طقوس الموت لدى شراكسة الجولان
الموت حقيقة موضوعية باردةٌ وقاسية كما تقول الفلسفات، ولا مهربَ منه أو إمكانَ تأجيلٍ متى قدم، كما يقول القرآن الكريم: ﴿فإذا جاء أجلُهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون﴾ ( الأعراف 7 /34 ). بل ﴿ما تدري نفس بأي أرضٍ تموت﴾ ( لقمان 31 /34)
يقول العلماء إن الفيَلة، وهي من أعلى الرئيسات، تتوقف حين تمر بمكانٍ نفقَ فيه أحدها وتمارس طقوساً لا يمكن أن يفهمها البشر طبعاً. وحتى زوج الحمام إذا أصيب أحدهما أو "مات" يبقى الآخرُ ساعة يحاول أن يفهم ما جرى، وأن يُصلح الموقف ؛ فكيف بالبشر؟!
لم يستطع الإنسان حتى الآن تقبُّل فكرة الموت. لم يتقبّل أن يفارقه رفيقه أو رفيقته في البيت، في العمل، في المدرسة، ويغيب إلى الأبد.
ومن أوائل الشعراء العرب الذين حاولوا فلسفة الموت والتحايُل على قسوته طرفَةُ بن العبد الذي عاش حياة أقرب إلى الأسطورة، ومات شاباً جداً، إذ يرى أن الإنسان مربوط بحبل يمسك الخالق بطرفيه، ومتى جاء أجله شدّ طرفي الحبل، فانتهت إقامته في الدار العاجلة:
لَعَمْرُكَ إن الموت ما أخطأ الفتى لَكَالطِّوَلِ الـمُرخى وثِنْياه باليدِ
ووجد العزاء في أن الناس يستوون أمامه:
أرى قبر نحّام بخيل بماله كقبر غويٍّ في البطالة مفسد
بل إنه يختار كرام الناس:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتبدد
وها هي الخنساء تقف مشدوهة أمام قبر أخيها، لا تصدّق أن الصباح يطلع عليه في القبر، والمساء يغيب عليه فيه:
فيا لهْفي ولَهْفَ أبي وأمي أيُصبِح في الضريح وفيه يُمسي؟!
ويرى المعري أنْ لا فرْقَ بين من ينعى ميتاً أو يبشر بولادة كائن جديد إذ أن كل من يُخلق لا بد أن يموت. ويعتقد أن سطح الأرض تكوَّن من رفات الآباء والأجداد:
صاحِ هذي قبورنا تملأ الرّحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب فأين القبور من عهد عادِ
خفِّفِ الوطء ما أظن أديم الــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــأرض إلا من هذه الأجساد
...
حرص الإنسان منذ بداية وعيه الإنساني الذي قد تكون أُولى طقوسِ الموت بوادرَه على أن يتجنبه. بحث عن الخلود، وآمن، أو أقنع نفسه بالتقمُّص والتناسخ، بتجليه في مخلوق آخر، آمن بالبعث وبالحشر... كل هذا من أجل أن يتقبّل الفكرة، أو يُقنع نفسه بأنه لا يموت.
وعلى أمل البعث في يوم من الأيام كان الشراكسة كغيرهم يتفنّنون في أشكال القبور في عصور ما قبل الميلاد، ولا تزال القبور – التلال منتشرة في القفقاس حيث يُدفن الأمراء والنبلاء وأصحاب الشأن جالسين، وتُرفع فوقهم القباب، ويُدفن معهم خدمُهم وحراسهم إن كانوا من علية القوم.
غير أن الموت ضرورة موضوعية فلا إمكان لتجدُّدِ المجتمع وضخِّ دماء جديدة فيه إلا بموت جزء منه. بل إن الدول المتقدمة صحياً تشكو من أن مُسنِّيها يستنزفون مواردها بما يحتاجونه من رعاية صحية. وأدرك القدماء، وخصوصاً في العصر القبلي، خطورة هذه المشكلة، ولا سيما في ظروف محدودية الموارد، أو انتشار أمراض سارية في المكان، ففكروا بطرق مقبولة للتخلص منهم. وكان معيار الحكم واتخاذ القرار موضوعياً بارداً كما الموت: من أجل أن يعيش الجيل الجديد المنتج لا بد من التضحية بالجيل المستهلَك والمستهلِك معاً.
