دليل عمل المثقف الإيجابي من خلال مقدمات ابن المقفع
تروي كتب التاريخ بإعجابٍ خبرَ اختفاء الكاتب الشهير عبد الحميد الكاتب على أثر انهيار الدولة الأموية التي كان كاتب (سكرتير) أواخر خلفائها عند صديقه ابن المقفع. فلما ضبط جلادو الدولة العباسية الرجلين معاً سألوهما: مَن مِنكما عبد الحميد؟ فأجاب الاثنان معاً: أنا!
وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى نبلاً أخلاقياً من ابن المقفع، وهذا ما لا شكَّ فيه. ولكن يتبين لدى تفحُّص سيرة حياته أن الأمر يتعدى مجرد النبل إلى صفة نادراً ما توفرت لدى المثقفين، وهي عدم الانفصام بين فكر الكاتب وسلوكه.
لا يدهش من يقرأ مترجمات هذا الرجل ومؤلفاته لهذه الجرأة النبيلة، فقد ترجم كتاب " كليلة ودمنة "، وهو كتاب في سياسة الملوك على ما يعرف كلُّ من قرأه أو قرأ عنه، ولاسيما بابه الأول: الأسد والثور. وألّف الأدبين الكبير والصغير في علاقة الحاكم بالمحكوم. وكتب " رسالة في الصحابة" وجهها إلى أحد الخلفاء العباسيين الأوائل، وهو المنصور على الأرجح، محاوِلاً في هذه المرحلة المبكرة للحكم العربي وضْعَ ما يشبه الدستور للدولة الجديدة، منبِّهاً الخليفة، في أسلوب جافٍّ أحياناً يصل إلى حدّ استعمال صِيَغ الأمر والنهي، قليلِ المدح، خلافاً لأدباء عصره (1)، على ما يجب فعله تجاه مظاهر الفساد والضعف في الدولة من مشاكل الجند والمالية والقضاء، والحاشية المحيطة بالخليفة، ومن هنا أخذت الرسالة عنوانها " رسالة في الصحابة " يعني صحابة الخليفة، لا الصحابة بالمعنى الذي في الأذهان، أي باختصار: سلطات الإمام، والجيش، والخزينة. والقانون الموحد والإدارة السياسية.
ولكن المبهرَ في أعمال ابن المقفع، على قلة ما وصلَنا منها، مقدماتُها. إن المؤلف واضح منذ البداية في عصر كان للوضوح فيه ثمن غال، وقد دفعه. فهو يكتب في مقدمتين غير طويلتين لكليلة ودمنة، وللأدبين الكبير والصغير دليل المثقف الفاعل في مجتمعه.
ينطلق الكاتب من أن لكل إنسان سوِيٍّ نصيباً من العقل هو أثمن ما عنده. ولكن هذا النصيب وحده لا يكفي، فلا بدّ من إعداده للعمل وإيثاره على الهوى. فالفكر الخامل ينتهي إلى العدم، وكذلك الفكر المغلوب بالهوى. والناس متساوون في الحب لما يوافق والبغض لما يؤذي. فتلك ملَكاتٌ أولية ومنزلة مشتركة. ثم يختلفون في ثلاث خصال " هن جِماع الصواب وجماع الخطأ، وعندهن تفرقت (تميزت) العلماء والجُهال والحَزَمة والعَجَزة " (2)
فأوّلُها أن العاقل ينظر في ما يؤذيه وفي ما يسرّه، فيعلم أن أحقَّ ذلك بالطلب، وأحقَّه بالاتِّقاء أطوَلُه وأدوَمُه. فيفضِّل سرور المروءة على لذة الهوى، ويفضل الرأي الجامع الذي تصلح به الأنفس والأبناء والأحفاد على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلاً ثم يضمحِلّ. وثانيها أن ينظر في ما يفضل من ذلك فيضع الرجاء والخوف فيه موضعه، فلا يجعل اتِّقاءه لغير الخوف، ولا رجاءه في غير المدرَك. فيتوقّى عاجل اللذات طلباً لآجلِها. ويحتمل قريب الأخرى (المخوف) توقياً لبعيده. وثالثُها هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوَمُ، وبعد التثبُّت في مواضع الرجاء والخوف. (3)
والعقل ليس كسائر أمور الدنيا من مال وسلطان، فتلك يمكن للمتواني أن يدرك شيئاً منها. وغريزة العقل مكنونة في القلب حتى يعتملها الأدب الذي هو ثمارها. ويتم إحياء العقل بسبع خصال هي الإيثارُ بالمحبة فإنها تُبلِغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء. والمبالغةُ في الطلب فإن الناس لا يُغنيهم حبهم ما يحبون عن طلبه وابتغائه. والتثبُّتُ في الاختيار والاعتمادُ (التوجه - الاختيار) للخير فإن الطلب وحده لا ينفع إلا مع التثبت، فكم من طالب رشد وجده والغيَّ معاً، فاصطفى منهما الذي منه هرب. والحفظُ والتعهّدُ للعقل فهو تمام الدرْك لأن الإنسان ينسى كثيراً. ثم وضعُ ذلك كلِّه موضعه قولاً وفعلاً، فالمنافع كلها تصير إلى وضع الأشياء مواضعها، فإننا لم نوضَع في الدنيا موضوع غنىً وخفضٍ (راحة)، ولكن بموضوع فاقة وكدٍّ، فليست حاجتنا إلى الطعام والشراب أكثر من حاجتنا إلى الأدب الذي به تتفاوت العقول. (4)
وبناء على هذه المقدمات ينقسم من يتصلون إلى العقل والعلم في رأي ابن المقفع إلى ثلاثة أصناف:
1 – صنف الواصفين، وهم الذين يُكثِرون الكلام دون معرفة حقيقته.
