رسالة الغفران
فانسان منصور مونتيل[1]
يحمل أبو العلاء لقب المعري نسبةً إلى مسقط رأسه معرة النعمان في شمال سورية، حيث أمضى معظم حياته، وحيث توفي عام 1057م. وقد عاش خمساً وثمانين سنة حياة فقيرة بإرادته، معتزلاً، زاهداً، نباتياً؛ في ما يسميه هو بالسجن الثلاثي: سجنِ البيت، وسجن العمى الذي أصابه في سن الرابعة، وسجن الجسد العاجز[2]. وكان هربه الوحيد من هذا السجن، في ما نعرف، إقامةً قصيرة في بغداد مدة عام وسبعة أشهر، وذلك سنة 1008 م وهو في الثلاثين. ولا يُعرف الكثير عن لقاءاته ونشاطاته في المدينة التي ربما كانت تعُد مليون نسمة، والأولى في العالم.
أكان حقاً فقيراً؟ لم يكن، بشهادة الفيلسوف الإيراني الإسماعيلي ناصر خسرو الذي زار المعرة عام 1047، وكان المعري آنذاك قريباً من السلطة المحلية (كان قد رفض بلطف عروضاً مغرية بالذهاب إلى مصر والإقامة فيها) وكان المعجبون به وتلاميذه يخدمونه أحسن خدمة، ووجده [ خسرو ] ذا ثروة يوزعها على الفقراء. ولم يكن هو نفسُه محتاجاً إلى شيء، يلبس المسوح[3] وحرّم على نفسه اللحم والسمك بل البيض والحليب، مكتفياً بخبز الشعير مع قليل من التمر، زاهداً في الجنس بسبب كراهيته الضارية للنساء. ويحمّل النص الذي على شاهدة قبره والده جريمة إنجابه، وهو ذنب لا يُغتفر، لم يقترفه الشاعر بحق غيره:
هذا جناه أبي عليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي وما جنيت على أحدْ
بقي عازباً بعد أن نُبِذ مدة طويلة، إن لم يكن لإلحاده، فعلى الأقل لهرطقته[4] أو لكونه مفكراً حراً يؤلف مجموعة أفعال متشائمة متهكّمة وصل منها إلينا خمسةٌ من أصل ستين عنواناً معروفاً عدا الرسائل التي ترجمها ونشرها د. س. مرجليوث عام 1899. وسِقْطُ الزَّند أول عمل زمنياً جلب له الشهرة، وهو عملٌ من أعمال الشباب يتألف من أشعار غنائية في الرثاء والمديح متأثرة بالمتنبي (ت 843). وربما كان العمل الثاني مما وصلنا هو " الفصول والغايات " الذي يشبه نصائح مسجوعة ومشروحة قد تكون مخطَّطاً إجمالياً لـــ " اللزوميات " المتأخرة عنها. وقد شاء أعداء الشاعر أن يروا في الفصول والغايات تقليداً مدنّساً للقرآن. ولكن ما الذي عناه المعري بقوله " إنها ستبقى المشكلة التي لم تُحلّ". والعنوان الثالث هو "اللزوميات"، وهي أشعار طويلة التزم فيها ما لا يلزم، فبشّر المعري بسبقٍ مثالُه هذا الشعر. وقد أمكن لعلماء أوربا أن يقرؤوا مقتطفات منها مع ترجمتها اللاتينية في "قواعد العربية " لتوماس إيربينيوس (ليدن عام 1656). والعمل الرابع هو رسالة " الصاهل والشاحج " التي اُكتُشفت في القاهرة عام 1974، ونُشرت عام 1975 وقُدِّمت مع ترجمة إنكليزية قام بها بيتر سمور. وهذه الرسالة حوار هزلي في زمن كانت تتكلم فيه البهائم. والعنوان الخامس أخيراً، وهو ما يهمنا هنا هو "رسالة الغفران" تعود كتابتها، احتمالاً، إلى عام 1033 قبل خمسة وعشرين عاماً من وفاة الكاتب. وهو عملٌ يقرِّظه كل العرب والناطقون بالعربية والمستعربون. ولكن قليلاً من الناس قرؤوه كلمة كلمةً، وجملة جملةً.
وقد أمكن أخيراً بلوغ هذه القطعة التي تعدّ أهم أعمال المعري في نشرة عربية محققة. وكانت قد نُشرت مرات عديدة في القاهرة منذ عام 1954، تعود إحداها إلى الدكتورة في الآداب عائشة بنت عبد الرحمن التي تكتب باسم مستعار هو "بنت الشاطئ". وهذا النص الكامل الذي قدمته بنت الشاطئ لا يمكن تجاوزه، وعليه اعتمدنا في هذه الترجمة إلى الفرنسية. ونشرة بنت الشاطئ لرسالة الغفران بمقدماتها الطويلة وفهارسها التفصيلية وحواشيها (نوقشت الرسالة عام 1950 بإشراف طه حسين) تحفة رائعة من 633 صفحة. والحق أن الرسالة نفسها لا تشغل إلا 455 صفحة (و129 صفحة من أصل 548 في نشرة 1977) نصفها تقريباً (320 صفحة) هو المتن، والبقية ملاحظات كثيرة جداً.
والرسالة مقسومة، لمزيد من التسهيل، إلى أربعة أقسام: الرسالة التي وجّهها أديب من حلب يُدعى ابن القارح إلى أبي العلاء، وحوار بين الأموات من الشعراء الكفار ولكن المغفور لهم، ومن هنا أتى عنوان الرسالة، وبحث في الصور الرئيسة والموضوعات التي تناقش في داخل الحركة الهرطقية للزنادقة (أي الثنويين المسلمين ظاهرياً والمانويين إلى حد ما)، وأخيراً عودة إلى نقطة الانطلاق: رسالة ابن القارح التي تناولها المعري نقطة نقطةً بأدلّتها وجملها.
هذه إذن مجموعة خليطة جداً تكمن في ترجمتها صعوبة كبيرة. وهذا ما يفسّر أن أربع محاولات فقط، رغم أنها جزئية، هي التي رأت النور إلى الآن. إن رسالة ابن القارح التي يلتمس فيها من المعري الإجابة – وابن القارح بالمناسبة ولد في حلب عام 962، وهو العام الذي استولى فيه على حلب عنوة الخادم[5] le domestiqueالإغريقي – البيزنطي نقفور فوكاس – حللها بالتفصيل ريجيس بلاشير، ولكنها لم تترجم ترجمة علمية كاملة مع نشرة محققة للنص العربي ودراسة معجمية إلا عام 1980 من قِبل ميشيل ديشيو.. غير أن الجزء الثاني الذي هو كلام المعري هو الذي تُرجم أكثر من غيره ولو أنها ترجمة غير كاملة؛ فقد نُقل مرتين إلى الإنكليزية، أولاهما ترجمة رينولد نيكسون عام 1900، ثم ترجمة بركنبري عام 1942. وترجم مرة واحدة إلى الفرنسية بقلم م. س. ميسا عام 1932 مع تقديم لـــ وليام مارسيه. وموضوع هذا الجزء حوار بين أموات ينسبهم أبو العلاء إلى شعراء قدامى في فردوس غنائي أهمُّ سماته كثرة الطعام، حيث يُفترض ابن القارح ميتاً اعتباطاً، ويقوده [المعري] سلفاً في نزهة إليها.