ومن هذا القبيل ما تروي الأساطير من أن النارتيّين، وهم الأجداد الأُسطوريون للشراكسة، كانوا يرمون بمسنيهم في وادي الموت. وتنتشر في أوساطنا حكاية رجل تعثّر بحجر على الطريق وهو يجر والده، فضحك الوالد. سأله ابنه عن سبب ضحكه فأجابه أنه تعثّر هو نفسه بهذا الحجر في طريقه إلى نفيِ والده.
...
يحمل الموت – وبالمناسبة فالموت وفِعلُه في العربية خاصان بالإنسان- أسماءً متعددة في كثير من اللغات، كما نقول في العربية "مات" فنحكم أن التعبير قاسٍ، فنلطِّفه بعبارة "تُوفِّي" أو "توفّاه الله" أو "انتقل إلى جوار ربه". ونعبّر في الشركسية بالتعبير الفجّ نفسه: "مات" فنراه جارحاً بحق الميت وأهله، فنلطفه بما يعني حرفياً : "نزل من على الدنيا" أو كما في الفرنسية: "لم يعد موجوداً" أو "انقطع عن الوجود".
كان النعيُ أيام طفولتنا وشبابنا في القرية مريعاً يبعث الرعب في القلوب. وعادت الطريقة نفسها في النعي إلى القرية بعدما عدنا إليها إثْر حرب تشرين. يُنشَر الخبر عن طريق مئذنة الجامع بعد فاصل من الصلوات فيتوقف الناس عن أي حركة متوجّسين من الاسم الذي سيعقبه. ثم يعم الحزن القرية وقد ينتشر إلى القرى المجاورة. تُعلَّق الأفراح والأعراس حتى ممّن لا تربطهم بالمتوفّى رابطة قرابة بل رابطة جوار. يؤجِّل أقرباؤه مناسباتهم السارة واحتفالاتهم إلى أجل غير مسمى، فإذا كانت القرابة بعيدة نسبياً فإلى ما بعد الأربعين. أما سائر أبناء القرية فيؤجلون بضعة أيام. ولا يُسمع صوت الراديو أو غناء فردي أو ضحكات في كافة أنحاء القرية.
وكان للقبور رهبة دينية شديدة، فلا يخطر لأحد أن يلعب بينها أو يعبث بها، بل أن يقترب منها إلا في المناسبات. وكانت مفاجأة شديدة لأمثالي حين سكنّا دمشق أول مرة فرأينا الناس في الأحياء الشعبية بخاصة يعيشون بين القبور، ويتخذون من بينها دروباً إلى بيوتهم. وكانت مفاجأة أن نرى الناس يمرون بقربها أو بينها في لحظة دفن أحدِهم.
من البديهي أن يسود الحزن أسرة المتوفى، ولاسيما إن كان شاباً أو كانت الـمِيتة مفاجئة، أو في ظروف قاسية، غير أن الرجال يمتنعون عن إظهار حزنهم وخصوصاً أمام أولادهم وأمام الضيوف، بل ينهرون النساء من وقت لآخر ليخففوا من مناحاتهم. وفي الوقت نفسه يستعدون، بمساعدة الجيران للمناسبة بأن تُخلى الغرف من الأثاث الزائد، وتستعار الكراسي والطاولات التي لم تكن في تلك الأيام كثيرة. ولا يشمل الاستعداد أي لباس محدد سوى أن الرجال والشباب الذين يقيمون في غرفة الضيوف يرتدون قبعات أو كوفيات. وقد يكون هذا أيضاً علامة للقادمين من غير أبناء القرية إلى أنهم من يجب تقديم العزاء لهم؛ أما النساء فيرتدين بطبيعة الحال غطاء الرأس، أما ارتداء النساء اللباس الأسود فقد اندثر منذ انتشار الإسلام.
