قراءة في فكر ابن جني من خلال كتاب
"الخصائص"
على ضوء علم اللغة الحديث
ينتمي ابن جني مثل معظم اللغويين الكبار في تاريخنا، سيبويه والفراء والفارسي والزمخشري وغيرهم إلى المعتزلة، وهم الجماعة المعروفة بتحكيم العقل؛ فالاعتزال "منهج في البحث والتجربة والاستدلال العقلي"(1) وقد كانت ثقة المعتزلة كبيرة بالعقل لا يحدّها إلا احترام أوامر الشرع. فكل مسألة من مسائلهم يعرضونها على العقل، فما قبِلَ أقرّوه، وما لم يقبل رفضوه"(2) وجعلته هذه الأرضية الفكرية، وتمثُّلُه لتراث سابقيه يلحّ على جعْلِ اللغة علماً. وإليه يمكن أن ننسب باطمئنان وضْع القاعدة اللغوية المطّردة الشاملة التي لا يطعن فيها طاعن. فهو بهذا ذو عقل شمولي متميز خطَّ لمن بعده أُسس البحث اللغوي وأساليبه.
ألّف ابن جني كتاب الخصائص لبحث النظام العام للغة منطلقاً من تمثُّله لآراء أستاذه أبي علي الفارسي القائمة على دراسة اللغة دراسة بنيوية وظيفية، فشرح عموميات اللغة في مستهل الخصائص، كالفرق بين القول والكلام، ومعنى النحو، والإعراب والبناء. وتطرق إلى أصل اللغة أوحيٌ هي أم اصطلاحٌ، ولم يجزم بواحدة منهما تماماً. وقبِل بنظرية ثالثة هي نظرية الأصل الطبيعي. ولم يتوقف طويلاً عند هذا الموضوع إذ لا يغير شيئاً من حقيقة القوانين اللغوية. وأوضح أن هدفه تأسيسُ أصولٍ للنحو على غرار أصول الفقه، ورفعُ العلل النحوية التي كانت مضرب المثل في الضعف إلى مرتبة العلل الكلامية. فخطط أسلوب البحث العلمي، وطريقة وضعِ القواعد الشاملة. وأكد أن للغةِ قوانينَ تحافظ عليها. وأفرد أبواباً كثيرة للقياس الذي يتزعم مدرسته، إلى جانب دراسات صوتية تصب هي الأخرى في مجرى النظام العام للغة.
بوّأه الأستاذ احمد أمين زعامة مدرسة القياس.(3) ورآه الأستاذ سعيد الأفغاني أعلى علماء العربية كعباً في جميع عصورها، وأغوَصَهم عامة على أسرار العربية والاهتداء إلى النظريات العامة فيها، ونسب إليه ابتداع نظرية الاشتقاق الأكبر، وتأسيس فقه اللغة، وإمارة علم التصريف بلا منازع.(4) وكذلك أقرّ الأستاذ محمد علي النجار محقق الخصائص بنبوغه في الصرف، وسعةِ درايته وروايته وفضله على المتأخرين.(5) ونسب إليه الدكتور شوقي ضيف وضْع القوانين الكلية في التصريف.(6)
وهاجمه، وسائرَ النحاة المعتزلة كثيرون بتهمة اضطراب الرؤية اللغوية نتيجة إقحام المنطق في النحو. وعلّق أبو علي الفارسي على مزجِ أحد النحاة المعتزلة المعاصرين له وهو الرماني، النحو بالمنطق قائلاً: "إن كان النحوُ ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء"(7)
ولتلمُّسِ موقع الرجل بين هذه الإطراءات والاتهامات، ولبيان مدى نجاحه في محاولته، لابد من العودة إلى شيء من علم اللغة العام.
يعود تاريخ علم اللغة العام إلى بدايات القرن العشرين عندما أعلن عالم اللغة ماييه عام 1906 أنّ: "التاريخ لن يكون بالنسبة إلى اللغوي غاية بل وسيلة"(8) مشيراً بذلك إلى أن جهود علماء اللغة في القرن التاسع عشر وما قبله انصبّت على الأبحاث التاريخية والمقارنة، وعلى إثبات القرابة بين اللغات، ولاسيما بعد اكتشافِ اللغة السنسكريتية، وردّةِ الفعل العنيفة ضد قواعد بور رويال. وفي العام نفسه بدأ عالم اللغة الشهير سوسور محاضراته في جامعة جنيف في "علم اللغة العام" فأسس عملياً هذا العلم.
"وهكذا أدار علم اللغة ظهره للدراسات المقارنة التاريخية، وأكّد إمكان إخضاع كل حالة من اللغة إلى دراسة سكونية متزامنة بِغضِّ النظر عن التطور الذي تُعَدّ هذه الحالة امتداداً له؛ وبناء على هذا المفهوم طرح سوسور التمييز بين "التطورية" التي هي دراسة التغيرات عبر الزمن، و"التزامن" الذي هو دراسة حالات محدودة من اللغة في فترة محدودة من التطور، فانقسم علم اللغة إلى فرعين: علم لغةٍ تعاقبي أو تطوري une linguistique dyachronique ou évolutive، وعلم لغة تزامني أو سكوني une linguistique synchronique ou statique. وتنضم الطريقتان التزامنية والتعاقبية موضحةً إحداهما الأخرى"(9). وينطبق هذا التقسيم السوسوري على اختصاص ابن جني بالدراسة التطورية للغة في كتاب "الخصائص"، واختصاص الإمام الجرجاني بالدراسة التزامنية لها في "دلائل الإعجاز". وتنضم الدراستان في مدرسة واحدة تسمى مدرسة أبي علي الفارسي.