والجزء الثالث هجوم يقوده المعري، بعد ابن القارح، على المهرطقين المانويين (الزنادقة). وسنرى أن النص يقدم، بين فوائد أخرى، فائدة توضيح دين المعري نفسه. وحسب علمي فإن نيكسون فقط هو الذي قدم له في عام 1902 ترجمة إنكليزية ولكنها غيرُ كاملة تعتمد على مخطوطة وحيدة وغير صحيحة كانت في حوزته كما يقول. فلا غرابة إذن في ما فعلته بنت الشاطئ حين عثرت فيها على الكثير من الأخطاء. ولنيكلسون وحده، بعد كل هذا، الفضل في لفت الأنظار إلى نص كان شبه مجهول في ذلك الوقت خارج العالم العربي.وقد تعثّر أحياناً ككل رائد؛ ولكن من يستطيع أن يحمل عليه لهذا السبب؟!
والجزء الرابع والأخير رجوعٌ إلى ابن القارح، أي استئنافٌ للموضوعات الأساسية التي يعرضها الشيخ في رسالته. يشرحها أبو العلاء بشيء من المكر. وهذا التقسيم إلى أربعة أجزاء، وكذلك العناوين الداخلية، غائبةٌ بداهة عن الأصل العربي، فهي من إضافاتي، ورتبتها هكذا لتسهيل القراءة التي تبقى رغم ذلك صعبة، فقد وجب تشذيب التكرارات المـــُـضجرة، واختصار أبيات الشعر المملة واللامتناهية، وحذفُ بعض الأشعار غير المفيدة وغير المهمة معاً.
ألم يكن المستعرب الكبير وليام مارسيه يشجع سلفاً المحاولات التي تشبه محاولته حين كتب تقديماً للترجمة التي قام بها م. س. ميسا للجزء الثاني من الرسالة بتصرفٍ لبق، والتي وضع عنواناً ذكياً لها "حوار الأموات "، فقد كتب مارسيه: "إن ترجمة تامة للرسالة مستحيلة في رأيي" فالمناقشات التي تدخل في باب فقه اللغة، والتي تشغل من الرسالة حيزاً واسعاً لا يمكن أن تترجم. وفضلاً عن ذلك فهناك زوائد يمكن أن تنفِّر غير المختصين، سواء كانوا من الغرب أم من الشرق؛ والحال أنه إلى هذا الجمهور تحديداً تتوجه هذه المجموعة المعنونة بــــ " معرفة الشرق" التي تستقبل اليوم الترجمة الفرنسية الحالية.
يصطدم جهد المترجم أولاً بالشكل المتكلَّف في الكتابة، والذي يشترك فيه ابن القارح وأبو العلاء. وهذا الشكل الذي قصده هذا وذاك من النثر المسجوع في القرآن الكثير منه، ولكن استعماله، كما يقول ريجيس بلاشير، " لم يساعد مطلقاً على التعبير الواضح عن الفكر في اللغة العربية، وهذا هو أيضاً رأي السير هاملتون جيب الذي يرثي " هذا الأسلوب الثقيل من النثر المسجوع الزاخر بتلميحات وزخرفات أدبية "
إن حمْل النفس على نقلِ النص العربي المسجوع إلى فرنسية مسجوعة سيكون نوعاً من التمرين على أسلوب متحذلق وعبثي معاً. ورغم ذلك حاولت هذا أحياناً. وقد انتقد ابن خلدون (ت 1406) هذه الطريقة المتكلَّفة " كان شيوخنا يعيبون شعر المتنبي بعدم النسج على الأساليب العربية فكان شعرهما (هو والمعري) كلاماً منظوماً هابطاً عن طبقة الشعر".[6] ولكن العقبة المستمرة هي التتابع المستمر للسجع الذي يجر أبا العلاء إلى تجميع الكلمات الغريبة النادرة، والتي لا تظهر إلا مرة واحدة وتغيب عن المعاجم. وينضم إلى هذا السجع متطلبات المفاخرات النحوية، وهذه الكلمات مقتبسة غالباً من لهجات قديمة للبدو كانت، على ما يُفترض، أنموذج الاستعمال الصحيح للغة، ولكنها انقطعت عن هذا منذ قرن على الأقل. إن الغموض يقود إلى طرق مسدودة، ووجب عليّ، كما على آخرين قبلي، أن أترجم بالفطنة، أو بالحدس كما كان يقول بلاشير، أو في ترجمة تخمينية كما يقول شارل بيلا. وتجهد بنت الشاطئ في نصِّها العربي المحقَّق والمراجَع فضلاً عن ذلك، والمصحَّح في كل طبعة جديدة من طبعاتها الثماني، والتي استعملت منها طبعة 1977، وهي الطبعة قبل الأخيرة، تجهد في حواشيها لتشرح وتسوِّغ اختيارها بين الطبعات المتنوعة. ولكن يتردد المرء أحياناً في متابعتها في ما تبقّى من افتراضات نبذتها، ووجدت نفسها، ككل الناشرين العرب، تنقاد إلى أن تقترح هنا وهناك قراءة محتملة تعتمد على تغيير الكلمات غير المفهومة، بتغيير النَّقْط الذي يحيل الحرف إلى حرف آخر بنقلها من فوق إلى تحت أو بالعكس[7]. وبهذه الطريقة يمكننا أن نقرأ في أحسن الأحوال شيئاً ما تقريبياً بغضِّ النظر عما هو في الحقيقة.
ولكن هذا ليس كل شيء فإن كثرة الشواهد الشعرية لشعراء مجهولين غالباً، أو لا يُتحقَّق من أشخاصهم بدقة هو مصدر إرباك، ولاسيما أن المعري يعطي الأفضلية غالباً جداً للصيغ النحوية على حساب المعنى الحقيقي. وهذا ما تشعر به عندما يناقش نقاشاً لا نهاية له نقاطاً صغيرة جداً من إعراب الكلمات وتصريف الأفعال. وكان مارسيه يقول في مثل هذا " إنه متكلَّف وممتع، ولكن ربما يسخر من حذلقته الخاصة وهو يشرح نفسه بحذلقة مسنودة بالشواهد، ويُسَرّ بعرض تبحُّرِه الخارق في فقه اللغة، ولكنه يرمي فقهاء اللغة وفقه اللغة نفسَه بسهام لاذعة". وفي كل الأحوال هو نصٌّ مُلغِز مثل نص "رسالة الغفران"، فلا إدراكُه سهلٌ ولا قصْدُه واضح. واللغز الذي يعرضه على ذكاء الباحثين لا ينحلّ بسهولة، ولاسيما أن أبا العلاء يعبد الهُراءَ، والمعاني المزدوجةُ إحدى تسلياته المفضَّلة، حتى إنه يقترح وهو يضحك سراً ألغازاً حقيقية.