ويُبلَّغ سكان القرى القريبة عن طريق الفرسان سابقاً، ثم عبر المواصلات الحديثة (طبعاً في ظروف عدم انتشار الهاتف). ولم يكن الوقت الضروري للتبليغات مشكلة كبيرة، فالمسافات بين القرى الشركسية في الجولان كانت محدودة، يقطعها الفارس في ثلاث ساعات على الأكثر. ثم إن من عادات الشراكسة في كل مكان عدم الاستعجال في الدفن. وهو عادة لها أكثر من مسوغ: الجو البارد في القفقاس الموطن الأصلي، ثم في الجولان، كان يسمح بالاحتفاظ بالجثمان الوقت الكافي حتى في الصيف. والأهمُّ من هذا وذاك إتاحة الفرصة لمن يقيمون في أماكن بعيدة من الأقارب المقربين كالأبناء وأولاد العمومة والخؤولة لحضور الجنازة. وحين يصل أحد هؤلاء وقد فاتته الجنازة يعتذر بكل صدق عن التأخر بعدم التبلُّغ أو الظروف المعاكسة. وكانوا يُخرِجونه إلى أرض الدار في الليالي الحارة جداً وهو أمر نادرٌ جداً في الموطنين. ثم إن فلسفة التأخير تأتي من منطلق أنه ليس من اللائق إخراج هذا الذي عاش في البيت كل هذه السنين وكدّ وكدح وصار دعامة من دعاماته، في ساعة أو ساعتين، ولا من قبيل الاحترام له، إلى أن تقتنع النفوس مع الوقت أن أوان رحيله عن البيت قد حان. فكانت العادة أن يُدفن بعد صلاة العصر إذا حدثت الوفاة في ساعة مبكرة من الصباح، وفي ظهيرة اليوم التالي إذا حدثت قُبيل الظهر أو بعده.
ومن المناسب أيضاً أن نذكر أنّ الجنازات كانت ترتبط بصلاة الظهر أو العصر، وليس خارج هذين التوقيتين إذ يُصلَّى على الجثمان في الجامع بعد الصلاة الاعتيادية ثم يحمل إلى المقبرة، ويُدفن حسب الأصول كما سيلي. وكانت مفاجأة أخرى حين رأينا في دمشق أحدهم يُدفن في الليل على ضوء المصباح. وكانت المفاجأة الأشد غرابة وروعاً أن نرى قبراً يُفتح فيُدفن فيه ميت على رفات ميت آخر. والحالة الوحيدة التي يُدفن فيها أحدهم باكراً هي ولادة طفل ميتاً، فلا يُشيعون هذا الخبر، أو وفاته بعد الولادة تماماً، فتقام له جنازة مصغرة بمن حضر.
يتوافد الرجال والنساء إلى منزل المتوفّى حال سماع الخبر. ولا يجوز ترْكُ الجثمان وحده لحظة. حتى إذا تأخر الوقت وتعب الزوار بقي إلى جواره أهلُه القريبون جداً كالأبناء والإخوة، والبنات والأخوات في حال كون المتوفى امرأة. وعلى الرجال أو النساء الجالسين إلى الجثمان أن يمتنعوا عن الثرثرة في حضرته وإن لم يقرؤوا شيئاً من القرآن. ويتبرع أحدُ الحضور ممّن يجيدون التلاوة فيتلو، وبعض القادمين، ولاسيما من أماكن أخرى، بالأذكار والأدعية.