لماذا علم اللغة العام؟ وما مدى إسهام ابن جني فيه إذ كان عمله لا يتعدى حدود اللغة العربية؟
"إذا كان هناك علمُ لغةٍ عامٌّ فلأنه يمكن صياغة مبادئ تنطبق انطباقاً عاماً على وظيفة اللغات وتطورها وعملها، وهذا هو مفهوم علم اللغة العام أو الكُليّ panchronique، مقابل علم اللغة الخاص idiochronique الذي هو دراسة سكونية أو تطورية للغةٍ خاصةٍ"(10)
"ويرتبط علم اللغة العام بعلم اللغة الخاص بلغة ما كالعربية لأنه يقوم على ما هو عام ومشترك بين اللغات جميعها، كما أن علم اللغة الخاص يستفيد بدوره من النتائج التي يتوصل إليها علم اللغة العام بتطبيقها على اللغة التي يختص بدراستها" (11). "ولذلك فإن لعلم اللغة العام في المرحلة الأولى، قبل مرحلة البحث عن القوانين العامة، مهمة وصفية؛ فمن مجموع الدراسات الخاصة المنفذة على اللغات المختلفة تُستخلَص تعليمات ذات طابع عام عن نماذج الأنظمة المتحققة في اللغات"(12)
ترتبط الخصائص العامة للغة بحقيقتين كبيرتين:
- كل لغة هي نظام إشارات.
- كل لغة تتجلى في إطار اجتماعي يحدد انتظام عملها وتطورها.
تعرَّف الإشارة اللغوية بأنها "الكُلُّ المحصَّل من ضمِّ دالٍّ ومدلول". ويرتبط الدالّ بالصورة السمعية، والمدلول بالتصور أو بالمعنى المجرد. وتمثِّل ظاهرتا التلفظ والإصغاء الجانب الفيزيولوجي – النفسي. أما موضوع علم اللغة فهو الجانب النفسي الصِّرْف، أي التلازمُ بين الفكرة والصيغة. وشبّه سوسور العلاقة بين الدال والمدلول بوجهَي الورقة الواحدة؛ فكما أن من المحال تصوُّرَ ورقة بوجه واحد، فمن المحال تصوُّرُ دال دون مدلول، والعكس صحيح. وإذا انعدم التلازم بين الدال والمدلول كان لدينا تعاقُبٌ صوتي لا يصح أن نعدّه إشارة صوتية، فتعاقُب (ق ط ع) مثلاً يعطي إشارة لسانية، أما تعاقُب (ع ط ق) فلا يعطي إشارة لسانية. والعلاقة بين الصيغة اللفظية وما تحيل إليه هذه الصيغة علاقة اعتباطية، أي بلا سبب (arbitraire) موضوعةٌ بالاتفاق أو بالتواطؤ(convention)، فليست الإشارة اللسانية من قبيل الرمز بمعناه المحدد لأننا لا نستطيع التصرف بالرموز كما نشاء، فنحن نرمز إلى العدالة مثلاً بالسيف أو بالميزان، أو بهما معاً، ولكن لا نرمز إليها بكتاب أو بمصباح. أما الإشارة اللسانية فلا تتقيد بمثل هذه الرموز، فالإشارة اللسانية إلى "الطويل" تساوي الإشارة إلى "القصير".
صِيغ مصطلح الاعتباطية في الفرنسية من (arbitre) التي تعني الحاكم المستبد أو السيد المطلق. وفي العربية من فعل (اعتبط) ومعناه قتل ظلماً، أو ذبح الناقة فتيّة سمينة لا علة فيها. وعلى هذا يلتقي المصطلحان على فكرة الظلم والتعسف. ومن الجدير بالذكر أن اللغويين العرب استعملوا هذا المصطلح بمعنى اللاسببية.(13) أما سوسور فقد شعر أن المصطلح الفرنسي لا يعبر تمام التعبير عن العلاقة بين الإشارة اللسانية والشيء الخارجي الذي تدلّ عليه، فاستخدم مصطلحاً أوضح وهو immotivé(e)، أي اللاسببية، أو دون علاقة طبيعية. وبديهي أنه تُستثنى من هذه العلاقة الاعتباطية الألفاظ التي تحاكي أصوات الطبيعة كالخرير والفحيح والزقزقة، والألفاظ ذات الدلالات النفسية، مثل (أفّ) و (آه)، وهي محدودة في كل لغة.
ومن مظاهر الاعتباطية الخارجة عن ساحة البحث، والتي ساقها ابن جني في الخصائص ظاهرةُ عدْلِ (تغيير) بعض الكلمات دون بعضها؛ يقول في الباب الذي استقينا منه النص السابق: "فقد نجد في اللغة أشياء كثيرة غير مُحصاة ولا محصَّلة، ولا نعرف لها سبباً، ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهباً؛ فمن ذلك إهمالُ ما أُهمِل وليس في القياس ما يدعو إلى إهماله، ومنه أنهم عدَلوا "فُعَلاً" عن "فاعِلٍ" في أحرف (كلمات) محفوظة وهي ثُعَل وزُحَل وعُمَر... وما يقل تعداده (مجموعها خمسة عشر)، ولم يعدلوا في نحوِ مالكٍ وحاتِم وخالد، وغيرِ ذلك. ولسنا نعرف سبباً أوجب هذا العدل في هذه الأسماء التي أريناكها دون غيرها"(15)
ومن مظاهر الاعتباطية التي لها علاقةٌ باجتماعية الظاهرة اللغوية أوثقُ من علاقتها باعتباطيتها ظاهرةُ الاستغناء، وإنما يعنينا منها الكيفية التي تمّ بها الاستغناء؛ فلماذا اُستُغني عن ماضيي (ذرْ) و(دعْ) ولم يُستغن عن ماضي (وثب) و(وضع) مثلاً إذا جرت هذه الظاهرة على الأفعال المبدوءة بالواو؟ ومثلُ هذا التساؤل في الاستغناء عن جمع الكثرة بجمع القلة، أو العكس.
