على الحلبة
متى بدأت المباراة؟ متى ستنتهي؟ وكيف؟ هذا ما لا أعرفه.أعرف فقط أني على الحلبة؛ أما كيف وصلتُ إليها فكان من الممكن أن أتذكر لكم لولا سيل اللكمات الذي انهال على كل موضع في جسمي بما فيها المواضع المحرمة شرعاً وقانوناً؛ حتى إنني حدّثت نفسي وأنا أستبق نهاية المباراة مبرراً ما سيجري: " تصوروا يا ناس مباراة لا نظام لها، ولا جولات محددة،ولا قانون واضحاً؛ حتى الحكم تراه يتغاضى عن مخالفات الغريم الأقوى. بل لا أصدّق أنه لا يدله على نقاط الضعف في جسمي".
أعرف أن ما يسندني الآن الحبالُ. لو أن أحدها انقطع لانتهى كل شيء؛ يا للقُساة! حتى الحبال نسجوها بإحكام بحيث تشنق المرء، لا من عنقه، بل من ظهره أيضاً.
في أرجاء الصالة اللامتناهية تجري مباريات على حلبات لا يحصيها العدّ. استغرب أحدهم هذه الظاهرة فأجابه آخرُ:
_ التصفيات مستمرة، ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً. ثم إن كثيراً من الجمهور المتحمس سرعان ما يجد نفسه اندفع إلى أقرب حلبة مغترّاً برونق القفازات والأذرع العارية.
وأردف ثالث:
_ لا بل إن بعض الملاكمين الأقوياء يُجهزون على غرمائهم فينتزعون من بين الجمهور من يتدربون عليه.
لوّح لي ملاكم عجوز كان قد انفلت من بين الحبال، وشرع الجمهور المتموج يقفز من فوقه رأفة به. وأخمّن تخميناً ما قاله فقد غمر الدم كلماته:
_ عظيم! استمرَّ، لابد أن تكسب بإصرارك!
ورفع أحد الشباب لافتة كتب عليها:
شرف الوثبة أن تُرضي العلا غلب الواثب أم لم يغلب
ثم فتح كتاباً، وشرع يقرأ على مسمعي سِيَرَ ملاكمين كانوا شائهين في طفولتهم ثم تحولوا أبطالاً. غيّبتْ آخرَ كلماته لكمةٌ أظنها من خارج الحلبة فقد توترت أعصاب خصمي من صمودي أمام أفانينه، فجلس في زاويته يدخّن. أما أنا فما أزال صامداً على حبلي.
ورغم التصفيات المستمرة ما انفكّ الذين يُتوَّجون في الطرف الأقصى من الملعب يتزايدون حتى إني ابتسمت _ على تعبي _ من مشكلة توفير كؤوس وأوسمة لكل هؤلاء، ومن المساحات الهائلة التي ستحتلّها أسماؤهم في صدور الصفحات. كانوا من مختلف الأعمار والأوزان والألوان.
نهض غريمي من ركنه. مضى معظم الجمهور الضئيل الذي توقّف قبل قليل. رفع الحكم يده وأشار إليه أن ينتقل إلى الحلبة الأعلى. صعد غريم ثانٍ إليّ، فثالث وأنا ما أزال صامداً. سالت الدماء إلى ركبتيّ، ونزفتْ من ثقوب حذائي. تورّم وجهي وتكسرت أسناني.
قال آخِرُ غريم لمحته على الحلبة:
_ لا شيء ينفع مع أمثال هذا العنيد إلا أن تقطع أحزمة سراويلهم.
وانهال على خصري بلكمات فنية وغيرِ فنية. صرختُ بل رجوت الحكم أن يرفع يده كما رفع أيدي غيره، فاعترض قانونياً:
_ ليست المباراة على مزاجك تبدؤها متى تشاء، وتوقفها متى تشاء!
أشرتُ إلى نقالة الإسعاف، فصرخ:
_ ولا المستشفيات فُتحت لأمثالك. يجب أن تسقط أولاً، ثم أعد إلى العشرة لأتأكد أنك انتهيت. أنا حكمٌ نزيه!
مرّ عجوز،فهمس في أذني متحفظاً:
_ إن الله مع الصابرين!
حاولتُ أن أبصق في وجهه فلم أُفلِح. كان حلقي قد نشف.
عقّب متفرج آخرُ:
_ عجيب هذا الملاكم الهرم! لم أره يوماً كسب مباراة ولا خسرها! تراه صامداً كأن هذه الحبال تشده بقوة سحرية.
أجاب زميله:
_ تراه لكثرة ما تعرّض للضرب تسطحت حواسّه وأحساسيه!
علّق ثالث:
_ أراهنكم على أني لو نكشتُ الحبل الذي يتكئ عليه لخرّ ساجداً على قفاه!
لم يكترث الآخرون بمراهنته. وأنا ما أزال صامداً.
الأسبوع الأدبي العدد 10 7/4 / 1986