لماذا الخلافات النحوية
النحو العربي في قفص الاتهام قديماً وحديثاً. حتى من أشد المتحمسين للعروبة (1). تارة هو معقد جداً حتى إن من العسير، إن لم يكن من المستحيل، فهمُه. وتارة هو قاصر عن تلبية حاجات العصر وتطوراته لأنه تجمد على نظرية سيبويه، وتارة هو مشتت مبني على الشذوذ والقواعد الفرعية.
وقد جرت أكثر من ثورة عليه، ربما كان أشهرها في القديم ثورة ابن مضاء القرطبي (592 هـ = 1196 م) في كتابه الشهير "الرد على النحاة" (2). وفي مصر جرت أكثر من محاولة لتيسيره انتهت أخراها في زمن الوحدة السورية المصرية بالإخفاق نتيجة الاعتراضات الشديدة للمندوبين السوريين المتزمتين، ومعهم الحق في هذا" سعيد الأفغاني في كتابه: من "حاضر اللغة العربية بالشام". وقبلها في ثلاثينيات القرن العشرين جرت محاولة إحلال "الوظيفية" محل النحو السائد، بمعنى الاكتفاء بوظيفة الكلمة "مسند إليه" بدلاً من المبتدأ وفروعه، والفاعل ونائبه، و"المسند" بدلاً من الخبر والفعل.
إزاء هذا الوضع المعقَّد تحاول هذه المداخلة أن توضح الملابسات التي أحاطت بتأسيس النحو العربي، وترفع بعض الحيف عنه، وفي الوقت نفسه تحاول تهدئة خواطر المتعلمين للعربية وتعيد إليهم شيئاً من الثقة بأنه نحوٌ قابل للتعلم.
جرى جمع اللغة العربية بنحوها وصرفها ومعجمها حسب المنهج الذي انتشر جداً في مرحلة الحرب العالمية الثانية وما قبلها من قبل علماء الاتحاد السوفييتي السابق وأمريكا، الأولون لتأسيس أبجديات وقواعد مكتوبة لمعظم الشعوب المئة التي تحت سيادتها، والآخرون لوصف لغات الشعوب التي احتكوا بها ولا سيما في آسيا.
ومعلوم أن هذا المنهج، وإن يكن قديماً، جددته نظرية سوسور الذي قال في مطلع القرن العشرين، وبعد قرون من الأبحاث اللغوية التائهة في محاولة إثبات قرابة اللغات للعبرية ثم اللاتينية. وبعد منعطف اللغة السنسكريتية والأبحاث المقارنة والتاريخية، قال سوسور: "إنه يمكن إخضاع كل حالة من اللغة إلى دراسة سكونية تزامنيةétude statique syncronique بغضِّ النظر عن التطور الذي تعد هذه الحالة امتداداً له. وإلى دراسة تطورية تعاقبية étude évolutive diacronique.وبناء على هذا المفهوم طرح سوسور التمييز بين التطورية التي هي دراسة التغيرات عبر الزمن، والتزامن الذي هو دراسة حالات محدودة من اللغة في مدة محدودة من التطور. فانقسم علم اللغة إلى فرعين: علم لغة تعاقبي أو تطوري، وعلم لغة تزامني أو سكوني. وتنضمُّ الطريقتان التزامنية والتعاقبية موضحةً إحداهما الأخرى (3). فبعد الفتوحات الإسلامية الكبرى، ومع اتساع رقعة الدولة وانضواء عناصر غير عربية تحت راية الدين الجديد والدولة الناشئة، ومع انتشار ظاهرة اللحن، أي الخطأ اللغوي، حتى بين أفراد الأسرة الحاكمة القرشية التي توصف بأنها أفصح العرب، بعد هذا كله ظهرت الحاجة إلى تأسيس قواعد للغة.
وظهر في الوقت نفسه تقريباً المعتزلة الذين كان في ذهنهم تأسيس دولة إسلامية لا قومية ولكن لغتها الرسمية والتواصلية هي اللغة العربية. فكان عليهم، وهم المؤهلون أكثر من غيرهم عقلياً، أن ينهضوا بهذه المهمة، وبالجانب النحوي خصوصاً لأنه يتطلب منهجاً عقلياً، خلافاً للجانب المعجمي الذي هو علم نقلي محض اقتفى أثر جَمَـعَةِ الحديث النبوي من حيث تحري الصدق والأسانيد في الرواية دون أن يبلغوا شأوهم" (4) وبكلام آخر، فإن الجمع الساذج للغة من قبل رواة الشعر كالأصمعي تطور شيئاً فشيئاً، وخلال قرن من الزمان، إلى منهج وصفي تحليلي، فكان النحوُ العربيُّ. ومعروف أن المنهج الوصفي يعنى بوصف أصوات اللغة وصرفها ومعجمها ونظامها النحوي فهو يعتمد على مادة لغوية مجموعة. وكانت هذه المادةُ التي تصلح أن تكون قاعدة للدراسة النحوية، وهي التي تسمى لغة الاحتجاج، كانت معقدةً إلى حد كبير.