إن الخوض في المظهرين الأخيرين، العدل والاستغناء، يتطلب الكثير من الحذر. وأعتقد أنهما يحتاجان إلى بحث تاريخي تطوري.
ومظهر رابعٌ للاعتباطية وهو التصادفات الواقعة في اللغة، أو ما يعقد ابن جني له باباً بعنوان "تلاقي اللغة"، ويستشهد له باسمَي العلم (سلمان) و(سلمى): "ألا ترى أن فَعْلان الذي يُقاوده (مؤنثه) فَعْلى إنما بابُه الصفة [المشبهة] كغضبان وغضبى، وعطشان وعطشى. وليس سلمان وسلمى بصفتين ولا نكرتين، وإنما سلمان من سلمى كقحطان من ليلى (يعني لا علاقة بينهما). غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عُرض اللغة من غير قصدٍ لجمعِهما، ولا إيثار لتقاوُدَهما"(16)
ويتطلب الحديث عن اجتماعية الظاهرة اللغوية التقديمَ بأصل الكلام الإنساني. ونستطيع إجمال النظريات التي ظهرت لتفسير أصل الكلام الإنساني في الاتجاهات التالية:
- النظريات الطبيعية التي نسبت أصل الكلام إلى تقليد أصوات الطبيعة.
- النظريات الأنتروبولوجية التي نسبته إلى العلاقة الرمزية المتبادلة بين وقْعِ المصدر الصوتي ومعناه، أو إلى الأصوات المرافقة لجهد عضلي.
- النظريات الفلسفية التي نسبته إلى العقل الإنساني المتمتع بغريزة خاصة زوِّد بها جميع أفراد الجنس البشري.
- النظريات اللاهوتية التي عدّت اللغة هِبةً من الخالق.
وقد وقعت النظريات السابقة في خطأ إهمال العامل الاجتماعي في نشوء الكلام. وهذا ما أدركته وتداركته كلتا المدرستين اللغويتين المنبثقتين في القرن العشرين، وهما البنيوية في الغرب، والمدرسة اللغوية السوفييتية.
أما مدرسة الفارسي فقد أدركت هذا منذ مئات السنين؛ يقول الإمام الجرجاني: "فإن الناس إنما يكلِّم بعضهم بعضاً ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده"(17) ويؤكد أن المفردات لم توضع لتُعرَف معانيها بأنفسها، وإنما ليُضَمّ بعضُها إلى بعض، فيُعرَف ما بينها من فوائد، أي أن نشأة الكلمة المفردة ارتبطت بنشأة الكلام. ولم تقتصر مهمة الكلمات المفردة عند نشأتها على التسمية بل كانت مهمتها الإخبارَ، أي الوظيفةَ الأساسية للغة، وهي كونها وسيلة اتصال.
وينتمي الجرجاني بهذا إلى مدرسة الفارسي؛ يقول ابن جني في "بابٌ في هذه اللغة؛ أفي وقت واحد وُضِعت أم تلاحَقَ تابِعٌ منها بفارِط": "اِعلمْ أن أبا علي رحمه الله كان يذهب إلى أن هذه اللغة – أعني ما سبق منها، ثم ما لحق به بعده – إنما وقع كلُّ صدرٍ منها في زمان واحد. وإن كان تقدّم شيء منها على صاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدمُ على الفعل الاسمَ، ولا أن يكون المتقدمُ على الحرف الفعلَ... وإنما يعني القوم بقولهم "إن الاسم أسبقُ من الفعل" أنه أقوى في النفْس، وأسبقُ في الاعتقاد من الفعل؛ لا في الزمان. أما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل، ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم، وكذلك الحرف. وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم، وعرفوا مصاير أمورهم، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات (التعبير) عن المعاني، وأنها لا بد من الأسماء والأفعال والحروف؛ فلا عليهم بأيِّها بدؤوا: أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف، لأنهم أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهنّ جُمَع، إذ المعاني لا تستغني عن واحد منهن. هذا مذهب أبي علي، وبه كان يأخذ ويُفتي"(18)
يؤكد علم اللغة الحديث بدوره على اجتماعية اللغة، وعلى أنها تتمثّل لنا خارجياً أداةً للتواصل بين الناس؛ فهي تظهر في كل مكان يعيش فيه أناس في مجتمع. ولا تمارَس لغةٌ دون أن تُستخدَم وسيلةَ اتصال. وتعرّف اللغة على تنوع أشكالها: الفصيحة والعامية واللهجات المحلية، على أنها "وظيفة إنسانية تستند إلى ضمِّ محتويات الفكرة إلى أصوات منتَجة بواسطة الكلام"(19)
وتتوضَّع اللغة لكونها وسيلة اتصال ضمن مجموعة الأنظمة العلامية المستخدمة للتواصل، مثل أنظمة المرور، وطقوس الزواج، والوفاة. وعلى هذا وُجدت – ولا تزال – لغات غير منطوقة بجهاز النطق الإنساني، مثل نداءات الإنذار، وقرْعِ الطبول في إفريقيا. غير أن الأساس هو وجود لغة منطوقة يتكون نظام عملها من بثٍّ واستقبالٍ لأصوات منتَجة بعملية الكلام. وهذه اللغة هي موضوع علم اللغة.