ينوّع المعري الإشارات إلى حوادث غامضة تقريباً وإلى شخصيات كثيرة يصل عددها إلى 530 شخصاً تبعاً لدليل بنت الشاطئ يجب التأكد منها. وقد اهتمت بها جداً بنت الشاطئ في حواشيها، وهذا ما ليس سهلاً علينا لأن مؤلفنا قلما يعطي الاسم الكامل الذي يتضمن في العربية أربعة عناصر: خيط النسب كأحمد بن عبد الله بن... والكنية (أب، أم) أبو القاسم مثلاً، واللقب الذي قد يكون غير دقيق ولا يمكن بلوغه مثل ما كان يستعمل في الفرنسية القديمة من نحو: فيليب الجسور أو فيليب الجميل، وأخيراً الصفة التي تتعلق بالأصل أو بالجغرافيا كالمعري (نسبة إلى مدينة معرة النعمان). وأسماء المواقع نفسها (172 موقعاً تبعاً لبنت الشاطئ) يصعب أحياناً تحديدها. أما التواريخ فهي نادرة جداً باستثناء التاريخ الذي ذكره المعري نفسه كما لو كان تاريخَ إملاء الرسالة. ومن المفهوم أنه يجب تحويلها من التاريخ الهجري إلى المسيحي. والآيات كثيرةٌ خرّجتْها بنت الشاطئ في الحواشي، لا داخل المتن، وعلينا ترجمتها والاختيار أحياناً بين عدة ترجمات. وكان عليّ عند الضرورة أن أشرح سبب اختياري. وهذا ما يسوِّغ العدد الكبير من الحواشي التي للقارئ أن يعود إليها أو يهملها.
ومع ذلك يجب ألا يُفهم أني ترجمت ببساطة الحواشي الغربية لبنت الشاطئ؛ فقد تعيَّن علي أن أبحث في مكان آخر عن مراجع مباشرة في مظانّها الممكنة البلوغ. وقبل كل شيء المرجع الذي لا بديل له وهو تاريخ الأدب العربي لبلاشير، الذي أُكمل بعد وفاته بمجمعة ملحقة من المقالات، ونُشر بدمشق عام 1975. وكما هو دائماً يجب أن يوضَع في الاعتبار الطرق التي فتحها لويس ماسينيون. وفي هذا الخصوص فالطبعة الثانية المراجعة والمصححة لأطروحته الضخمة عن الحلاج فريدة من نوعها، وقد استفدنا منها إلى أقصى حد ممكن.
ولكي ننتهي من مسائل الشكل يجب ألا ننسى أنه كان لابن القارح أكثرُ من سبعين سنة، وكان يشتكي من أنه لا يكاد يرى، وأن أبا العلاء، نظراً إلى أنه أعمى، كان عاجزاً عن القراءة والكتابة والمطابقة وعن استعمال البطاقات، اكتفى بالإملاء، أي اللجوء إلى ذاكرته الغنية، والاعتماد على كاتبه، وهي حالة من التبعية يُذكِّرنا بها دون أن يشكو منها في نهاية الكتاب. وعلى هذا فأسلوبه محكيٌّ أكثر مما هو مكتوب. ولم يكن بوُسعِ المعري بداهة إلا أن يطلب إعادة القراءة. ومن هنا تنجم فوضى يؤسَف لها في تجميع عناصر الكتاب، ولاسيما الإعادات المتعبة والمستمرة، ولا يمكن للترجمة الفرنسية إخفاء هذه العيوب. وقد حاولت في كل الحالات أن أكون مفهوماً ومقروءاً، "صادقاً أكثر من كوني دقيقاً، ويمكن أن تسمى [الترجمة] أي شيء إلا أن تكون حرفية ". وبالنسبة إلى ما تبقّى فقد قيل كل شيء مئة مرة عن استحالة ترجمة الفن؛ فلأفضل أن نخلد إلى ملاحظات جواشيم دو بيليه (ت 1560) شارح فيرجيل[8] "يبدو أن المترجم لا يسيء مطلقاً القيام بواجبه إذا لم يُفسد معنى مؤلفه، بسبب اختلاف بُنى اللغات وخصائصها، وما لم يستطع أن يجعله على المستوى المطلوب من الإتقان يجهد لأن يعوِّضه في مكان آخر".
ها هو إذن كتابٌ بلوغُه وعرٌ؛ ولكن هل يستحق محتواه هذه المشقة؟ يجب أولاً أن نضع جانباً الجزء الأول منه الذي ليس عمل المعري، بل عمل مراسله الذي يكبره بعشرة أعوام، المريض شبه الأعمى المدعو ابن القارح الذي لا يُعرف عنه أكثر مما جاء في الرسالة، ولا يدعوه أبو العلاء إلا بالشيخ، والذي يبدو سفيهاً بالنسبة إلى معاصره أبي العلاء المشهور، ومتملقاً. إنه يتملق المعري بإفراط وبطريقة مضحكة بسجعِه حتى يستفيد من كفاءاته الخاصة كأديب متميز، ويسوي حسابه بشكل عابر مع الذين يدينهم إدانة نهائية بوصفِهم مهرطقين ومانويين، بدءاً بالشاعر المتنبي (ت 965) ولا يعرض بوضوح موقعه الديني الخاص، ولكن لنا الحق في أن نظن أنه كان منشقاً لأنه يظل يشير إلى سُنّيته ونفوره من النساء وشعوره بالعار من الخمر، دون أن ينسى أوبته الصادقة إلى الله. وفي نهاية الرسالة فحسبُ تتضح صفته الحقيقية كمتسول إذ يطلب من المعري التفضل بأن يخصّه بنفقة لما تبقّى من حياته. وقد احتاج إلى تسع عشرة صفحة ليصل إلى التماسه هذا.
رسالة الغفران هي إذن تحديداً هي جواب المعري ناسك المعرة نقطة نقطة، كما بيّن كراتشوفسكي منذ عام 1925 على هذا اللجوج الذي لم يلتقه قطُّ، والذي كوّنّا عنه، حسب ما رأينا منه، فكرة المنافق تماماً. ويمكننا كي نكون واضحين تقسيم هذ المجموعة المعقَّدة جداً إلى ثلاثة أقسام متفاوتة الطول والأهمية.
