سلسلة نسب الخطابة في كتاب البيان والتبيين للجاحظ * ماري إيلين أفريل**
يحتوي كتاب " البيان والتبيين " في جملة ما يحتوي، على مجموعة خطب وخواطر نظرية حولها وحول الخطابة. ويُظهِر البحث الدقيق في هذه النصوص أن الجاحظ شعر بالحاجة إلى منْحِ الشرعية لهذه الممارسة، ممارسة الخطابة، في مواجهة الهجمات ذات الأصول المختلفة، والتي كانت تعاني منها الخطابة. والحقيقة أن الخطبة تبدو في عدد من مقاطع الكتاب عادة لها معارِضوها مما يجعل من المناسب منحها الشرعية بربْطها بعادات قديمة تحظى بالاحترام التام. ولا حاجة بنا إلى القول هنا إننا لن نتساءل عن أصالة هذه النصوص التي يسردها الجاحظ وعن تاريخيتها؛ فإن ما يهمنا من أصول الخطبة هو العناصر التي يقدمها الجاحظ ليجعل هذه العادة منيعة على الهجمات التي تُشنُّ عليها.
يشير الجاحظ إلى جهتين تصدر عنهما هذه الهجمات، أو تعبّران على كل حال عن تحفظهما تجاه الخطبة، الأولى منهما تسمى بوضوح، ويمكن التأكد من هويتها بسهولة، وهي الشعوبية. (1) والثانية سلسلة من الانتقادات أكثر غموضاً، والتحققُ من مصادرها أصعبُ ظاهرياً، وتنشأ من ارتيابٍ عامّ تجاه ما كان يمارَس قبل الإسلام. ويتوافق مع سوء الظن هذا ارتيابٌ ليس أقل عمقاً نحو ما للكلام الموجَّه للإقناع والإعجاب من سلطان، وهو سلطان يثير الالتباس.
إن كتاب البيان والتبيين سيكون وسيلة لتأكيد الأصالة العربية والإسلامية للخطبة. وهو تأصيل عربي، من جهة عن طريق إظهار عدم إسهام الأمم غير العربية فيها بأي نصيب، في حين أنها عادة عربية جدُّ قديمة. وهو من جهة أخرى تأصيل إسلامي عن طريق إبراز ممارسة الأنبياء لها، وتعهُّد النبي محمد لها. فلا مجال إذن من الناحية المنهجية لإساءة الظن بها.
أولاً: التأصيل العربي للخطبة
1 – 1 -الأمم غير العربية والخطبة
1-1-1: تفنيد مزاعم الشعوبية بشأن فن الخطابة:
إن استبعاد الأمم غير العربية من ممارسة هذا الفن يتم في إطار خاص جداً تحتّمه بقوة الحرب الكلامية مع الشعوبية. والحقُّ أن الجاحظ يسرد حجج أنصار الشعوبية كما يلي:
قالوا (2): " والخطابة شيء في جميع الأمم، وبكل الأجيال إليه أعظم الحاجة؛ حتى إن الزنج مع الغثارة،ومع فرط الغباوة، ومع كلال الحد وغِلَظ الحسّ وفساد المزاج، لَتطيل الخطب، وتَفوق في ذلك جميع العجم وإن كانت معانيها أجفى وأغلظ، وألفاظها أخطل وأجهل. وقد علمنا أن أخطب الناسِ الفرسُ" (3)
وردُّ الجاحظ ردٌّ لاذع: " وجملة القول أننا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس... وفي الفرس خطباء؛ إلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة واجتهاد رأيٍ وطول خلوةٍ، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكُّر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني عِلْمَ الأول، وزيادةِ الثالثِ في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفِكَر عند آخرهم. وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام ".(4)
ودون أن يكتفي الجاحظ بأن ينسب إلى الفرس موهبة خطابية أدنى من تلك التي للعرب، يضع موضع الشك أصالة النصوص التي يُشهِرها أنصار الشعوبية لدعم ادِّعاءاتهم: " ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي بأيدي الناس للفرس صحيحة غيرُ مصنوعة، وقديمة غيرُ مولّدة، إذ كان مثلُ ابن المقفع وسهل بن هارون وأبي عبيد الله وعبد الحميد وغيلان، يستطيعون أن يولِّدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السِّيَر" (5)
يمكن بالتأكيد أن يعترض علينا معترض بأن هذا المقطع متعلق بالرسائل، لا بالخطب. ولكن دراسة ممحَّصة لكتاب البيان والتبيين تُظهر أن الخطبة والرسالة والوصية تؤلف سديماً (من الأجناس) دون حدود متمايِزة. (6)
ولدينا أسباب وجيهة تحملنا على اعتبار ما يصح لأحد هذه الأجناس يصح للآخر، لأن المقطع المتعلق بالرسالة يقع بين مقطعين يتعلقان بالخطبة. ومن جهة أخرى يرى شارل بيلا في هذا المقطع سِمة واضحة على خبث الجاحظ. (7) إنه [ الجاحظ] الذي لا يجهل ما زيّفه معاصروه مما كُتب بالعربية. وقد ساهم هو أيضاً فيها فضلاً عن ذلك، فيستعمل جميع الوسائل لإقصاء الشعوبية ناسباً إليها عيباً هو قبل كل شيء عيب معاصريه العرب. وإذا تركنا هذا الاتهام فإن ما يبدو لنا مهماً أهمية خاصة هو مواجهته بالمقطع التالي لإثبات تناقض الجاحظ مع نفسه: " وأُخرى: أنك متى أخذت بيد الشعوبي فأدخلته بلاد العرب الخُلَّص ومعدن الفصاحة التامة، ووقفْتَه على شاعر مفلق أو خطيب مصقع، علم أن الذي قلتَ هو الحق، وأبصر الشاهد عياناً، فهذا فرقُ ما بيننا وبينهم.(8)