وأدّت الحاجة إلى التواصل بين الناس الذين يتكلمون لغات مختلفة، لا إلى تعلُّم إحدى المجموعتين لغة المجموعة الأخرى فحسبُ، وإنما إلى ظهور لغات خاصة تسمى "لغات الاتصال" تتميز من اللغات القومية، مثل لغة "البيدجين pidgin" المكونة من عناصر إنجليزية وصينية وماليزية، ولغة "السابير sabir" ذات الأصول الرومانية، التي كانت تُستخدَم سابقاً على شواطئ البحر المتوسط.(20)
كيف تؤدي اللغة وظيفتها بصفتها أداة اتصال؟
- يجب أن يكون للغة نظام. يقول ابن جني في معرض حديثه عن الاختلاف بين لغة تميم ولغة الحجاز: "هذا الاختلاف لقلّته وندارته غيرُ محتفل به ولا معيج عليه، وإنما هو شيء من الفروع يسير. فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور فلا خلاف عليه. وكل واحدٍ محافظٌ على لغته لا يخالف شيئاً منها، ولا يوجد عنده تعادٍ منها؛ فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ويقتاسون ولا يفرّطون ولا يخلطون"(21). و"لو كانت هذه اللغة حشواً مكيلاً، وحثْواً مهيلاً لكثر خِلافها، وتعادت أوصافها، فجاء عنهم جرُّ الفاعل ورفع المضاف إليه"(22)
إذن ما يختلف فيه العرب قليل بالقياس إلى ما يتفقون عليه. ثم إن ما يختلف فيه العرب قليل بالقياس إلى ما يختلف فيه العلماء؛ وذلك لأن العلماء اختلفوا في الاعتلال لما اتفقت عليه العرب، كما اختلفوا أيضاً في ما اختلفت فيه العرب.
ويعود الفضل في اتّساق النظام اللغوي في رأي ابن جني إلى القياس.
- يجب أن يكون هذا النظام قائماً على حاجة الناس إلى اللغة، وعلى استعمالهم لها؛ فاللغة مُلكٌ للجميع، كما أنه ليس بوُسعِ فرد أو أفراد ابتكار لغة خارج نطاق المجتمع. ولهذا أخفقت المحاولات التي قام بها بعض الفلاسفة على نحو خاص في القرن السابع عشر مثل ديكارت ولايبنز لوضع لغات اصطناعية.
- ويجب أن يتصف هذا النظام بالمرونة لتلبية الحاجات المتزايدة من الألفاظ. إن الأساس الوطيد لهذه المرونة هو الاعتباط، ثم القياس؛ فكيف فهِم ابن جني العلاقة بين الاستعمال والقياس؟
يمهّد ابن جني لشرح هذه العلاقة بتقسيم كلام العرب إلى أربعة أضرب:
- مطَّرِد في القياس والاستعمال جميعاً، وهذا هو الغاية المطلوبة، نحو "قام زيد" و"مررتُ بسعيدٍ"، يعني رفع الفاعل، وجرَّ المجرور.
- مطرد في القياس شاذ في الاستعمال: وذلك نحوُ الماضي من "يذر" و"يدع"، يعني أن القياس يجيزهما، غير أنهما شاذان في الاستعمال.
- مطرد في الاستعمال شاذ في القياس، نحو "استصوب" و "استحوذ"، والقياس أن يقال: استصاب واستحاذ، بإعلال العين.
- شاذ في القياس والاستعمال معاً، مثل تتميم وزن "مفعول" في ما عينه واو، نحوُ فرس مقوود، وثوب مصوون (المستعمل: مقود ومقيس).
ثم يشرح العلاقة بين الاستعمال والقياس على النحو التالي:
- إذا تعارضا، أي اطّرد في الاستعمال وشذَّ عن القياس أخذت بالأول، أي بالاستعمال، لأنك تتكلم كلام العرب، ولكنه لا يُتَّخذ أصلاً يُقاس عليه غيرُه.
- إذا قوي في القياس، وشذّ في الاستعمال أخذت بما كثر في الاستعمال وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله، أي وإن لم تكن قوته في القياس على قدر قوته في الاستعمال. والعربي قد يتكلم اللغة وغيرها أقوى في القياس عنده.
- إذا أوصلك القياس إلى شيء، ثم سمعت العرب تنطق غيره، فدعْ ما كنت عليه إلى ما هم عليه.
- إذا أيد قياسَك سماعٌ فأنت مخير فيه. فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك كنت على ما أجمعوا عليه البتة، وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولِّد، أو لساجع، أو لضرورة لأنه على قياسهم.
- وإذا فشا الشيء في الاستعمال وقوي في القياس فذلك ما لا غاية وراءه، نحوُ مُنقاد اللغة من النصب بحروف النصب، والجر بحروف الجر.
- وأما ضعْفُ الشيء في القياس وقلته في الاستعمال فمرذول مطروح، غير أنه قد يجيء منه القليل.
