علم الكلام ودراسة اللغة [1]
ج. ر. ت. م. بيترز
عندما نتحدث عن علم الكلام (theologie) الإسلامي، وعن الأبحاث الكلامية الكلاسيكية التي تخص اللغة فإننا نبحث مسألة تاريخية صِرفة لأن علم الكلام الإسلامي زال من الوجود. فبعدما أُسِّس في القرن الثامن الميلادي اكتمل خلال الأعوام الخلّاقة للقرون التاسع والعاشر والحادي عشر. ثم استمر بعد هذا إلى القرن الرابع عشر. ولم يحمل الإسلام المجدِّد أي تجديد للفكر الكلامي. ويعتقد كثير من رموز الإسلام أنه لا يجوز ذِكرُه. ويعدّون معالجة مسائل الإيمان والأخلاق بهذه الطريقة معالجة ليست إسلامية صِرفة[2].
والحقيقة أن علم الكلام لم يتمّ إبرازه جيداً، ولذلك يتردد أكثر المؤلفين المسلمين المعاصرين، وكذلك حلقات المستشرقين الغربيين حتى في وصف علم الكلام بعلمٍ للعقائد. ووُصِف علم الكلام في أيامنا أيضاً بأنه صيغة الفكر العقلاني، بل بأنه جعجعة أو جدال لفظي لا يعتمد على أي تصورات أو وقائع مهما كانت، بل على مبارزة كلامية تهدف إلى هزيمة الخصوم.
إن المؤلفات الكلامية الضخمة غالباً، والمليئة بالثرثرة، جعلت نفسها عُرضة لمآخذ خصومها التي ليست دائماً دون أساس. غير أني أبقى مقتنعاً بأنه يمكن أن يكون في هذه المؤلفات فكرٌ تيولوجيّ حقيقي مبني على الوحي الإسلامي وعلى العقل.
يتمايز في تاريخ علم الكلام تياران كبيران[3] تبعاً للأهمية المنوطة بهذين المنبعين للتيولوجيا. فهناك الاتجاه التسليمي (fiedeisme) المعتمد على الإيمان دون تفكير، والذي يَعدّ الوحي الإلهي المصدر الوحيد للتيولوجيا. أما العقل فيمكن أن يكيِّف الأدلة العقلية وينوّعها لإقناع الخصوم، أو بوجه آخر يمكنه أن يدحض حججهم. وهذا الاتجاه معروف بالاتجاه الأشعري[4] نسبة إلى أبي الحسن الأشعري (ت 935 أو 936)، وهو من ممثليه الكبار.
أما الاتجاه الآخر فيُنيط أهمية أكبر بالعقل. ومتكلمو هذا الاتجاه تعلموا الفلسفة اليونانية المترجمة إلى العربية. وتأثروا بالفكر الكلاسيكي. ويستطيع العقل في رأيهم أن يكتشف الحقيقة ضمن حدود نصوص الوحي. ويتجلى هذا الاتجاه النظري (speculative)[5] في مدارس المعتزلة، ويُدعى الاتجاهَ المعتزلي.
وقد تصارع الاتجاهان طوال ثلاثة قرون. وكانت مسألة أن الله تكلم هي إحدى النقاط المركزية في الخلاف، ثم في المحصلة في تعريف اللغة وتحديد أصلها وأصل اللغات. وفي عام 833 م ينحاز الخليفة المأمون إلى جانب المعتزلة، ويبدأ استجواباً ضد التسليميين أنصارِ الاتجاه الآخر، فيكتب إلى قاضي بغداد رسالة يؤكد فيها أن الرأي في كلام الله هو المقياس الوحيد الذي يسمح بالتمييز بين أنصار الاتجاهين النظري والتسليمي. ويقول للقاضي " فاجمعْ مَن بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ في امتحانهم في ما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق القرآن وإحداثه"[6]
وبعد قرن ونصفٍ من هذا التحقيق كتب واحدٌ من أعظم المعتزلة مُجمل علم الكلام جمع فيه الأفكار الأساسية لمدرسته. وهذا العالم هو [ القاضي ] عبد الجبار (ت 1025)، أحد أواخر العلماء العظام للمدرسة المعتزلية. إن مؤلَّفنا الذي أُعيد اكتشافه حديثاً يظل أحد المصادر الأساسية لمعرفتنا بعلم الكلام. وقد خصص المؤلِّف جزءاً كاملاً من هذا الكتاب لـــ "كلام الله "، وبخاصة القرآن[7]. وهذا ما يُثبت أن هذه القضية عاشت دوماً في مركز التفكير الإسلامي.
