مدخل إلى علمي الأصول والفروع الإسلاميين - القرآن مركزاً للخلافات
مهما كان موقف المرء من القرآن، ومهما كان مصدره، وكائناً من كان مُنشِئُه، فقد كان شيئاً جديداً على العرب الذين لم يألفوا مثل هذا النوع من الخطاب، سواء بشكله أم بمضمونه. فلم يصلنا من عصر ما قبل الإسلام إلا الشعر وقليل من النثر في مقطوعات قصيرة تتعلق بمناسبات معينة، وغالباً من نوع الخطابة.
ولا يعـني هذا أن العرب كانوا جاهلين، كما يوحي مصطلح " الجاهلية "؛ فقد كانت لهم ثقافتهم ومعارفهم وتشريعاتهم التي أهّلت بعض الشخصيات منهم لتقوم بدور النبوة (محمد)، أو بأدوار قيادية وسياسية غير سهلة كمعظمِ الخلفاء الراشدين، وأوائل الأمويين،ورموزٍ أخرى.
- يمكن تلخيص موضوعات القرآن فيما يلي:
1- موضوعات تيولوجية - كلامية (تتصل بالعقيدة)، فيها دعوة إلى الإيمان بالله المختلف عن الإله اليهودي والمسيحي في أنه منـزَّه [ نظرياً ]عن كل مشابهة، وهذا ملخَّص في شعار الإسلام " سبحان الله".
وفي هذا الجزء مناقشات كثيرة مع أصحاب الكتب السماوية السابقة: اليهود والنصارى، ويمكن أن يُـلمَس من القرآن ومن تاريخ الإسلام أن الإسلام حاول احتواءَ هاتين الديانتين واعتبارَ الإسلام إكمالاً لهما للوصول إلى دين توحيدي شامل يفترض أنه الدين الخليلي الحنيف، ولذا فالقرآن يعترف، بل يشترط على المسلم، أن يؤمن بكل الأنبياء دون تفريق بينهم، وبكل الرسالات والكتب السماوية ﴿ آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله ﴾ (البقرة 2 / 285) مع العلم أن القرآن يتهم اليهود بتزوير التوراة التي تبشر بنبي قادم هو محمد، ويتهم النصارى بإساءة فهم طبيعة نبيهم عيسى. ولهذا يعد القرآن أنبياء اليهود من إبراهيم إلى يعقوب وسلالته مسلمين (البقرة 2 / 127 – 133) و ﴿ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن حنيفاً مسلماً ﴾ (آل عمران 3 / 67)
2-آيات الأحكام والحدود، التي تتضمن الممنوعات والمسموحات، أو الحرام والحلال، كتحريم الخمر والربا والميسر، وآيات الميراث، والمداينة.
3-قصص الأنبياء والصالحين، ومن يقابلهم من أعدائهم كقارون. وقصص الأقوام الغابرين كعاد وثمود...
4-آيات تنظم علاقات المسلمين الداخلية (مثلاً الاقتتال بينهم) وعلاقاتهم الخارجية (الحرب والسلام).
5 – مكارم الأخلاق، كمنع الغيبة، والنبز (الألقاب السيئة)وإساءة الظن (سورة الحجرات) وحسن معاملة الوالدين ﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً ﴾ (الإسراء 17 / 23) و﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهنٍ...وإن جاهداك على أن تشرك﴾ (العنكبوت 29 /8) وقبل هذا وذاك ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ (القلم 68 /4)
...
ـ ومعروف أن محمداً قرشيّ، وأن المهاجرين معه، ثم أهلَ مكة عموماً، كان لهم امتياز الحكم، أو بتعبير آخر احتكروا خلافة محمد الذي لم يوص بها لأحد، ولا حدّد في سنته طريقة معينة لها. وكذلك لم يرد في القرآن أي إشارة إلى هذا الموضوع، ولهذا جرى أول احتكاك سياسي خطير لحظة وفاة محمد بين ثلاثة اتجاهات:
1- اتجاه رأى أن أبا بكر هو الخليفة بسبب أنه أول السابقين إلى الإسلام، و بسبب صداقته الحميمة بالرسول، وبسبب أن الرسول أوكل إليه مهمة إمامة الصلاة في أيام مرضه الأخير، وكذلك كون الرسول صهراً له. وعلى رأس هذا الاتجاه عمر بن الخطاب أقوى شخصيات الإسلام آنذاك.
2- اتجاه رأى أن علياً ابنَ عمِّ الرسول وصِهرَهُ وأحدَ السابقين إلى الإسلام هو الأحقّ بالخلافة، لكنه لم يرفع صوته جماعياً في حينه، بل اقتصر على الاحتجاج كلما فاته قطار الخلافة (الخطبة الشِقْشقية).
