كرة شحم
أدين بمعرفتي بالقاص الفرنسي غي دو موباسان أبي القصة القصيرة العالمية لأستاذي في الصفين الثامن والعاشر في ثانوية جودة الهاشمي إذ نصحَنا في نهاية العام الدراسي 1958 – 1959 بقراءة موباسان في الصيف. وسمّى لنا عنوان المجموعة Contes Choisies فضحيتُ بأكثر من خمس ليرات وأنا الطالب الفقير آنذاك , وعدت بها إلى القرية، فترجمت بشق النفس طبعاً لفقري بالمفردات ست قصص منها أو سبعاً، نُشرت اثنتان منها في صفحة طلابية في جريدة دمشقية كان يشرف عليها صديقنا ممدوح قوموق الذي لا أتذكر الآن من أين كانت معرفتي به. وأعيد نشر إحداهما، وهي " المتسول" في العدد الأول من النشرة الثقافية لجمعية المقاصد الخيرية الشركسية عام 1960.
فلما وجدتُ نفسي متفرغاً إثْر إغلاق المعهد الفرنسي للشرق الأوسط حيث عملت في آخرِ تسعة عشر عاماً، ترجمت هذه القصص من كتاب قديم. ولما قرأت ترجمتي وأنا في الخامسة عشرة لقصة المتسول لم أستطع أن أضيف إليها شيئاً..
اضطُررتُ إلى وضعِ حواشٍ لبعض القصص، بعضها منقول من النشرة الروسية للمجموعة، وبعضها من اجتهادي لوضْع القارئ في أجواء القصة تماماً.
ما من كاتب كلُّ كتاباته في مستوى واحد. ولذلك تجد قصصاً في القمة مثل كرة شحم، ومغامرة والتر شناف... وقصصاً تعكس أفكاراً علمية من القرن التاسع عشر، مثل " هورلا". وحكايات من ذاكرة الكاتب أو أصدقائه.

فهرس المحتويات
- حبّ
- مِس هارييت
- الهورلا
- السعادة
- هو
- صديقان
- في الحقول
- الحبل
- الوصية
- العودة
- على الماء
- وحدة
- المتسول
- مغامرة والتر شناف
- الآنسة بيرل
- ضوء القمر
- كرة شحم
اقتباسات من الكتاب
كان والتر شناف يعد نفسه أتعس الناس منذ دخوله إلى فرنسا مع جيش الغزو البروسي. وهو رجل ضخم الجثة، يمشي بصعوبة ويلهث كثيراً. وتعذبه عذاباً فظيعاً قدماه المسطحتان جداً والبدينتان. وفي ما عدا ذلك مسالم متهلل الوجه، لا يصطنع الشهامة ولا يميل إلى العنف الدموي. وهو أب لأربعة أطفال يحبهم إلى درجة العبادة، ومتزوج من امرأة شابة شقراء يتأسف كل مساء على حنانها المفقود وتفاصيل حياتها الصغيرة وقبلاتها. يحب أن ينهض من النوم متأخراً ويأوي إلى الفراش مبكراً. ويحب أن يأكل أشياء طيبة ويشرب البيرة من مكان تخميرها مباشرة.ويعتقد أيضاً أن كل ما هو عذب في الوجود يختفي بانتهاء الحياة. ويحتفظ في قلبه بكُرهٍ غريزي ومسوَّغ معاً للمدافع والبنادق، وللحراب على نحو خاص، شاعراً في نفسه بأنه غير قادر على استعمالها على نحو نشيط وحيوي للدفاع عن بطنه الضخم.
وعندما ينام على الأرض وقد أتى الليل ملتفاً بمعطفه إلى جانب رفاقه الذين ينخرون، يفكر طويلاً في أهله الذين تركهم هناك بعيداً،وبالأخطار المزروعة على طريقه: " إن قُتِل فما مصير الأطفال؟ من يربيهم ومن يُطعمهم؟ " وهم ليسوا أغنياء بالطبع،مع أنه أبرم عقد دين مع أحدهم وهو منطلق إلى الحرب ليترك لهم بعض النقود.
في بداية المعارك كان يشعر في قدميه بكثير من الضعف الذي يمكن أن يهوي به إلى الأرض لولا أنه يخشى إن حدث هذا أن يمشي الجيش كله فوق جسمه. ويقشعرّ بدنه لأزيز الرصاصات.
