأحفظُ له. وليست المشورة تضييقاً لسلطات الحاكم (الإمام). ويستشهد بفقهاء كثيرين كالتفتازاني والماوردي والأسفرائيني. ويمثِّل بصاحب بستان كبير فكيف يعرف بأحوال الشجر؟ وما يجب قطعُه، وكيف؟ فهل استشارته أحداً تضييق على حقه في بستانه؟
وليس وجود الوزير وحده ضمانة للمشورة؛ فهو إما أن يوافق الملك وحاشيته على أغراضهم وشهواتهم،وإما أن يخالفهم. فإن خالفهم فمِن أين يستمد الحق؟ ومَن يساعده في غياب شريعة نافذة تحميه من تحزُّب حساده ضده؟
وعلى العلماء تحمُّلُ مسؤوليات جسيمة؛ فعليهم تغيير المنكر، فلولاه لما استقام للبشر مُلك، ولأن الوازع ضروري لبقاء النوع الإنساني. ولو تُرِك هذا الوازع يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، لم تظهر ثمرةُ وجوب نصبه على الأمة لبقاء الإهمال على حاله. فلابد للوازع المذكور من وازع له يقف عنده، إما شرع سماوي أو سياسة معقولة. ولا يجوز للعالِم اختيار العزلة، فإذا فعل وسدّ الأبواب سدّ عن نفسه معرفة الأحوال، وفتح باب الجور للولاة. ولا يجوز له كذلك تفسير النصوص مجاراةً للحاكم.
ويخلُص خير الدين إلى أن الشريعة الإسلامية لا تنافي تأسيس التنظيمات السياسية المطلوبة لأسباب التمدن ونموّ العمران. بل إنه يعزو التمدن الأوربي إلى مخالطة الأوربيين للمسلمين في العصور الوسطى.
ونخلُص نحن إلى أن خير الدين كان في ذهنه إنشاء مجتمع عصري ديموقراطي، متعلم، متحضر، قائم على الحرية التي هي شرط ازدهار الاقتصاد. وقبْل هذا شرطٌ لأن تصبح الرعية مؤهلة لأن تنتخب ممثليها. والحرية توفِّر الأمان دون اغتصاب لأملاك الحرفيين والفلاحين: وعليه لا مانع من بناء المجتمع العربي على غرار المجتمع الأوربي في المناحي التالية:
- تسهيل المواصلات (الحديدية)
- تعاضُد الجمعيات المتجرية (غرف التجارة ومؤسساتها)
- الإقبال على تعلُّم الحرف والصنائع.
- تكوين الشركات الجَمعية (المساهمة)
- إحداث البنوك.
- إقامة المعارض التجارية المحلية والعالمية.
ولهذا لم يكن غريباً أن تتبنى الحركات القومية التونسية جُلّ آرائه. وتعتبره أباً للنهضة التونسية.
لقد فهم خير الدين فهماً عميقاً هذه المفارقة: أن تمارس أوربا الحرية في بلادها، وتمنعها عن مستعمراتها. فظل، وهو المعجب بالحضارة والعلم الأوربيين ونُظم الحكم، عدواً للمستعمرين الأوربيين، وظلوا أعداء له. ولم تلتبس عليه أوربا المتحضرة بأوربا المستعمرة. وهو الموقف الإشكالي الذي لم يدركه الكثيرون في عصره في حين أدركه متدينون صادقون، كرفاعة الطهطاوي في مصر، وجيل العقاد وطه حسين بعده.
ومما لا ينفصل عن موضوع الكتاب همُّ خير الدين الأول وهو الحرية والعدل، متابعتُه المستقصية للتقدم العلمي في أوربا، مؤرِّخاً لكل قرن أهمَّ علمائه وأهم مكتشفاته، من كوبرنيك وغاليليه وباسكال ومونتسكيو وروسو وفولتير. ومن البوصلة إلى المطبعة، إلى كشف أمريكا، إلى المجهر، إلى تلقيح الجدري، إلى الطيران. ومتابعتُه نُظُمَ التعليم في مثل فرنسا ومناهجَه، واهتمامه بالمجامع العلمية والطبية والأدبية... حتى أعداد الكتب في مكتبات أوربا العامة، وما يُصيب الفرد الأوربي من مكتبات بلاده، في إحصاءات دقيقة كالتي نقرؤها اليوم، فلكلِّ مئة فرد في إيطاليا 11.7مجلداً، وفي النمسا 6.9 وفي بافاريا 26، وأغناها فرنسا.
هذا غيض من فيض هذا الرجل الذي منح كل هذا الإخلاص والتضحية لوطن لم يولد فيه، ولكنه قدّره حقَّ قدْرِه، فلقبّه بباني تونس الحديثة، الرجلِ الذي تظل أفكاره صالحة لكل زمان ومكان ما دام التخلف قائماً، ومادام الصراع بين القديم والجديد، بين الحق والباطل.
* منشورة في مجلة الجمعية الخيرية الشركسية بدمشق.