عصر المغامرات الصغيرة
_ 1 _
مضى أسبوع وتلفازنا غيرُ الملون يتشنج بنا إثر كل برنامج على صفحة صامتة تقول " مفاجأة سارة للمواطنين الكرام. ترقّبوا التفاصيل على هذه الشاشة! "
جهدتُ طويلاً حتى أقنعتُ زوجتي بأن الإعلان ليس حكومياً، وبالتالي لا يمكن مثلاً أن يكون تخفيضاً لأسعار بعض السلع أو توفير المفقود منها، أو زيادة في رواتب المأجورين؛ حتى كان اليوم الموعود:
" تعلن لكم محلات... عن افتتاح فرع لها في شارع... لبيع أفخر الملابس الأوربية المستعملة: أزياء حديثة، وأسعار معتدلة..."
كانت البشرى سارّة؛ فلا شيء أَسترُ والشتاء على الأبواب من محل جامع مانع رخيص بعيد عن أعين الشامتين وأرصفة العربات، فيه ما يطلبه الكبار والصغار، ذكوراً وإناثاً.
وفركت عيني لأطمئن على أني لست أحلم!
_ 2 _
اهتدينا إلى المخزن بسهولة؛ فالأضواء تعمي البصير، وعبير باقات المهنئين وموسيقى الجاز يهديان الأعمى. ظننت وباب المخزن ينغلق تلقائياً ورائي أني اجتزت بوابة الحنة إلى حيث الدفء وجمال المعرض والعارضين. وحسبت، وأنا أتفقد الأسعار والمعروضات التي كأن جسماً بشرياً لم يتقمصها،أن الله غفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخر.
رفعت زوجتي يديها داعية بصوت شبه مسموع بعدما اطمأنت إلى أن رواد المحل تجمعهم _ على اختلاف أقنعتهم _ رقة الحال:
" بارِكِ اللهمّ في شهامتهم. يلحقوننا بالموضة حتى قبل أن يحول عليها الحول! "
ثم دفعت إليّ بنطالاً لتُعَنوِن بركاتها. اكتشفت بخبرة من لم يستر جسمه جديد منذ وعى أن القماش والصناعة محليتان، وأن الأوربي هو العنوان الملصق بالقطعة فحسبُ.
وفركت عيني لأطمئنَّ على أني أحلم!
_ 3 _
لما أصبحنا على موقف الباص راعنا ما رأينا: كان خلق اللهِ شيوخاً وشباباً، رجالاً ونساء،مصطفين وبيد كل منهم بطاقته. وكان مراقب الخط كريماً على المواطنين الكرام بنصائحه:
_ البطاقة يا حضرات! البطاقة. هذا الخط لا يعمل إلا على البطاقة. من ليس معه بطاقته فليتفضّلْ مشكوراً إلى الكشك!
توحمت زوجتي على مقعد فارغ، بل أقسمت لتنتظرنّ الباص الثاني إن لم تجد مقعداً على مزاجها في الباص الأول. بل أصبحت توازن بين جانب السيارة الأيمن وجانبها الأيسر.
لا أعي تماماً ما حدث ساعة وصل الباص: كان على رأس رتلنا عجوز عاصر مختلف عصور الاستعمار يجاهد ليوقف الباص حيث يجب أن يقف في حين انشقت الأرض عن أناس غرباء عن الرتل انقضوا على البابين وعلى النوافذ. ترنحت النساء، وصرخ الأطفال تحت السنابك. كفرت زوجتي ببعض العبارات الجاهزة. قهقهت في وجهها:
_ قولي لهم يبحثوا لك عن مقعد لا يصله البرد ولا الشمس!
ثم فركت عيني لأطمئن على أني أحلم!
_ 4 _
وقعت البطاقة من يدي فدُفِعتُ من قفاي ثلاث مرات قبل أن ألتقطها.كانت زوجتي أعدت لي مُتَّكأً على أحد الأعمدة ولاسيما أن الدوالي تنخر عروقي بعد مشوار النهار القاسي:
_ البطاقة يا إخوان! البطاقة يا حضرات! كلٌّ بطاقتُه في يده!
حضنتُ بطاقتي فالقانون قانون، ولا شيء أحلى من النظام. ثم دفعتها إلى المفتش معتدّاً، فتفحّصها بنزاهة.طابق الأرقام والتواريخ والصور كما ينبغي. ثم أعادها شاداً على يدي، مهنئاً إياي على استقامتي.ثم تجاوزني إلى مقعد يتربع عليه وحيداً رجلٌ ما:
_ بطاقتك يا سيد!
_ بطاقتك يا أستاذ!
ولما همّ أن يوجه إنذاره الثالث عبس الرجل في وجهه، فاستدار المفتش إلى غلام أسكره النعاس:
_ البطاقة يا ولد!
_ البطاقة هيه!
وقبل أن يجد الغلام البطاقة بين خبايا رداء عمله كانت ذراعا المفتش الهمام تنتزعانه من مكمنه.
وكان السائق الشهم قد فتح باب السيارة.
وكان الولد يتدحرج على أرض الشارع.
وفركت عيني لأطمئن على أني أحلم!
_ 5 _
أهاب بعض المواطنين بالسائق أن يتلطف بالمسنين والحوامل الذين تتقاذفهم وقفاته ولفّاته البهلوانية. ولما أساؤوا الأدب معه وقف وِقفة بطولية تبادل فيها الواقفون أماكنهم من المقدمة إلى المؤخرة، وبالاتجاه المعاكس، وعانق بعضنا بعضاً لا على التعيين. ثم صرخ فينا:
_ هذا ليس باص أبيكم؛ هذا باص الحكومة! من لم يُعجبه فإلى...!
خنسنا. وأعاد كلاً منا إلى مكانه بانطلاقته التالية. وريثما استعدتُ توازني ترنّحت صور المطربين والمطربات المطلّين علينا شامتين، وناست يميناً ويساراً الخرزات والتمائم على رأس سائقنا. حاولت أن أتذكر اليوم والتاريخ لأتأكد من اتّزاني فلم أُفلح. حلّقنا في الهواء، ثم هوينا كصقر ينقضّ. ارتطمنا بما لا أدري. قمنا بعدة حركات جمبازية قبل أن نستقر على أرض السيارة.
فركتُ عيني لأطمئن على أني أحلم. فركتُ وفركت. كان الدم يغطي جثتي. وكانت رؤوس كثيرة قد انفصلت عن أصحابها.
صوت المعلمين العدد 9 تشرين الأول 1985