عندما يتكلم الجاحظ على نصوص فارسية يعرفها فإنه يعبّر عن أصالتها بلفظة " القِدم " في حين أن النتاج العربي هو نتاج ممارسة يمكن أن يكون كل الناس شهوداً عليها سمعاً وبصراً، فهو يُقصي إذن مجموعة النصوص الفارسية باسم " التاريخ"، في حين أن النتاج العربي مقدَّم في هذا المقطع كما لو كان يحتل مكاناً في حاضر مؤبّد، وهذا يعفيه من طرح مسألةِ تاريخيّته. ودون أن نقصد هنا التقليل من دور الحرب الكلامية يبدو لنا أن اختلافاً كهذا في المعالجة يمكن تفسيره بالصعوبة الكامنة في أن يعالج في عملية واحدة مجموعتين من النصوص: نصوص مكتوبة ونهائية (9) هي مجموعة النصوص الفارسية، أو ما كان يعرفه الجاحظ منها،ومجموعة المأثور الشفهي العربي الحي ضمن نطاق ثقافة هي في غمرة تكوين مجموعة مكتوبة، وفي غمرة انقلاب بطيء، وبتعبير زومتور Zumthor هي حالةُ مشافهةٍ ثانية في ما يخص المتعلمين على الأقل (10) كما يلاحظ ج. غودي في الثقافات الشفهية: إن التبدلات الثقافية التي لا تُحصى، والتي تظهر في إطار التفاعلات الشفهية اليومية إما أن تتباها الجماعة التي تعود إليها، أو تقصيها في خلال الانتقال من جيل إلى آخر. وإذا اُحتُفظ بإبداعٍ ما فإن هُويّة مؤلفه ستميل إلى الامِّحاء. (11)
ويضيف: " جُعلت الكتابة طريقة جديدة لاختبار الحديث ممكنةً بفضل الصيغة شِبه الثابتة التي تعطيها للرسالة الشفهية. وهذه الطريقة في اختبار الحديث تسمح بمضاعفة حقل النشاط النقدي" (12)
وضمْن هذه الشروط فإن مجرد كونِ حديثٍ ما مكتوباً يسمح بسهولة أكثر باكتشاف آثار مرور الزمن، وطرْحِ مسألة تاريخيّته ولو بطريقة أولية. وهذا الأمر أصعب لحديث شفهي وجوده في المحصِّلة آنيّ لا يتعدى زمانه ومكانه. فإن اندرج مثل هذا الحديث في موروث شفهي حي فما الذي يمنع التصديق بأن ذلك الموروث يتجلى الآن كما في السابق؟
- : الخطب غيرُ العربية في كتاب البيان والتبيين:
يجب أن ننتبه قبل أن ننتهي من استبعاد الأمم غير العربية من فن الخطابة إلى تعديل طفيف. فإذا كان هذا الاستبعاد قد جُهر به في نطاق الحرب الكلامية مع الشعوبية فإن الجاحظ، رغم ذلك، يستشهد مرتين على الأقل بخُطب لا يمكن إلا أن تكون منطوقة في سياقٍ عربيِّ اللغة.(13) ,أتحدث هنا عن خطبة عيسى بن مريم (14) التي ستُدرس لاحقاً مع العناصر التي يستخدمها الجاحظ لإثبات سلالة الخطبة التي يمكن أن تعد إسلامية (السلسلة الإسلامية)، وعن نص قصير ألقاه خطيب أمام جثمان الإسكندر. وهذا نصُّ الخطبة الثانية:
" قال خطيب من الخطباء حين قام على سرير الإسكندر وهو ميِّت: الإسكندر كان أمسِ أنطقَ منه اليوم، وهو اليوم أوعظُ منه أمسِ" (15).
لنلاحظ أولاً أن قضية ترجمة هذا النص إلى العربية غيرُ مطروحة. وبالإضافة إلى هذا يمكن أن يقال: ما أهمية المصدر الدقيق ما دام النص غير عربي؟ (انظر الحاشية 15). وليست هذه هي الحالَ في كتاب البيان والتبيين: إن نصاً نظرياً مهماً هو صحيفة بهلة الهندي (16) يقول بوضوح تام إنه نص مترجم، ومصحوب بتعليقات حول الصعوبات التي واجهها المترجم؛ ومع ذلك فإن أي نصٍّ ممّا يمكن أن يدخل في قسم المختارات أو القسم الأدبي (17) من كتاب البيان والتبيين لم يُقدَّم على أنه مترجم. ويبدو أن من الممكن أن توصِلنا إلى ملاحظة لشارل بيلا: " إن الجاحظ النصير المقتنع بتعدد الثقافات يسخِّر معايير عقلية يستعيرها دون قيد من المفكرين الرومان الذين كان فِكرُهم بالإضافة إلى ذلك سلاحاً فعالاً في الدفاع عن الإسلام في مجال العقيدة ضد الخطر الذي كان يمثله الإيرانيون الذين أسلموا إسلاماً سطحياً. إنه بالمقابل في موضوع الأدب حصراً، أي ليس الفكر نفسَه، وإنما طريقة التعبير، يكبح بعنفٍ انتشار الاتجاهات غير العربية " (18)
ويشغل المقطع السابق بالضبط، المتعلق بالإسكندر موقعاً هجيناً في الكتاب،وهو بالتأكيد خطبة، ويتعلق لهذا السبب بفن التعبير،ومع ذلك هو مدرج في مقطع نظري يتعلق بالنِّصبة. وهناك، أي في موضع النصبة، يدخل عنصر جديد قد يساهم في جعل الجاحظ يتقبّل هذا النص بسهولة أكثر فالنصبة هي " الحال الناطقة بغير اللفظ، والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونامٍ، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص" (19).
وإجمالاً، - والنصان الأخيران اللذان يستشهد بهما الجاحظ لإشهار النصبة يؤكدان هذا – فقدرة المرء على فهم النصبة هي في الأساس قدرته على تعرُّفِ رسالة الحكمة الإلهية في الخلق. وهذا ما فعله الخطيب المشار إليه أمام جثمان الإسكندر، مشخِّصاً بفضل النصبة التي هي هذه هي الطريقة من الدلالة، الرسالةَ التي تحملها رؤية جثة. إن الرسالة التي ليست موضَّحة هنا لا تنافس الكلام العربي، ولذلك فقط لها الحق في أن تكون مسرودة في كتاب البيان والتبيين.
1-2 الخطبة العربية ما قبل الإسلام في كتاب البيان والتبيين:
إذا كان الجاحظ لم يعط الأمم غير العربية حقها من فن الخطابة فقد مضى بالمقابل في تأكيد خاصية القِدم العميق للخطبة العربية، وفي ترسيخ جذورها في الماضي العربي. وأن تكون الخطبة ممارسة عربية قديمة جداً، وتعود إلى ما قبل الإسلام، نقطة ليست موضع نزاع في البيان والتبيين. ولكن هذه الممارسة لن تمر إلا بطرح عدد من القضايا على معاصري الجاحظ: إن بعض أساليبها ستكون موضع مناقشة حامية، وكذلك فإن مضمون النصوص التي يرجع تاريخها إلى الجاهلية، عصرِ الوثنية، يمكن أن يطرح قضايا إيديولوجية سنبحثها الآن.