– لماذا أُوليت في خلال المناقشات التيولوجية هذه الأهمية لمسألة الكلام؟ يجب أولاً أن نحدد أن القرآن كان في نظر المسلمين السِّفْر الرئيس للغة والدين. والمسلَّمةُ المسماة إعجازَ القرآن مبنيةٌ على أن محمداً لم يفعل معجزات لإثبات رسالته النبوية، والمعجزة الوحيدة هي نصُّ الوحي الذي يتضمن القرآنَ. فالقرآن نفسُه إذن يجب أن يُثبِت بنفسه أصله الإلهي. وهو ما يفعله بفضل بلاغته القصوى التي لن يستطيع أيٌّ تقليدها. وعلى هذه المسلَّمة من إعجاز القرآن اتفق كافة المتكلمين دون مناقشات أساسية[8]. وأثارت هذه الأُطروحة أبحاثاً نحوية وأسلوبية متطورة.
ولكن الكلام في تلك المناقشات كان يجري غالباً، كما رأينا، على معرفة ما إذا كان القرآن كلامُ الله مخلوقاً أم غير مخلوق [ أزلياً أو غير أزلي ]. وقد حثّت هذه الخصومات والبحثُ عن الأدلّة على مزيد من الأبحاث الفلسفية حول طبيعة الكلام الإنساني واًصلِه، كما دفعت أبحاثاً لغوية إلى الأمام.
إن كثيراً من الأسباب تسمح بأن تُعَدّ هذه المسألة، مسألة كلام الله، معياراً أساسياً لتمييز الاتجاهين الكلاميين، وسأذكر منها ثلاثة:
أ _ هذه المسألة تكشف الموقف الأساسي للمتكلم؛ فبالنسبة للتسليميين يُعدّ الكلام الإلهي مردَّ الحياة الإنسانية لكل أديان العالم في كل القرون، ومصدر المعرفة والأخلاق لأن القرآن هو مركز ديانتهم. وقد قادت هذه المكانة المركزية للقرآن بصفته الكلام الأصيل لله نفسه، والاحترام الذي يترتب عليه إلى الاعتقاد بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون شيئاً مخلوقاً كسائر مخلوقات هذه الحياة الدنيا، بل هو شيء إلهي غير مخلوق، وربما أزليٌّ[9]. أما النظريون الذين كان التوحيد المطلق للإله نظريتَهم الأساسيةَ فإن قرآناً أزلياً إلى جانب الله يتعارض مع هذه الفكرة التوحيدية. كان عقلهم يقرر أن كلاماً أزلياً لله مستحيل. وعندما يرفضون فكرة أن القرآن غير مخلوق فهذا الرفض هو ردُّ فعلٍ أيضاً ضد الاتجاه الذي يعده مصدراً وحيداً لعلم الكلام كما هو استرداد لحقوق العقل.