3- اتجاه ثالث ضِدّ لهما كليهما، وهو اتجاه الأنصار سكان المدينة المنورة " يثرب " الأصليين " الأوس والخزرج " الذين رأوا أن من البديهي أن تؤول إليهم الخلافة، لأنهم هم الذين آووه وحموه وحاربوا معه حتى ضد قبيلته الأصلية.
انتصر اتجاه أبي بكر وعمر، وما يلفت النظر هنا هو الصراحة التي حسم بها القائدان الأمر:" الأمراء منا " يعني من قريش. ولذلك سرعان ما يتضح أن الخلافة محصورة في قريش، وسيكون الصراع على الحكم قرشياً – قرشياً حتى ظهور الخوارج.
إن معركة الجمل بين علي من جهة، وعائشة وبعض كبار الصحابة من جهة أخرى، ثم معركة صفين، وهي الأخطر بين علي ومعاوية، تكشفان أن القرآن لم يكن دستوراً للحكم، ولذلك ينصح عليّ أعضاء وفده المفاوض للخوارج أن لا يقبلوا اللجوء إلى القرآن في موضوع التحكيم لأن القرآن حمّـال أوجه، وهو لا ينطق بل ينطق به الرجال، أي يمكن لكلّ أن يفهم منه شيئاً يختلف عما يفهمه الآخر.
ولذلك، وعلى أثر قيام الدولة الأموية ومقتل الإمام علي، يظهر الانقسام السياسي الأول المهم، بمعنى أنه سيستمر إلى عصرنا،وهو السنة والشيعة. ويمكن أن يعزى هذا الانقسام إلى عدم تعرض القرآن لمسألة الحكم ونظامه، وإلى قوانين الوراثة الجاهلية التي تجعل الأعمام هم الأحق بالوراثة، وهو المبدأ الذي احتج به العباسيون للوصول إلى الحكم، رغم أن " الأنبياء لا يورِّثون"، وبالتوازي مع المشكلات والانقسامات السياسية، بل وبالاختلاط معها، تظهر الانقسامات العقائدية.
الفرق الكلامية
من المعلوم أن آيات القرآن تنقسم إلى المحكم والمتشابه ﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا ﴾ (آل عمران 3 / 7).
تفهم الآيات المحكمات على أنها الآيات الواضحة كآيات الأحكام والحدود؛ فلا يفترض عموماً أن تثير مشاكل خطيرة في الفهم، وإن كان بعضها يبقى مشكلاً، مثل تحريم لحم الخيل والحمير من الآية ﴿والخيل والبغال لتركبوها وزينة﴾ (النحل 16 / 8)، التي فهمها بعضهم أن الخيل والبغال للركوب والزينة فحسبُ، لا للأكل. واستنتاج وجوب التضحية من ﴿ فَصَـلِّ لربك وانحر ﴾ (الكوثر 108 / 3). أما الآيات المتشابهة فهي التي يمكن أن تفهم بأكثر من وجه، إذ كيف نفهم ﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾(الفتح 48 / 10) و ﴿ ثَمَّ وجه الله ﴾ (البقرة 2 / 115) و﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ (طه 20 / 5). وكذلك ما حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المأمور بهما في القرآن.
حول هذه الموضوعات ستظهر بوادر الانقسام العقائدي الأول:
- في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سيفهم بعضُهم أن من حق المسلم نُصْحَ الإمامِ نفسِه، والذي يشجع هؤلاء هو أن الخلفاء الأوائل، ولا سيما أبي بكر وعمر، كانا يتقبلان النصيحة ويستشيران ويناقشان مع المسلمين وخصوصاً في الجامع، وهذا ما يدعو مفكراً إسلامياً معاصراً هو الصادق النيهوم إلى استعادة دور الجامع كبرلمان للمسلمين؛ غير أن الخلفاء الأمويين وخصوصاً عبد الملك بن مروان سيحسمون الأمر ببساطة، وسيقطعون هذا الطريق على المسلمين. وهذا ما لم يستطع ابن المقفع أن يفهمه فكتب " رسالة في الصحابة " محاولاً وضع دستور للخلافة، ومقدماً نصائح مجانية للخليفة أودت بحياة الكاتب.