فما هو الاحتجاج؟
الاحتجاج هو إثبات صحةِ قاعدة أو استعمالِ كلمة أو تركيبٍ نقلي صحَّ سَنَدُه إلى عربي فصيح سليم السليقة(5). ويحُتج بالكلام العربي لغرضين: غرضٍ لفظي يدور حول صحة الاستعمال من حيث اللغة والنحو والصرف، وغرضٍ معنوي، أي معاني الكلمات.
من يحُتج بهم؟
زمانياً: يحتج بكل عربي عاش في العصر الجاهلي أو العصر الإسلامي إلى منتصف القرن الثاني للهجرة. أما أهل البادية فقد استمر العلماء يدونون لغاتهم حتى القرن الرابع الهجري.
مكانياً: يحتج بكلام القبائل في وسط جزيرة العرب، لا التي على السواحل أو في جوار بلاد الأعاجم. وأهم القبائل قريش وقيس وتميم وأسد وهذيل وطيِّئ. ولم يؤخذ من حضري أو بدوي ممن كانوا يسكنون أطراف الجزيرة أو يجاورون الروم أو الفرس أو الهند أو الحبشة. ولذا يفخر البصريون بأنهم أخذوا اللغة من الأعراب أهلِ الشيح absinthe والقَيصوم (نبات صحراوي قريب من الشيح، وكلاهما مُرٌّ)، وحَرَشة الضِّبابlézard ، وأَكَلَةِ اليرابيعgerboise . ويعيِّرون الكوفيين بأنهم أخذوا اللغة من أكلة الشَّوازير (اللبن المصفى) والكَواميخ (الإدام). وبالإجمال كان الرعاة واللصوص والصيادون المتوحشون مصدر لغة البصرة.
وعلى هذا يفترض أن كل كلام قاله عربي عاقل بالغ ينتمي إلى هذه المساحة المكانية يصح أن يكون مادة لبناء القواعد عليها. ولكن كيف ظهرت هذه المادة في ظل ظروف انعدام الكتابة تقريباً: إنها عملياً الشعر الجاهلي ثم الإسلامي، وقليل جداً من النثر الجاهلي، ثم القرآن، والحديث النبوي.
القرآن: يقال انه لم يتوفر لأي نص ما توفر للقرآن من تواتُر رواياته (التواتر هو نقل جماعة عن جماعة لا يمكن أن يتواطؤوا على الكذب) وعنايةِ العلماء بضبطها وتحريرها سنداً ومتناً. فهو النص العربي الصحيح المُجمَع على تلاوته بالطرق التي وصل بها إلينا، وعليه فهو النص المجمع على الاحتجاج به. كل هذا صحيح، وكذلك بعض القراء السبعة أئمة في اللغة كالكسائي وأبي عمرو ابن العلاء والحضرمي والفرّاء. وصحيح أن لصحة القراءة شروطاً دقيقة هي صحة السند إلى الرسول، وموافقتها رسم المصحف وموافقتها وجهاً من وجوه العربية، ولكن هناك مشكلة كبيرة: إن نحاة البصرة، كما سنرى، كانوا يحاولون تأسيس نحو مطرد شامل، فكيف يبنون قاعدة على قراءات متعددة للنص؟ مثلاً قراءة ﴿لمن أراد أن يتمَّ الرضاعة﴾ (6) برفع الفعل بعد (أن)، دعْكَ من القراءات الشاذة.