ب: في القرآن قصص عن الأنبياء اليهود، وعن حياة محمد، وعن أحداث الجماعة الإسلامية الفتيّة. فإذا كان القرآن أزلياً وغير مخلوق فإن هذا يفرض أن كل ما روى كان مقرراً من الله منذ الأزل. وعليه فإن الإنسان ليس حراً، ولا يتحمل مسؤولية أعماله. فإذا كافأه الله – رغم ذلك – أو عاقبه في نهاية حياته فالله ظالم. هذا البرهان المعتزلي يدفعهم أيضاً إلى نبذ فكرة قِدم القرآن. كانت اهتماماتهم التي تخص العدالة الإلهية ومسؤولية الإنسان وحريته تزوّدهم إذن بحافز ثانٍ لاختيار وجهة النظر القائلة إن القرآن مخلوق[10]. أما بين التسليميين فيسود اختلاف في الآراء في هذا المجال يتراوح بين تقدير مطلق من قِبَل الله لجميع الأعمال الإنسانية، ونظرية تبحث عن التوفيق بين فكرة القدرة الكلية لله ومسؤولية الإنسان[11].
ج: إن النظرية القائلة إن القرآن أزلي وكل الأعمال الإنسانية متصوَّرة مسبقاً من الله شادت أساساً قوياً لصيانة المجتمع على ما هو عليه. فالمخطط المقدر من الله مسبقاً يتضمن أن الطبقات الحاكمة لا تسلك دوماً سلوك مسلمين عادلين وجيدين. والمؤمنون، وهم يخضعون لإرادة الله، عليهم أن يقبلوا كل نوع من تصرفات الخليفة وممثليه. أما نظرية مسؤولية الإنسان وحريته فيمكن أن تدفع الإنسان إلى فكر نقدي، بل إلى ثورة مفتوحة ومسلحة ضد الحكام الظالمين[12]. وهذا بوضوح أحد الحوافز التي كان رجال السلطة من أجلها محابين دوماً، عدا بعض الاستثناءات لاحقاً، للتيار التسليمي[13].
- – إن ما سبق يعطي فكرة شاملة عن الأسباب التي تصارع من أجلها المتكلمون المسلمون على مسألة كلام الله. يبقى أن نرى محتوى هذه المناقشات وشكلَها: إنهم جميعهم متفقون على الاعتقاد بأن الله كان قد تكلم، وأنه يجب أن يوصَف بالمتكلم، وكذلك يعتقدون أن القرآن كلام الله. فالمسألة الأساسية إذن هي: ماذا يعني فعل " تكلم " واسمُ الفاعل " متكلم " والاسم " كلام"؟ لأن تحديد هذه الألفاظ يمكن أن يفرض منذ البدء ضرورة كلام أزلي لله: إمكانه وعدم إمكانه. فإذا كان أحد الفريقين يعتقد أنه لا مماثلة إطلاقاً بين الكلام الإنساني والكلام الإلهي، وأن تعريف الكلام الإنساني ليس له أي علاقة مشتركة مهما كانت مع الكلام الإلهي فإن المسألة مغلقة.
ولكن إذا كان الفريقان يعتقدان أن هناك مماثلة بينهما فإن دراسة كلام الإنسان وطبيعة اللغة تصبحان شرطاً أساسياً للبرهنة اللاحقة؛ فكيف يمكن أن يقال إنه أزلي أو لا؟ أهناك اختلاف بين الكلام واللغة من نوع يسمح أن يقال معه إن الكلام أزلي وإن اللغة بصفتها تعبيراً عن الكلام ليست كذلك؟ وهل أزلية اللغة تفرض وجود لغة إنسانية أزلية؟ بل حتى عدة لغات أزلية؟ وإذا كانت هناك عدة لغات أزلية فما هي؟ وإن لم تكن إلا لغة واحدة فما هي؟ العربية؟ العبرية؟
لقد أُجبِر علماء اللغة على الانغماس في دراسة بُنى اللغة وطبيعتها، والمعتزلة الذين ألّفوا بأنفسهم دراسات متطورة في مجال النحو العربي يعتمدون في برهنتهم على مؤلفات النحاة العرب العظام[14].
