قصة كتابين*
العنوان استيحاء فحسبُ من عنوان الرواية الشهيرة " قصة مدينتين " لشارلز ديكنز. والكتابان اللذان نعنيهما: " الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق، و" من هنا نبدأ " لخالد محمد خالد.
وما يجمع بين الكتابين:
1 – كلاهما تناول موضوعاً لا يزال مهماً ومعاصراً وهو: الإسلام والحكم، وبعبارة أوضح: هل الإسلام نظام حكم؟
2 – كلاهما، خلافاً لمعظم المفكرين الإسلاميين المعاصرين، يبرهن أن الدين يجب أن يُفصَل عن السياسة والحكم.
3 – كلاهما من تأليف عالم أزهري جليل.
4 – كلا الكتابين حوكِم، سواء في محكمة حكومية أم في محكمة أزهرية، أم في الاثنتين معاً.
5 – كلا الكاتبين رجع أو أُرجِع لاحقاً عن أفكاره، فكتب خالد محمد خالد " الدولة في الإسلام " وكتب – أو زعم ورثةُ الشيخ عبد الرازق – أنه بدأ في تأليف كتاب رجع فيه عن أفكاره السابقة، أُنجز منه ثلاث صفحات. وكان هدفُ ورثتِه منعَ إعادة طبع الكتاب الأول.
6 – ردّ على علي عبد الرازق الشيخ محمد الخضر حسين بكتاب " نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم " عام 1926. وفي السنة نفسها الشيخ محمد بخيت المطيعي بكتاب " حقيقة الإسلام وأصول الحكم ". ورد على خالد محمد خالد الشيخ الغزالي بكتاب " من هنا نعلم ".
7 – لم يكتب علي عبد الرازق إلى أواخر حياته كتابات مهمة رغم إعادة الاعتبار إليه عام 1945 حين تولى أخوه مصطفى عبد الرازق مشيخة الأزهر. وعمل وزيراً للأوقاف 1948 – 1949.
أما خالد محمد خالد فكتب أكثر من ثلاثين كتاباً، أواخرها كتب تقليدية إلى أن توفي عام 1996.
8 – كلا الكاتبين كانت له ميول أشمل من الدين المحض؛ فعلي عبد الرازق التحق بالجامعة المصرية من بداية تأسيسها كما فعل ابن جيله طه حسين. وسافر إلى إنجلترا بعد تخرجه في الأزهر عام 1912 لدراسة الاقتصاد في جامعة أوكسفورد، غير أن نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 قطع دراسته. وخالد محمد خالد عمل في وزارة الثقافة، وكان عضواً في المجلس الأعلى للفنون والآداب. ويبدو من كتُبِه اطلاعه الواسع على الفكر الغربي.
صدر كتاب علي عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم " عام 1925. وحجم الكتاب لا يزيد كثيراً على مئة صفحة. ويحكم محقق الكتاب والمقدِّم له محمد عماره الذي كان يُصنَّف في السبعينيات " كاتباً إسلامياً يسارياً " بأن المؤلف استعجل في تأليف كتابه بسبب ظرف سياسي خطير وهو محاولة بريطانيا إحياء الخلافة العثمانية التي كانت تُعَدّ الخلافة الإسلامية بتنصيب الملك فؤاد ملك مصر خليفة على العالم الإسلامي، وهو يعني أن العالم الإسلامي كلَّه سيصبح تحت السيطرة البريطانية. لهذا انبرى علي عبد الرازق يفنِّد نظرية الخلافة الإسلامية منتهياً إلى النتيجة التالية: إذا تحول الدين إلى سياسة كانت النتيجة كارثية. والخلفاء الذين حكموا باسم الإسلام لم يكن بينهم من يستحق هذا الوصف إلا بضعةُ الخلفاء الأوائل، لأنهم تمتعوا بصفات لم تتكرر في لاحقيهم.
وصدر كتاب خالد محمد خالد " من هنا نبدأ " عام 1950. وصدرت الطبعة السادسة عام 1952، وصدرت ثلاث طبعات " زائفة " للكتاب كما يقول المؤلف، وهو ما يدل على رواجه، ولاسيما في موضوع غير شعبي تماماً، وغير سهل على القارئ المتوسط.