الجزء المرقم بالأول غاضّين النظر عن رسالة ابن القارح هو أطول الأجزاء، وأحسننا معرفة به خارج العالم العربي بفضل ثلاث ترجمات غير كاملة تقريباً ذكرتُها سابقاً لنيكلسون عام 1900، وميسا عام 1932، وبراكنبري عام 1043. وقد ذكرت سابقاً أن المعري، وهذه سخرية لاذعة، يعد مراسله المحترم ميتاً، ويقطع بأن الخالق وافق على دخوله الجنة. ويمكن تقطيع نص أبي العلاء إلى فصول متعاقبة يمكن بشيء من المهارة إعادة وصلِها:
- الفردوس وضيوفه، ولقاءاته، والشعراء المغفور لهم، وحوار الموتى بينهم، والصيد، والمجالس الأدبية، وشجار سببه أحد السكارى، والمجموع المترع بالتسلية بالوزات العاقلات.
- يصف الشيخ أصدقاءه الجدد، نخبة الشعراء، كيف استطاع دخول الجنة. ويصف عذاب القبر (موضوع كلاسيكي في الإسلام)، وبحثه عن شفيع، وعبوره السراط. وأخيراً بعد انتظار ستة أشهر من الزمن الأرضي بلوغه جنة المؤمنين.
- وصْفُ الملذات المادية في جنة عدْن: مائدة عليها لحوم منتقاة، ما إن تنفد حتى تتكون من جديد، مشروبات (نبيذ وجعة) مخمَّرة ولكنها غير مُسكِرة، حوريات يخرج بعضهن ببساطة من شجرة جوز ضخمة في حديقة سماوية.
- يلتقي ابن القارح في تخوم الجنة بالجن المسلمين الذين يُنشدونه مآثرهم الأرضية ومغامراتهم المعروفة قليلاً جداً، المغفورة لحسن الحظ بتوبة خالصة. هل استلهم المعري في هذا الموضوع أعمالاً سابقة عمله؟ فإن ابن شُهَيد، وهو شاعر وناقد أندلسي، كان قد ألف قبل موت المعري باثنين وعشرين عاماً (ربما عام 1011) "رسالة التوابع والزوابع" التي تعرض مؤلفَها في نزهة، لا في الفردوس، بل في وادي الجن. ويلاحظ أن عمل ابن شُهيد انتشر بسرعة في المشرق حيث كان بإمكان المعري الاطلاع عليه (ولكن لا يذكره). ومن جهة أخرى يلاحَظ تبعاً لافتراض هنري بيرس أن ابن شهيد ربما كان قادراً على أن يقرأ في قرطبة بين الأوساط المسيحية – اليهودية التي يخالطها ترجمة غير كاملة لـــ " حوار الموتى " لـــ " لوسيان ساموسات " (حوالي 166 م).
- " فصل في النار " يتحدث الشيخ إلى إبليس، ويرصد باحتقار كثيراً من الشعراء القدامى الملعونين يتضاربون في السعير حيث يكفِّرون في العذاب الأبدي عن ولعهم بالخمر وخُيَلائهم في هذا العالم.
- أخيراً يستأنف ابن القارح طريقه إلى اجنة حيث يحيي آدمَ أبانا الأول، ومذعوراً من وكر الأفاعي يجد ثانية حورية في ثمرة، ويقابل نُظّام شعر رديء[9]، ويستريح للاستمتاع بالملذات المادية.
هل هذا الوصف وصفٌ سنّي؟[10] إنه لا يمكن إلا أن يجرح مشاعر الناس الأتقياء. ويرى فيه مارسيه " مؤلَّفاً ذا جوانب متعددة، سريعاً طوراً، وبطيئاً طوراً، علّامة مهرِّجاً، مرتعداً وساخراً، يعطيه التناقضُ بين المواقف الذهنية مظاهر سخرية مجردة أكثرَ مما يعطيه تنوُّعُ النبر. ويُغدق فيه (في هذا الموضوع) على مراسله الأمنيات الموقرة وعلامات التقدير. ولكن يبدو في الحقيقة أن هذا الاحترام يخفي ما يكفي من السخرية الممزوجة بالاحتقار. وهو يعلن إعجابه بالنص القرآني المقدس، ولكنه يستخلص من وصْف الجنة القرآنية لوحةً تطغى عليها هزليةٌ غيرُ مهذبة. إن مكان أصدقاء الله معمور بحيوانات مفترسة ولكن بتقوى، ونساءِ ثمارٍ، ونساء طيور، وشعراء وثنيين مستعدين لأن يتضاربوا. وفي هذا الحشد الغريب من السعداء لا يُبرز المؤلف أي تلميح إلى علوم دينية، ولا إلى شخصيات كبيرة من الزُّهّاد المسلمين.
نجد هنا الموضوعات الرئيسة الأثيرة إلى قلب المعري: إن رسالة الغفران هي أولاً رسالة في التوبة والرجوع إلى الله. والخالق يستقبل بالتأكيد الخلق ويتوب عليهم. ويعود دون انقطاع نحو المذنب التائب. ولكن لا عفْوَ عن المستمرين في فعلِ الشر حتى اللحظة التي يمتثل فيها الموت أمامهم فيقول أحدهم " الآن أتوب ". وفرعون مصر في قصة موسى يمكن أن يغفر له[11]. وكان ابن عربي يقول " من زاوية الاشتقاق اللغوي: الغفر ستْرٌ " وحتى نهاية الرسالة يعود إلى هذا: ليست توبة المذنب مقبولة إلا إذا كانت صادقة، فإن كان صادقاً مُحيت الذنوب ولاسيما شارب الخمر الذي يجب أن يراقَب عن كثب. ولا رحمة للسكارى. إن إلحاح الزاهد المعري على شجْب الخمر نوع من الهوَس؛ فهو يكره السُّكْر الذي يعرَف إلى أي حد كان منتشراً في عصره، أو على الأقل في وسطه. واتهم النبي بأنه أكثر تسامحاً من الله نفسه (في القرآن) في ما يتعلق بالضعف الإنساني. ومع ذلك يقول: إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاقتلوهم"[12]. ويشير ابن قتيبة الذي روى هذا الحديث عن صحيح البخاري أن المقصود عملياً كان التحذير القاسي الأكيد، ولكن لم يُطبَّق نصُّه.
من السهل التهكُّم – ولا يقتصر أبو العلاء فيه غالباً على الملذات الجسدية التي وُعِدت بها الصفوة في العام الآخر. ومع ذلك فالمسيحيون الذين يسخرون مما سبق يمكن أن يرجعوا إلى لوحات شعرية مشابهة لوحة أبي العلاء تعود إلى القديس أفرام[13]، أبي الكنيسة السورية الذي عاش في القرن الرابع الميلادي، والذي يعتقد العالِم السويدي تور أندريه أنه وجد عنده نماذج الحوريات في وادي العنب. وتبقى المشكلة في معرفة إذا كان يجب ان نفهم حرفياً ما قد يكون رمزياً فحسب.