الحديث النبوي: محمد من قريش واستُرضع في بني سعد. ولهذا يَعدُّ نفسَه في بعض حديثه أفصح العرب. ولكن المشكلة هنا أن حديثه، رغم ما يقال من أن بعضهم كان يكتبه في زمانه (زمان الرسول)، روي بعد عشرات السنين، فما نسبة ما نُقل منه بنصه؟ ولاسيما أنه نثر، والنثر ليس كالشعر الذي له وزن ورويٌّ يضبطان حفظه ما أمكن. ثم إن كثيراً من رواته لم يكونوا عرباً. بل إنه لكثرة ما دخل في حديثه من اللحن اختلفت مواقف المحدثين من جواز تصحيح لحنه. فذهب بعضهم إلى ضرورة تصحيحه لأنه لا يجوز أن يوضع على لسانه لحن، وذهب بعضهم إلى الاحتفاظ باللحن الذي فيه. يضاف إلى هذا أن نسبة الحديث الصحيح حسب شروط الشيخين البخاري ومسلم لا تتجاوز 5% مما وضع على لسانه، حتى إن ابن حنبل، المعروف بتساهله في شروط الحديث لم يضم مسنده أكثر من الربع.
ظل البصريون، وهم المتشددون في مسألة السماع، يعارضون الاستشهاد به لهذه الأسباب، وربما لسبب آخر هو أن مجاميع الحديث لم تكن اكتملت في عصر النحاة الأوائل منهم.
وتحمَّس ابن مالك للاستشهاد به، وألف كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" لتوجيه أحاديث خارجة عن القواعد المألوفة كقاعدة عدم اقتران جواب "أما" بالفاء:
فأما القتال لا قتال لديكم ولكنَّ سيراً في عراض المواكب
وحجة أنصار الاحتجاج بالحديث هي أنه إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول القائل فجواز إثباتها بالحديث وبالقرآن أولى (7)
ويعتقد نحوي معاصر هو سعيد الأفغاني أن المنهج السليم هو تصحيح قواعد اللغة وفقاً للقراءات الصحيحة، ويأتي بمثال الماضي (ودع) الذي ورد في قراءة شاذة في ﴿ما وَدَعَـك ربك وما قلى﴾ (8) وفي شعر لأبي الأسود الدؤلي. ومعروف أن هذا الماضي وشقيقه (وَذَرَ) غير مستعملين. ويعلل ابن جني عدم استعمالهما بما يسمى بالاستغناء.
الشعر:
تبرز في الشاهد الشعري عدة مشكلات:
- ما يسمى الضرورات الشعرية، أي ما تفرضه قواعد الشعر على الشاعر من تجاوز للقواعد الشائعة. وهناك مؤلفات لتحديد الضرورات الشعرية، ومن هذه المواضع مثلاً الجزم بإذا:
اِسْتَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى وإذا تُـصبْكَ خَصاصةٌ فتَجَمّلِ
وعدم الجزم بـــ "لم":
وتضحكُ مِنـِّي شيخةٌ عَبْشَمِيَّةٌ كأنْ لم ترى قبلي أسيراً يَمانيا
- وهذه تقود إلى مشكلة أخرى، ففي بعض الأحيان يروى البيت روايةً مُثْبِتة لقاعدة، ورواية أخرى مخالِفةً لها، فلا يُـدرى أي الروايتين هي كلام الشاعر، كالبيت الشهير:
مَن يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرها والشَّرُّ بالشَّرِّ عند الله مِثلان
الذي يستشهد به لجواز عدم اقتران جملة جواب الشرط الاسمية بالفاء، ولكن البيت يروى أيضاً:
من يفعل الخير فالرحمن يشكره ……
- وهذه الأخرى تقود إلى مشكلة ثالثة، وهي الأبيات التي يُشكُّ في أن النحاة صنعوها كالبيت:
يلومونني في حب ليلى عواذلي ولكنني من حُبِّها لَعَميد
ففيه مخالفتان: الواو في (يلومونني) التي يجدون لها شاهداً من شعر شاعر معروف:
يلومونني في اشتراء النخيـ ـل أهلي فكُلُّهُمْ ألْوَمُ
فيسمونها واو جماعة المذكرين في لغة طيء (9). والمخالفة الثانية دخول اللام على خبر (لكن) وهو مذهب كوفي.
والمخالفة الأولى لها شاهد قرآني في "وأسرُّوا النجوى الذين ظلموا"(10) وشاهد من الحديث النبوي "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ ….." فيُشكُّ في أن البيت مصنوع لتأييد الشاهد القرآني.
أو لفَّقوها، كهذا الشطر:
هذا سُراقةُ للقرآنِ يدرسه …….
فهو في بعض المؤلفات صدرُ بيتٍ عَجُزُه: والمرء عند الرِّشا إن يلقها ذيب
(الرشا:ج رِشوة). وهو في هجاء أحد قراء القرآن.
