مدخل إلى رسالة التربيع والتدوير للجاحظ*
يتألف كتاب (أو رسالة) التربيع والتدوير أساساً من سلسلة من الأسئلة الشائكة الموجهة إلى شخص يدعى أحمد بن عبد الوهاب، يتعامل معه الجاحظ بسخرية لاذعة عبر مجموعتين من الأسئلة. والكتاب إجمالاً نموذج للأدب الساخر، ودرْسٌ رائع في التواضع، ولائحة مسلية بالقضايا الأكثر إحراجاً، والتي تطرح نفسها على فكر المسلم العقلاني في القرن الثالث للهجرة.
يرسم الجاحظ في بداية مؤلَّفه صورة فكَهة وذكية عضوياً وخلقياً لشخصية أحمد بن عبد الوهاب. ولكنه لا يلقي ضوءاً كافياً على هُويّته. ويستخلص القارئ من هذه الصورة أن المدعو أحمد بن عبد الوهاب كان مُسناً جداً يسكن مكة بعدما عاش مقرَّباً من الوزير ابن الزيات. يبدي إيثاره للتشيُّع، ولكنه يمتنع عن الخوض فيه.
ومن جهة أخرى، ففي حين أن هذه الرسالة التي وضع أحد النُّسّاخ حتماً عنوانها لم تُذكَر في ثنايا مقدمة كتاب " الحيوان " يكتب الجاحظ فيه: " والحديث عن مسخ الغبت من جنس المزاح الذي كنا كتبنا به إلى بعض إخواننا ممن يدّعي علم كلِّ شيء" (1)
ثم ينتهي بعد النص الذي ستجده أدناه إلى أنه " إن أعجبتك هذه المسائل واستطرفت هذا المذهب فاقرأ رسالتي إلى أحمد بن عبد الوهاب الكاتب فهي [ مجموعة ] هناك " (2)
وهذا هو مقطع كتاب الحيوان: " فقلت له [ لأحمد بن عبد الوهاب]: ما الشنقناق والشيصبان وتنكوير ودركاذاب؟ ومن قاتلُ امرأة ابن مقبل؟ وما خانق الغريض؟ وخبِّرْنا عن بني أقيش... وعن أطيقس اسم كلب أصحاب الكهف، وكيف حدّثوا عن ابن عباس في الفأر والقرد والخنزير والفيل والأرنب والعنكبوت، والحريّ أنهن كلهن مسخٌ،وهل يحل لنا أن نصدق بهذا الحديث عن ابن عباس؟ وكيف صارت الظباء ماشية الجنّ.. وما الفرق بين الغيلان والسعالي؟ وما بال الغريق من الرجال يطفو على القفا، ومن النساء على الوجه؟ ولِمَ انتصب خَلق الإنسان؟.. " (3)
ليس هذا المقطع تلخيصاً موجزاً للتربيع إذ لا يظهر هنا إلا عدد من الأسئلة المطروحة. وهكذا يمكن أن نفكر باحتمال وجود إنشاءين للرسالة، وهي فرضية يبدو أن جملة من المقطع "165" قد تثبتها حيث يلمّح الجاحظ إلى رسالة كان وجهها في شبابه إلى الشخص نفسه، إلا أن التشابهات التي تُستخلص ما بين مقطع كتاب الحيوان ومقطع كتاب التربيع تُظهر أن الجاحظ يفكر حقاً في هذا الأخير. وربما تكون الاختلافات ناجمة عن التشويهات التي أصابت النص، أو لأن الجاحظ، وهو يكتب كتاب الحيوان، لم تكن أمامه نسخة من رسالته. وتثبت إحالة الجاحظ للقارئ على هذا الكتاب أنه كان قد نُشر، في حين أن الرسالة كما يُستنتَج من المقطع 165 بقيت "غير منشورة " إن صحّ التعبير.
شخصية المرسل إليه:
يصف كتاب الحيوان أحمدَ بن عبد الوهاب بالكاتب. وهذا يعني أنه سكرتير للإدارة العباسية. وهناك شخصية مؤكَّد وجودها في ظل خلافة الواثق، ويبدو أنها هي نفسُها.
كان شخص اسمه أحمد بن عبد الوهاب يمتلك الجارية المغنية " قلم الصالحية". ولما سمعها الواثق تغني أراد شراءها. ولكن مالكها أصرّ على مبلغ باهظ بالإضافة إلى ولاية مصر، ليتخلى عنها لاحقاً مقابل خمسة آلاف دينار يدفعها له الوزير ابن الزيات. غير أن الوزير لم ينفِّذ أمر الواثق، واضطر الدائن إلى استعمال حيلة ضد الوزير المعاند: كان ابن الزيات الوزير يتسرّى سراً عند وجيه له صلة أيضاً بــ" صالح " [ مالِك الجارية]، وكفى صالحاً أن يظهر فجأة والطاولات المعدَّة للخمر منصوبة، ومحاطة بالغلمان والجواري، ليحصل على المبلغ المترتب على الوزير الذي أراد تجنُّب الفضيحة. فترك صالح خدمة الدولة، واشترى أرضاً واعتكف فيها.