ومع ذلك لا يبدو أن المعري الارتيابي آمن ببعث الأموات، ولا بالملذات والجحيم الذي سيُفتح لنا. وتكلم حتى على العدم الذي ينتظر المرء بعد الموت، ولكنه ليس ذلك العقل الساذج، فهو مبتدع رهان مشهور سبق رهان باسكال بسبعة قرون:
قال المنجّم والطبيب كلاهما لا تُحشر الأرواحُ قلتُ إليكما
إن صحّ ظنكما فلستُ بخاسرٍ أو صح ظني فالخسار عليكما[14]
...
تبدو بنية الجزء الثاني من الرسالة عمائية نوعاً ما؛ فالثلث الأول يتضمن رداً على الأفكار التي عبّر عنها ابن القارح في رسالته، وهو ما يشجب مبدأ النفاقِ، سيدِ هذا العالم، ولا يخلو منه حتى الحيوان، محرّكُ تملُّقٍ يرفضه المرسَل إليه المعري لأنه مذنب... الله وحده يستحق المديح. يشكّ نيكلسون في صدقِ الحكيم المعري؛ فللمعري إشارات لا تُخطئ " لولا كراهتي حضوراً بين الناس، وإيثاري أن أموت ميتة علهبٍ (ظبْيٍ) في كِناس، فاجتمع معي أولئك الخائلون، لصحّ أنهم عن الرشد حائلون "[15]. وما يعقب الرد على ابن القارح فوضى شديدة ليست بوجه من الوجوه عملاً فنياً. ترى الموضوعات الأكثر غرابة تتتالى بلا ترتيب، حلب تفرح بعودة الشيخ، واستنكار لسلوك المنتحر الذي يجرؤ على استباق الأمر الإلهي، هشاشة الأهواء أمام النهاية الحتمية، تلميحات ساخرة إلى الحب الأفلاطوني، إثارة نفور ابن القارح من الخمر والنساء، تذكير بالقبر مثوانا الأخير، تواضع المعري المستمر، انتقاد الحملات الظالمة التي يشنها الشيخ على الزهري كاتبِ نصر الدولة[16]، وامتداح لنهر حلب يخالطه النحو والصرف، والغيرة بين الأدباء، ودفاع عن المتنبي القرمطي القديم، أي الشيعي الثائر المنادي بالمساواة، الذي كان فكرُه الصافي في حالة من التمرد القاسي على حاله الإنسانية، ورأيه الخاص في دين أبي نواس المهرطق طوراً، والورع طوراً. إن الخيط الذي يعيد وصْل الموضوعات المختلفة السابقة المختلفة جداً إلى حد التساؤل عما إذا كان المعري قد أملى ما ورد على خاطره من أفكار متفرقة غير مرتبة تُلحّ على ذهنه بعد أن ألزم نفسه قراءة رسالة ملتمسه المرائية، مجرد إملاء.
ولحسن الحظ فإن الثلثين الأخيرين من هذا الجزء الثاني مختلفان، فالهدف الآن هو تصفية الحساب مع المانويين والمهرطقين، هؤلاء الزنادقة المشهورين الذين اُضطُهدوا في زمن " التفتيش "[17] الرسمي الذي قامت به الدولة العباسية بناء على طلب المعتزلة في القرن التاسع، والذين عقيدتهم شكل من " الفكر الحر " الذي يغترفونه في آن واحد من الثنوية المزدكية أو المانوية وكثيرٍ من التأثيرات الإيرانية، وحصيلة تلقّيهم غير المراقَب للعلوم والفلسفة الإغريقية، كما كان هذا الزيغ الديني مثّل تهديداً مباشراً للدولة العباسية المسلمة التي كانت تضبطها وتقمعها وتدينها بوصف أعضائها مجرمين وتُعدمهم.
يبدأ أبو العلاء بالتذكير بوثنية العرب القدامى وبتجديف شعرائهم لدى ولادة الإسلام، وتُظهر حكايات متناثرة لاحقاً أن الشاعر المتنبي عُرف كمدّعي معجزات لا يتكلم عليها مؤلفنا من جهة أخرى مع ذلك. ثم استطراد حول اشتراك أكثر من مؤلف على عمل أدبي يسبق رجوعاً إلى المتنبي الذي لا يمكن تجنُّبُه، ثم تأمُّلٌ عميق في الدهر الذي لا يمكن أن يكون إلا الله.[18]
ها نحن أخيراً في ميم الموضوع: هذه الزندقة التي هي حسب تعبير لويس ماسينيون صنيعُ الزاهد الثنوي، أي المسلم ظاهراً، المانوي في سره. وهنا يعرّض أبو العلاء نفسه للخطر، أي خطر محطبة " المفتشين "، فقبل قرنين كان الفقيه والمحدث المشهور ابن حنبل (ت 855) قد شجب سلوك الزُّهّاد الذي يصل إلى الثنوية بسبب إعراضِهم عن الحياة الجنسية وتناوُلِ اللحم. والحال، كما رأينا، أن المعري نفسَه كان زاهداً ونباتياً. ومنذ عام 1046، وكان عمره 73 عاماً، يشكو من العمى وثقل السمع وصعوبة التنقل في بيته حتى بالعصا ومن اضطراره للصلاة جالساً. وتحمَّلَ اختياره النباتي حصراً ربما لأسباب صحية (بالعودة إلى نصائح الطبيب الإغريقي غاليان)، ولكن على الأخص بسبب شعوره بالعار من تعذيب حيوان، وهو مخلوق بريء من مخلوقات الله بقتلِه وتناول لحمه؛ وهو بداهةً موقف غريب عن الإسلامِ الدينِ المعتدل المتّزن، والعدوِّ لكل إفراط. وليس الزهد من مُثُله إطلاقاً، بل على العكس يطلب من المؤمن التمتعَ الرشيد بالحياة؛ فليس من الغريب أن المعري نفسه اُتُّهم سابقاً بالزندقة. ورغم ذلك لا يبدو في الصفحات التي يخصصها لهذا الموضوع أنه يمحض أي وُد للهرطقيةِ الثنوية، هذا الشرِّ القديمِ الذي يقضم الجلد كالجَرَب. وأحياناً يميل النحوي المهموم دوماً بسلامة الاستعمال النحوي إلى خلط أخطاء العقيدة بأخطاء النحو. وأحياناً يدين بلا رحمة أناساً ربما كانوا أبرياء كصالح عبد القدوس الذي لم تتعدَّ جرائمه عبارات غير مهينة من نحو:
والشيخ لا يترك عاداته حتى يوارى في ثرى رمسه
أي: لن أغير الحياة في مثل سني. ويشهِّر [ المعري ] بالمارقين والمشعوذين ككذابي القرامطة، وكذلك لا رحمة للخليفة الرجيمي الوليد بن يزيد، وعلى النقيض " وما يحفل ربه بالعبيد صائمين للخيفة ولا مفطرين "[19]
كانت هذه هي التناقضات الجدلية للفِكر المتعددِ الصِّيَغ الذي حمله الناسك المعري: نباتي مرهق من الصوم، ومع ذلك لا يستطيع إنكار الكلام الذي يفضل اليسُر على الحرج. غير أن السؤال الذي يبقى مطروحاً: ماذا كان اختياره الداخلي الحقيقي؟ إنه يتحدث في كل موضوع (حتى في الفتنة المختلَف على تقويمها للزنج الأفارقة عام 869 المستقدمين للعمل في مزارع جنوب العراق، غير أن المعري ليس مؤرخاً ولا عالم اجتماع، ولا يمس حتى الأصل الاقتصادي والاجتماعي للفتنة.