2 – صنف العارفين، وهم الذين يعرفون، ولكن لا يفعلون شيئاً.
3 – صنف العارفين الفاعلين.
وإلى هذا الصنف الثالث من المثقفين يتوجه ابن المقفع، أو لِنقلْ: يهتم الكاتب بأن يتحول الصنفان الأولان إلى هذا الثالث. إنه يرى أن مهمته، بوصفه كاتباً، هي إرشاد الناس عموماً، إلا أن مهمته الضيقة، أو بالأحرى رسالته، هي خلق الصنف الثالث.
وأول ما ينبغي للمرء في خطة ابن المقفع أن تكون له غاية ينتهي إليها " فإنه من أجرى إلى غير غاية أوشك أن يكون عناؤه فيه، وهو حقيق ألا يعنّي نفسه بطلب ما لا يجد " (5) ولا ينفي الكاتب إمكان الوصول إلى الغاية مصادفةً فليس كل ما في الوجود معقلَناً، ويبقى للمصادفات مكانها، و" ربما أصاب الرجل الشيء وهو غيرُ راجٍ له... فليس ينبغي لأحد أن ييأس، ولا يطلب ما لا يُنال، ولكن لا يدع جهداً في الطلب على معرفة، فإن الفضل والرزق يأتيان من لا يطلبهما. ولكن إذا نظر في ذلك وجد من طلب وأصاب أكثر ممن اصاب بغير طلب. ولكن يقتدي بالكثير الذين طلبوا فأصابوا " (6)
ثم على العاقل أن يُكثِر المقايسة وينتفع بالتجارب. فإذا أصابه الشيء فيه مضرّة عليه حذِره وأشباهه. وقاس بعضه على بعض حتى يحذر الشيء بما لقي من غيره، فإنه إن لم يحذر إلا الذي لقي بعينه لم يُحكم التجارب في جميع عمره. وينبغي له مع ذلك أن يحذر ما يصيب غيرَه من الضرر حتى يسلم من أن يأتيه مثلُه " (7)
ولا يعيب المرء أن يتعلم من غيره. فهو يقتدي بالصالحين والحكماء. ولا يغمطه هذا الاقتداء شيئاً من قيمته. ويميل ابن المقفع إلى أن العلم هو ما عند الأقدمين، وأن أصوله من الله اودعه عباده، ثم هم يتناقلونه جيلاً بعد جيل. وليس هذا التوجه من ابن المقفع إلى القديم مستنكَراً فهو سليلُ ثقافة وحضارة عريقتين، ووريثُهما الأدبي والفكري. غير أن المرء في رأيه يجب ألا يكون أعمى في هذا الانتفاع وهذا الاحتذاء، فليس عليه أن يصدّق الأمرَ لِما يرى من تصديق غيره. و"ينبغي له ألا يقبل من أحد وإن كان صَدوقاً إلا صِدقاً" (8). وعليه كذلك " إذا التبس عليه أمر ألّا يلِج في شيء منه، ولا يُقْدم عليه قبل أن يستيقن الصواب منه، فيكون كالرجل الذي يجور عن سنن الطريق فيسير على جوره وعلى الاعوجاج، ولا يزداد في السير حثاً إلا ازداد عن الطريق بعداً "(8)
غير أن هذا النضج المعرفي والعقلي ليس غاية النهاية وإنما على المثقف واجبات: أولها أن ينتفع هو بعلمه كما ينتفع الآخرون وإلا فهو بمنزلة العين التي ينتفع الناسُ بمائها وليس لها من تلك المنفعة شيء " (9). وثانيها أن ينفع الناس، فالعقلاء من أهل كل زمان لم يزالوا يلتمسون أن يُعقَل عنهم، ويحتالون لذلك بصنوف الحيل. وهذا الالتماس هو ما يدعو كلَّ كاتب أن يكتب، أو لعله يجب أن يكون وراء كل محاولة للكتابة. وثالثها أن يقرن العلم بالعمل " والعلم هو الشجرة، والعمل هو الثمرة " ومسؤولية العالم الذي يرتكب الخطأ لا تقاس بمسؤولية الجاهل " فأقل الناس عذراً في ترْك الأعمال الحسنة [ هو ] من قد عرف فضلَها وحُسْنَ عائدتها وما فيها من المنفعة، وليس يعذره أحد على الخطأ كما لو أن رجلين أحدهما أعمى والآخر بصير وقعا في جُبٍّ فهلكا جميعاً لكان البصير عند العقلاء أقلّ عذراً من الأعمى" (9).