- -: وسأذكر وأنا أعالج أيضاً أربعة موضوعات نوقشت باتساع في المناظرات الكلامية: تعريف الكلام، العلاقة بين الكلام والصوت، والمظهر التواصلي، وأصل اللغة واللغات، من خلال مؤلَّف المتكلم المعتزلي [ القاضي ]عبد الجبار[15].
4– 1: تعريف الكلام: تبعاً للقاضي عبد الجبار: الكلام " هو ما حصل فيه نظام مخصوص من هذه الحروف التي نعرفها في هذه الدار الدنيا. ولنظْمِ مثل هذا يجب على الأقل حرفان "[16]. وعندما يتكلم على الحروف يذكر مرجعاً النحويين العرب الذين يعني الحرف عندهم ما نسميه بالصامت (consonne) الذي يمكن أن يكون متبوعاً بصائت (voyelle )[17]
وبالنسبة إلى هؤلاء النحاة فالكلمة (وبالنسبة لعبد الجبار فالكلمة بداهة هي الوحدة الصغرى التي يمكن أن تكوّن كلاماً) يجب أن تتألف من صامتين على الأقل مع صائتيهما[18].
ويرفض مشترطاً أن الكلام يجري على أحرف كتلك التي نعرفها في عالَمنا، أن نميز بين كلام الله وكلام الإنسان. فإذا تكلم الله، وكان له كلام، وجب أن يكون مدرَكاً كالكلام الذي نسمعه ونلفظه في هذا العالم. ويفرض هذا التعريف أيضاً أن الكلام المؤلف أيضاً من حروف، والموصوف بأنه نظام في الزمن[19] يسبق أحدُ الحروف فيها الآخر، لا يمكن أن يكون أزلياً وغير مخلوق.
وبديهي أن المتكلمين التسليميين لا يقبلون هذا التعريف للكلام، فعندهم أن كلام الإنسان شيء موجود داخلياً، وما يُلفَظ ويُسمع ليس إلا علامة (signe) وإعادة للكلام الحقيقي الذي يبقى مخفياً. ودليلهم مؤسَّسٌ بين أدلة أخرى على تجربة الحدث الذي يتوسط التفكير ونُطْق الجملة: فبعد التفكير يكيِّف الإنسانُ الكلام الذي يريد نُطقه (وهذا هو الكلام الحقيقي) وبعد هذا يلفظه، وربما لا يلفظه. وهكذا فإن كلاماً أزلياً غير مخلوق من الله ليس مستبعَداً، والذي هو مخلوق ليس إلا العلامة (signe) لهذا الكلام الأزلي والحروف الملفوظة أو المكتوبة.
4– 2: العلاقة بين الكلام والصوت:: هي قضية تتعلق بالسابق منهما: هل هناك كلام دون صوت فلا يمكن سماعه؟
المتكلمون التسليميون، حسب ما يتفرع من برهنتهم عندما يتعرضون لتعريف الكلام، يقولون: إن الكلام موجود في الضمير الداخلي للإنسان دون صوت. والكلام الملفوظ ليس إلا علامة للكلام الحقيقي كما هي حالة الكلام المختزَن في الذاكرة أو الكلام المكتوب. وبين المعتزلة من يميّز بين الكلام والأصوات، ولا يقبل كما فعل التسليميون وجود كلام داخلي. ولكنه يؤكد أن الكلام، أي الحروف، يمكن أن يوجد مع أصوات. وفي هذه الحالة ينتج عنه الكلام الذي يمكن أن يكون مسموعاً، ولكن أيضاً دون أصوات كما هي حالة الكلام المكتوب أو المخزون في الذاكرة.
ومع ذلك يتبع عبد الجبار من جديد النحاة العرب الذين ليس عندهم إلا الأصوات: إن الحروف هي نتيجة التأثير الذي يمارسه الجهاز الصوتي على النَفَس الذي يمر عبر الحنجرة والفم. وإذا تمفصل هذا الصوت بطريقة خاصة أصبح حرفاً، وبناء عليه ليس الكلام إلا شكلاً خاصاً للصوت. إن نصاً مكتوباً علامة للكلام الحقيقي، وإن نصاً مخزوناً في الذاكرة هو المعرفة بالكلام الحقيقي الملفوظ[20].