وفي بعضها عَجُزُه: يقطِّعُ الليل تسبيحاً وقرآنا، وهو مديح كما هو ظاهر.
وهذا العجز الثاني له صدرٌ آخرُ لدى بعضهم:
ضحَّوا بأشمطَ عُنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
(في الحديث عن مقتل الخليفة عثمان)
- ويتعلق بهذه المشكلات السابقة أيضاً مشكلة الأبيات المجهولة القائل التي تضعف قيمتها الاحتجاجية، والتي تُلحظ بكثرة في حجج الكوفيين.
والخلاصة أن مهمة النحاة العرب كانت صعبة للأسباب التالية:
- الرقعة المكانية واسعة ومتباعدة؛ فالحقيقة أنه رغم العلاقات الاجتماعية والتجارية بين القبائل العربية، ورغم بحوث ابن جني الممتعة في هذا المنحى، فرضت ظروف الصحراء عزلة على القبائل؛ حتى إن بعض القبائل ظل يُستشهد بكلامها حتى القرن الرابع الهجري وما بعده، لأنها لم تختلط بغيرها. وإلى أيامنا، ورغم الاختلاط الواسع بين العرب، وفي ظروف المواصلات المريحة، ما تزال كل مدينةٍ بل قريةٍ أحياناً تتكلم لهجة خاصة بها. ولهذا نقرأ كثيراً في كتب النحو: هذه لغة تميم، وتلك لغة قريش …
- المساحة الزمانية: وتمتد قرابة ثلاثة قرون، وهي مساحة أوسع بكثير مما يُفهم من نظرية سوسور، ومما فعله جَمَعَةُ اللغات في العصر الحديث.
- قيود الدين والنص المقدس الأول، وشبه المقدس الثاني، وما نتج عن تعدد القبائل من تعدد القراءات و"الأحرف السبعة" وتعني وضع كلمةٍ مكانَ كلمة ترادفها.
- لم تكن أمام نحاة العرب نصوص مكتوبة، والكتابة طريقة لتثبيت اللغة. وهذه المشكلة يعدها بعضهم حسنة "لأن الكتابة لا تنقل إلا جزءاً من المعلومات؛ أما المشافهة فتضبطها: فالكتابة الأكثر أهمية هي الكتابة الداخلية المطبوعة في الذاكرة، والتي تشخَص حروفها أمام نظرة القلب. إنها تتفوق كثيراً في الشرف على الكتابة التي يعهد بها إلى المخطوطات، والتي يعاب بها غير المسلمين"(11). ولم يكن أمام النحاة العرب مثال نحوي، ولا لهم ثقافة منطقية، يقول M Versteegh:" ولكن هذه الاحتكاكات ـ يقصد مع اليونان ـ لم تولِّد النظرة اللغوية لدى العرب. وفي جميع الأحوال لم تعرف الثقافة العربية تراثاً منطقياً جديراً بالمقارنة مع ما لدى اليونان. إن النحو العربي نتاج قضايا عملية طرحت نفسها منذ بداية الفتوحات. أحس المسلمون بالحاجة إلى أداةٍ لحماية لغتهم التي كانت في الوقت نفسه لغة الشعر الكلاسيكي والقرآن ضد التأثيرات المؤذية لكل أولئك الذين يهددون بتهجينها، سواء كانوا عرباً أميين أم غير عرب. كان المؤمنون يعدُّون اللغة العربية فريدة لا تقارَن بأيِّ لغة أخرى من حيث غنى مفرداتها وجمالُها الصوتي وبنيتُها العقلانية. ولم يكونوا يهتمون باللغات الأجنبية … وكذلك لم يتساءل العرب عمّا إذا كانت قوانين هذه اللغات الأخرى مثلَ قوانين لغتهم … ولما كانت اللغة العربية قد خُصَّت بالبنية النموذجية والنظام الأكثر انسجاماً بالمقارنة مع كل اللغات الأخرى. ولما كان الوحي الإلهي إلى محمد هو الوحيد الصحيح كانت مقارنة اللغة العربية بلغات أخرى تبدو لهم خالية من أي معنى" ...