1-2-1ممارسة تثير النقاش:
تأتي أكثر الهجمات وضوحاً وأشدِّها حِدّة، والتي تعاني منها الخطبة قبل الإسلامية من مصدر تكلمنا عليه سابقاً: أنصار الشعوبية. وهذه الهجمات، وهذا شيء جدير بالملاحظة، لا تنصبّ على الشكل والمضمون، وهو تقسيم تقليدي، ولكنه يسمح لنا بكسب الوقت، بل على ما يرافق الكلام الشفهي (paraverbal)، وعلى ما هو نقيض الشفهي (20)، وخصوصاً على هذه العادة التي ورثها الخطباء العرب من الجاهلية، كالاعتماد على عصا أو قوس، وهذا مثال: " قالت الشعوبية ومن تعصب للعجمية: القضيب للإيقاع، والقناة للبقّار، والعصا للقتال، والقوس للرمي. وليس بين الكلام والعصا سبب، ولا بينه وبين القوس نسبٌ. وهما إلى أن يشغلا العقل ويصرفا الخواطر، ويعترضا على الذهن أشبهُ. وليس في حَملِهما ما يشحذ الذهن، ولا في الإشارة بهما ما يجلب اللفظ... وحمْلُ العصا بأخلاق الفدّادين [ الشديد الصوت الغليظ الكلام] أشبه، وهو بجفاء العرب وعُنجُهية أهل البدو ومزاولة إقامة الإبل على الطريق أشكلُ، وبه أشبهُ" (21)
ويقول أيضاً: " ولكنكم كنتم رعاة بين الإبل والغنم، فحملتم القنا في الحضر بفضل عادتكم لحمْلها في الحرب، ولطول اعتيادكم لمخاطبة الإبل جفا كلامكم، وغلظت أصواتكم، حتى كأنكم إذا كلمتم الجُلساء إنما تخاطبون الصُّمّان " (22).
وتلك هجمة دون تمييز للدقائق. ومع ذلك يتساءل المرء: لماذا يكتفي ثالبون على هذه الدرجة من الحِدّة أن يهاجموا تفصيلات تافهة أو سطحية من حياة العرب، كحمل العصيّ، أو طريقة الكلام حتى لو كان المدينيون ذوو الأصل القديم وهم الكهنة غالباً لهم كل المصلحة في حصْرِ محاوِرهم العربي لتجريده من أهليته، في قالب البدوي الأمّي، وهو بالمناسبة القالب الذي سيكون من الصعب على العربي الخروج منه، ولاسيما أنه ساهم مساهمة واسعة في تثبيته لأسباب أخرى. ويمكن الاعتقاد بأن الشعوبيين الذين يُشكّ في حسن استعرابهم وإسلامهم، ربما لم يكونوا في وضْعٍ يسمح لهم بشنِّ هجمات على الصياغة اللغوية وعلى محتوى الخطب، ويتحصنون بأرض أشد صلابة، إلا إذا كان الجاحظ قد أهمل بعض الهجمات الشديدة جداً. ويجب أن نشير أخيراً إلى أن الجاحظ سيقدّم في كتاب البيان والتبيين ملاحظات عديدة تتعلق بحركات الخطيب، ويمحّص بعناية ما يتعلق بنطق العربية والأخطاء التي يرتكها غيرُ العرب في لفظها. (23) وهذه الملاحظات، إلى جانب اهتمام عملي أكيد وإرادة ثابتة في قنونة حركات الخطيب، يمكن أن تعد جواباً على هجمات الشعوبية ضد المنطق.
تتجه سلسلة أخرى من التحفظات لم يسمِّ الجاحظ مصدرها إلى شكل من أشكال الخطبة، وهو الشكل المسجوع، فلْنرَ النصوص:
" وكان الذي كرّه الأسجاع بعينها، وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كُهّان العرب الذين كان أكثر العرب يتحاكمون إليهم، وكانوا يدّعون الكهانة، وأن مع كلِّ واحد منهم رِئيّاً من الجن، مثل جازي جهينة، وشق سُطيح، وغزّى سلمة وأشباههم، كانوا يتكهنون ويحكمون بالأسجاع، كقوله: والأرض والسماء، والعقاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفّر المجد بني العشراء، للمجد والسناء. قالوا: فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيّتِها فيهم وفي صدور كثير منهم. فلما زالت العلة زال التحريم. ولقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخطب أسجاع كثيرة، فلا ينهَونهم " (24).
نرى أن ما هو مذموم هنا ليس النثر المسجوع والموقَّع نفسه بمقدار ما هو تذكيره بممارسات وثنية قطع الإسلام علاقته بها. ولْنلاحظْ كيف يُضفي الجاحظ الشرعية عليه: إنه يأتي بمثال من ذلك النوع من السجع ذي محتوى لا يثير الجدل كي لا يتعارض تعارضاً عنيفاً مع الإسلام. ثم يذكر برهاناً عقلياً هو اللجوء إلى مرجع إسلامي محترم إلى أقصى الحدود. وسنعود إلى هذه النقطة الأخيرة، ولكن لنتفحصِ الآن بشيء من التفصيل مسألة المضامين هذه عبْر أمثلة مأخوذة من كتاب البيان والتبيين.
1-1-2: أمثلة الخطبة قبل الإسلام في كتاب البيان والتبيين:
إن أمثلة خطب البيان والتبيين المنسوبة إلى شخصيات جاهلية قليلةٌ نسبياً.ولن نناقش هنا قضية أصالتها فإن ما يهمّنا هو تصوُّرُ الكِتاب لها. وأما أن يكون ما يقدمه مبنياً على اختيارات قام بها الجاحظ وأسلافه من مجموعة نصوص كانت متاحة في عصرهم، أو كان تزييفاتٍ هدفُها ملء فراغات، أو التزويد بنصوص تصلح أكثر من غيرها للتقديم، فلا أهمية كبيرة لها هنا.
يُفهرِس دليل كتاب البيان والتبيين أقلّ من عشر خطبٍ من مجموع مئة وردت في الدليل. وأصحاب النصوص هم وكيع بن سلامة بن زهير بن إياد الملقب بالإيادي صاحب الصرح (25) الذي كان مكلفاً بالمحافظة على موضع الحج بعد جُرْهُم. وعامر بن الظرب (26) وهو حكيم يقال إنه عاش مئتي عام (نصّان). وقسّ بن ساعدة (27) وهو خطيب وشاعر من قبيلة باهلة توفي في حدود عام 600 م (ثلاثة نصوص). وقيس بن خارجة (28) أحد محرضي حرب داحس والغبراء (29). وتضم هذه النصوص خطبة زواج، وأخرى بمناسبة دفْعِ دية، وأخرى ألقيت في عكاظ، في حين لا يُشار إلى مناسبات ثلاث خطب أخرى. وليس هناك أي خطبة تتعلق بنزاعات عاصفة على السلطة كما هي حال الخطبة في العصور المتأخرة. وربما لم يعُد لنزاعات الجاهلية مكان في عصر الجاحظ. وفائدتها الوحيدة – بعيداً عن كونها لا يُستهان بها – مساهمتُها في تكوين صورةِ ماضٍ قبلِ إسلاميٍّ مجيد. وهو ما لم يكن الموضوع الأساسي لكتاب البيان والتبيين.
