قطار الشرق المعاكس
ما أشد ما استعصت عليّ هذه القصة حتى حسبتني لن أعود إلى الكتابة في ما تبقّى من العمر. وأنا مُصِرٌّ عليها، لا لأنها ستشعل ثورة أو ترود فضاء، بل لأكتب _ على ما توهمت _ قصة العمر قبل أن يجف مِدادي، وقبل أن يرحل هذا الطين. لم تنفعني وصفات الأصدقاء ممن أصيبوا قبلي بهذا الوسواس: اِختلِ يأتِك الشيطان؛ ولكن أنّى أختلي وقد مسحت الجرافات وجه المدينة؟ غيّرِ القلم! لعل القلم الجديد ينـِـزّ بما لم يستطعه سلفه؛ غير أني معتاد أن أكتب بيد واحدة. قالوا: إذن لابد من الشراب، فتعاطيته وتعاطيت، حتى صرت مدمناً.
وأبي الذي رحل منذ سنين يجثم على صدري من حين إلى حين، يعيّرني بأني لا شيء، وبأن مسيرتي كلها عبثٌ بعبث. ثم يلملم بطَرفة عين ما لمملمته من أطراف القصة في نصف قرن، ويمزقها أمام ناظريّ.
وزوجتي التي زعمت يوماً أنها ستعيش معي على الخبز والقصة تلطم وجهها كل صباح، وتُقسِم أن رحِم امرأة لم تنجب أتعس منها، ثم تقمّ ما كتبتُه ليلاً.
حتى أصغر أطفالي، والذي ما تزال تمسح له أنفه، وغير أنفه،يسألني من حين إلى حين عن نهاية قصتي، ثم يخطف ما أنجزته، ويصنع منه طائرات وزوارق.
...
اليوم أسمع لأول مرة منذ سكنت هذا المعلَّب، عفواً، هذا المجمع الإسمنتي، زقزقة لا عهد لي بها منذ آخر زيارة قمت بها لأمي. زقزقة؟! غير معقول! انتفضت من فراشي مذعوراً أبحث بلهفة عن حطام قصة الأمس؛ فلا شكّ أن انقلاباً كونياً، أو غضباً سماوياً، على الأبواب. وفيما كنت أبحث عن عينيَّ الأُخرَيين وجدتُ زوجتي تركت لي قصاصة " نحن راحلون، خذ راحتك إلى أن تنجز قصتك الخالدة!"
هُرعتُ إلى الباب لعلي ألحق بها، وجدته موصَداً. بحثت عن المفتاح. خبطت الباب بكل توسلاتي. لاشك أنهم حبسوني لأشفى من قصتي المشؤومة. صرختْ قطة جائعة من وراء الباب " وفّرْ صوتك؛ لن يسمعك أحد، الجميع راحلون "
إلى أين؟ لا أدري. هجمت على كأس الأمس. تجرعت وتجرعت حتى ترنّحت. وجدتُني أتهالك على ركام قصة البارحة. نقرت العصافير النافذة وعلا احتفالُها. قولي لي أيتها العصافير: أين رحلوا؟ قولي! ولكنها تتقافز مرتعبة من القطة الشرسة. أوَصَلَتْ بكم القسوة أن تتركوني وقطةً شرسة؟! أتجرع وأتجرع، فتهوي يد أبي الغليظة على رقبتي:
_ لا ينقصك إلا أن تدمن! من أين لك ثمن شرابك يا أبله، وأنت الذي لا ينفع لشيء؟
ينفر الدم غزيراً من أنفي على رفات قصتي، وتهمي دموعي. تعبر العصافير نافذتي وتمسح عيني بأجنحتها. حتى إذا التأم الجرح وجفت الدموع، غمر نور رباني وجهي: أنت إذن يا أمي التي تزورني هذه المرة! اعذريني، أذهلتني قصتي هذه الشهور عن زيارتك.
ولكن إلى أين رحلوا يا أمي؟ أنتم أيتها الأشباح تتشوّفون ما لا نتشوّف. أيُعقل أن يتركوني مع قطة جائعة ولا ذنب لي سوى هذه القصة الوديعة؟ أنا مستعد أن أغفر لهم وأستغفرهم. تشفّعي لي يا أمي! بربكِ أبعدي قبضة أبي، توسّلي إليه أن يصرف لسانه عني ريثما أنتهي من هذه القصة!
تحط العصافير في كأسي التي شارفتْ على نهايتها. وتلفّني أمي بمنديلها الأبيض،فيحملني الحفيف ويحملها. يُدغدغ العبق الدافئ أنفي. يسيل الحليب على أطراف شفتيّ. أذوب في حضنها. تطير وأطير.