وأول من زعم أن المنطق اليوناني اثّر في النحو العربي هو الألماني Merx، وتبعه آخرون. ولكن Troupeauالفرنسي في مقالة له في مجلة مجمع اللغة الأردني (المجلد 1 كانون الثاني 1978) يدحض هذا الرأي بمقارنة مفصلة بين أقسام الكلم في العربية ونظيراتها في اليونانية، بالإضافة إلى أن النحاة العرب لم يعرفوا اليونانية، ولا تُرجم كتاب في النحو اليوناني إلا عن طريق النحو السرياني. ولا دليل على اتصال النحاة العرب بالنحاة السريان الذين كانوا يَعدُّون النحو العربي مختلفاً تماماً عن نحوهم. ولم يُترجم المنطق اليوناني إلا في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي. وقد استعمل سيبويه حسب إحصاء Troupeau 1820 كلمة، منها 220 كلمة دون معنى اصطلاحي يصنفها كاتب المقال حسب أنواعها. ثم يقول: " إذا كان لديهم (العرب) عدد وافر من المصطلحات النحوية فلماذا يقتبسون من غيرهم؟ وما قيمة اقتباس عشرة مصطلحات مثلاً؟ والصحيح أن سيبويه لم يخلق مصطلحات نحوية، بل استعمل ما استعمله أسلافه ومعاصروه، وكانوا يفهمونها لأنها منقولة من الفقه".
وعلى ذِكر الفقه فإن مما يلفت الانتباه أن ظهور النحو رافق أو تبع ظهور علم الفقه. ويلفت النظر أيضاً أن مدرسة القياس في النحو العربي عاصرت مدرسة الرأي في الفقه التي شادها أبو حنيفة، مقابل مدرسة السماع أو الحديث التي يمثلها مالك بن أنس ومذهبه. وليس غريباً أن نجد ابن جني بعد قرابة قرنين من الحقبة التي نتكلم عليها يحاول تأسيس علم لغة خاص بالعربية على غرار علم أصول الفقه، فيستعير مصطلحاته، كالاستحسان، وتخصيص العلل، وحمل الفرع على الأصل … ويحاول أيضاً مقاربة علم الكلام. وبتعبير آخر يحاول ابن جني رفع العلل اللغوية الضعيفة إلى مرتبة العلل الكلامية المتينة، مستعيراً في الوقت نفسه مصطلحات علم أصول الفقه.
إذن، ومع بدايات التفكير والتأليف النحويين، وُجد فريقان من علماء العربية: فريق تأثر بأنصار مدرسة الحديث حاول قصْر اللغة على السماع والتزامَه والجمودَ عليه، فلم يُكتب لمذهبه البقاء لمخالفته طبائع الأشياء، ولأن من غير المعقول أن يكون كلامنا كله بمفرداته وتراكيبه وارداً عن العرب. وإنما كُتب البقاء للفريق الآخر، فريق القياس، الذي رفع شعار "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب". "ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك كل اسم فاعل ولا مفعول، وإنما سمعت البعض فقست عليه غيره، فإذا سمعت (قام زيد) أجزت (ظرُفَ بِشْرٌ) و(كرُم خالدٌ)"(12).
يقول الأفغاني معقِّباً "وإليهم يرجع الفضل في حياة اللغة النشيطة إلى أيامنا".
فما هو القياس؟
القياس هو حملُ غير المنقول على المنقول لِعِلَّةٍ جامعة. كأنْ تَسمعَ أو يُنقلَ (ضرب زيدٌ عمراً) فهو منقول، فتحمل عليه (حدَّث محمدٌ خالداً)، في حُكْمِ رَفْعِ محمدٍ أو نصْبِ خالدٍ أو كِلَيهما، لِعِلَّةٍ جامعةٍ وهي الإسناد إليه (محمد) ووقوع الفعل على خالد. أو (ضَرب زيدٌ) أصل مقيس عليه، والمقيس هو (ضُرب زيدٌ) لعلة جامعة هي الإسناد إليه (محمد). يقول ابن الأنباري: "مثلُ أن تركِّب قياساً في الدلالة على رَفْعِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه (نائب الفاعل) فنقول: اسم أسند إليه الفعل مقدَّماً عليه فوجب أن يكون مرفوعاً قياساً على الفاعل. فالفاعل أصل مقيس عليه، ونائبه فرع مقيس، والحكم الرفع، والعلة الجامعة الإسناد" (13). و"النحوُ كُلُّه قِياسٌ يُتَّبَع" حسب تعريف الكسائي (14).