ولن ندرس هذه النصوص بالتفصيل (30) مكتفين بالإشارة إلى بعض نقاط تبدو مهمة، وبإعطاء مثال عنها.ففيما يتعلق بالشكل فالسجع والإيقاع حاضران فيها جداً في جميع الأحوال أكثر مما في الخطب المتأخرة. وموضوعها غالباً حضٌّ على الحكمة، وتساؤلاتٌ عن الموت وما يليه، وأحياناً تعبير عن اعتقاد بالله يُرهص بالإسلام. وخطباؤها إجمالاً من الحنيفيين، وهذه مثلاً خطبة لقس بن ساعدة: "آيات محكمات،مطرٌ ونبات، وآباءٌ وأمهات، وذاهبٌ وآت. ضوء وظلام، وبِرٌّ وآثام. ولباسٌ ومركب، ومطعم ومشرب. ونجوم تمور، وبحور لا تغور. وسقف مرفوع، ومهاد موضوع. وليلٌ داج، وسما ذات أبراج. مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرَضُوا فأقاموا، أم حُبِسوا فناموا ". (31)
لا تدخل هذه الخطبة في نزاع مع القيَم الإسلامية الأساسية (لا آثار لتعددية الآلهة...) فحسبُ، بل إن تعبيراً مثل " آيات محكمات" هو تعبير قرآني (32). وكذلك " سماء ذات أبراج" قريب جداً من القرآن: ﴿ والسماء ذات البروج ﴾ (33). وأخيراً يجب أن نلاحظ أن رواية كتاب الأغاني (35) لهذه الخطبة الأخيرة، والتي فيها بعض الاختلافات التي لا يمكن تجاهُلُها عن رواية البيان والتبيين لا تتضمن العبارة الأولى من الخطبة " آيات محكمات"، وهي العبارة المختلفة كثيراً عن غيرها بقربها من القرآن. فهل يمكن أن نرى هنا إرادة الجاحظ في البقاء أقرب ما يمكن من الإسلام، مع احتمال أسلمة الجاهلية؟
" إن كل الحركة التاريخية للرسول توجهت إلى إبطال الثروة الرمزية للجاهلية لإحلال تلك التي للإسلام محلها" (36). إن استنكار نصوص من هذا العصر أو الاستناد إلى ممارسات تعود إليه محفوفان دائماً بالمخاطر. ولهذا سيُبرِز الجاحظ فرعاً ثانياً من الخطبة أكثر موثوقية، وأقل عُرضة للشبهة، وهو ما يتصل بالسيرة النبوية.
ثانياً– تأصيل الخطبة في السُّنّة النبوية
ليس هناك ما هو أكثر جرياناً وأُلفة لدى معاصري الجاحظ من منحِ الشرعية لممارسة ما بإعطائها سنداً قرآنياً أو نبوياً، وربطها بالمسلمين الأوائل ذوي الهيبة. غير أن من المهم تتبُّعَ هذ المسار. وسيلجأ الجاحظ من وقت لآخر إلى مثال الأنبياء الذين سبقوا محمداً، وإلى مثال محمد نفسه، وأخيراً إلى كلامه وحديثه عن الخطبة.
2-1: الأنبياء الذين سبقوا محمداً والخطبة:
سيشير الجاحظ مرة تِلو مرة إلى أن الأنبياء الذين سبقوا محمداً كانوا خطباء. وهي حجة سيستخدمها الجاحظ لمجابهة نوعين من الهجمات: هجمات الشعوبية على عادة العرب استعمال العصا (37)، والهجمات التي لا يشير إلى مصدرها، والتي تنصبّ على شرعية الخطبة نفسها. ومن أجل أن يُفحم ثالبي العصا يستعين بشخصية النبي سليمان كما تظهر في القرآن: " والدليلُ على أن استعمال العصا مأخوذ من أصل كريم، ومعدن شريف، ومن المواضع التي لا يعيبها إلا جاهل، ولا يعترض عليها إلا معاند اتخاذُ سليمان صلى الله عليه وسلم العصا لخطبته وموعظته ولمقاماته، ولطول صلاته، ولطول الصلاة والانتصاب، فجعلها لتلك الخصال جامعة. قال الله عز وجلّ، وقولُه الحقُّ:﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلا دابّة الأرض تأكل منسأته. فلما خرّ تبيّتِ الجنُّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ (38) (39). ويخصّ بعد قليل من يتوجه إليهم بهذا النوع من الحجج: " وإنما بدأنا بذِكر سليمان صلى الله عليه لأنه من أنبياء العجم، والشعوبية إليهم أميَلُ، وعلى فضائلهم أحرصُ، ولِما أعطاهم الله أكثرُ وصفاً وذكراً" (40)
ثم يستشهد الجاحظ لتدشين فضائل العصا استشهاداً طويلاً بآيات من القرآن تتعلق بقصة موسى (41). ولكن لا يعود الأمر متعلقاً بممارسة نبيٍّ لفن الخطابة، وهذا لا يعنينا.
والنبي الثاني الذي يذكر الجاحظ ممارسته الخطابة هو داود. ويتعلق الأمرُ بابتداع روايات وموروثات هدفها العدول عن ممارسة الخطابة. ولم يسمِّ الجاحظ المصدر: " وكي تطيعهم بهذه الروايات المعدولة والأخبار المدخولة [ الفاسدة]، وبهذا الرأي الذي ابتدعوه من قِبَل أنفسهم، وقد سمعت الله تبارك وتعالى ذكر داود النبي صلوات الله عليه، فقال ﴿ واذكُرْ عبدَنا داود ذا الأيَد إنه أوابٌ... وفصل الخطاب ﴾ (42) (43).
وبعد أن يُثني الجاحظ على داود في وصْفٍ يتبع هذا النص، يذكر نبياً ثالثاً هو شعيب، ولكن ليس عبْر نص قرآني هذه المرة، بل مستشهداً بكلام النبي محمد:" وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم شعيباً النبي خطيبَ الأنبياء، وذلك عند بعض ما حكاه الله في كتابه، وجلّاه لأسماع عباده. فكيف تهاب منزلة الخطباء وداود عليه السلام سلفُك، وشعيبٌ إمامك؟!"(44).
ولكن إذا كانت الخطبة حقاً ممارسة من ممارسات الأنبياء فإن كتاب البيان والتبيين يشير إلى أنه ليس كل الأنبياء كانوا خطباء لامعين. ولهذا طلب موسى من الله أن يحلّ عقدة لسانه. وقد أجيبَ إلى هذا الطلب.(45). ويتضمن الكتاب كذلك ملاحظة من النبي محمد تصف الأنبياء بأنهم قليلو الكلام.(46) وسنعود إلى هذه الملاحظة.