وصالح هو أخو أحمد بن عبد الوهاب الذي يؤدي في التاريخ دوراً باهتاً جداً فلا نعرف عنه إلا أنه مؤلف الأغاني التي غنّتها قلم عندما ظهرت للمرة الأولى أمام الخليفة. أما العمروسي فقد جعله سكرتيراً لصالح بن الراشد دون أن يذكر مصدر هذه المعلومة. ولكننا نستطيع تصديق رواية كتاب " الأغاني" التي عرفته بـــ "صاحب ابن الزيات".
أسباب تأليف التربيع والتدوير:
اعتماداً على ما سبق يمكننا أن نفهم، أو نخمن على الأقل، البواعث التي دفعت الجاحظ إلى كتابة هذه الرسالة التي نبْرتُها نبْرةُ هجاءٍ مأمورٍ به أكثر من أن تكون نبرة كتابة عفوية.
ولما كانت مرسَلة إلى مكة أمكن أن نعتقد أن أحمد بن عبد الوهاب كان قد لحق بأخيه في مُعتَكَفه، وبالتالي ترك هو أيضاً خدمته ببغداد. أما ابن الزيات الذي تجنب ابتزاز الآخرين له فربما بحث عن وسيلة انتقام لنفسه بطريقة ذكية، مهاجماً سكرتيره القديم، مكلِّفاً بهذه المهمة صديقه الجاحظ.
وحرر الجاحظ إلى أحمد هذا،دون أن يستعمل، على ما يبدو، أي مصدر مباشر، بل كاتباً ما يسيل به قلمه، ومجمِّعاً الأفكار التي تجود بها قريحته، رسالةً مؤلفة من جزأين متشابكين بلا أي مخطط ذهني سابق. وبلا ترتيب منظور. ولكن يجب ألا ننسى التحريفات التي قام بها النُّسّاخ.
يصرح الجاحظ منذ البداية أنه قرر كشْفَ القناع عن المرسَل إليه وتعريضَه لسخرية العامة من الناس، طارحاً عليه،وناصحاً القراء المكّيين أن يطرحوا عليه أيضاً سلسلة من الأسئلة لن يكون بطبيعة الحال قادراً على الإجابة عنها. ثم يتوجه إليه مباشرة بالأسلوب الساخر أو بنبرة الواعظ ملمِّحاً إلى الأحاديث التي تحدّثها، والمواقف التي اتّخذها في أثناء التحاقه بحاشية ابن الزيات. ثم تأتي الأسئلة الأولى ممزوجة بتبجيلات وتقريظات كثيرة لأحمد بن عبد الوهاب تُظهر الجاحظ كغمّاز (يُضحِك ولا يضحَك) رائع. وهناك صفحات جميلة لم ينسها مؤلفو المختارات لأنهم رأوا فيها نماذج من خطب المديح النثرية. ولكن الأهمية الأكثر واقعية لمجمل النص تبرز في الأسئلة المطروحة.
أهمية الرسالة:
في العصر الذي كتب فيه الجاحظ أمدّ التراثُ العربي المجموع اتفاقاً من فقهاء اللغة ومؤلفي المعاجم في خلال بحثهم عن المفردات، المسلمين بالحلول الأولى للقضايا الشاخصة أمام عقولهم العاكفة على التساؤل عن أسرار الطبيعة، وكتابُ الحيوان نفسُه استمد من هذه الذخيرة البدوية خرافات تفسيرية ومدهشة... وأضيفت مبكراً إلى هذه الميثولوجيا التي لمّا تكتمل خرافاتٌ مستعارة من الدياناتِ المدوَّنة لشرح بعض غوامض القرآن والسنة،والأساطيرِ المؤلفة من قِبل بعض المسلمين المتحمسين، والتراثِ الشعبي اليمني القديم المقحَم من عرب الجنوب القلقين من تفوُّق العدنانيين، والمعتقداتِ المزدكية والمانوية التي جلبها الموالي معهم، والسحرِ الكلداني الحي دائماً مع عِطر من الخفاء يغلّفه، والميثولوجيا الشيعية، ونشاط السحرة والمنجمين.
وبالمقابل لم تكن الهلنستية التي كان الجاحظ نصيراً متحمساً لها أمدت الناس بمفاهيم عقلانية قد اُستوعبت، ولكنها مقبولة من العقول الأكثر انفتاحاً.
لا شيء يخيِّب آمال المستعرب كالبحث عن شرح معقول لتعبير ما أو لموروث أو لمعتقَد. وسبب تعدد التفسيرات التي يقترحها مؤلفون لا شكّ في نزاهتهم هو مبدأ " عدم المناقشة " الذي يجبرهم على تعداد شروحات سابقيهم دون أن يُظهِروا أنفسهم إلا بصيغة " والله أعلمُ"، إن جاز التعبير. ولكن موقف الجاحظ مختلف تماماً، فبالنسبة إلى المعتقدات التي لم ينصّ عليها القرآن، وما يزال يتوقف، كما لو على مضض أمام السد الذي نصبه القرآن، فإن موقفه ارتيابي منذ اللحظة التي تتعارض فيها هذه المعتقدات مع العقل. وهذ الشك المنهجي الذي أدخله في الأدب العربي، حتى لا نقول في الفكر العربي، كان بوسعه أن يؤلف خميرة ذات قدرة خارقة لو وضعها في أمة أقل تعلقاً بالموروث والرتابة من الأمة العربية.
