عند الغروب
الشمس المقهورة وراء سحب الخريف تودّع التلال الجرداء. وعلى الطريق الترابي المقفر يسيران جنباً إلى جنب منذ بضع دقائق إلى حيث تعسكر الوحدة بعد الحرب. لا شك أن الرجل يبحث منذ الصباح على الأقل عن عنوان ابنه حتى اهتدى إليه فالباحثون عن ذويهم من الجنود العائدين من الحرب يستغرقون هذا الوقت عادة للوصول إليهم.
تفرّس الرجل وجه مرافقه خلسة لعله يقرأ فيه شيئاً من أخبار ابنه: من يدري؟ صحيح أن الجبلين لا يلتقيان ولكن الناس يلتقون. ربما يعرف هذا الرجل شيئاً من أخبار ابنه، فقد يكون الشرطي الذي رجاه إيصاله إلى الوحدة أخبره بأنه والد العريف محمود منصور.
وتفحص الرقيب وجه مرافقه: لم يتجاوز الخمسين على الأرجح فبنيته قوية وإن كانت التجاعيد ترسم عشر سنين أخرى. التقى الرقيب بالكثيرين من أمثاله قبل الآن ولذا تعلّم أن يكون حذراً معهم. كلمةٌ تردّ إليهم الروح، وكلمة تصرع فيهم الأمل الأخير.
تضرّع الكهل من جديد إلى وجه مرافقه وابتلع سؤالاً همّ بطرحه؛ لا، ليعشْ دقائق أمله الأخيرة. ولكن مرافقه قطع أفكاره:
_ هل تسأل عن أحد يا عم؟
ازدرد الكهل لعابه وأجاب بصعوبة:
_ عن محمود منصور، سمعت شيئاً عنه؟
أطرق الرقيب بعض الوقت قبل أن يجيب فالطريق أمامهما ما يزال طويلاً:
_ صعب يا عم أن يعرف واحدنا كل أفراد وحدته؛ وماذا سمعتم عنه؟
_ سمعنا الكثير: مرة أن دبابته احترقت ولم يُعرَف أنجا منها أم لا. مرة أخرى أن أحد رفاقه رآه بعدما أصيبت دبابته وهو ما يزال على كرسيه، ناداه باسمه فلم يجبه، لم يكن عليه أثر جرح أو دم كأنه مغمى عليه. تعرف الأخبار متناقضة أيام الحرب.
علّق الرقيب وقد تطاول الطريق أمامه:
_ إذن كان من جنود المدرعات.
_ نعم، سائق دبابة.
تأمل الرقيب السحب الغربية المتوهجة بأواخر الشمس حتى حسب الكهل أن مرافقه تعرف ابنه؛ ولكن الأخير تنهد وأردف:
_ كان الله في عون سائق الدبابة وكل من فيها. صحبني في الحرب سائق لا مثيل له. ساعة وصلنا إلى الخندق المعادي كانت المناظر حولنا رهيبة: الدبابات المدمرة هنا وهناك، جنود المدفعية المضادة للطائرات متفحمون على مدافعهم، رماة الرشاشات وقد تدلّت جثثهم فوق عرباتهم؛ حتى إنني والله لولا الحياء _ والحياء نصف الشجاعة _ لقفزت من الدبابة وهربت.
اختلس الرقيب نظرة أخرى في وجه مرافقه: انقبضت أسارير وجهه وزاغت عيناه أكثر من ذي قبل. ثم استطرد:
_ وهذا الخندق اللعين كم كلّفنا من رجال وعتاد! جرافات تحطمت وهي تفتح الثغرات فيه، ودبابات هوت فيه ليلة الهجوم. الأوغاد تركونا نصل إلى الخندق دون أن يطلقوا علينا؛ حتى إذا وصلنا انصبّ الغضب من كل جانب. عرفنا بعد الحرب أن العدو كان حشد كل قواه على جبهتنا.
توقف الرقيب قليلاً عن الحديث: لم يرفع الكهل رأسه عن الأرض، وتابع الرقيب:
_ اضطررنا إلى التوقف فالأرض من تحتنا تقذف حمم النار، والصواريخ تحصدنا بلا حساب، والطائرات لا تتركنا...
تغضّن وجه الكهل أكثر، وخطا عشر خطوات أخرى إلى قبره: هل يعقل أن يكون ابني مرّ بكل هذه الأهوال ونجا منها؟ لا شك أن الأعمار بيد الله ن ولكن ما يصفه الرقيب فظيع.