ولا نجد في كتاب البيان والتبيين أي مثال لخطبة تعود إلى هذه الشخصيات المميَّزة، بل خطبة واحدة منسوبة إلى عيسى، وها هي: " يا بني إسرائيل لا تتكلموا بالحكمة عند الجُهّال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. ولا تظلموا ولا تكافئوا ظالماً فيبطلَ فضلُكم. يا بني إسرائيل الأمور ثلاثة: أمرٌ تبيَّن رُشده فاتبعوه، وأمرٌ تبيّن غيُّه فاجتنبوه، وأمرٌ اُختُلف فيه فإلى الله فرُدّوه " (47) (48).
تعرضُ ملاحظةٌ للجاحظ نفسَها علينا: هذا النص يشترك مع الإيادي صاحبِ الصرح في جملة: " من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه " (49). فهل علينا أن نرى في هذا آثار تصرُّفٍ للجاحظ في النص؟ أم تصرُّفٍ من الجانب الموروث أم من أسلافه كإعادة صياغة أو تحسين أو تزوير؟ نظن أن هذا طرحٌ سيء للقضية إذا تذكّرنا أن الجاحظ يكتب في عصر مفصلي في تدوين الموروث الشفهي؛ يشير زمتور في ما يخص الشعر، إلى أن الموروث عندما يكون الصوتُ أداةَ نقله معرَّضٌ بطبيعته لاختلاف رواياته بسبب ما سميته في كثير من المؤلفات بــ" تبدُّل النصوص". ولكن يبدو لنا أن هذا يمكن أن ينطبق حقاً على نماذج النصوص التي نعالجها،إن ما هو حاضرٌ في الذاكرة للحظته من الموروث يعيش في حالة كمون شعري وخطابي في ذاكرة الوسيط وذاكرة الجماعة التي ينتمي إليها. ولما كان هذا المخزون الآني يتعلق بالتراكيب والبنى فإن النص ينقله بأمانة أحياناً، وإذا كان حديثاً فإنه يوجد مندرِجاً في كلام ذي طابع شخصي في اتجاه إرادة أصلية غير قابلة للتكرار. (50)
وحتى إن عرفنا أن الجاحظ اعترف بارتكاب النحل،وأن له إذن علماً بقضية الأصالة، وحتى إن كانت النصوص كالخطب خضعت لرقابة جماعة أكثر تشدداً لأنها تلقّتها في ظروف خصومات على السلطة، فلا يمكن أن نتجنب ظاهرة التغير تلك للنص الشفهي عندما نتفحّص نصوصاً متقدمة جداً زمانياً على تسجيلها كتابياً.
إن مشكلة إعادة الصياغة،وهجرة الصيغ الجاهزة أو المقاطع من نصوص إلى نصوص، وحتى التزوير [ النحل] تطرح نفسها هكذا في سياق مختلف تماماً.
ولكن حدثاً يبدو لنا أكثر أهمية: هذا النص مضمَّن في حوار بين محمد وأصحابه، فهو، أي محمد، الراوي لهذه الخطبة، وها نحن إذن في قلب نشاطه المتعلق بفن الخطابة والدين سندرسه حالاً مبتدئين بممارسته للخطبة.
2-2محمد وممارسته للخطبة:
يبدو محمد من خلال البيان والتبيين ممارساً للخطابة بكافة أشكالها. ولْنلاحظْ أولاً أنه في الوقت نفسه الذي استعان فيه بالشعراء استعان بخطيب.
وقد كان لرسول الله شعراء ينافحون عنه وعن أصحابه بأمره. وكان ثابت بن قيس بن الشماس الأنصاري خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يدفع ذلك أحد. (51)
وخطب الرسولُ من جهة أخرى خطباً يَعدُّ كتاب البيان والتبيين ثلاثاً منها: الخطبة الشهيرة بخطبة الوداع (52)، ونصٌّ قصير جداً ألقاه حين دخل المسلمون مكة معلناً ان الله أنزل عفوه عن المكيين (53)، ونص ثالث يحث على التقوى أو ذو محتوى تعليمي(54). وهذه الممارسة الخطابية النبوية كانت فضلاً عن ذلك موضوع تعليقات في كتاب البيان والتبيين، وهذا واحد منها يبدو لنا مهماً:
" وسنذكر من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يسبقه إليه عربي، ولا شاركه فيه أعجمي، ولم يُدَّعَ لأحد ولا ادّعاه أحد، مما صار مستعملاً ومثلاً سائراً. (55)
يبدو محمد هكذا مبتدِعاً في ساحة فن الخطابة، سواء بالقياس إلى العرب أم إلى غيرهم، في حين أنه عندما يروي خطبة لعيسى أو لقسّ بن ساعدة (56) ينضوي في إطار مزدوج: أحدهما الكلام العربي، وثانيهما الكلام النبوي الذي كان يتطلب قطيعة مع الاستمرار الأول في نقاط عديدة. وعلى ضوء هذا الأمر المزدوج: الانضواء في استمرار، والاحتفاظ إلى جانبه بالقطع معه والإبداع، يجب أن نقرأ ما كان يشار إليه في تفكير الجاحظ في كتاب البيان والتبيين على أنه تناقضات (57).
وكان محمد أيضاً استمراراً للحركات الجسدية لخطيب الجاهلية، وهكذا استطاع أنصار استخدام العصا الانتفاعَ من مثاله في نزاعهم مع الشعوبية. " وكان رسول الله يخطب بالقضيب، وكفى بذلك دليلاً على عِظَم غَنائها وشرف حالها. وعلى ذلك الخلفاء وكبراء العرب من الخطباء. (58)
وأخيراً يرسم الجاحظ صورة محمد خطيباً، مقدِّماً هكذا إلى قارئه أنموذجاً في موضوع الفن الخطابيّ: " وأنا أذكر بعد هذا فناً آخر من كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام الذي قلّ عددُ حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصنعة،ونُزِّه عن التكلف، وكان مما قال الله تبارك وتعالى: قلْ يا محمد:﴿ وما أنا من المتكلفين ﴾ (59)
فكيف وقد عاب [محمد] التشديقَ، وجانَبَ أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغر يب الوحشي، ورغِب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفَّ بالعِصمة، وشُيِّد بالتأييد، وسُرّ بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حُسن الإفهام وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته. لم تسقط له كلمة، ولا زلّت به قدم، ولا بارت له حُجة، ولم يقُم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخطب الطوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلج إلا بالحق. ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجِّل، ولا يُسهب ولا يحصر. ثم لم يسمع الناس بكلام قطّ أعم نفعاً، ولا أقصدَ لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنى، ولا أبيَن في فحوى من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً" (60)
إن في ما سبق صورة الخطيب المثالي. وهناك نقاط جديدة أو مطوَّرة في مكان آخر من البيان والتبيين لن نعددها. ولكن يبدو لنا مهماً أن نشير إلى ظهور الإلحاح على علم آداب الكلام: الحكمة والصدق وحُسن النوايا ورفض الخلابة والمواربة والهمز واللمز. وسنجد ثانية هنا الإلحاح على ما قاله النبي محمد في الخطبة، في سياق ما يمكن أن نسميه " نشاطه النقدي".