وغني عن البيان أن التعريفات والأوصاف السابقة التي توجد في نظام تيولوجي قد خضعت لأجل تطبيقاتها التيولوجية، بل كُيِّفت لتتلاءم مع نظام تيولوجي جاهز، ومع نظرية ملحوظة مسبقاً عن الكلام الإلهي.
4– 3: المظهر التواصلي: لما كان المتكلمون التسليميون عرّفوا الكلام على أنه موجود في ضمير الإنسان فإن الكلام الداخلي ليس له مظهر جماعي. ومن أجل أن نتواصل بمحتواه علينا فضلاً عن ذلك باستعمال إشارات ما (صوت، حركات، صفات) تحقيق التواصل بفعالية.
أما المعتزلة فمن جانبهم لاشك أن الكلام يمكن أن يكون تواصلياً. ورغم ذلك تطرح المسألة نفسَها لمعرفة ما إذا كان الكلام دائماً، وبالضرورة تواصلياً. ومن جديد يتوجه القاضي عبد الجبار إلى النحاة الذين يجيبونه بأن الكلام يكون تواصلياً بأكثر مما لا يكونه[21]. ولكنه يكمل: إن الكلام الذي ليس تواصلياً هو نوع من العبث، ولا يحقق الطبيعة الكاملة لما يجب أن يكونه الكلام، فالكلام الذي ليس كاملاً ليس كلاماً بمعنى الكلمة إلا عندما يكون تواصلياً[22]
تثير هذه الأطروحة للقاضي بعض القضايا الأخرى:
- من أجل أن يستطيع الكلام إيصال شيء ما يجب أن يكون هناك اصطلاح[23] (convention) داخلي يتعلق بدلالة نظام الأحرف التي تؤلف الكلام: يجب وجود لغة. إنه فقط بوجود اللغة التي يعرفها ذاك الذي يتكلم، والآخر الذي يسمع يصبح كلاماً تماماً. وإذا لم توجد لغة مشتركة، وإذا لم يوضع الطرفان المتكلم والمتلقي في اتفاق مسبَق مع نظام علامات الأصوات، بقي الكلام عبثاً وغير كامل. وهذا يوجب أن الله لا يمكن أن يتكلم إلا لغة إنسانية مفهومة من أولئك الذين يُصغون إليه.
- إن الطبيعة التواصلية للغة تفرض أيضاً أن كلام الله لا يمكن أن يكون أزلياً لأنه إذا تكلم الله قبل خلق العالم، عندما لم يكن بعدُ إنسان أو ملاك أو جني يسمعه، فإن كلامه عبث[24]. ولكن اللهَ، الوجود الكامل، لا يفعل أفعالاً غير كاملة وعبثيةً؛ فالله إذن لا يتكلم إلا إذا وجد أحدٌ يستمع إليه ويمكن أن يفهمه[25]. وبالنتيجة لم يتكلم الله قبل بدء الخلق.
- ولكن إذا كان المعتزلة يظنون أنهم يستطيعون إقناع الخصوم بهذه الحجج فإنهم يخدعون أنفسهم نظراً إلى أن الخصوم، كما قلنا، ينفون الطبيعة التواصلية للكلام.
4: أصل اللغة
من أجل أن يستطيع الله إيصال كلامه لابد من وجود لغة على الأقل. وهذا أمر له قيمته بالنسبة للاتجاهات التسليمية والاتجاهات النظرية. ويقود كل المتكلمين إلى مسألة أصل اللغة.