ويؤكد ابن جني أهمية العامل الاجتماعي في مواضع أخرى من الخصائص على النحو التالي:
- لا يُقصد بالاستعمال استعمالَ فردٍ أو أفراد، بل الاستعمال الاجتماعي؛ يقول: "فإن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس لا يُقنِع في قبوله أن تسمعه من الواحد، ولا من العدة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم."(23)
- يحذِّر ابن جني من أن الخطأ إذا تكرر توطّد؛ يقول: "ومنهم (من العرب) من إذا طال تكرُّرُ لغة غيره لصقت به. ووجدتُ في كلامه (يعني أبا علي): ألا ترى إلى رسول الله وقد قيل: يا نبيء الله، فقال: لستُ بنبيء الله ولكنني نبيُّه؛ وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمز في اسمه، فردّه على قائله لأنه لم يدر بما سمّاه، فأشفق (خاف) أن يمسِك على ذلك"(24)
- يجب أن يرتبط القياس بالاستعمال، أي بالواقع الموضوعي، ولا يجوز أن يؤخذ بمعناه النظري الصرف أخذاً مطلقاً. ولذا يستنكر وُفقاً لهذا الفهم أن يكون قولهم "رفع عقيرته" (صوته) مشتقاً من "عقر" (بمعنى قطع)كما تأوله أبو إسحاق. ويوافق على أن معنى الصوت في "عقيرته" مأخوذ افتراضاً من أن أحدهم قُطعت رِجلُه، فرفع رجله المعقورة وصرخ، فقالوا: "رفع عقيرته". ثم يقول ابن جني: "ولذلك قال سيبويه في نحوٍ من هذا: أو لأن الأول وصل إليه عِلمٌ لم يصل إلى الآخِر، يعني ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل"(25) ويُلحّ على أن مشاهدة حال المتكلم في أثناء الكلام، أي ربط الكلام بالموقف الذي يجري فيه أشدُّ نفعاً للغويّ من شِعر الفرزدق إذا أُخبِر به ولم يحضره ينشده.
- لا تُستدرَك اللغة كلها قياساً؛ فمنها ما لابد من إيراده، ونص ألفاظه إذا لم يجدوا بداً منها، ولا منصرَفاً عنها: ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغة تُستدرَك بالأدلّة قياساً،(26) مثل حدود الحذف والفصل والتقديم والتأخير.
ولاشكّ أن المسموع الذي وصل إلى عصر التدوين من كلام العرب قليل بالقياس إلى حجم اللغة وإمكاناتها التوليدية. يقول عمر بن الخطاب "كان الشعر عِلْم القوم، ولم يكن لهم علمٌ أصحُّ منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد، ولهِيتْ عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدوَّن، ولا كتاب مكتوب، فحفِظوا أقلّ ذلك، وذهب عنهم كثيره"(27)
ولا يُعقَل طبعاً أن ترِد اللغة الصحيحة كلها عن طريق السماع، ولا أن تتجمد اللغة على المسموع كذلك؛ فكيف تغتني اللغة وتتجدد؟ وكيف يتأصّل الجديد؟
- لاشكّ أن اقتران الاستعمال بالقياس الصحيح يؤصِّل القياس، بدليل قوله "إذا فشا الشيء في الاستعمال وقوي في القياس فذلك ما لا غاية وراءه، نحوُ منقاد اللغة"(28)
- ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. "ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرُك اسم كل فاعل ولا مفعول، وإنما سمعت البعض منه فقِستَ عليه غيره؛ فإذا سمعتَ "قام زيد" أجزْتَ "ظرف بِشْرٌ" و"كرُم خالدٌ"(29)
- وينطبق هذا على الألفاظ الأعجمية التي تدخل اللغة: "قال أبو علي الفارسي: إذا قلتَ "طاب الخَشكُنانُ (نوع من الخبز الـمُحلَّى)" فهذا من كلام العرب لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلام العرب"(30) وحين تنتقل من لغتها إلى العربية تغيِّر أصواتها، ويُتصرَّف في وزنها بحيث تندرج في أقرب وزن من أوزان الكلمات العربية التي تربو على ثلاثمئة، ويُحرَّك آخرها بحركات الإعراب، ويُشتقُّ منها، فيقال: "درهمتِ الخُبّازى، أي صارت كالدراهم، فاشتُقّ من الدرهم فعل "دَرْهَمَ" وهو اسم أعجمي. وكذلك يُدخلون على هذه الألفاظ الدخيلة لام التعريف تشبيهاً لها بأصول كلام العرب، أي النكرات."(31)
- عن طريق التدريج، وهو "أن يشبه شيء شيئاً من موضع، فيُمضى حكمُه كحكم الأول، ثم يُرقى منه إلى غيره"(32) ومن أمثلته قلْبُ الذال دالاً في "اِدَّكر"، ثم تدرّجوا منه إلى غيره بأن قلبوها دالاً في غير وزن "افتعل" فقالوا: "الدِّكر". وفي شرح مثال آخر للتدريج يستعمل ابن جني لفظة هامة الدلالة وهي "الاعتياد"، يقول: "لاعتيادهم عليها حتى صارت كأنها أصلاً"(33)
- استعارة اللفظة والاستعمال الطويل لها؛ يعلل ابن جني اجتماع لغتين فصيحتين أو أكثر في لغة رجل واحد قائلاً: "وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداها، ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى، وطال عهده بها، وكثر استعماله لها، فلحقت لطول المدة، واتصال استعمالها بلغته"(34). ويقول في موضع آخر: "ومن العرب مَن إذا طال تكرُّرُ لغةُ غيره عليه لصقت به، ووُجدت في كلامه"(35)
ويلخِّص علم اللغة الحديث توطُّد اللفظة بالقوانين التالية:(36)
اعتباط × وضع: اصطلاح. أي أنه تم وضعُ الألفاظ على أساس الاعتباط.