2-3: حديث محمد عن الخطبة:
يخص الشق الأول من " النشاط الأدبي " للنبي محمد رواية الخطبة. إن محمداً هو الضمانة المزدوجة لأصالة الخطبة في السُّنّة النبوية عندما يقدَّم لنا راوية لخطبة يسوع (61)، وفي الموروث الشفهي عندما يقدم لنا راوية لخطبة قس بن ساعدة الإيادي. وها هو في كتاب البيان والتبيين: " ولإيادٍ وتميمٍ في الخطبة خصلة ليست لأحد من العرب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي روى كلام قس بن ساعدة وموقفه على جَمَلِه بعكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش وللعرب. وهو الذي عجّب من حُسنه وأظهر من تصويبه. وهذا إسناد تعجز عنه الأماني، وتنقطع دونه الآمال. وإنما وفّق الله ذلك الكلام لقس بن ساعدة لاحتجاجه للتوحيد، ولإظهاره معنى الخلاص، وإيمانه بالبعث. ولذلك كان خطيب العرب قاطبة" (62).
يشير الجاحظ حقاً إلى أي حدٍّ كانت سلطة كهذه استثنائيةً، وما هي أسباب المحاباة الخاصة بقسّ: تطابُقُ أقواله مع العقيدة الأساسية لوحدة الإله: لم يكن الشكل اللغوي السبب في رواية محمد للخطبة بل المحتوى. وسنجد هنا ثانية ذلك الاهتمام الذي أظهره الجاحظ بخطبة قبل- إسلامية لا تتعارض مع الإسلام، كما لو أن الخطبتين ما قبل الإسلامية والإسلامية تتلاقيان نحو هذا النمط وهو الخطبة النبوية.
وفي ما يتعلق بالشكل هناك نقطة خلاف وهي السجع (63) لا يبدو أنها لقيت رضاه إلا على مضض بسبب علاقته بالجاهلية:
" قالوا فقد قيل للذي قال: " يا رسول الله أرأيت من لا شرب ولا أكل، ولا صاح واستهلّ، وليس مثلُ ذلك يُطلّ"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسجعٌ كسجع الجاهلية؟! " قال عبد الصمد لو أن هذا المتكلم لم يُرِدْ إلا الإقامة لهذا الوزن لما كان عليه بأس، ولكنه عسى أن يكون أراد إبطال حقٍّ فتشادق بالكلام. (64)
يشرح المفسر عبد الصمد أسباب هذا الازدراء للسجع: لم يكن النثر المسجوع الموقع بحد ذاته هو المرفوض، بل استعماله حجةً في الكلام. وتتضح هذه الفكرة من خلال ملاحظة لبلانتان Plantin تميِّز الخطاب المبرهَن عليه بحجة خارجية (HETERO-ARGUMENTE) من الخطاب ذي البرهنة الذاتية (AUTO-ARGUMENTE) قائلاً: " لنفترض حديثاً مؤلفاً من جملتين تدخل إحداهما في علاقة برهانية مع الأخرى، كأن تكون الأولى برهاناً والثانية استنتاجاً؛ إن مثل هذا الحديث قابلٌ للبرهنة أو مبرهنٌ عليه، ويقدِّم للمرسل إليه استنتاجاً مبرهناً عليه، وفي هذه الحالة نقول إن الاستنتاج خارجيُّ الدلالة (HETERO-ARGUMENTE)،وهذه هي حال الاستنتاج التالي:" السنونوات تطير اليوم منخفضة: ستمطر السماء". وتتعارض مع هذه البرهنةِ المنطوقةِ البرهنةُ التي تبرهن ذاتها بذاتها. يمكن أن نسمي خطاباً كهذا خطاباً ذاتي البرهنة AUTO-ARGUMENTE): " سيب؛ هذا جيد!" (65)
إن إمكانيات التفنيد ليست هي هي بالنسبة لنوعَي الخطابة؛ فكيف يمكن تفنيد " سيب؛ هذا جيد!" إذا كان الدليل لم يُقدَّم في صيغة حكم مستقل؟ إن الخطاب الذاتيَّ البرهنةِ مستعصٍ على التفنيد، وهو بهذا المعنى لا عقلاني.(66)
ويمكن أن يكون السجع من أصل ذاتيِّ البرهنة، وحينئذ يُفهَم أن رفضه هو رفض لحديث غير عقلاني، وغير قابل للتفنيذ.
