رأي قديم جديد في الفصاحة
نطرح على طلابنا في امتحان الثانوية العامة هذا السؤال التقليدي: تحدث عن اثنتين من صفات الألفاظ في النص، ومثِّل لكل منهما من النص. فيعلّم المدرس الحاذق طلابه طوال العام الدراسي عدداً من الأجوبة الجاهزة الملائمة: سهلة، صعبة، جزلة... وللتمثيل ينتقي الطالب كلمة من الكلمات المشروحة في أسفل النص، فلا بد أن تكون صعبة، وكلمة لم تُشرح فلا بد أنها سهلة، وأي كلمة لا بد أنها قبيحة...
ويتصدى بعض الهواة لهذا الموضوع فيبجون المقالات ويبتدعون النظريات في جمال الألفاظ، وصفاتها الموسيقية، وطاقاتها ومخزوناتها.
إلى هؤلاء وأولئك أسوق اقتراحين:
أولهما أن يوحدوا جهودهم فيفرزوا الألفاظ بعد العودة إلى خصائص الأصوات العربية التي نسميها خطأً بالحروف، من جهر وهمس، وقلقلة وإخفاء... وهي صفات مبذولة في مؤلفات القدماء، وفي كتب التجويد، إلى ألفاظ من النوع الفاخر، وأخرى من الصنف الجيد، وغيرها من المتوسط فالرديء. وضاربين عُرض الحائط بقول الإمام الجرجاني في "دلائل الإعجاز (ص 39 -4)" فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب في ذلك حالٌ لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم لما اختلف بها الحال، ولكانت إما أن تحسُن أبداً أو لا تحسن أبداً"
وبهذا الفرز يتوفر لدى الكتّاب والشعراء وفرٌ من الألفاظ يختارون منه ما يحتاجون. ويكملون بهذا صنيع الهمداني في كتابه "الألفاظ الكتابية" الذي أراد أن يسهّل به على ناشئة زمانه صناعة الإنشاء، وصنيع المعجميين العرب الذين صنّفوا موادّ معاجمهم حسب أواخر الكلمات فسهّلوا على الشعراء اصطياد القوافي.
وثاني الاقتراحين أن يتأملوا في مقولة علم اللغة المعاصر "اللغة ظاهرة اجتماعية"، وهي مقولة رسّخها اللغويون العرب منذ أكثر من ألف سنة. فقد ظهرت في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي نتيجة الرقي العقلي الذي بلغه اللغويون العرب – ولاسيما المعتزلة منهم – مدرسة يطلقون عليها اسم مدرسة أبي علي الفارسي، تزعّمها الفارسي نفسه، وأكملها تلميذاه الجليلان ابن جني الذي درس اللغة دراسة تطورية تعاقبية في كتابه الشهير "الخصائص" وعبد القاهر الجرجاني، الذي له قرابة ما مع الفارسي، في كتابه الأشهر "دلائل الإعجاز" الذي درس اللغة دراسة سكونية تزامنية، فأكمل عمل سلفه.
تتلخص مدرسة الفارسي من الناحية الاجتماعية في ما يلي:
- اللغة ظاهرة اجتماعية أوجدتها حاجة الناس إلى التواصل في ما بينهم، ولذا ظهرت اللغة منذ أن ظهرت كلاماً، لا كلمات مفردة. والكلام هو المسند إليه والمسند، وهو الجملة النحوية تجاوزاً. أما الكلمة فهي الاسم والفعل والحرف.
- لا تتفاضل الألفاظ من حيث هي ألفاظ مجردة، بل تتفاضل في حسن ملاءمة معنى اللفظة لجاراتها، وهذا هو السبب في أن اللفظة قد تكون في غاية الفصاحة في موضع، وليس فيها عينها من الفصاحة قليل أو كثير في مواضع عديدة أخرى.(دلائل الإعجاز ص 38)
ومثّل الإمام الجرجاني لهذا بأكثر من مثال، منها لفظة "الأخدع" (عِرْقٌ في جانب العنق) في بيت الحماسة:
تلفّتُ نحو الحيِّ حتى وجدتُني وجعتُ من الأصغاء ليتاً وأخدعا
وفي بيت أبي تمام:
يا دهرُ قوِّم من أخدعيك فقد أضججت هذا الأنام من خرقك
فيستحسنها في الأول، ويستثقلها في الثاني.
ولفظة "الشيء" في بيت أبي حية النميري:
إذا تقاضى المرءَ يومٌ وليلةٌ تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا
وبيت المتنبي
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه لعوّقه شيء عن الدوران
فيرى فيهما ما رآه في المثال الأول.
ونسوق مثالاً أخيراً من أمثلة الجرجاني لتوضيح فهْمِ اللغوي الذوّاقة للفصاحة، وهو قوله تعالى ﴿وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي﴾(هود 44). يقول الجرجاني: هل ترى لفظة منها بحيث لو أُخِذت من بين أخواتها وأُفرِدت لأدّت من الفصاحة ما تؤديها وهي في مكانها من الآية؟ قل "ابلعي" واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وما بعدها. وكيف بالشكّ في ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة في إن نوديت الأرض بـــ "يا" دون "أيّ"، أي نحو "يا أيتها الأرض" ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: "ابلعي الماء.." (دلائل الإعجاز 36 – 37)
- الألفاظ أوعية للمعاني وخادمة لها، والفصاحة تكون في المعنى، والمزيةُ التي يستحق اللفظ من أجلها الوصف بأنه بليغ عائدة في الحقيقة إلى معناه. وهو أساس ما نسميه اليوم بالتلازم بين الشكل والمضمون، وهو تجاوُز لبعض النقاد القدامى من أمثال ابن قتيبة الذي قسم الشعر إلى أربعة أضرُب: ما حسُن لفظه ومعناه، وما ساء لفظه ومعناه، وما حسن لفظه وساء معناه، وما ساء لفظه وحسن معناه.
إن بحث البلاغة والفصاحة بتجاوز منجزات اللغويين العرب القدامى أشبهُ ما يكون بتعلُّم الرياضيات بحبات الفول والحمص في الوقت الذي يستعمل فيه أطفال المدارس الابتدائية الآلات الحاسبة.