اصطلاح × استعمال: عُرف، أي أن الاصطلاح يجب أن يؤيده الاستعمال ليصبح عرفاً.
عُرف × تواتر: اطِّراد.
ويتفق هذا مع مفهوم ابن جني في أن كثرة الاستعمال، مع طول المدة، تُلحِق اللفظة باللغة. ويعلل هذا المفهوم عجزنا عن تصحيح الأخطاء الشائعة، وعجز المجامع اللغوية عن فرض مصطلحاتها.
لماذا إصرار ابن جني على أن الاستعمال هو الأصل مع أنه وريث مدرسة القياس البصرية؟
- اللغة عَقد اجتماعي كما يقول علم اللغة المعاصر، ومؤسسة موضوعية، بمعنى أنها لا تتعلق بإرادة فرد أو أفراد من المجتمع؛ فلا قيمة للغةٍ خارج استعماله.
-
يحدّ الاستعمال من استطالة القياس، فيحدّ من اتساع اللغة الناجم عن الإسراف في القياس، ويرجع السبب في هذا إلى:
- إن الإمكانات النظرية للغةِ هائلةٌ. يعلل ابن جني قلة استعمال الأصلين الرباعي والخماسي قائلاً: "ذلك أن الثلاثي يتركّب منه ستة أصول (بالتقليب)، والرباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلاً... وإذا كان الرباعي مع قربه من الثلاثي إنما استُعمِل الأقل منه فما ظنُّك بالخماسي؛ ألا تجد أنك لا تجد شيئاً من نحو "سفرجل" قالوا فيه "سرفجل"، ولا نحو ذلك مع أن تقليبه يبلغ به مئة وعشرين أصلاً؛ ثم لم يُستعمل من ذلك كله إلا "سفرجل" وحده"(37)
ثم هناك إمكان تقليب كل أصل ثلاثي من الأصول الستة تسع مرات بتغيير حركة العين في الماضي والمضارع، وهناك صيغ الزوائد أيضاً. إن هذه الإمكانات إذا أُطلِقت ستؤدي إلى ما يشبه التضخم الاقتصادي. وتحتفظ اللغة بهذه القدرات إلى حين الحاجة. وعلى هذا يُطلَق على اللغة اللاتينية التي لم تعد وسيلة اتصال مصطلح en conserve، أي قيد الحفظ، تشبيهاً بالمخزون الغذائي يُستجَرّ منه على قدر الحاجة.
- ولما كانت اللغة وسيلة اتصال وجب أن تكون مفهومة من قِبَل كل المتكلمين بها ليستطيعوا التفاهم عن طريقها، ولتكون عاملَ توحيدٍ لهم؛ وإلا فقدت وظيفتها الإبلاغية الاجتماعية، وعليه تشبَّه وظيفة الإبلاغ بالمقود الذي يوجه اللغة انتشاراً أو تقليصاً.
- ينتمي ابن جني بشكل ما إلى مدرسة البصرة التي أدركت حقيقة هامة وهي أن اللغة نظام، بمعنى أنه يجب احتواءُ ما يجب احتواؤه من كلام العرب ضمن النظام اللغوي، واعتبارُ ما يقع خارج تلك الحدود شاذاً يُحفَظ ولا يقاس عليه، ويكون حسب تعبير ابن جني "مَنْبَهَة على أصل بابه".
إذا كان الاستعمال قوة ضاغطة على اللغة باتجاه التقليص فما القوة التي تجعل النظام اللغوي مرناً يستجيب لمتطلبات التواصل من جهة، ولمتطلبات التطور من جهة؟ إنها مرونة القياس. ومن مظاهرها في فكر ابن جني:
- جواز القياس على ما يقلّ، ورفضُه على الأكثر إذا كان الأكثرُ غير قياس.
- ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب.
- للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما لم يُلْوِ بنصٍّ أو ينتهك حرمة شرع. وليس إجماع أهل البلدين، البصرة والكوفة، بحجة عليك إذا لم تخالف المنصوص؛ يقصد حرية الاستنتاج والبحث العلمي.
- يُحمَل على الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، تسهيلاً للبحث واللغة، ومثاله حمْلُ سيبويه كلمة " سِيْد "(يعني أصل حرف العلة فيها) على الياء، وإن كانت الواو أكثر وروداً في هذا الموضع.
- الاستحسان ضربٌ من التوسع والتصرف. ومن أمثلته ترْكُ الأخفّ على الأثقل من غير ضرورة، وإلحاق نون التوكيد باسم الفاعل تشبيهاً له بالمضارع. وما خرج مَنبَهة على أصل بابه، مثل "استحوذ" و"استصوب".
- إذا انفرد العربي بشيء نُظر إلى كلامه، فإن كان كلامه فصيحاً قُبِل منه؛ فقد يكون من لغة قديمة. إن ابن جني يتجاوز هنا قاعدة الاستعمال الجماعي، ويقبل الاستعمال الفردي لتسهيل احتواء النظام للغة.
- الحمول والإضافات والإلحاقات لكثرة هذه اللغة وسَعَتِها وغلبة حاجة أهلها إليها للتصرف؛ يقول سيبويه: "وليس شيءٌ يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً"(38)
- "قبول لغتين أو أكثر لأن لكل واحد من القومين ضرباً من القياس يؤخذ به ويُخلَد إليه. وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها" (39) ومثالُه إعمال "ما" النافية في لغة قريش: ﴿ما هذا بشراً﴾ (يوسف 12 / 31) وإهمالها في لغة تميم: (ما هذا بشرٌ).