ولإنقاذ السجع يلجأ الجاحظ، قبل مثال الخلفاء الراشدين الذين كانوا هم أنفسهم يقبلون النثر المسجوع الموقع، إلى التعليل داعماً موقفه بموقف النبي محمد المحبِّذ في رأيه للشعر: " وقال غيرُ عبد الصمد: وجدنا الشعر من القصيد والرجز قد سمعه النبي (ص) فاستحسنه وأمر به شعراءَه. وعامةُ أصحاب رسول الله (ص) قد قالوا شعراً، قليلاً كان أم كثيراً، واستمعوا واستنشدوا، فالسجع والمزدوج دون القصيد والرجز؛ فكيف يُحلّ ما كان أكثر ويُحرِّم ما هو أقل" (67)
لماذا كل هذا الإصرار على احتواء الخطبة رغم الكثير من التحفظات بصددها؟ هل يتعلق الأمر مرة أخرى برفع شأن عادة كانت تُعدّ عربية صِرفاً لإحباط الشعوبية؟ أم لأن من الواقعي ألا يُترَك في وضعٍ غيرِ شرعي شيءٌ هو حي على كل حال، ويتعلق بممارسات المجتمع الذي يعيش فيه الجاحظ؟ إن فحصاً دقيقاً لنصوص خطب البيان والتبيين يمكن أن يلقي ضوءاً مهماً على هذه المسألة. ولكن يبدو أن النقطة المركزية في حديث النبي عن فن الخطابة تتعلق بآداب الكلام التي أشرنا إليها قبل قليل. وهذا ما يبدو لنا النصَّ المفتاح: " وكذلك ليس لأحدٍ في ذلك مثلُ الذي لبني تميم لأن النبي (ص) لما سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر، قال: مانعٌ لحوزته، مطاع في أدْنَيه. فقال الزبرقان: أما إنه قد علم أكثر مما قال، ولكنه حسدني لشرفي. فقال عمرو: أما لئن قال ما قال والله ما علمته إلا ضيِّق الصدر، زَمِرَ المروءة [ قليل]، لئيم الخيال، حديث الغنى. فلما رأى أنه خالف قوله الأول، ورأى الإنكار في عيني رسول الله (ص) قال: يا رسول الله رضيتُ فقلتُ أحسن ما قلتُ، وغضبتُ فقلتُ أقبح ما علمت. وما كذبتُ في الأولى، ولقد صدقتُ في الآخرة. فقال رسول الله (ص): إن من البيان لَسحراً " (68)
ليس من المؤكَّد أن هذه صيحة إعجاب؛ إن معجم " اللسان" الذي يروي هذا الخبر يعلّق بما يلي:" فيكون في معرض الذمّ، ويجوز أن يكون في معرض المدح" وهذه الجملة نفسها للنبي تناولها ثانية كتاب البيان والتبيين متبوعة بالتعليق التالي: " ولذلك قال رسول الله (ص): إن من البيان لَسحراً. وقال عمر بن عبد العزيز لرجلٍ أحسن في طلب حاجة وتأتّى لها بكلام وجيز ومنطق حسن: هذا والله السحر الحلال. وقال رسول الله (ص): لا خلابة!" (69)
وأخيراً فإن حكاية أخرى من النمط نفسه، أي حيث يبرهن الشخص نفسه بالتتابع لمصلحة شيء، وعلى نقيضه، تثير التعليق التالي: " فالذين كرهوا البيان إنما كرهوا مثل هذا المذهب؛ فأما نفسُ حسن البيان فليس يذمه إلا من عجز عنه.ومن ذمَ البيان مدح العيّ، وكفى بهذا خبالاً".(70)
إنه ارتياب خطير في سلطة الكلام يعبّر عن نفسه هنا، وبخاصة عندما توضع في خدمة المصلحة الشخصية كما في الخبر الذي رويناه آنفاً، وليس في خدمة المصلحة العامة. وبهذا الخصوص فإن تعريف البلاعة الذي يقدمه عمرو بين عُبيد (71) واضح جداً، نظراً إلى أن آخرَ ما يهمُّ هو الناحية التقنية التي تمس استعمال اللغة. والأهمّ من هذا أنها وسيلة للاهتداء إلى الطريق القويم. ويجب الخوف من " الفتنة " التي يمكن أن تمارسها اللغة. وهذا المقطع نفسه هو الذي يتضمن الجملة المنسوبة إلى النبي محمد ن والتي تقول إن الأنبياء قليلو الكلام: إذن الكلام شيء يجب ألا يبالَغ في استعماله، ويجب أن يخدم الحقيقة، وهذا هو أحد محاور كتاب البيان والتبيين الذي لا ننسى أنه يبتدئ بالتحذير من الفتنة التي تمارسها اللغة. ومع ذلك لا يُدان الإنسان على صمته: إن الكلام – والخطبة إذن _ محمود مع بعض الاحتياطات، والصمت ليس مفضَّلاً عليه بأي حال.(72)
ها هي إذن محاولةُ بحثٍ في سلسلة الخطبة التي يرسمها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: أصلٌ عربي يمثل أنموذجاً للكلام العربي، ولكن يجب الدفاع عنه ضد هجمات الشعوبية. وهذا الأصل العربي نفسُه طرح مشكلةً بسبب علاقته بالماضي الوثني للجاهلية. وأصلٌ ثانٍ يمتد إلى الموروث النبوي، ويسمح بمسْح لطخة الوثنية، واضعاً في الوقت نفسه ضوابط اللغة والمحتوى في توافقٍ مع الإسلام. وخارج هذا السياق من التشريع - وهو إجمالاً كلاسيكي جداً – يمكن أن يُرى كما في مكان آخر من البيان والتبيين، ممارسةُ هذه الآلية الحاذقة لتقبّل موروث شفهي في كتابة تتشكّل، وفي غمرة خلق معاييرها الخاصة من جهة. ومن جهة أخرى احتواءُ كلِّ ما يمكن أن يكون منسجماً مع الإسلام من ثقافات تنتمي إلى الماضي العربي أو ثقافات احتكّ بها العالم الإسلامي. ويجري كلُّ هذا مولِّداً تناقضات وتسوياتٍ يصبح كتاب البيان والتبيين صداها. إن الفحص الدقيق لنصوص الخطب التي ننكبُّ على دراستها، بالإضافة إلى ما عرضناه هنا، لا يمكنه إلا أن يقدم لنا توضيحاً ثميناً، وهو أنه نظراً إلى أنها نُقلت من الحالة الشفهية إلى الحالة الكتابية. ونظراً إلى أنها ممارسة قبل – إسلامية نُقلت إلى إطارٍ إسلامي ومكانٍ للتعبير عن كل الخلافات التي ينبغي تهذيبها فهي منعطف أساسي.
الحواشي:
- مقال منشور بالفرنسية في نشرة المعهد الفرنسي للدرات العربية، والذي تغير اسمه لاحقاً إلى المعهد الفرنسي للشرق الأوسط. 1994العدد 66.والترجمة في مجلة الآداب الأجنبية،من إصدار اتحاد الكتاب العرب في سورية العدد 108 خريف عام 2001.
- * باحثة فرنسية كانت تُعدّ رسالة دكتوراه في موضوع خطب البيان والتبيين للجاحظ.
1-من الممكن فضلاً عن ذلك ألا يكون الخطبة تعرّضت لهجمات بهذه الحِدّة، وأن الجاحظ بصفته مناظِراً جيداً من جهة، ويهدف من جهة أخرى إلى إقصاء خصومه أنصارِ الشعوبية، يضعهم على مسرحٍ يهاجمون فيه صرحاً من صروح العربية كان في طريق تحوُّلِه إلى أدب. أما نحن فنتناول هنا النقاش كما قدّمه الجاحظ.
2- أنصار الشعوبية.
3-البيان 3/ 12-13. والترجمات لنا إلا إذا أشرنا إلى خلاف ذلك. وقد ترجم شارل بيلا في مجلة " دفاتر جزائرية " ص 101 هذا النص. وحدّد في حاشية له الزنجَ بالسود الذين في العراق. والمقطع نفسه ترجمه لويس برنار عن الإنجليزية.
4-البيان 3/ 27-28. وقدم شارل بيلا ترجمة لهذا النص استلهمنا منها.
5-البيان 3 / 29. يبدو أن هذا المقطع ترجمه بيلا دون إحالة إلى المرجع.
6-سنطوِّر هذه النقطة في أطروحة قيد الإنجاز موضوعها خطب البيان والتبيين.
7-بيلا، دفاتر جزائرية ص 102.