تدفعني أمي إلى أول عربة. أتشبث بنافذتها. يطالعني وجه السائق جهماً، ويصرخ في أمي:
_ أبعدي هذا المغفل من هنا؛ هذه عربة القيادة!
أفتح عيني على عقارب تجري بأقصى سرعة. أنظر إلى ساعتي فأراها متوقفة.أغوص كذبابة تائهة في ضجيج الآلات. يبحث السائق عن عصا غليظة، فتنتشلني أمي، وتربت على كتفي:
_ لا بأس! أخطأنا هذه المرة، لنبحثْ في العربة التالية!
تدفعني إلى نافذة أخرى انتصبت في ركن منها مائدة حلزونية عليها عدد من الكؤوس المُشعّة والخامدة. وفي ركنٍ آخرَ عربةٌ يجرها خِصيانٌ عراة يسوطهم سائس كلما خطر لهم أن يئنوا، وقرود تتقافز من سطح إلى سطح. وفي ركنٍ أقربَ سلالمُ ملتوية، وحبالٌ تترجح بمتسلقين ممشوقي القوام. أمدّ يدي إلى أحد الحبال، فتنغرز براثن فولاذ في ظهري. تحملني أمي قبل أن يهوي السوط على جرحي، ثم أجدني أمام محقق يستجوِب أمي:
_ كيف أتيتِ بهذا المهووس؟ انظري صفرة الرعب على وجهه. جبان لم يغامر في حياته لمن أجل الخير، ولا من أجل الشر. هذه مقصورة الأبطال والقراصنة. أبعديه قبل أن...!
_ ولكنه طفل صادق مستقيم. لم يكذب في حياته ولم يعرف الحيلة ولو من أجل إنقاذ نفسه. ربيته على...
_ ومن أجل هذا بالضبط لن يستطيع تسلُّق هذه الحبال؛ أبعديه قبل أن...
تطفئ أمي بدموعها الشرر المتساقط من عيون المحقق فأُشيح عنها. آه يا أمي التعيسة! ما تزالين تحملين همّي وقد ذرّفتُ على الخمسين. ثم أصيح مبهوراً:
_ ادفعيني!
تدفعني فأجدني في صالة صامتة. لا أسمع إلا هسيس آلات وحاسبات ولوحات وشبكات عجيبة. أقفز من حضن أمي. أعانق زوجتي:
_ كيف تهجرينني وقطةً جائعة؟!
تُسبِل ذراعها فجأة فأسقط من جديد في حضن أمي. تشير إليّ أن أتبعها إلى مكتب جانبي يتربع عليه رأس أصلع. يتفرّسني , يفحص أسناني، ثم يقرر:
_ آسِف؛ لا مكان لهذا الطفل عندنا!
_ ولكنه طفلي. ذكي ومتعلم. حصل على أعلى الشهادات، وبصم عشرات المؤلفات، وحفظ عشرات قصائد الحب...
_ لا تقولي: ذكي. أنا أدرى منك بهذا الصنف من المخلوقات، مجرد ببغاوات لا تعرف إلا الواجب. نحن بحاجة إلى أدمغة نشيطة.انظري بنفسك هذه التقنيات العجيبة؛ أنّى له أن...
تسيل محاضرته دموعاً على خد أمي فتحملني إلى المقصورة التالية: يطالعني فِتيانٌ يرقصون. وتصمُّ أذني موسيقى صاخبة. ينظر طفلي إليّ شزراً ويغمز أخته التي تركض إليّ:
_ كيف أتيتِ بهذا العجوز إلى هنا؟
_ ما يزال طفلاً يهوى الغناء ويحب الحياة. أفسحوا له مكاناً في حلبتكم، أتوسل إليكِ؛ جرِّبيه!
تُبعِد عني ابنتي أصابع الفتيان التي تعبث بصلعتي، وتنكش ذاكرتي وهمومي. ثم تقول:
_ لا " تزعل " يا أبي. أنا سألت اليوم عن حالتك فقال الخبراء إنك إنسان مازوخيّ!
ثم توشوش إلى أمي بكلام تفهم منه أني مخلوق لا يصلح إلا للأسى، وأني لا أجيد إلا تعذيب نفسي.
تدفعني إلى عربات أخرى، وكلهم يدفعني ويدفعها.. إلى أن تهوي كفٌّ غليظة على رقبتي:
_ ما زلت تحملين هذا العاجز؟!
أتعرّفُها. ما أكثر ما هوت على رقبتي حتى حفرت مكاناً لها. لا داعيَ لكفٍّ ثانية. أعرفها، إنها لا ترحم. أسقط في حضن أمي، وفي الكأس، وأعود إلى رفات قصتي التعيسة.