- لا تجوز المبالغة في التشكُّك بكل لهجة أو لغة أو قياس لأن هذا التشكك " يوحِشك من كل لغة صحيحة،لأنه يتوجه منه أن تتوقف عن الأخذ بها مخافة أن يكون فيها زَيْغٌ حادثٌ لا تعلمه الآن ويجوز أن تعلمه بعد زمان... وإن اتّجه هذا عليك انخرط منه عليك ألا تطيب نفساً بلغةٍ وإن كانت فصيحة مستحكمة" وكذلك "لا يجوز ترْكُ الحاضر الذي له وجه من القياس لغائبٍ مجوَّزٍ ليس عليه دليل".(40)
ولابد أن نضيف إلى ما سبق باباً واسعاً في الخصائص سماه المؤلف "شجاعة العربية" يعني بها الحذف والفصل والتفريق والتقديم والتأخير.
كيف تحافظ اللغة على توازنها بين هاتين القوتين المتعاكستين: قوة التقلص المتأتّية من قيود الاستعمال الجماعي، وقوة الانتشار الناتجة عن مرونة القياس؟
- لا يتغير النظامان الصرفي والنحوي للغة إلا ببطء شديد. فلا خوف على اللغة مادام هذان النظامان قادرين على استيعاب الدخيل من الألفاظ.
- أما المعاني الجديدة التي بفرضها التطور الحضاري فإن اللغة تتمكن من التعبير عنها دون اللجوء إلى التوسع المعجمي في غالب الأحيان عن طريق العبور باللفظة من الحقيقة إلى المجاز (انظر مثلاً كلمة السياسة)، وتتحقق كذلك عبر السياقات المختلفة للفظة؛ يقول ابن جني عن الحقيقة والمجاز: "الحقيقة ما أُقِرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز ما كان ضد ذلك. وإنما يقع المجاز ويُعدَل إليه لمعانٍ ثلاثة وهي الاتّساع والتشبيه والتوكيد"
ويقول الدكتور عبد السلام المسدي: "إن اللفظة التي سماها العرب في وقت ما بالمجاز، من فعل جاز، هي عبور باللفظة من حقل دلالي إلى حقل آخر، وكذلك الاستعارة؛ فاللفظة قادرة على التحول الذاتي، أي على أن تتحول دلالتها ضمنياً عبْر الزمن. وتشبه هذه العملية عملية الانسلاخ في الكائنات الحية حيث تُجدّد اللفظة معناها دون أن تفقد جوهرها"(41)
وتخفف اللغة حملها المعجمي عن طريق الاستغناء، وهو على أنواع:
- نوع استعمالي: تموت اللفظة المهجورة زمناً طويلاً وفقاً للقاعدة نفسها التي تثبت بها اللفظة الجديدة عن طريق الاستعمال.
- نوع تمنعه قواعد القياس، وهي القواعد التي تسمح في الوقت نفسه بتوسُّع اللغة، مثل صيغ التعجب والتفضيل من بعض الأفعال.
- نوع اعتباطي لا ضابط له، كالاستغناء بجمع القلة عن جمع الكثرة أو بالعكس. والاستغناء عن صيغ بعض الأفعال ببعضها الآخر، كالاستغناء عن "فقر" بــ "افتقر"، وعن "شد" بــ "اشتدّ"، والاستغناء عن الأصل المجرد بما استُعمل مزيداً، وهو صدر صالح من اللغة كما يقول ابن جني، نحوُ "كوكب" و"حوشب" إذ لم يرِد في كلامهم "ككب" و"حشب".
وينطوي تحت عنوان اجتماعية الظاهرة اللغوية ما يسميه الاستخفاف والاستثقال وحسّ المتكلم؛ يقول في باب "عللُ العربية أكلامية هي أم فقهية": "قال أبو إسحاق (الزجاج) في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فُعِل ذلك للفرق بينهما. ثم سأل نفسَه فقال: فإن قيل: فهلّا عكست الحال فكانت فرقاً أيضاً؛ قيل: الذي فعلوه أحزمُ، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثرُ من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة؛ فرُفِع الفاعل لقلّته، ونُصب المفعول لكثرته، وذلك ليقلّ في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر ما يستخفّون " (42). ويمثل ابن جني لهذا بثقل الواو الساكنة بعد كسرة في نحو "مِوْزان"، وثقل الياء الساكنة بعد ضمة في نحو "مُيْسِر" فقلبوا الواو ياء في الأول، والياء واواً في الثاني.
ولهذا الحديث أكثرُ من موضع في الخصائص، ولكن أوجز أبرز مظاهره في ما يلي:
- اختيار الأصل الثلاثي دون الرباعي والخماسي لخفّته وثقلهما.
- الهروب من الحركة الثقيلة إلى الخفيفة، مثل تسكين المتحرك في نحوِ "عضُد" و"عجُز"، وورود معظم حروف المعاني المفردة على الفتح كألف الاستفهام وواو العطف. وما ورد منها مكسوراً إنما كُسِر لمعنىً، مثل لام الأمر. وورود الأحرف المثناة كلها مفتوحة الأول، مثل: هَل ولَم...
- الإعلال الذي سبقت أمثلته، بالإضافة إلى أنه يشبّه تقليبَ الأصول الثلاثية بالإعلال. ويجعل هذا الشبه أحد أسباب النفور من التقليبات الممكنة.