...
وبعدُ، فكيف يقرأ الإنسان كتاباً؟
من الكتب ما له مستوى وحيد من القراءة والقُرّاء كأن يكونَ المضمون سطحياً مبتذلاً فيقرأَه السخفاء للهوه، أو يكون عميقاً أحادي الموضوع تخصصياً فيقرأه المعنيّ به. ولكن هناك نوعاً ثالثاً هو الذي يخلد لتعدد مستويات قراءته وقرائه، مثل "كليلة ودمنة ". إن مثل هذا الكتاب يحقق أكثر من هدف:
1-فالمؤلف يوجِد لنفسه متصرَّفاً في القول وشِعاباً يأخذ فيها دون أن يعني هذا مباشرةً الكتابة الرمزية لمجرد الخوف من السلطة الحاكمة. وقد يكون هذا السبب حقاً أحد أهمِّ الأسباب ولكن يتضافر معه السبب الفني.
2- أما السخفاء، يعني عامة القراء بلغة ذلك العصر، فيجدون فيه ما يُمتِعهم.
3 – وأما المتعلمون من الأحداث فينشطون لعلمه، ويخفّ عليهم حِفظُه. فإذا احتنكوا بالتجارب والعمر، واجتمع لهم لأمرُهم، وثاب إليهم عقلهم، وتفكّروا في ما كانوا حفظوا منه، عرفوا أنهم ظفروا من ذلك بكنوز عظام " فكان كالرجل الذي يدرك (يبلغ سن الإدراك) فيجد أباه قد كنز له من الذهب والفضة، واعتقد (جمع) له ما استغنى به عن استقبال السعي والطلب " (10)
وعلى قارئ هذا الكتاب أن يبتدئ فيه بقراءته قراءة جيدة، ويتثبّت مما يقرأ، ولا تكون غايتُه منه بلوغَ آخره قبل الاحتكام له. فليس ينتفع بقراءته ولا يفيد منه شيئاً. ولا يجوز للقارئ أن يجاوز شيئاً إلى غيره حتى يُحكمه ويتثبت فيه. ولا يجوز أن يظن أنه إذا أحكم القراءة وعرف ظاهر القول فقد فرغ مما ينبغي له أن يعرف منه. ولا يستطيع قارئ أن يستمتع بأدبٍ إن لم يفهمه فهماً حسناً.
إن الصورة المشوَّهة التي رسمتها بعض الأوساط الأدبية والفكرية قديماً وحديثاً لابن المقفع، أعني صورة المفكر الشعوبي أو الزنديق، يجب الا تحجب عنا الصورة الحقيقية لهذا الرجل الذي ظهر في زمن إرهاصات المعتزلة، زمن البداية الحقيقية للفكر العربي الإسلامي.
الأسبوع الأدبي العدد 502 شباط1996
الحواشي:
- مقدمة المستشرق الفرنسي شارل بيلا لترجمته لرسالة في الصحابة. باريس 1979. ص 3.
- الأدب الكبير والأدب الصغير لابن المقفع. دار الشواف. الرياض ط1 1989. ص 49.
- م. س 53 – 59.
- م. س 46 – 47.
- كليلة ودمنة ص9.
- م. س. ص 1.
- م. س. ص 10.
- م. س. ص 11.
- م. س. ص 7.
- م.س. ص 4.