صبغت الشمس بالأصفر السحبَ التي ازدادت كثافة حولها، وتابع الرقيب الحكاية:
_ صرنا نرمي ما يظهر من أهداف العدو؛ وما أخبثه من عدو! ثعبان ينفث السم في وجهك وهو مختبئ في جحره! نرمي ونرمي، وكل ما حولنا يحترق. وأينما نظرت رأيت دبابة مشتعلة وجنودها يقفزون منها، كلٌّ في اتجاه.لا يدري أحدهم أين أصبح رفاقه؛ إنها الحرب!
سرتْ قشعريرة في جسد الكهل: كل هذه النيران ومحمود في بحرها وينجو منها؟! صحيح أن دبابته أصيبت كغيرها ولكن الذين نقلوا إليه الخبر أخفوا عنه استشهاده. وتجرأ وسأل الرقيب دون أن ينظر في وجهه:
_ وكيف ينجو من تحترق دبابته؟
_ ينجو بعضهم طبعاً. المهم بعد مدة لا أذكر ساعة أو أكثر أو أقل فالمرء ينسى الكثير في مثل هذه الأوقات فوجئت بأن ذخيرة المدفع انتهت. أصبحت دبابتنا كتلة حديد، وأصبحنا كمن وقع في فخ للعصافير.
وتراءى محمود داخل هذا القفص لأبيه الذي التمعت في ذهنه فكرة: " لعله لم يتصرف كطائر جزع " ونظر بإشفاق إلى محدثه. كان وجه الرقيب شاحباً كأنه يعيش تلك اللحظة من جديد. وهدّأت بقية حديثه مخاوف الكهل مؤقتاً:
_ كان السائق أشجعنا، قال لي: لماذا لا نصفّ دبابتنا بجانب دبابة مصابة لم تنفجر بعدُ ونُخرج ما فيها من ذخيرة؟ كانت الفكرة صحيحة ولكن من يجرؤ أن يدخل في فرن مشتعل؟
ووافق الكهل بلا وعي:
_ صحيح والله!
_ وكأن السائق لاحظ ترددي فقال لي: لا تهتمّ أنت! ابق في مكانك على جهاز اللاسلكي وأنا والرامي نجلب الذخيرة. ولم ينتظر موافقتي: نزل إلى الدبابة نصف المشتعلة وهلل: الخير وفير يا شباب أبشروا! وشرع يفك مثبتات الطلقات؛ ويا له من عمل يكسر الظهر حتى وأنت تحت ظل شجرة؛ فكيف داخل فرن والموت متربص بك في كل زاوية؟! ووقف الرامي على البرج يُناوِل الطلقات واحدة بعد الأخرى إلى المعمر الذي يصفّها في مكانها عندنا، وكلما وصلت طلقة أشرت إلى رفيقه الواقف على البرج: كفى، كفى! لأخرجه فقد تنفجر الدبابة! وهو يبلّغني عن طريقه أيضاً:
_ بقي خمس طلقات فقط... أربع... ثلاث!
تسارعت دقات قلب الكهل وزاد حلقه جفافاً، وسرت البرودة في أطرافه " ولكن ابني على ما قيل لي لم يكن عليه أثر جرح أو حريق، ولا يعقل أن تنفجر دبابة ولا يحترقَ مَن بداخلها "
انتفضت الشمس انتفاضتها الأخيرة قبل أن تنطفئ، ولاحظ الرقيب تباطؤ خطوات الكهل، ولكن كان عليه أن يكمل له الحكاية:
_ ومع الطلقة الأخيرة انفجرت.. ارتفع اللهب عدة أمتار، لا أذكر تماماً فقد أعماني الوهج، وتبعه الدخان الأسود.
عصر شيء ما كلَّ ما في جوف العجوز، وأصبح تنفسه صعباً كأنما يستنشق دخان الانفجار، وغامر بآخر أمل لديه:
_ وهل يحدث أن تنفجر دبابة وينجو من فيها؟
هز الرقيب رأسه بيأس:
_ لم أستطع أن أتحرك من مكاني. للوهلة الأولى شلّت الصدمة ساقيّ؛ إلا أن غلاوة الروح حملتني أخيراً ولكن بعدما انتهى كل شيء.
تداعت ساقا العجوز، وتداخلت حدود التلال أمامه، وسأل بصوت لا يكاد يُسمع:
_ أما يزال الطريق طويلاً يا بني؟
لم يجب الرقيب. وغاب الاثنان في الأفق البعيد، وفي السماء بدأ قمر أحمر يبدد سواد الليل.