يجري في مكان مغطى كالمطبخ أو الحمام، لا في الزرائب ولا في الغرف بداهة، تغسيل الجثمان بعناية وإخلاص شديدين، بل مبالَغ فيهما، حتى كأنه مقبل على عُرس. وفي كل قرية عدد من الرجال والنساء متخصصون في هذا، دون أي مقابل إلا ابتغاء ثواب الله. ويساهم معهم أحد أبناء الأسرة تعبيراً عن احترام المتوفى. ويبقى كلُّ ما يُشاهد على الجثمان من بقايا جروح أو كدمات أو أي نوع آخر من الإصابات أو التشوهات الخَلْقية التي كانت خفية في حياته، رجلاً أم امرأة، سراً أبدياً. ثم يكفَّن حسب الأصول الإسلامية، ويُعاد إلى الغرفة التي يجتمع فيها الرجال أو النساء، ويوضع على البطن مقصٌّ حديدي مفتوح على هيئة صليب يزعمون أنه يمنع انتفاخ الجثمان.
يسأل الإمام علناً الجمهور القادم لتشييع الجثمان إن كان لأحدهم شيء في ذمة المرحوم. وفي السنوات الأخيرة صارت زوجة المرحوم تُسأل، على سبيل الحرفية في تطبيق الدين، إن كان وصَلَها مؤخَّر المهر، رغم أن هذه المسألة كانت بعيدة جداً عن اهتمام المجتمع الشركسي، ورغم معرفة السائل أنها لن تجيب بالإيجاب ولو كان زوجها المتوفى الآن مديناً لها بالملايين. ثم يطلب من الأهل القادرين دفع مبلغ معين ليس كثيراً كفّارة عنه، أما الأسرة الفقيرة فلا يُطلب منها شيء. ثم ينطلق الموكب من المنزل إلى المقبرة. ويكون الشباب سبقوه بساعات إليها لحفر القبر. ولما كان الحفر في مثل أرضنا صعباً في كل الظروف، صيفاً وشتاءً،كان يؤخذ قياس الجثمان عن طريق عود من القصب، ليُحفر القبر على القياس. وتجهَّز "لاطات" من جذوع الأشجار لتغلق على الجثمان الضريح، فالتل المغطى بغابة أزلية من السنديان والبلوط والبطم لا يخلو من الذئاب والضباع. ولم تكن شواهد القبور معروفة إذ ليس الرخام في متناول الجميع، ونحتُه لا يجري في مكان قريب، فكان يُكتفى بحجرين مسطَّحَين يشيران إلى حدّي القبر، فالأهل يتعرفون بسهولة قبور موتاهم. وكان الصعود بالجثمان إلى المقبرة الأولى لقريتنا صعباً في كل الأوقات بسبب بعض أجزاء الطريق المنحدرة بشدة، والمنزلقة دائماً، كما الحفر، بسبب وقوع المقبرة في سفح غير منخفض للتل الذي يتبرّكون بجواره إذ يرقد في أعلاه، في اعتقادهم، تحت قبة من الجير الأبيض، صحابيٌّ جليل اسمه عُكاشة بن مِحْصَن الأسدي، أحد السابقين إلى الإسلام، والمبشَّرين بالجنة، رغم أنه استشهد عام 11 للهجرة في حروب الردة تحت قيادة خالد بن الوليد، ودفنه خالد بنفسه. واكتسب التل اسمه من الصحابي فصار "تل عُكاشة" أو "تل عكّاش" على ألسنة العامة. وكان الإمام يُضيف اسمه إلى قائمة من يدعو لهم في ختام خطبة الجمعة من صحابة وتابعين. وكانت ثلاث قرى تدفن موتاها في هذا التل، بالإضافة إلى التجمعات البدوية القريبة منه، لأن المدفون فيه محظوظ بقربه من الصحابي الشفيع.
...