ـ ويتعلق بهذا الأمر تمامَ التعلق بداياتُ الاختلاف عن مسؤولية الله عن الخير والشر معاً.فقد رفض " القدَرية "، وهو اسم لفرقة يوهم بالعكس، أن يأمر الله بالشر، فكانت هذه الفرقة تنسب إلى الله الخير فقط، وتنفي أن يأمر الله بالشر. وهذا الرأي الأخير لم يكن ليناسب الحكام الأمويين الذين يفعلون الشر والظلم وينسبونهما إلى القدر، أي إلى الله. ولذلك قُـتل الممثلون الأوائل لهذا الاتجاه كمعبد الجهني وغيلان الدمشقي. ونظم الأمويون مؤسسة دينية موالية من الفقهاء.
وكل فريق يجد في القرآن سنده؛ فمن الآيات التي تثبت الجبر:
﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم. وعلى أبصارهم غشاوةٌ ﴾ (البقرة 2/7)
﴿ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ﴾ (هود 11 /34)
﴿ أفمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ﴾ (الزمر 39/ 19)
﴿ فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾ (النحل 16/36)
ومن الآيات التي تثبت الاختيار:
﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ﴾ (الإنسان 76 / 3)
﴿وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ﴾ (الأنعام 6 / 153)
﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ (الكهف 18 / 29)
﴿ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه لنفسه ﴾ (النساء 4 / 111)
- والمسلمون الأوائل الذين آمنوا إيماناً تسليمياً ساذجاً (Fidéisme) مسحورين ببلاغة القرآن وجدوا أنفسهم في مواجهة خصوم لا يقنعهم الاستشهاد بالقرآن أو بالحديث النبوي، فكان لابد من سلاح لمقارعة الخصوم يختلف عن سلاح الأولين، وهذا السلاح الجديد هو المنطق اليوناني وعلم الكلام، وخصوصاً أن الخصوم مسلحون بهذا السلاح نفسه.
وقد حمل المعتزلة بجدارة لواء هذا الدفاع عن الإسلام ضد الخصوم الخارجيين (اليهود والنصارى) والداخليين (المسلمين المتهمين بالزندقة). ويمكن أن نجد في رسالة " الرد على النصارى " للجاحظ نموذجاً لهذا النوع من الدفاع.
وملخص مبادئ المعتزلة هو: المنزلة بين المنزلين، وهي عقوبة الفاسق، أي لا هو يخلد في الجنة ولا يخلد في النار. وهو من الأسباب الأولى لظهور المعتزلة، وهي مسألة ظاهرها ديني لكن في أعماقها موقفاً سياسياً خطيراً لأنها محاكمة للأمويين مرتكبي الكبائر. وموقف الخوارج أنه كافر، وهو موقف جريء، وعلى العكس موقف المرجئة أنه مؤمن، ولذا فإن خلفاء بني أمية وأعداءهم جميعهم مؤمنون. وهو موقف كان يرضي السلطة الأموية الحاكمة جداً. وموقف المعتزلة هو أنه لا مؤمن ولا كافر، وأدى بهم هذا إلى تحليل أعمال الصحابة والحكم عليهم.
2- لا يخلق القدرُ واللهُ أفعال الناس؛ ولذا يستحق الله أن يوصف بالعدل.
3- التوحيد: ليس لله صفات أزلية من علم وقدرة غيرَ ذاته؛ وإلا صار هناك قديمان، أي إلهان.
4- يستطيع العقل معرفة الحسن والقبيح ولولم يرِدْ بهما شرعٌ، والشرع لم يجعل الشيء حسناً بأمره، ولا القبيح كذلك، بل أمر بالشيء لحُسنه، ونهى عن الآخر لقُبحه. ولا يستطيع الشرع أن يعكس ذلك لما في الشيء ذاتِه من حسن وقبح. أما المسلمون الآخرون فرأيهم أن الأحكام الشرعية لا تعلل.
5- ناقشوا موضوع الإمامة، وناقشوا المشكلات السياسية التي جرت بين الصحابة. هذه المناقشة يراها بعضهم تصب في مصلحة الأمويين لأن مجرد وضع معاوية مع علي في مناقشة، وعلى قدم المساواة يعني الاعتراف بمعاوية، ويراها بعضهم على العكس من ذلك، وعلى كل حال ففي هذا النقاش نزع للقدسية التي حاولت السنية الإسلامية إحاطة الخلفاء الراشدين والصحابة عموماً بها. ولذا لم يضطهد الأمويون المتأخرون المعتزلة بل يقال إن أواخرهم اعتنقوا الاعتزال.
ووفقاً لمبدأ التوحيد أثار المعتزلة مسألة خطيرة، وهي مسألة خلق القرآن، ففي رأيهم أن التوحيد الحقيقي لله يقتضي كونه القديم الوحيد، ووجود كلام أزلي معه يعني وجود قديمين.