كانت وحدته العسكرية تتقدم نحو النورماندي حين أُرسل يوماً في مهمة استطلاع مع مفرزة صغيرة عليها استكشاف جزء من الطريق فحسبُ، ثم العودة. كان كل شيء هادئاً في الريف وليس هناك ما يدل على مقاومة تنتظرهم.
وفيما البروسيون ينزلون بهدوء وادياً تتخلله أخاديد عميقة أوقفهم إطلاق نار عنيف قتل عشرين منهم. وخرجت فجأة جماعة من الرماة الفرنسيين من غابة صغيرة في حجم اليد، وتقدمت إلى الأمام والحراب في وضع الاستعداد.
تجمد والتر شناف بادئ الأمر ضائعاً أذهلته المفاجأة حتى إنه لم يفكر في الهروب.ثم سيطرت عليه رغبة مجنونة في الانسحاب.غير أنه رأى أنه سيكون كالسلحفاة بالمقارنة مع الفرنسيين الرشيقين الخفاف الذين وصلوا في قفزات كالماعز.وحينذاك، وقد لمح أمامه على مسافة ست خطوات حفرة عريضة مليئة بأشواك العلّيق المغطاة بأوراق يابسة، قفز بكلتا القدمين إلى عمق الحفرة كما يقفز المرء من جسر إلى ماء النهر.
اجتاز كالسهم طبقة كثيفة من النباتات المتسلقة والأشواك الحادة التي مزقت جلد يديه، وسقط ثقيلاً فوجد نفسه جالساً على سرير من الحجارة. وحالما رفع عينيه رأى السماء من خلال الفجوة التي أحدثها سقوطه. كان هذا الثقب الكاشف يستطيع أن يكون وسيلة اتصاله بالعالم الخارجي. وجرَّ نفسه بحذر على يديه ورجليه معاً إلى عمق هذه الثلمة تحت سقف من الأغصان المتشابكة، منطلقاً بأقصى ما يستطيع من سرعة، مبتعداً عن مكان المعركة. ثم توقف وجلس ثانية لابداً كأرنب وسط الحشائش اليابسة العالية. سمع أيضاً خلال بعض الوقت أصوات تفجيرات وصرخات وأنّات، ثم خفّت وتيرة المعركة، ثم توقفت، وعاد كل شيء أخرس هادئاً كما كان.
وفجأة تحرك شيء ما مقابله فاعترته قشعريرة رهيبة، كان هذا عصفوراً صغيراً اعتلى أحد الأغصان فاهتزت له الأوراق الميتة. وحتى بعد حوالي ساعة كان قلب والتر شناف ما يزال ينبض بعنف.
أقبل الليلُ مالئاً الهوّة بالظلام، وشرع الجندي يفكر: ماذا سيفعل؟ وماذا سيحدث؟ أيلتحق بقطعة عسكرية؟ ولكن كيف؟ وفي أي مكان؟ وهل سيتوجب عليه استئناف الحياة العسكرية المريعة التي كان يحياها منذ بدأت الحرب من الضيق والرعب والتعب والعذاب؟ لم يعد يمتلك مزيداً من الشجاعة والطاقة الضروريتين لتحمل المسيرات ومجابهة الأخطار في كل دقيقة.
ولكن ما العمل؟ لن يستطيع البقاء في هذه الحفرة والاختباء فيها إلى أن تنتهي العداوات بين الدول. لا بالتأكيد. ولو لم يكن عليه أن يأكل لما كان الموقف على هذه الدرجة من الرعب. ولكن عليه أن يأكل، أن يأكل كل يوم!
وهكذا وجد نفسه وحيداً تماماً بسلاحه وزيه العسكري على أرض معادية، بعيداً عن أولئك الذين يمكنهم الدفاع عنه.فسرت رعشة في جسده. وفكر فجأة "لماذا لا يكون أسيراً فحسبُ لدى الفرنسيين؟ وسينجو هكذا وسيحصل على الطعام، ويكون في مأمن من الرصاص ومن السيوف، وينتفي احتمال الخوف، في سجنٍ ما محميٍّ جيداً، أسيراً! أيُّ حلم هذا!"
واتخذ قراره حالاً "سأستسلم أسيراً! "
نهض دون أن يتأخر دقيقة واحدة عازماً على تنفيذ قراره. ولكنه بقي جامداً ترهقه أفكار غاضبة ومخاوف جديدة: أين سيستسلم أسيراً؟ وكيف؟ ومن أي مكان؟ وتسارعت إلى خياله صورٌ مرعبة، صورُ الموت. سيتوجب عليه أن يجتاز مخاطر مروِّعة، مغامراً بنفسه، وحيداً في الريف بقبعته المدببة.