يُقدِّم المشيعون العزاء لأهل المرحوم عند القبر بالمصافحة، ولكن لا يجوز للرجل الوقوف في صفِّ الذين يتقبلون التعزية في زوجته. وتشتهر جنائز الشراكسة حتى في الأماكن التي نزحوا إليها بكثرة المشاركين حتى في أقسى الظروف الجوية من برد وثلج وقيظ، مهما كان الوضع الاجتماعي أو المادي للمتوفى، حتى لتحسب جنازة أيٍّ منهم جنازةَ مسؤول كبير أو شخصية مهمة. وتُعزى الكثرة إلى طلب بعضهم للثواب، غير أنهم معروفون بهذا منذ القدم، فالكثرة تعود في الحقيقة إلى شبكة القرابات التي تربط الكثيرين منهم في هذا المجتمع الضيق شبه المغلق، والحرج من مقابلة أحدٍ من أهل المتوفى لاحقاً. ويتمنى أحدهم أمرين بعد وفاته : كثرةَ المشيعين، وكثرةَ من يقفون على القبر لتلقّي التعازي. ولذا يحرص الكثيرون ولو لم يكونوا على قرابة قريبة جداً بالمتوفى على الوقوف في نسق المتقبلين للتعازي. ويعتبرون الأمرين اعترافاً بالمكانة الاجتماعية له.
يتفرق المشيعون بعد الجنازة؛ فأما الأقارب فيعودون إلى دار المتوفى الذي يسأل أهله أولَ ما يسألون عن حجم الجنازة، وعدد من تلقّى التعازي. ويعود معهم بعض الضيوف من القرى المجاورة، في حين ينصرف الآخرون إلى منازلهم كي لا يُثقِلوا على أهل المتوفى. ومن الجدير بالذكر أنه لم يكن من المستحَبّ أن يستغل القادمون من القرى الأخرى الفرصة للقيام بزيارات جانبية لأقارب أو أصدقاء من قرية المرحوم. ويتناول الحضور الطعام الذي أتى من جيران المتوفى ومن أقاربه أو من غيرهم إذ لا يمكن أن يطبخ أهل المتوفى طوال الأيام التالية. ويكون الطعام المقدم متنوعاً بتنوع المساهمين فيه، وتقتصر طبعاً على إمكانيات الريفيين المتواضعة، ولاسيما في غياب ما يُقدَّم في موائد أهل المدن من أطعمة جاهزة. ويتناول الضيوف الطعام، ولو على حرج ودون شبع، لأنه إكرام للمتوفى، وثواب للطاعم. ويقوم الشباب بخدمة المائدة. وتقوم النساء في المطبخ بالخدمات الأخرى. وتظل المائدة مفتوحة، ويُقدّم لكل زائرٍ خارج أوقات الوجبات الشايُ والكعك ونوعان من المعجنات المحلية: نوع يسمى "الحَلُوف" وهو نوع من "البرك" أو الفطائر محشوٌّ بالجبنة الشركسية المتميزة من كل أنواع الجبن، و"الشلامه" وهو عجين بإعداد خاص، مقلي بالزيت، يُقدَّم في المناسبات المستعجلة إذ يمكن إعداده في أقل من ساعة. وتأتي الأنواع الثلاثة من كثيرين من أهل القرية، بالإضافة إلى ما تيسَّر من السكر والشاي والرزّ. وهكذا كنا بعيدين عن تقديم الوجبات الفاخرة المألوفة في المدن، لأن الناس كانوا ما يزالون على بساطتهم وسلامة نواياهم، بعيدين عن التكلف وإظهار الغنى والرياء. وكانت بعض الأسر الميسورة تذبح ثوراً أو عجلاً في مناسبة مرور سنة على الوفاة وتوزع لحمه.
لم يكن للعزاء وقت محدد، ولم يعرف أهل القرية تحديد مواعيد من النهار للعزاء، فيمكن أن يُستقبل المعزون في أي وقت من النهار، ولكن العادة أن يبكّر المعزون في الانصراف في اليوم الأول لأن أهل المتوفى مرهقون عادة من واجبات الدفن وإجراءاته وانفعالاته. وفي الأيام التالية يأتون في الصباح وفي المساء، ويأتي المصلون من أهل القرية بعد صلاة العشاء جماعات. ومن العادة أن ينصرف الضيوف عامة، وأهل القرية بخاصة متى شعروا بالازدحام، فلا يحرجوا أهل المرحوم، ولاسيما أن أهالي القرى المجاورة كانوا يأتون غالباً في جماعات. يمكن أن يأتي المعزون من القرى بعد أسبوع أو أسبوعين لأن الاتصالات لم تكن ميسَّرة كما اليوم، ولأن بعض الغائبين عن المنطقة وقت الجنازة لابد أن يقوموا بالواجب. ولكن المألوف أن تستمر التعازي أسبوعاً، إذ تقام في نهايته تقريباً "الأسبوعية" التي تشير إلى أن الوقت قد حان لعودة أسرة المرحوم إلى حياتها الاعتيادية.