وبعد تلميح إلى حكايات المنجمين، وإلى نفاذ البصيرة، يهاجم بحدة الصوفي الحلاج الذي أُعدم في بغداد عام 952، ويعمّق الملامح الأولية الكاريكاتورية لصورته التي قدمها ابن القارح في رسالته. ويشجب مروقه وضلالته. ويجعل منه، خطأ، حلولياً يمكن لله في رأيه أن يتجسد في مخلوق. وكان بودنا أن نذكر مزيداً من التفاصيل، كتفاصيل نظرية التناسخ أو الارتحال، أي هجرة الأرواح إلى التقمص التي يربطها مؤلفنا مباشرة بالهندوس وبمحارق أراملهم من الجنسين.
ما أشد ما يتأسف المرء على أن يبقى عقل كبير غالباً على مرمى قوس من مسائل خطيرة جداً عندما يكتفي بملامستها مواربةً من خلال قواعد اللغة وفقهها. ها هو مرة أخرى يمتطي حصان المعركة لمحاربة النفاق: إنه أسوأ من البغاء،[20] لينتقل منه إلى امتداح العقل الذي هو أشدُّ ما يفتقر إليه الإنسان العبد لعاداته " والذين يسكنون في الصوامع، والمتعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المخبر، لا يميزون الصدق من الكذب لدى المعبِّر "[21]. ويتخذ موقفاً جريئاً متوازناً لتوِّه بهجومه على الفلاسفة ذوي " العقول المغمورة "،[22] الخونة والكذابين، الملغومين في داخلهم بدهاء. ويتكلم على الصوفيين في ثلاثة أسطر فقط[23]. والمعتزلة، وهم المضطهِدون السابقون والمضطهَدون، مجرمون في قفص الخلل والجدل. والأشعريون يبدون متهمين بالتشبيه (النص العربي غير مفهوم تقريباً)[24]. والإمام جعفر ربما ليس أكثر من دجّال.[25] وبعد هذه الهجمات الشديدة يدير وُجهة المعركة نحو الأنصار الأغبياء للتناسخ. وها هو فجأة المتشكك ابن الراوندي (ت 910 تقريباً) ينقضّ عليه المعري بكل قوة متناولاً عناوين مؤلفاته واحداً تِلو الآخر، مستعيناً بلعبة الكلمات الأثيرة لديه، وإلى تورياته المستمرة دون أن يتكفل إطلاقاً ببحث أعماقه، مكتفياً بالتذكير بأن القرآن وحده هو المعجزة. وخيبةُ أملنا كذلك هي نفسُها في حديثه عن الشاعر ابن الرومي فقد كان يستحق مصيراً أفضل؛ إذ لا يتناول المعري إلا تطيُّره (المفترض) وطبعه السيء، وساعات الفأل والنحس. ولا يتساءل المعري في صدد أبي تمام، جامعِ المقطوعات الشعرية التي كانت ستُنسى لولاه، إلا عما إذا كان ضيّع صلواته. وقبل أن يعود إلى وضْع الكافر ابن الراوندي يرسل ثلاثة من مهرطقي القرن التاسع تحديداً إلى نار جهنم لأنهم لم يهتموا إلا بنَتَن الدنيا في حين أن القضية الوحيدة أمام الإنسان هي الإيمان والتوبة. ويبدو أن المعري أملى هذه الجملة التي تذكر الجنة بشكل عابر "وما آملُ أن تكون الآخرة بأرزاق، فتعد الراجحة إلى المهَراق ".[26] وتتغنى نهاية الجزء الثاني الطوي من الرسالة بفضائل الخليفة علي الذي رفض أن يكون معبوداً. ويسخر من مغالاة الشيعة في شخص سلمان الفارسي الصديقِ المسيحي للرسول[27]. وربما كان بإمكانه أن يقول أكثر وأفضل مما قاله.
...
تؤلف العودة إلى ابن القارح موضوع الجزء الثالث والأخير من رسالة الغفران، (وهذا هو الجزء الرابع إذا وضعنا في الحسبان رسالةَ الشيخ نفسَها): خمسة موضوعات كبيرة تتكرر حول الشيخوخة والخمر والنساء والتوبة والمال، في ما يتعلق بالشيخوخة (كان ابن القارح آن له أن يتجاوز السبعين، والمعري الستين) يكرر المعري أن "الإنسان ليس إلا عابر سبيل في الأرض"، وأن حياته يجب أن تقتصر على الإعداد للموت. العالَم مغرور، والشباب لن يعود أبداً أفنخضِّبُ الشَّعر إذن؟ يبقى السؤال الأزلي: أما يزال في داخل العجوز شابٌّ؟ يا للحسرة! إن مناضلة الدهر غيرُ مجدية. ثم الزواج؟ وبمن؟ بالشابات كما بالمسنات؟ أليس من الحكمة تفضيل المرأة الناضجة؟ لقد أعطى الرسول مثالاً على هذا[28]. وفي مجال آخر يحذِّر من اتخاذ خادم شاب لأن اللبن الذي قد يريقه هذا الشاب بإهماله هو صورة حياة سيده التي قد تُبتَر قبل أوانها.[29] يبقى الأصدقاء. ربما هناك أصدقاء، ولكن هناك الخيانات التي تتوازن حقاً بعودة الابن الضال.[30]
ومع ذلك لا شفقة مطلقاً في قلب المعري الجامد على الشيخ البائس؛ فكيف يشفق القاسي نحو نفسه على الآخرين؟! إن الحملات على الخمر المشنَّع بها تُستأنف أكثر من ذي قبل على الشيخ لأن عجوزاً يشرب منظر مريع؛ فلْيتب الشيخ وأمثاله إذن ما دام هناك مهلة، أو لِيُجلدوا دون رحمة! يمكن أن نتصور الشيخ وقد ثقب بخنجره زِقّاً مترعاً فسالت منه الخمر كالدم.[31]
أهو فقدان الحس لدى العميان الذين، وهم لا يرون الاختلاف بين رجل يتبول وآخر يسفح دمه دون أن يشتكي، يرتابون في إنسانيتهما؟[32] حقاً إن ابن القارح يتلقى حظه من المديح: شهرته العظيمة، وشيوخه المعروفون، وحِجاته الخمس إلى مكة (ربما أربع منها زائدة على المطلوب) "يستغني في الحشر بالأولى منهن "[33] بغضّ النظر عن تلميحه إلى زواج متعة. إن ساحة الثقافة والآداب هي الأسلمُ رغم الخصومات والغيرة بين " الزملاء الأعزاء "؛ فمن لا يمدح النحاة الحكماء؟! المجد إذن لابن القارح حتى لو كانت سفاهاته في القاهرة جديرة بالثناء![34] يا لَهذا السُّكر اللعين مع أخيه حبِّ الدنيا! أما المال الذي يحبه البخلاء جداً فلا يساوي أكثر من الخمر. كان ابن القارح اشتكى في رسالته أن ابنة أخته سرقتْه، وكان عليه أن يتقدم بشكوى ليستعيد ثمانين قطعة ذهبية. وهذه مناسبة جيدة للمعري كي يبحث في موضوع المال، وفي " فضْل الذهب " داعماً بحثه بشواهد شعرية كثيرة مناسِبة قليلاً أو كثيراً. ولما كانت ابنة الأخت قد أعربت للمحكمة عن غيظها وأسفها لأنها لم تقتل خالها فقد استغل المعري هذه الفرصة لمعالجة الثأر عند العرب معالجةً سريعة، ومذابح الأعمام والأخوال على أيدي أبناء إخوتهم أو أخواتهم. وهناك مقطع خبيث يتحدث عن النساء الشاعرات، وحكمٌ غامض على الصوفي الشبلي.