إن صادف فلاحين! الفلاحون حين يرون جندياً بروسياً هائماً عاجزاً عن الدفاع عن نفسه، سيذبحونه بمحشّاتهم وفؤوسهم ومناجلهم. سيسلقونه ويعجنونه بغضب المهزومين اليائسين.
إن التقى برماة فرنسيين! هؤلاء الرماة المسعورون دون قانون أو نظام، سيرمونه بالرصاص لمجرد التسلية، لتمضية ساعة، يجعلون منه مادة للتندر وهم يراقبون رأسه. وتصوّرَ نفسَه مستنداً إلى حائط في مواجهة اثنتي عشرة بندقيةً وسبطانةً تنظر إليه من خلال ثقوبها الصغيرة المستديرة.
إن التقى بالجيش الفرنسي! كان رجال الطليعة الفرنسيون سيعتبرونه كشافاً، أو عسكرياً جريئاً أو خبيثاً يمشي وحيداً بصفته مستطلعاً.فيسحبونه إلى فوق؛ فسمع سلفاً الطلقات الفوضوية للجنود المستلقين في الأشواك في حين أنه هو واقف وسط حقل منهكاً مثقوب الجلد بالطلقات.
جلس ثانية يائساً، وبدا له مأزقه بلا مخرج.
هبط الليل تماماً، الليل المظلم الصامت. لم يعد يتحرك بل يرتعش لكل صوت يسمعه، لكل صوت مبهم وخفيف يعبر الظلمات. أرنب تقعي على مؤخرتها بجانب جُحرها كادت تتسبب في هروب والتر شناف. وأصوات بومة صلعاء كادت تمزق روحه وتُغرقه في نوبات رعب مؤلمة كالجراح. فتح عينيه الواسعتين على مداهما في محاولة لرؤية شيء في هذه الضجة. وتخيّل أنه سيسمع وقع خُطاً في كل لحظة. وبعد ساعات من الضيق لا تنتهي، ضيقِ الهالكين، لحَظَ عبر السقف المظلل بالأغصان السماءَ التي تصفو. وحينذاك غمره فرَجٌ واسع، استرخت أعضاؤه واستراحت فجأة، وتنفس قلبه الصعداء وانغلقت عيناه... ونام.
وعندما استيقظ بدت له الشمس قد وصلت إلى منتصف السماء تقريباً. يجب أن تكون ساعةَ الظهيرة. لم يكن أي ضجيج يعكر سلام الحقول الكئيبة. انتبه والتر شناف إلى نفسه: بلغ منه الجوع مبلغه!
تثاءب، وسال لعابه للسُّجُق، لِسُجُقِ الجيش. وآلمته معدته. نهض ومشى بضع خطوات وشعر أن قدميه ضعيفتان فجلس يفكر. وخلال ساعتين أو ثلاث استعرض الجانب الحسن والجانب السيئ، مغيراً قراراته، مقهوراً تعيساً، في خِضمِّ الدوافع المتناقضة جداً.وأخيراً بدت له فكرة من أفكاره منطقية وعملية، وهي مراقبة الممر إلى قرية مجاورة، للعبور وحيداً دون سلاح ودون أداة عمل خطرة، ثم يركض إلى الأمام رافعاً يديه علامة الاستسلام.
وحينئذ نزع قبعته التي يمكن لنهايتها المدببة الغدر به، وأخرج رأسه من طرف الحفرة محتاطاً لنفسه على نحوٍ دقيق.
لم يظهر أي كائن في الأفق. إلى اليمين قرية صغيرة ترسل إلى السماء دخانَ سقوفها، دخانَ المطابخ. وإلى اليسار يلمح من خلال أطراف الأشجار الجافة قصراً كبيراً محصناً بأبراج صغيرة. انتظر إلى المساء معانياً عذاباً فظيعاً،لا يرى شيئاً إلا طيران الغربان،ولا ينتظر شيئاً إلا الشكوى الصماء لأمعائه.
وهاهو الليل قد هبط!