يقوم الإمام أو متعهد "الأسبوعية" بتوزيع أجزاء القرآن على عدد من رجال القرية الذين يجتمعون بعد صلاة الظهر أو العصر، فيعيدون قراءة الأجزاء مرة أو اثنتين، مع الضيوف. ثم تقدم الضيافة البسيطة أيضاً والتي لا تعني أكثر من إكرام المتوفى، ومن إتاحة الفرصة للمشاركين بكسب الثواب. وقد يقدَّم اللحم حسب قدرة الأهل، وكان الرجال هم من يقومون بالطبخ عادة. والشباب هم من يخدمون المائدة. ولم يكن من النادر تقديم الطعام إلى الأطفال، وخصوصاً البرك و "الشلامه". ولا ننسَ كذلك أن شيئاً من الطعام، إن كان متميزاً، كان يوزَّع على فقراء القرية ومُسنِّيها العاجزين عن الحضور إلى المأدبة.
...
كان للقبر وللمقبرة حرمة عامة، ولمقبرة تل عكاشة حرمة خاصة، ولم يخطر لأحد مهما بلغ من الشقاوة وسوء الخلق والأدب أن يعبث بالقبور وبينها، ولا حدث أن وصل الشباب إليها بسوءٍ في ليالي لهوهم و "زعرنتهم" إن صح التعبير. بل لم يفكر أحد في التوجه إليها ليلاً، كانت محروسة برهبة المكان واحترام الأمواتِ آبائِهم وأجدادهم وأمهاتهم وإخوتهم. روى والدي أن جدته توفيت في القنيطرة عقب الهجرة الشركسية إلى الجولان في حدود عام 1880، قبل أن تُخصص أرض للمقبرة، فدُفنت في أرض الدار. ثم كانت الأسرة انتقلت إلى دارٍ أخرى حين وصل المحتلون الفرنسيون إلى القنيطرة، واتخذوا بالمصادفة من دارهم القديمة مقراً لهم. فلم يهُن على جدي أن تبقى والدته بينهم وهم الذين يتعرَّون ويشربون في حضرتها... فنقل رفاتها إلى المقبرة المحدَثة. أذكر هذه الحادثة، وأذكر حادثة أخرى جرت في الأيام التالية لحرب حزيران 1967: كان الجنود الإسرائيليون يعبثون في غابة تل عكاشة، يبحثون عن السلاح ويفجرون ما يجدون من ذخيرة، حين توفي أحد المسنين من القرية. كان من السهل والمناسب أن يُدفن في أرض داره، غير أن أبناءه أبَوا إلا أن يدفنوه في المقبرة إلى جانب أصدقائه وأهله، وكانت عملية خطيرة إذ من الممكن أن يُقتل المشيعون أو بعضهم في أي لحظة. جرى كل شيء كالمعتاد، وووري المرحوم الثرى فكان آخِر ساكنيها.
خرب الإسرائيليون المزار واقتلعوا الأشجار العملاقة الأزلية التي كانت تمسح قبَّته، وطمروا البئر العميقة إلى جانبه. أما المحتلون الجدد للقرية بعد أحداث ما يُدعى بالربيع العربي من عملاء إسرائيل وأعوانهم فكانت هديتهم للقرية أن اقتلعوا أشجار تلك الغابة – المقبرة الأزلية من جذورها، وتركوا نازليها في العراء، استمراراً لجرائم أسيادهم، وعلامة فارقة على طبيعتهم وأخلاقهم وديانتهم الحقيقية.