وصودر الكتاب وحرِّم طبعه " لأن فضيلة الرقيب رأى فيه هجوماً على رجال الدين وعلى الرأسماليين، وهذه سِمةُ الشيوعية والشيوعيين " (1). وكان عنوان الكتاب آنذاك " بلادُ مَن؟ " وقد رفع المؤلف منه فصلاً بعنوان " قومية الحكم " (نفهم من القوميةِ الوطنيةَ أو العَلمانيةَ) " لأن أصحاب الفكرة التي أناقشها في هذا الفصل كانوا يومئذ في السجون والمعتقلات فلم يكن من الإنصاف مناقشتهم بالغيب " (2). وهو موقف نبيل لا يريد أن يستغل عجْز الطرف الآخر عن الردّ لأسباب موضوعية.
وأتيح للكتاب أن يصدر في عهد وزارة أخرى " بعدما عملت فيه يد الاختزال والتركيز. وعاد فصلُ قومية الحكم إلى مكانه بعدما زالت البواعث التي زحزحته عنه. واتّسم الكتاب بسمة الإيجابية والتوجيه، فكان أنسبُ الأسماء له " من هنا نبدأ " (3)
ولكن " على حين غفلة انقضّ البوليس على المكتبات، وضبط نسخ الكتاب تمهيداً لمصادرته. ووقف الكتاب أمام القضاء متَّهماً بالخروج على الدين وترويج الشيوعية، وتحريض الفقراء على الرأسماليين. وأخيراً جاءت كلمة القضاء كهدير المحيط قوية هادئة، وأُفرِج عن الكتاب للمرة الثانية. ومضى مستأنِفاً رحلته المباركة... ولكنهم يتحدثون (مَن هم؟) عن محاكمة أخرى ستجريها هيئة كبار العلماء " (4).
وقد نسب رئيس لجنة الفتوى بالجامع الأزهر، ونسبت إليه النيابة العامة ثلاث تهم:
1 – تعدّى علناً على الدين الإسلاميّ.
2 – حبّذ وروّج علناً مذهباً يرمي إلى تغيير النُّظُم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة والإرهاب ووسائل أخرى غيرِ مشروعة.
3 – حرض علناً على بُغضِ طائفة من الرأسماليين والازدراء بها.
وبديهي أن كل تهمة مما سبق معاقبة بمادة أو أكثر من قانون العقوبات.
" وقد صوّر المؤلف الحكومة الدينية بخصائصَ وغرائزَ من شأنها أن تبعث في النفوس محاربة هذا النوع من الحكم... ورأى المؤلف أن مهمة الدين لا تعدو الهداية والإرشاد... " (5).
من الواضح أن هيئة الفتوى بالجامع الأزهر، وهي الخبيرة في هذا الموضوع، قرأت الكتاب بدقة متناهية، فوجهت اتهامات كثيرة وعميقة من نوع ما سبق. ولكن العجيب هو أن رئيس المحكمة الابتدائية في القاهرة استطاع تفنيد اتهامات لجنة الفتوى المصرية واحدةً واحدةً، وأن ينقذ الكتاب، ولو إلى حين، من جلاديه في حكم صدر في 27 أيار عام 1950.
يبقى أن الحديث عن فكر علي عبد الرازق سهلٌ نسبياً لاقتصار مصدره على كتاب واحد، في حين أن فِكر خالد محمد خالد غنيٌّ متسع الاتجاهات لأننا يجب أن نعود إلى كتب كثيرة جداً وإن كانت الديموقراطية وحرية التعبير " كتاب: الديموقراطية أولاً " ومفهوم المواطنة " كتاب: مواطنون لا رعايا "، وقضية المرأة، والاشتراكية، أبرز مضامينها.
9 – كلا الكتابين كان صرخة في واد، ولم يصمد في وجه المدِّ الطاغي الذي حجب الحرية العقلية منذ دالت دولة المعتزلة على أثر تنكيل الخليفة العباسي العاشر المتوكل بهم.
*منشورة في جريدة النور السورية
الحواشي: 1و2 مقدمة الكتاب ص 10
3 – م. س ص 11
4 –م. س ص 12
5 – م.س ص 17 – 18.