الفريق الأول في تاريخ النحو العربي هم مدرسة الكوفة، والفريق الثاني هم مدرسة البصرة. ولا يعني هذا طبعاً أن الكوفيين أهملوا القياس البتَّة، ولا يعني أن البصريين أهملوا السماع. وإنما الفرق بين المدرستين هو في تأسيس العلاقة بين السماع والقياس، وهي علاقة أحسَّ بها أوائل البصريين كابن أبي إسحق الذي له مَشادّةٌ مشهورة مع الفرزدقِ الشاعرِ الأموي تكشِفُ، على اختصارها، أهمية مبدأ القياس: ينتقد عبد الله بن أبي إسحق بيتاً للفرزدق فيه إقواء، وهو اختلاف حركة الرَّوِيِّ بين البيتين في الرفع والكسر:
مستقبلين شمال الشام تضربنا بحاصبٍ من نديف القطن منثورِ
على عمائمِنا تُلقى وأرْحُلِنا زواحف تُزجى مخُّها ريرُ
الرير: يقال مخٌّ ريرٌ: فاسد ذائب من الهزال (15) فيغضب الفرزدق، ويهجو ابن أبي إسحق:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا
مرتكباً لحناً ثانياً هو نصب المضاف إليه، أو عدم حذف الياء من الاسم المقصور: إن النحوي يحاول ضبط اللغة بوضع قياس ورفْض السماع المخالف له في حين يجد الفرزدق نفسه حراً في أن يقول ما يريد؛ أما النحوي البائس فعليه أن يبحث في إيجاد وجه مقبول للمخالفة، تماماً كمخالفات النص القرآني التي يجهد النحاة لتوجيهها، والتي يردُّها باحثٌ عراقي معاصر إلى سبب جدير بالتأمل، وهو أن اللغة العربية لم يكن قد اكتمل نموها زمن القرآن (16). إن النحاة أمام خيارين:
- قبول كل ما قاله العرب، وتأسيس قواعد لا نهاية لها.
- طرح بعض ما قاله العرب لبناء قاعدة مطردة وحصْر اللغة ضمن حدود ما يمكن للمرء أن يفهمه ويستوعبه.
يقول الأفغاني مرة أخرى: "رسم البصريون خطتهم في النحو بعد أن جعلوا نُصْب أعينهم الهدف الذي إليه يرمون، وهو عِصمة اللسان من الخطأ، وتيسير العربية لمن يتعلمها من الأعاجم. ولهذا تحرَّوا ما نقلوا من العرب، ثم استقرَوا أحواله، فوضعوا قواعدهم على الأعم الأغلب من هذه الأحوال. فإن تناثر هنا وهناك نصوص قليلة لا تشملها قواعدهم سلكوا بها بعد التحري عن صحة نقلها عن العرب المحتج بهم إحدى طريقتين: إما أن يتأولوها حتى تنطبق عليها القاعدة، كتأويل الآية ﴿لـَمَسجِدٌ أُسِّس على التقوى مِن أول يوم أحقُّ أن تقوم فيه﴾(17): يقول الكوفيون: إن (من) يجوز استعمالها لابتداء الزمان والمكان، محتجِّين بهذه الآية "من أول يوم" فيرد البصريون: إن التقدير: (مِن تأسيس أول يوم) (18) فهي هنا لبدء الغاية في الأحداث لا في الزمان . وإما أن يهملوا أمرها لقلتها فيحفظوها ولا يقيسوا عليها. وقد حكّموا المنطق والعقل حتى جاءت قواعدهم في القياس والنحو الذي بُني عليها متماسكة متناسقة عموماً. ويعلم الله كم من الصعوبة قاسى النحاة الأوائل لاستخلاص قاعدة يعرفها الآن تلاميذ المرحلة الابتدائية كرفع الفاعل ونصب المفعول. ولذا يقول يونس بن حبيب عن عبد الله بن أبي إسحق الآنف الذِكر "لو كان في الناس اليوم أحد لا يعلم إلا علم ابن أبي إسحق يومئذ لضُحك منه، ولو كان فيهم من له ذهنه ونفاذه ونظره لكان أعلم الناس"(19)
ولا بد في كل تنسيق من تشذيب يُخرج بعض النتوء من الهيكل المشذَّب. ولم يكن من الصواب من عاب عليهم من المحدَثين كطه الراوي وأحمد أمين أنهم بتعميمهم هذه القواعد قد أهدروا شيئاً من اللغة. ولكن الأفغاني نفسه حين يتعلق الأمر بالقرآن والحديث يفعل ما يعيبه على الآخرين؛ يقول في القراءات القرآنية "وكان المنهج السليم يقضي أن يصحح النحاة البصريون قاعدتهم (يقصد جواز الفصل بين المتضايفين بغير الظرف والجار والمجرور) محتجين بهذه القراءة كما فعل الكوفيون، لا أن يضعِّفوا قراءة متواترة، يقصد الآية 14 من سورة إبراهيم ﴿فلا تحسبنّ الله مخلفَ وعدَه رسُلِه﴾ بنصب (وعده) وجرِّ (رسله)." ثم يقول "وبعدُ؛ فقراءات القرآن جميعها حجة في العربية متواترُها وآحادها وشاذُّها، وأكبر عيب يوجَّه إلى النحاة عدمُ استيعابهم إياها وإضاعتُهم على أنفسهم وعلى نحوهم مئاتٍ من الشواهد المحتجِّ بها"(20). ويقول مثل هذا في الاحتجاج بالحديث "وخلاصة البحث أننا نرى الاستشهادَ بألفاظ ما يروى في كتب الحديث المدوَّنة في الصدر الأول، وإن اختلفت الرواية، ولا نستثني إلا الألفاظَ التي تجيء في رواية شاذة"(21).