- اختلاس الحركة، مثل قراءة بعضهم ﴿مالك لا تأمنّا على يوسف﴾(43) مختلساً حركة النون. فيُقرأ الفعل: لا تأمنّْا.
- الإشمام، ومعلوم أنه للعين لا لأذن، ولا حركةَ البتة. وهو الإشارة بالشفتين إلى الضمة المحذوفة من آخر الكلمة الموقوف عليها بالسكون من غير تصويت بهذه الحركة. يقول ابن جني "فإذا قنعوا من الحركة بأن يومئوا إليها بالآلة التي من عادتها أن تستعمل، عن النطق بها من غير أن يُخرجوا إلى حس السمع شيئاً من الحركة لم يبق وراء ذلك ما يُستدلّ به على عنايتهم بهذا الأمر (الاستخفاف)".
- إدراج همزة القطع، أي عدم نُطقها، كأنها همزة وصل.
- الحذف، سواء حذف الجملة كلها أو جزء منها.
- ظاهرة أسماء الشرط، وأسماء الاستفهام التي يعبّر عنها أو يُسأل بها عن الكثير.
- الإلحاق بالأفعال من أولها، وبالأسماء من آخرها، وزيادة الألف فقط على الخماسي لخفّتها، مثل "قَبَعْثَرى"
وفي علم اللغة الحديث ما يسمى "قانون المجهود الأدنى"(44)، يشرحه الدكتور المسدي كما يلي: "تنزع اللغة إلى إبلاغ أكبر عدد ممكن من الشحنات الإخبارية، أي أكبر قدر من المعلومات بأقل جهد عضلي. ومن أمثلته في العربية تحوّل الفصحى إلى لهجات، والوقوف على ساكن"(45). ويحسُن هنا ذِكْرُ ملاحظة ثاقبة لابن جني يضيفها إلى حديث الاستثقال والاستخفاف، وهي أن اللغة تنزع أحياناً إلى الأطول والأثقل دفعاً للملل، وطلباً للتنوع، كالعدول عن الياء مع خفتها إلى الواو على ثقلها في كلمة "حَيْوَة" (اسم علم)، وحقُّها أن تقلب واوها ياء، فتصبح "حيّة". وكذلك العدول عن الإعلال مع توفُّر العلة في نحو "استصوب" و"استحوذ". ويعلل المسدي هذه الظاهرة بأنها وظيفة نفسية واجتماعية للغة وهي وظيفة تركيز دعائم الاستئناس التي يتكلم بها مع المخاطب، ومثاله سؤال الله إلى موسى ﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾ (طه 20 / 17) وهو يعلم ما بيمينه.(46)
ونشير أخيراً إشارة عابرة، لتشعُّب الموضوع إلى صنيع آخر لابن جني يصب في التيار نفسه، وهو توجيهه للقراءات القرآنية الشاذة في كتابه "المحتسب" لأن هذه القراءات لهجاتٌ تكلمت بها مجموعات بشرية قلّت أو كثرت. وأكمل بهذا صنيع أستاذه أبي علي الفارسي الذي وجّه القراءات السبع في كتابه: "الحُجّة".
*مجلة التراث العربي. إصدار اتحاد الكتاب العرب
الحواشي
1 – في أصول النحو. سعيد الأفغاني ط 3 مطبعة جامعة دمشق. ص 91
2 – المذاهب الإسلامية. أحمد أبو زهرة ص 215
3 – في أصول النحو. م. س. ص 103
4 – م.س. ص 104
5 – مقدمة الخصائص. مطبعة دار الهدى. ط2 ص 47
6 – المدارس النحوية. شوقي ضيف ص 268
7 – في أصول النحو 137
8 –. II edition. p 96 la linguistique. Jean Perrot
9 – م.س. ص 99
10 – م.س. ص 100
11 – الدور الإيجابي للمتكلمين والمعتزلة في علم اللغة العربية. محاضرة للدكتور جعفر دك الباب ألقيت في المؤتمر العالمي لتاريخ الحضارة الإسلامية بدمشق عام 1981
12 – la linguistique. p100
13 – انظر مثلاً مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري. مطبعة دار الفكر. ط2. ص 36، في تعليل حذف الهمزة من مضارع " رأى" وأمره. يرى، و رَهْ.
14– الخصائص 1 م 64 – 65
15– م. س. 1 / 52
16– م. س 1 م 322
17– دلائل الإعجاز للإمام الجرجاني. منشورات دار المعرفة ص 408
18– الخصائص 2 / 30
19– la linguistique p 5
20– م. س. 34
21– الخصائص 1 /244
22– م. س 1 /244
23- م.س 2 /25
24 – م. س 1 / 383
25 – م. س 1 / 248
26 – م. س 1/ 398
27 – م.س 1/126
28 – م. س 1/ 126
29 – م.س 1/357
30 – م. س 1/ 357
31 – م.س 1 / 347
32 – م.س 1 / 349
33 – م.س 1 / 383
34 – م. س 1 / 383
- مجموعة محاضرات للدكتور عبد السلام المسدي ألقيت على طلبة الدراسات العليا بجامعة دمشق في صيف عام 1981.
36 – الخصائص 1 /61 – 62
37 –م. س 1 /214
38 – م.س 2/10
39 – م.س 1/ 252
40 – م.س 1/ 442
41 – محاضرات الدكتور المسدي.
42 – الخصائص 1 /48 – 49
43 – يوسف 12 /11
44 – la linguistique p121
45 – محاضرات الدكتور المسدي.
46 – م.س