تمدد في عمق مخبئه ونام نومَ رجلٍ جائع محموماً تساوره الكوابيس. ارتفع الفجر من جديد على رأسه. انصرف ثانية إلى التأمل. ولكن الريف بقي خالياً كما في الليل. وداخَلَه خوف جديد: الخوف من الموت جوعاً. رأى نفسه ممدداً على ظهره في قاع حفرته وعيناه مغلقتان، ثم تقترب من جثته دويبات صغيرة جداً وتشرع في التهامه، تهاجمه من كل مكان وفي وقت واحد. تنزلق على ملابسه لتلدغ جلده البارد. وتصوّر غراباً كبيراً يفقأ عينيه بمنقاره الحاد.وحينئذ صار مجنوناً، تخيل أنه سيغمى عليه من الضعف ولن يعود قادراً على المسير. وكان قد عزم على التحرك إلى القرية وأن يتهيأ لكل شيء ويتشجع عندما لمح ثلاثة فلاحين متجهين إلى الحقول ومِحشّاتهم على الأكتاف، فتمدد في الحفرة.
ولكن ما إن غمر المساء الكون بالظلام حتى خرج من الحفرة ببطء واتخذ الطريق منحنياً خائفاً والقلب ينبض بقوة، إلى القصر البعيد، مفضلاً الولوج إلى هناك أكثر من الولوج إلى القرية التي تبدو له مريبة كوكرٍ مليء بالنمور.
كانت النوافذ السفلية مضاءة، بل إن إحداها مفتوحة، ورائحةُ لحم مطبوخ قويةٌ تتسلل منها، رائحةٌ خرقت أنفه إلى أعماق بطنه فجعله يتشنج ويلهث جاذباً إياه على نحو لا يقاوَم، مالئاً قلبه بجرأة اليائس.
وظهر في إطار النافذة،دون تفكير،ضعيفاً مرتدياً القبعة.
كان ثمانية من الخدم يتعشون على طاولة ضخمة، ولكن، فجأة، تجمدت إحدى الخادمات فاغرة فاها تاركة الصحون تسقط وعيناها جامدتان فتبعتْ كلُّ النظرات نظراتِها هي.
إنه العدو!
يا ربّ، البروسيون يهاجمون القصر!
صدرت في البداية صرخة تبعتها ثماني صرخات بأصوات مختلفة، صرخة رعب مروعة ثم وقفة صاخبة، تدافُعٌ وهرج وهروب هائم نحو الباب. الكراسي تسقط والرجال يقلبون النساء في طريقهم ويمشون فوق أجسادهن. وفي خلال ثانيتين خلت القاعة وهُجرت هي والطاولة المليئة بالأطعمة، في مواجهة والتر شناف المذهول الذي ما يزال واقفاً أمام النافذة.
وبعد لحظات من التردد تسلق الجدار وتقدم إلى الصحون. جعله جوعه اليائس يرتجف كالمحموم، ولكن الرعب أمسكه وشلّه. أصغى، كان المنزل كله يبدو كالمرتعش، والأبواب تنغلق، وخطوات سريعة تركض على أرض الغرفة العلوية. كان البروسي القلق يُصيخ إلى هذه الجلبة الفوضوية، ثم سمع ضجيجاً أصمَّ كما لو سقطت أجسامٌ في أرض رطبة قرب الجدران، أجسامٌ بشرية تقفز من الطبقة الأولى.
ثم توقفت الحركة وغدا القصر العظيم صامتاً كقبر.
جلس والتر شناف إلى صحن لم تمتد إليه يدٌ وشرع يأكل، يبتلع لقماً كبيرة كما لو يخشى أن تختفي باكراً جداً، وأن لا يعود قادراً على ابتلاعها.يلقي باليدين قطع الطعام إلى الفم المفتوح كبابِ سقف. ونزلت كُتلُ الطعام بعضُها فوق بعض في المعدة نافخة الحنجرة. يتوقف عن المضغ أحياناً خائفاً أن تنثقب أحشاؤه كأنبوب شديد الامتلاء. ويأخذ أحياناً إبريق خمر التفاح ويجرف العوائق عن المري كما ينظَّف مجرى مفتوحاً.
أفرغ كل الصحون وكل الزجاجات.ثم سكرانَ من السوائل والطعام، مخبولاً، محمرّاً،يهزه الفواق، مضطربَ الذهن، يسيل الدسم من على فمه، فكّ أزرار سترته ليزفر غير قادر أن يخطو خطوة واحدة. انغلقت عيناه وتنمّلت أفكاره. ألقى جبينه الثقيل على الزاويتين المتصالبتين للطاولة وفقد شيئاً فشيئاً إدراك الأشياء والأحداث.