وواضح أنه يجري خلْط بين قدسية النص وقدسية ناقلي هذا النص الذين لا يعْدُون أن يكونوا بشراً يتكلمون لهجات مختلفة. وقد لا يعدو الأمر ما يرويه ابن جني عن أستاذه عن المبرد أن عِمارة بن عقيل كان يقرأ ﴿ولا الليل سابقُ النهارَ﴾ (22) بالنصب، والقراءة الدارجة بالجرِّ؛ فسئل: ما أردت؟ فقال: أردت: سابقٌ النهارَ. قال فهلا قلته؟ قال: لو قلته كان أوزنَ. ويعلِّق ابن جني: أفلا تراه جنح إلى لغة، وغيرُها أقوى في نفسه"(23).
ثم يقول "ومع أن الكوفيين جمعوا ما هبَّ ودبَّ ولم يفرِّطوا في شيء مما وصل إليهم، لم يدَّعوا ولم يدَّعِ أحد أنهم لمّوا اللغة من أطرافها وأحصوها … بل نحن أحرى أن نجد عند البصريين المنظمين ما لا نجد عند غيرهم؛ فالنظام يحفظ في نسق ما لا يستطيع غيره أن يفعله. أما الكوفيون فلم تكن لهم أصول يبنون عليها غير ما أخذوه من أساتذتهم البصريين ولم يحْسنوه. ثم جعلوا من عدم المنهج في سماعهم منهجاً لهم فسمعوا الشاذ واللحن والخطأ، وأخذوا عمن فسدت لغته … ثم جعلوا كل شاذ ونادر قاعدةَ نفسِه لنفسه، فانتشرت (تفرَّقت) عليهم قواعدهم (24) ولم يعد لها ما يمسكها من نظام أو منطق، وضاعت الغاية من وضع النحو، فلم يعد في أيديهم أداة لتيسير تعلم العربية بعد أن أصبح للنحو قواعدُ بعدد ما جمعوا من شواهد"(25)
ولكن لماذا القياس؟
بادئ ذي بدء، وكما سلف عن Versteegh، أسس العرب نحوهم على الحاجات العملية للاتصال، دون أي مثال نحوي يحتذونه، وهذا لا شكَّ يصعِّب الأمر. وإذا كان بعض اللغويين المعاصرين يتهمونهم بأنهم وضعوا النحو لضبط قراءة القرآن، وأنهم انطلقوا من المتلقي فحسبُ، فإن في كتاب سيبويه أكثر من موضع يبين بوضوح أنهم نظروا إلى اللغة على أنها وسيلة اتصال بين الناس، يقول سيبويه في معرض حديثه عن المسند إليه والمسند ـ ومن الطريف هنا أن Julia Kristev ، في كتابها (Le langage cet inconnu) تتهم النحو العربي بأنه لم يعرف فكرة المسند والمسند إليه؛ يقول سيبويه "تبتدئ بالأعرف ثم تذكر الخبر، فإذا قلت (كان زيد) فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثلُه عندك، فإنَّما ينتظر الخبر. فإذا قلت: (حليماً) فقد أعلمته مثل ما علمت … ألا ترى أنك لو قلت (كان رجل منطلقاً) أو (كان رجل حليماً) كنت تُلبس لأنه لا يُستنكر أن يكون في الدنيا إنسان هكذا، فكرهوا أن يبتدئوا بما فيه اللبس، ويجعلوا المعرفة خبراً لما يكون فيه هذا اللبس" (26). يقول السيرافي في شرح هذه الفكرة "وحدُّ الكلام أن تُخبر عمّن يُعرف بما لا يُعرف لأن الفائدة في أحد الاسمين، والآخر معروف لا فائدة فيه، والذي فيه الفائدة هو الخبر"
ويطول تتبُّع هذه الفكرة عند سيبويه وغيره، فهو يكررها في معرض كلامه على الاشتغال، في الفرق بين (ضربت عبد الله) و(عبد الله ضربته) (27)، وخلاصة كلامه أنك في الجملة الثانية نبّهت المخاطب وهيّأت ذهنه لتقبُّل الخبر. ويشرح الجرجاني في "دلائل الإعجاز" الفكرة بتفصيل شديد، وعند ابن يعيش تفصيلات كثيرة.