وباستثناء النظرية الطبيعية التي تعد كل لغة الصوت الطبيعي [ نسبة إلى الطبيعة ] للدلالة على الشيء الذي يحمل هذا الاسم، من قبيل أن اختراع لغة هو نوع من اكتشاف علاقة سابقة للوجود بين الأصوات (الكلمات) والأشياء، فإن الرأي العام متفق على أن الله كان أوحى اللغة. ونقرأ في القرآن ﴿ وعلّم آدمَ الأسماء كلًّها ﴾ (البقرة 2 / 31). وحتى القرن الثاني كان كل المتكلمين التسليميين والنظريين، باستثناء أنصار النظرية الطبيعية المبنية على التأملات المعجمية لبعض النحاة، كانوا متفقين على التأكيد على أن الله أوحى على الأقل لغة واحدة كي يستطيع الإنسان أن يخلق منها لغات أخرى. ولم يقترح المتكلمون (وعلى الأرجح النحاة أيضاً) النظرية الاصطلاحية (conventionnaliste )[26] إلا في القرن الثاني. وهي: في زمن معين اتفق عدد من الناس على إشارات اعتباطية إلى حدٍّ ما منسوبةٍ إلى تركيبات للأصوات، وهذا هو أصل اللغة.
وستُعدّ هذه النظريةَ المعتزليةَ. في حين ستنتشر النظرية الإلهامية (revelationiste) بفضل التسليميين. ويمكن أن نظن أن هذه الأطروحة كانت حيوية لدعم نظرية قرآن أزلي. ولكن الحقيقة غيرُ هذا، لأنهم عندما يقولون إن القرآن أزلي فإنهم لا يتكلمون على قرآننا المؤلَّف بالعربية بل على قرآن أزلي لا يعتبر القرآن العربي إلا إشارة منه باللغة العربية.
وختاماً فإن طبيعة الكلام كانت مسألة حيوية في الجدال بين المتكلمين. والبحث عن أدلة قاد المتكلمين، وخاصة أولئك الذين لهم اتجاه تفكُّري، والذين لهم معرفة مسبقة قوية بالنحو العربي، إلى الانغماس في النظريات والبراهين الفلسفية. ويعني هذا أن المعرفة بالمصطلح النحوي ومناقشات النحاة لا يُستغنى عنها لدراسة علم الكلام الإسلامي.
[1] بحثٌ ألقي في اجتماع نظمته مجلة تاريخ، معرفة، لغة " في شباط عام 1979 لمناقشة قضايا النحو العربي. ويستعمل الكاتب هنا مصطلح langage)) الذي يعني بالفرنسية كافة أشكال التواصل من لغة منطوقة وإشارات ورموز... والذي هو أوسعُ من (langue) الذي يعني في الفرنسية اللغة المنطوقة فحسبُ.
وعلم الكلام هو العلم الذي يتناول موضوع العقيدة في الإسلام، أو ما يسمّى " المتشابهات" في القرآن الكريم مقابل " المحكمات (انظر آل عمران 7). والذي ربما تسميه مناهج كليات الشريعة أو بعضها علم التوحيد.
[2] يهدف التجديد المعاصر إلى بعث جديد للعناصر الدينية الثقافية والسياسية التي تُعدّ إسلامية صِرفة. وباستثناء هذه الحركة هناك محاولات لخلق فكر إسلامي جديد وُصِف بأنه " معتزلية " جديدة. ورغم ذلك فهذا الفكر المعاصر ليس استمراراً أو تجديداً لعلم الكلام القديم.
[3] في هذا التحليل أقتصر على وصف النظريات التي ألفت جزءاً من علم الكلام.
[4] في النصوص القديمة مصطلح " كُلّابية " نسبة إلى ابن كلاب (ت 855)
[5] اخترت مصطلحَي fideiste و speculative للتشديد على أهمية العقل أو الوحي في البرهنة. وفي مؤلفات المعتزلة غالباً ما تكون مناقشة النصوص القرآنية ملحقاً يتبع مناقشة الدلائل العقلية. (المؤلف). وترجمت مصطلح speculation بالنظر، والنسبة إليه " نظري" لأن هذه لغة المعتزلة، وكذلك ترجمة الكلمة في المعجم الفلسفي. (المترجم)
[6] الطبري دار المعارف بمصر 1966، 8 / 633.