بالتأكيد لم يكن بإمكان الجاحظ أن يقدم بدوره شروحاً عقلانية , وهو معذور في هذا حقاً. ولكن في حين يقتصر في كتاب الحيوان على عرض موضوعي للحلول المقبولة من جزء من الجماعة فإن النبرة التي يتبناها في " التربيع والتدوير" لا تترك أدنى شك في عمق تفكيره. وهكذا فإن رسالة التربيع والتدوير بحاجة إلى كتاب الحيوان ليمكن فهمُها. كما أنه يجب التشبُّع بالتربيع لفهْم فِكر " الحيوان" فالمؤلَّفان يتناغمان ويتكاملان. وانطلاقاً من هذه القاعدة الأساسية خطر لي أن من المفيد إعادة النظر في فكر الجاحظ في مؤلَّف قيد الإعداد (5) لأن عندي القناعة بأن هذا الرجل الذي هُضِم حقه يمثل لحظة من التفكير الإنساني حتى لو أمكن اتهامُه بأنه مدين إلى حد ما لليونان، ولا يصدر دوماً عن لآراء شخصية أصيلة.
تتعلق الأسئلة التي يطرحها في " التربيع " بأحداث أو شخصيات أو شعوب أسطورية كالطوفان وجُرْهُم، وهي أحداث قديمة ومشكوك فيها تقبّلَها التاريخ العربي يرغم ذلك لأنه تقبّل كل شيء، حتى الأحداث الجغرافية مثل البحار السبعة الخرافية المحاطة بجبل " قاف". ويلمِّح الجاحظ إلى أنه كان تحت تصرف العرب حينذاك ترجمات لمقتطفات من الفكر اليوناني مع بعض مجموعات الحِكَم ذات الأصل الإيراني، إلى حلول مقترحة من الهلنستية في ما يخص الأحداث الجغرافية، وينهض في وجه الشروحات الأسطورية المنقولة من العرب القدماء بخصوص الحيوانات والنجوم والمد والجزر.
ينبع جزء مهم من الأسئلة من القضايا الدينية. وبعقلية مختلفة تماماً عن تلك التي ستطبع التعليم الديني المتأخر يسأل المرسَل إليه، بل يتساءل هو في الحقيقة، عن القضايا التي لم يُعط عنها القرآن أي حلٍّ فوري. وبعد استعراض المعتقدات القابلة للنقد لدى الجاهليين والمسلمين السُّنّة يُنحي باللائمة على اليهود والمسيحيين والمزدكيين والمانويين، وجزئياً على الشيعة، نظراً إلى أن أحمد بن عبد الوهاب منهم. ويقدِّم شرحاً مسلياً وتنبُّئياً للتناسخ. ويحاول القضاء على التأثير الهدام للسحرة والمتنبئين الذين خصَّهم، بالإضافة إلى هذه الرسالة برسالة لم تصلنا، وأن يهدم الخرافات المستمدة من شخصيات أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعُبيد بن شريّة الذين أغرقوا الأدب الديني بموروثات أجنبية غريبة ومنتحَلة.
وهكذا، رغم أن التربيع والتدوير، مقدَّم على هيئة أسئلة ذات مظهر أدبي إبداعي، فإن الاهتمام الأول للرسالة اهتمام عقلي. ولها مكانها الخاص في التاريخ الفكري. ومن المؤسف أنه لم يفكر كتاب نُبهاء في التساؤل بإخلاص، وفي الإجابة عن أسئلة الجاحظ بالأجوبة المعلَّلة.
الترجمة منشورة في الأسبوع الأدبي العدد 605 4 /4 / 1998
الحواشي:
- ملخَّص المقدمة التي صدّر بها المستعرب الفرنسي شارل بيلا رسالة التربيع والتدوير الشهيرة للجاحظ بتحقيقه.
- الحيوان. الجاحظ. تحقيق عبد السلام هارون، مطبعة البابي الحلبي بمصر. ط2 دون تاريخ. 1/ 308.
- م. س 1/311.
- باختصار من المترجم.
- " التربيع والتدوير " للجاحظ. نشر شارل بيلا. المعهد الفرنسي بدمشق عام 1955، ص 87 " ولو رغبوا ي العلم رغبتي، ورأوا فيه مثل رأيي، وكانوا قرؤوا كتابي إليك في شبيبتي وأيام شباب رغبتي، لاستقلّوا من ذلك ما استكثروا "
- هو كتاب " الوسط البصري وتكوين الجاحظ". نُشر في باريس عام 1953. وقد تُرجم إلى العربية بعنوان " الجاحظ".