كان القمر ينير الأفق على نحو مبهم فوق أشجار الحديقة، وكانت هذه ساعة البرد التي تسبق النهار. ظلال الأدغال الكثيرة الصامتة تنزلق، وأحياناً يلمع طرف مدبب من الفولاذ تحت شعاع القمر.
نصب القصر العظيم هيكله الضخم الأسود، وما تزال نافذتان فقط تلمعان في الطبقة الأرضية.
فجأة صرخ صوت مدوٍّ "إلى الأمام باسم الرب، اقفزوا يا أبنائي!"
وفي لحظة غمر الأبوابَ ومصاريع النوافذ والزجاج موجةٌ من الرجال خرقت كل شيء. وعبرت إلى البيت. قفز خمسون جندياً مدججون بالسلاح من أحصنتهم إلى المطبخ حيث والتر شناف يستريح بهدوء.وبعدما طرحوه على بطنه كانت خمسون بندقية محشوة تقلبه بعنف وتدحرجه وتمسك به محطماً مهاناً مجنوناً من الخوف.
وفجأة مدّ عسكري ضخم مزركش بالذهب رجله على بطنه وزعق: "أنت أسيري، استسلم!"
ولم يسمع البروسي إلا هذه الكلمة الوحيدة " أسير: وأنّ: "ياه...ياه... ياه"
أنهضه آسروه وهم يزفرون كالحيتان، وقيدوه إلى كرسي، وفحصوه بكل فضول.وجلس كثيرون غير قادرين على مزيد من الانفعال والتعب.
كان يبتسم، يبتسم واثقاً من أنه صار أسيراً.
ودخل ضابط آخر وقال "سيدي العقيد لقد هرب الأعداء، ويبدو أن كثيرين منهم جرحوا، سنحتفظ بسيطرتنا على هذا المكان"
وصاح العسكري الضخم الذي كان ما يزال يمسح عرق جبينه "النصر لنا!"
وكتب على مفكرة تجارية صغيرة سحبها من جيبه "بعد معركة طاحنة انسحب البروسيون بالتأكيد حاملين موتاهم وجرحاهم الذين يقدَّرون بخمسين رجلاً إلى خارج أرض المعركة.وكثيرون منهم صاروا في أيدينا"
استأنف الضابط الشاب "أي إجراءات يجب اتخاذها يا سيدي العقيد؟"
أجاب العقيد "سنتجمّع لتجنب هجوم معاكس للمدفعية والقوات التي تفوقنا عدداً" وألقى أمر الانطلاق.
لاح الكولونيل في الظلام تحت أسوار القصر، وبدأ بالتحرك محيطاً من كل اتجاه بوالتر شناف المقيد، يحرسه ستة جنود مسدساتُهم في قبضاتهم.
وأرسلت مجموعات استطلاع لإنارة الطريق. كان التقدم يجري بحذر، مع وقفات من وقت لآخر. وفي اليوم التالي وصلوا إلى مقر محافظ روش: أوزيل الذي أنجر حرسُه الوطني هذا العمل المسلح،والجمهور المتلهف الهائج ينتظر. وعندما لمحوا قبعة الأسير انفجرت جلبة رهيبة. رفعت النسوة أذرعهن وبكى المسنون.وأحد الأجداد قذف البروسي بعكازته فجرح أنف أحد حراسه.
زعق الكولونيل "احرصوا على سلامة الأسير!"
وصلوا أخيراً إلى سجن المدينة،كان مفتوحاً فقُذف والتر شناف إلى داخله دون قيود. وتسلّم مئتا رجل مسلح حراسة البناء.وحينذاك،ورغم أعراض التخمة التي تعذبه منذ بعض الوقت، شرع البروسي يرقص مجنوناً من الفرح، يرقص بوَلَهٍ رافعاً الذراعين والرجلين، مطلقاً صرخات مهتاجة حتى سقط خائر القوى على أسفل الجدار.
ها قد غدا أسيراً فنجا من الموت!
وهكذا استُعيد قصر شامبينيه من العدو بعد ست ساعات فقط من الاحتلال.
والكولونيل راتييه بائع القماش الذي أنجز هذه المأثرة على رأس الحرس الوطني لروش أوزيل أُغدقت عليه الأوسمة.