ويعزو شاعر المعرة الكفيف في اختتام هذه الرسالة تأخرَه عن الرد على رسالة الشيخ إلى العجز الذي جعله مضطراً إلى حضور كاتبه كي يملي عليه.
يرتسم طبعُ المعري في ملامح كثيرة في هذا المؤلَّف: تقزُّزُه من الممالقين، ومن النفاق، ومن السُّكر، وثقافته، ومعرفته بالقرآن، وذاكرته الواسعة، وزهده في الدنيا، وسخريته، وارتيابه، وشعوره بالمرارة. بمن وبماذا كان يؤمن حقاً؟ بالجنّ المخلوقاتِ المكوَّنة من عنصر واحد هو النار الصافية،[35] والتي تؤلف جزءاً من العقيدة الدينية؟ بالملائكة التي هي رُسُلٌ نورانية لا يراها المرء ومذكَّرة دائماً؟ لا حتماً لأنه يسخر منها ومن الحب الأفلاطوني للعذريين، أولئك اللوطيين الذين كان لهم حسب التعبير البليغ للويس ماسينيون " رغبةٌ في السماء دون رغبة في الله ". وكردِّ فعلٍ على الارتياب الذي كان يقابله به معاصروه الأكثرُ تقوى غالى بعضهم أحياناً في الاتجاه المعاكس، وأرادوا أن يقرنوا بكل ما لديهم من قوة بين الناسك والسنّي دون تمييز، وإلى الفكر الجاهز لدى التقليديين ".
والحال أن ما يلفت انتباهي هنا هو الدفاع عن الشاعر المتنبي الذي مزّقه ابن القارح في رسالته بخبث، وهذا ما دعا لويس ماسينيون إلى التفكير بارتشاح الأفكار (أفكار القرامطة والإسماعيليين) في كل الفكر الأدبي المعاصر لهم.
فهم المعري قبل غيره أن النقد الأدبي يسبق الأمر الواقع؛ ولذا فأولئك الذين استطاعوا قراءة " المجالس" الذي اُكتُشف حديثاً، والذي ألّفه أستاذه وصديقه مؤيد سليماني من شيراز، والذي لم يكن إلا الداعية الكبير للدعوة الإسماعيلية يعرفون أن المرارة الارتيابية للّزوميات والغفران لا يمكن أن تُعدّ خصوصية فردية، ولكنه يشهد على بروز بذور للشك المنهجي على أرض مواتية نفسياً، وبروز تهكم تمردي يتضمنه التعليم الأولي في المجتمعات ذات التفكير الإسماعيلي. ومن جانبه كتب طه حسين الأستاذ المصري المأسوف عليه (ت 1973) بعد أطروحته على أبي العلاء (عام 1914) تأملاً طويلاً بعنوان "مع أبي العلاء في سجنه" عام 1935. يقول طه حسين "إن الشاعرَ واثقٌ أنَّ نفسَهُ بالمعنى الأدق والأقسى للكلمة سجينةُ جسدهِ" ويتساءل من جهة أخرى "ما هذه الحرية المطلقة التي يستمتع بها الفكر حين يفكر، وما هذا العجز المطلق حيث التفكير مغم منذ أن يريد الحركة ويُدعى إلى الحركة؟ " لماذا يكون البعث قضية الإنسان؟ "بالتأكيد لا يشك المعري في وجود الله الخالق الحكيم، خلق هذا العالَم ورتبه كما نعلم، ولكن لماذا؟" أيمكن أن يكون السبب الحقيقي لمحنته التي عمرها خمسون عاماً يكمن في التكبر، تكبُّرِه الذي كان يدفعه إلى أن يحاول أكثر مما يستطيع، ويشتهي ما لا يمكن الطموح إليه؟ لقد تطرّفَ في العقيدة والثقة بعقله. وجاءه التكبُّر من فكرة أنه كان يتزود بالعقل، وأنه تجاوَزَ الممكن منه ".
أرجو ان تستطيع رسالة الغفران في ترجمتها الفرنسية المساهمةَ في تعريفٍ أفضلَ بالفكر الذي ما يزال أصيلاً، وفي جعلِه مفهوماً. وأخيراً في تحبيب سِحنِ سجين المعرة الثلاثي، أخينا، إلى القلوب.
[1] هو نفسُه كاتب موضوع ابن خلدون المتقدم. أضاف اسم منصور إلى اسمه بعدما اعتنق الإسلام.
[2] يقول طه حسين فيه " فأما اللقب الذي اختاره لنفسه ن وكان يحب ان يُدعى به فهو " رهين المحبسين "، مع أنه ذكر في اللزوميات سجناً ثالثاً هو جسده المادي الذي اُحتبست فيه نفسه:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقْدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث
غير أنه أعرض عن السجن الثالث فلم يسمِّ نفسه إلا رهين المحبسين. انظر طه حسبن: " تجديد ذكرى أبي العلاء " ص 110 – 111
[3] المسوح: لباس صوفي خشن يُلبس على الجلد العاري إظهاراً للتقشُّف.
[4] لهرطقة بالفرنسية HERESIE تعني الأفكار والنظريات والممارسات التي تصدم الآراء التي تعدُّها جماعة دينية ما صحيحةً ومسوَّغةً. والأصل فيها مخالفة الكنيسة الكاثوليكية. ويقابلها الأرثودوكسية التي تترجم بــ " السُّنّيّة " ترجمة تقريبية، لا حقيقية.
[5] لقب كان يُطلق على مَن في خدمة بيت الملك.