[7] انظر عبد الجبار: المغني في أبواب العدل والتوحيد 16 مجلداً. القاهرة 1960 – 1961 ج7 ص 3.
[8] عُدّ البدوَ بصفتهم ذوي الدم الصافي معلمين للغة العربية وأمثلة في الفصاحة. وقد خصص القاضي عبد الجبار الجزء السادس عشر من كتابه " المغني " لموضوع إعجاز القرآن.
[9] التمييز بين مخلوق وأزلي، وإمكانية خلق أزلي، لم يعالَجا من قِبل جميع المؤلفين. حاول القاضي عبد الجبار أن يُثبت أن اللفظتين متمادتان. (صفة معنى مجرد يمتد شموله إلى معنى مجرد آخر أو إل جزء منه: (المنهل)
[10] اختار المعتزلة لمدرستهم اسم: أنصار التوحيد والعدل الإلهي.
[11] وهكذا مثلاً طوّر الأشعري نظرية " الكسب".
[12] فُسِّر المبدأ المعتزلي الذي يقول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنه تسويغ للثورة على الحكام المسلمين.
[13] كان الخليفةُ المأمونُ الأولَ في محاباة الأفكار المعتزلية، بل افتتاح تحقيق ضد الإيمانيين [التسليميين ] في أواخر حكمه. وأكمل خَلَفاه طريقه، ولكن الثالث غيّر من جديد موقفه عام 847 مؤسساً سلطته على التيار الإيماني.
[14] يمكن أن تدل اللفظة التي يستعملها القاضي عبد الجبار " أهل اللغة " كذلك على الذين يتكلمون العربية بطريقة أصحَّ من النحاة وفقهاء اللغة. ورغم ذلك يجب اللجوء إلى فقهاء اللغة عندما يذكرهم معالِجاً مسائل تتعلق بالتفكير في اللغة.
[15] قبل " مغنيه " الذي أملاه بين عامي 970 – 990 كتابان آخران: الشرح، والمحيط.
[16] انظر المغني 7 /6.
[17] عندما يتحدثون عن " حرف " يقصدون الحرف الملفوظ " الصوت " ومع ذلك لا يمكن ترجمة الحرف بصوت لأن الحرف ليس إلا شكلاً خاصاً من إنتاج الصوت.
[18] بالنسبة إليهم لا يجوز لفظُ صامتٍ مع صائته خارج السياق دون إضافة " هاء" إلى آخرهما بعد الصمت، من أجل هذه الأطروحة يرجعون إلى استعمال البدو.
[19] المغني 7 / 8 – 9.
[20] المغني 7 / 23
[21] اللفظتان العربيتان المستعملتان هنا هما " المستعمل " و" المهمل". ولشرح دلالتهما يعود القاضي ايضاً إلى لفظة " المفيد" للدلالة على المظهر التواصلي للكلام.
[22] هناك استثناء ظاهر: يمكن للكلام أن يكون مفيداً وجيداً عندما يكون من يلفظه يفعل هذا لتخزين نص ما في الذاكرة أو تأكيده. وفي هذه الحالة لا تواصُل مع الآخرين، ولكن الكلام ليس عبثاً. ورغم ذلك لا بد من وجود لغة حتى في هذه الحالة.
[23] ويمكن أن يقال " مواضعة " و" تواطؤ " و" اتفاق ". (المترجم)
[24] المغني 7 / 224
[25] انظر الحاشية 21. وبديهي أن الله لا يمكن أن يتكلم لتخزين نص في ذاكرته.
[26] نص المغني 7 / 10 يبدو أنه يوجب أن فقهاء اللغة أدخلوا هذه النظرية، ولكن النص ليس واضحاً تماماً. وحسب ويس Weiss فإن المتكلم المعتزلي عبد الجبار كان الأولَ في عرض هذه النظرية.