بل إن تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف، خلافاً للتقسيم اليوناني وللتقسيم اللاتيني، دليل إضافي آخر على ما سبق من أن النحو العربي نظر إلى اللغة على أنها وسيلة اتصال بين الناس. ونقرأ في كتاب الخصائص رأياً لأبي علي الفارسي يظهر فيه بوضوح أنه ينظر إلى اللغة على أنها ظاهرة اجتماعية (28). ونحن نعلم الآن أن ضرورة التواصل باللغة أوجدت لغات خاصة تسمى لغات الاتصال مثل لغة (Pidgin) المكونة من عناصر إنكليزية وصينية وماليزية، أو لغة السابير ذات الأصول الرومانية التي كانت تستخدم على شواطئ البحر المتوسط (29).
الحواشي
- وهو ساطع الحصري. وملخص هجومه: يهاجم أمرين أساسيين: تقسيم الكلم في العربية إلى ثلاثة أقسام فقط في حين أن أقسامه تقارب العشرة في اللغات اللاتينية. والتمييز بين المبتدأ والفاعل والتمييز بين الجملة التي تبدأ بفعل ثم اسم والتي تبدأ باسم ثم فعل.
- يهاجم ابن مضاء نظرية العوامل في النحو. وهذه النظرية هي باختصارٍ التساؤل عن الذي رفع الفاعل ونصب المفعول به كما نقول عن اسم إنه مجرور بحرف الجر. ويهاجم ما يسمى الإعراب المحلي، كأن نقول: اسم موصول في محل رفع مبتدأ، وضمير متصل في محل كذا. والإعراب التقديري، كأن نقول: والفاعل ضمير مستتر تقديره كذا.
- Jean Perrot. La Linguistique. p96
- أحمد أمين. فيض الخاطر 8 / 244.
- سعيد الأفغاني. في أصول النحو ص 54.
- البقرة 2 / 233 ويوجهها النحاة بأنها حمل لأن المصدرية على أختها (ما) ويستشهدون لها بالبيت:
أن تقرأان على أسماء ويحكما مِنّـي السلام وأن لا تُشعرا أحدا
- تفسير الرازي 3 / 193
- الضحى 93 / 3.
- وهي لغتنا الحالية.
- الأنبياء 21 /3
- Langhades:mantalité grammairienne et mantalité logicienne au 1x siècle
- الخصائص 1/357
- الاقتراح للسيوطي 47
- القفطي: إنباه الرواة 2 /267
- البغدادي. خزانة الأدب 1 /217 ـ 219
- كما يعلل بعضهم ظاهرة جمع التكسير في العربية مقابل الجمع في العبرية بالياء والميم، ويعللون ما يسمى بالملحق بجمع المذكر السالم بأنها كانت خطوة في طريق توحيد أنواع الجموع.
- التوبة (9/108)
- الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري 1 / 371
- الأفغاني 84، إنباه الرواة 2 / 275، طبقات فحول الشعراء 15
- الأفغاني. م. س. ص 44 ـ 45
- م. س. ص 58
- يس 36 / 40
- الخصائص 1 / 125
- يقصد أنها كثرت جداً.
- إرشاد الأريب 13 / 83 وبغية الوعاة 236.
- الكتاب 1 / 22.
- أي يقال إن الفعل مشتغل عن عبد الله بالهاء في (ضربته)
- الخصائص 2 / 30
- parrot: La linguistique. p 30