8-البيان 3/29. والمقصود هو ظاهرة تأليف مؤلفات ونشرها بأسماء مستعارة من الأسماء الرائجة، وقد فعل الجاحظ وغيره مثل هذا.المترجم.
9-هو مغلق لأن الأدب الفارسي كان في رأي الجاحظ أدباً ميتاً أكثر مما هو ممارسة حية. وهو مكتوب لأن النصوص المصنفة تحت عنوان " الرسالة" في دليل البيان والتبيين مسبوقة غالباً بفعل " كتب". ولْنُشِرْ مع ذلك إلى أن نصاً فارسياً تحت عنوان " الرسالة" نصٌ شفهي (البيان 3 / 221-222) مما سيقودنا إلى تعريف الرسالة كحديث وسطٍ: وسطٍ سواءٌ بوساطة شخص ثالث أو ناقل أم بالكتابة ووسائطها. وهو مع ذلك الأوسع انتشاراً، ويسمح لنا بأن نحتفظ بترجمتها لنا بكلمة épître.
10-زمتور:مدخل إلى الشعر الشفهي. يعرِّف المشافهة الخليطة بأنها " المشافهة التي يبقى اثر الكتابة فيها خارجياً وجزئياً متأخراً، في حين أن المشافهة الثانية هي التي تتشكل ثانية انطلاقاً من كتابة ما، في وسط لها الأولوية فيها على قِيَم الصوت في الاستعمال والخيال.
11-غودي: العقل الكتابي ص 53- 54.
12-م.س ص 86.
13- لنُذكِّرْ هنا أننا لا نهتم بتاريخية مثل هذه النصوص، بل بما يساهم حضورها في تقديم الجاحظ لفن الكتابة.
14- البيان 2/35.
15- البيان 1/81 و407. ويشير عبد السلام هارون [ محقق الكتاب] في البيان 1/81 إلى أن النص نُسِب في مؤلفات كلاسيكية أخرى إلى قباذ في مناسبة تأبين ملك ساساني.
16- البيان 2/92.
17- يمكن اعتبار كتاب البيان والتبيين مقسوماً إلى نصوص نظرية، ومختارات وهي الأهمّ من حيث الحجم. تحتوي على قطع أدبية مختارة (شعر، خطبة، رسالة، وصية، أمثال...) متراكبة بدقّة. إن الجزء النظري كان موضوع دراسات كثيرة في حين كان الجزء الآخر مهملاً رغم أن النصوص تحتوي توضيحاً ذاتياً تماماً لنظريات الجاحظ، بغضِّ النظر عن تنقلات الجاحظ بين المختارات والنظرية.
18- بيلا، م. س. ص 96. ويقصد بيلا الاعتزال وما رافقه من انقسامات.
19- البيان 1/ 81
20- أورشيوني: التفاعلات الشفوية ص 137- 138 يذكِّر بأن المادة المرافقة للشفهي تتعلق بالإشارات الصوتية السمعية، وبأنها عروضية وصوتية: أداء ووقفات وتشديد مفصلي وطريقة نطق وخصوصيات إلقاء واختلافات مميّزة للصوت. أما المادة غير الشفوية فتتعلق بالإشارات الجسدية المرئية التي يمكن أن نميز بينها:
- السكنات: أي ما يؤلف المظهر الجسمي (نظرة المشاركين).
- الحركات البطيئة، أي مواقف الجسم ووضعياته.
- - الحركات السريعة: لعبة النظرات وإيماءات الحركات.
21-البيان 3/12.
22- البيان 1/ 14.
23-تجد مثل هذه الأمثلة للنطق الشائع بسبب اللكنة الأجنبية، في البيان 1/71- 74.
24- البيان 1/289 – 290.
25 – م. س 2/109.
26- م. س 2/109 و1/104 و2/ 199 للنص الأول، و2/77 للنص الثاني.
27-م. س 1/ 308 -309.
28-م.س 1/ 110 -117.
29- الأغاني 17/178 – 208.
30 - تدخل دراستها في أطروحتنا.
31- البيان 1/309.
32- آل عمران 3/107.
33- البروج 85/ 1.
34- الطور 52/5.
35 – الأغاني 15/ 247. وقدّم أحمد زكي صفوت في " التفكير البلاغي عند العرب" ص 38-39 الرواية نفسها.
36-محمد أركون في " من أجل نقد العقل الإسلامي" ص 93.
37-انظر المقطع السابق 1-2-1.
38-سبأ 34/ 14.
39-البيان 3/3.
40-م.س 3/31
41- م. س 3/ 32-33.
42-ص / 17-20. وقد غيّرنا ترجمة ماسون لعبارة " فصل الخطاب" من "jujement " أي الحكم، إلى "discours" أي الخطاب. لأن الفهم الجيد باللغة الفرنسية لحجة الجاحظ يوجب هذا التغيير.
43- البيان 1/200 -201.
44- م.س 1/ 201.
45- م.س 1/ 7 -8.
46- م.س 1/ 114.
47- م.س 2/35.
48- انظر المقطع أعلاه 1-2-2.
49- البيان 2/11.
50- زومتور ص 160 -161.
51- البيان 1:/ 201.
52- م. س 1/ 31- 33. درس بلاشير هذا النص " خطبة محمد في حجة الوداع" واهتم على نحو خاص بمتابعة الروايات المختلفة له في الأدب القديم.
53- البيان 1/5.
54- البيان 1/ 302 – 303. وننوي دراسة هذه النصوص في أطروحتنا.
55- م.س 2/15.
56 – انظر المقطع أعلاه 2-3.
57- هذه خصوصاً حال النقاش حول قيمة الصوت.
58- البيان 3/69.
59- ص / 38/86. جاك بيرك في ترجمته للقرآن ص 492. ويضيف الشرح التالي في الحاشية: " يعني هذا إما أنهم يفرضون على طبيعتهم نزاعاً خاصاً أو تصنعاً (هو معنى آخر لوزن " تفعّل" أي هو تزوير تقريباً:﴿قلْ [ يا محمد] ما أسألكم عليه أجراً وما أننا من المتكلفين ﴾ (ص 38/ 86.
60- البيان 1/ 16- 18.
61- انظر المقطع أعلاه 2-1.
62- البيان 1/52. وخطبة قس بن ساعدة في 1/ 308 -309.
63- انظر ما سبق المقطع 1-2-1.
64- البيان 1/ 287. والكلام احتجاج على طلب دية جنين. المترجم.
65- " سيب" علامة لنوع من القدور كان مشهوراً في وقت ما في فرنسا ويكفي اسمها للدلالة على جودتها. (المترجم).
66 – بلانتان: أبحاث في الدلالة ص 151 – 152.
67 – البيان 1/ 287 – 288.
68- م.س 1/53.
69 – م.س 1/ 255.
70- م.س 1/ 395.
71 – م. س 1/ 114.
72- م. س 1 / 114.