[6] مقدمة ابن خلدون، تحقيق علي عبد الواحد وافي ص 1308
[7] وهو ما يسمى بالعربية بالتصحيف، كالمعاني المختلفة الناجمة عن تغيير النقط في مثل: جبل، حبل، خَبَل حيل. ويُظن أنه إلى جانب أسباب أخرى وراء تضخم المعجم العربي.
[8] فيرجيل (70 – 19 ق. م) أعظم شعراء روما. ألف الرعائيات والإنيادة.
[9] الحق ان المعري يتكلم على ما يسمى " الإقواء في الشعر"، وهو اختلاف حركة الرويّ بين الضمة والكسرة في أبيات القصيدة الواحدة، ويُستشهَد له ببيتي النابغة الذبياني:
زعم البوارحُ أن رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغدافُ الأسودُ
لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به إن كان تفريق الأحبّة في غدِ
وموضوعات عروضية أخرى، انظر الرسالة ص 244 و248
[10] انظر الحاشية رقم 3
[11] ورد هذا الكلام على لسان ابن القارح. رسالة الغفران، تحقيق كامل كيلاني , ص 48
[12] سنن ابن ماجه، حدود 2 / 859. ولم أجده في غيره.
[13] القديس أفرام السرياني (306 – 373 م) قديس من آباء الكنيسة السريانية. ولد في نصيبين، وعلّم في الرها. له مؤلفات وقصائد تعليمية ودينية.
[14] اللزوميات، دار صادر 2 / 433
[15] رسالة الغفران، تحقيق بنت الشاطئ، ص 319
[16] في الأصل العربي: " الزهرجي " م. س ص 333
[17] محاكم التفتيش الشهيرة هي التي أقيمت في أوربا في القرن الثالث عشر لملاحقة الخارجين عن الدين المسيحي. وكان مسلمو الأندلس من ضحاياها عقِب سقوط الحكم العربي فيها. والمقصود هنا هو حملة الخليفة المأمون، ومَن يعده، لإقرار الأئمة بان القرآن مخلوق، لا أزلي، تبعاً لنظرية المعتزلة التي تبناها بعض الخلفاء العباسيين إلى أن قضى عليها المتوكل، الخليفة العاشر، فدشّن السُّنّة الفكرية في الإسلام، مقابل المعتزلة. وهي غيرُ السنة مقابل الشيعة.
[18] ليس الأمر بهذا الوضوح المجزوم به؛ فنصُّ المعري هو " وقد كثر المقال في ذمّ الدهر. وقد جاء في الحديث: لا تذموا الدهر فإن الله هو الدهر. وقد عُرف معنى هذا الكلام، وأن باطنه ليس كظاهره؛ إذ كان الأنبياء عليهم السام لم يذهب أحد منهم إلى أن الدهر هو الخالق وهو المعبود. وقد جاء في الكتاب الكريم: ﴿وما يُهلكنا إلا الدهر ﴾ (الجاثية 45 / 24) " انظر رسالة الغفران م. س ص 358
[19] التحقيق في الموضوع هو أن صالحاً لما قيل له في أثناء استجوابه: إنك زنديق، قال: قد كنت، وتبتُ. فقيل له: أنت القائل: والشيخ لا ترك...البيت، وقُتِل عليه. رسالة ابن القارح، تحقيق الكياني ص 24 -25. وهوامش طبعة بنت الشاطئ 370 – 371
[20] م. س ص 319
[21] ما يقوله المعري هو: وفي الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يتقيه. يتوصل به إلى الدنيا الفانية، وهي أغدر من الورهاء (الخرقاء اليدين) الزانية.
[22] م. س ص 403
[23]. س ص 404
[24] في طبعة بنت الشاطئ ص 404 الكلام على الإمامية، لا على الصوفية.
[25] هذا الاستنتاج عن الأشاعرة (وهم أنصار أبي الحسن الأشعري المنشق عن المعتزلة. ينفي معظم عقائدهم ويخالف أهل السنة في بقايا عقائد المعتزلة مثل إنكار الصفات الجسدية لله كاليد والجلوس على العرش فهم قريبون من أهل السنة) مبني على بيت من الشعر لم يُحسن المترجم الفرنسي نيكلسون قراءته ففهم منه ما فهم. وقراءته هي: وإني لأُكفِّر (من يزعم) أن الله ربنا (له) يدا البُدن (الناقة)... أما بنت الشاطئ فقرأت:
وإنا – ولا كُفران للهِ ربِّنا لكالبُدن لا تدري متى حتْفُها البُدن
والبدن جمع بدنة: ناقة أو بقرة تُنحر بمكة قرباناً، وكانوا يسمِنونها لذلك
[26] لم يصدر هذا الاتهام من امعري، بل على لسان عبد الله بن ميمون الذي صاحبَ الإمام جعفراً مدة، ثم فارقه وهجاه بقوله:
مشيتُ إلى جعفر حقبة فألفيته خادعاً يخلب
رسالة الغفران ص 408
[27] لم أجد في مصادر ترجمته ما يشير إلى أنه كان مسيحياً قبل إسلامه سوى أنبعض الأخبار تجعله معاصراً لعيسى عليه السلام، فهو من مجوس أصفهان في الأصل. انظر الإصابة في طبقات الصحابة. الترجمة رقم 3357، وطبقات ابن سعد 4 / 53
[28] يقصد زواجه من خديجة.
[29] نص المعري: وقد أرسله بالغضارة يلتمس لبناً... فإذا حصل فيها الهُدَبِد، عثر فإذا هو على الصحراء متبلد... فإن كان صاحبه يحب مذهب ابن الرومي عدّ أن تحطُّم الغضارة، فناء عيشة ذي النضارة "رسالة الغفران ص 457
[30] الولد المبذِّر في النص الفرنسي enfant prodigue , وآثرنا إثبات " الولد الضال " تبعاً لنص إنجيل لوقا إصحاح 15. وخلاصة القصة أن الأب فرح بعودة ابنه المبذِّر لأنه رجع عن ضلاله. ويبدو أن المعري يلمّح إلى عودة ابن القارح عن ضلاله وتبذيره.
[31] ربما كانت الإشارة إلى قصة طالوت لما أراد قتل داود زوج ابنته فقال لها أن تُدخله عليه ليقتله، فجعلت لهفي فراش داود زِقّ خمر، وضربه طالوت بالسيف فسال الخمر... يبدو أن المؤلف يقرن بين طالوت القاسي القلب والمعري. انظر رسالة الغفران ص 473 – 475
[32] ديديرو diderot " رسالة في العميان" (المؤلف)
[33] رسالة الغفران ص 493. وهذا هو رأي المعري طبعاً، ولذا يقترح على ابن القارح التصدُّقَ بحِجاته الزائدة على فقراء العلماء الذين لم يستطيعوا إليه سبيلاً.
[34] إشارة إلى زيجاته بمصر.
[35] بخلاف الإنسان المؤلف من أربعة أخلاط: الدم والبلغم والسوداء والصفراء.