تبدو هذه المسألة ظاهرياً بلا معنى، فما الفرق بين أن نقول: القرآن كلام إلهي كما هو رأي السنة الفكرية، أو أنه مخلوق؟
- ترتبط بهذه المسألة سلسلة اتجاهات ومناقشات مهمة في طبيعة الكلام الإنساني ونشوئه، ورأي السنة أنه كلام نفسي، أي موجود في النفس. أما المعتزلة فانسجاماً مع موقفهم من ظاهرة نشوء اللغة اجتماعياً،كما هو رأي مدرسة عالم اللغة السويسري المعاصر "دو سوسور"، وانسجاماً مع دراستهم لها بدءاً من كتاب سيبويه تحت عنوان " اللغة وسيلة اتصال "، فقد رأوا أنه لا يمكن وجود كلام دون طرفين، متكلمٍ ومستمعٍ، ولا يعقل أن يوجد الكلام قبل وجود الناس، ولا يعقل أن يتكلم الله إلى لا أحد، أو يتكلم كلاماً غير مفهوم.
- وترتَّبَ على هذا أن قالت السنة الفكرية إن القرآن مكتوب من الأزل في اللوح المحفوظ، وأن الله قدَّر الأحداث التي يرويها في اللوح نفسه، كعلاقات محمد وتطورات الإسلام. أما المعتزلة فقالوا إن القرآن نص حياتي اجتماعي نزل حسب الظروف والمناسبات الاجتماعية.
- وترتب على هذا أن نظر السنة إلى القرآن على أنه نص مقدس جامد لا يتغير فيه شيء، ولا يفهم منه ما يغاير ظاهرَه خلافاً للمعتزلة الذين رأوا إمكان فهمه فهماً متعلقاً بالحياة. ولعل هذا أحد أهم نقاط الخلاف المعاصرة بين الاتجاه الديني المحافظ وبين محاولات فهم الدين فهماً متطوراً.
وباختصار حاول المعتزلة إعطاء العقل دوره و تحميل الإنسان مسؤوليته خلافاً للآخرين الذين استلبوه.
المذاهب الفقهية
إذا كانت الآيات المتشابهات سبباً في ظهور علم الكلام والاختلافات العقائدية (علم الأصول) فإن الآيات المحكمات كانت سبباً في ظهور خلافات أخرى هي خلافات الفروع أو الخلافات الفقهية.
فمن المعلوم أن القرآن ليس قانوناً للعقوبات وليس فيه تفصيلات دائماً. أضف إلى ذلك ما يعرف بمسألة "الناسخ والمنسوخ "،و" الناسخ " هو مجمل الآيات التي أبطلت العمل بحكم آيات سابقة، كالآيات التي تحرِّم الخمر بالتدريج:
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قلْ فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾ (البقرة 2 / 219). ثم ﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ﴾ (النساء 4 / 43). ثم﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عملِ الشيطان فاجتنبوه ﴾ (المائدة 5 / 90). ومفهوم أن الآية الأولى تقارن بين منافع الخمر ومساوئها، فترجح المساوىء على المنافع وتقتصر الثانية على منع الخمر في أوقات الصلاة؛ إذ لم يكن من السهل منع الناس من الخمر بقرار مفاجئ، أما الثالثة فتمنعها منعاً قطعياً. وهذا دليل قوي يؤيد المعتزلة الذين قالوا بتاريخية القرآن ومواكبته للتطورات الاقتصادية والاجتماعية، فالمفسرون يفسرون " منافع الخمر " تفسيراً اقتصادياً (عملُ كثيرٍ من الناس في صناعتها وتجارتها) ومما يؤيد هذه التاريخية أنها تكتمل بتحديد مبلغ الزكاة المفروضة على المسلمين بـ" العفو " أي الزيادة " ﴿ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ (البقرة 2 / 219). قبل أن تحدد السنة النبوية مقادير الزكاة تحديداً صارماً. واستدعت ضرورةُ تمييز الناسخ من المنسوخ الرجوعَ إلى التسلسل التاريخي لآيات القرآن، وهو ما أوجد " علم أسباب النزول ". وربما كان أهمُّ موضوع من موضوعات الناسخ والمنسوخ في عصرنا هو موضوعَ الحرب والسلام بين المسلمين والآخرين.
ومن المعلوم أيضاً أن الحياة الاجتماعية كانت عموماً بسيطة في أيام الإسلام الأولى، وفي المدينة المنورة. كان الرسول يحل المشكلات التي تظهر في هذا المجتمع البسيط، بعدما أمر القرآن المسلمين بالاحتكام إلى الرسول في خلافاتهم، ومنع قطعياً الاحتكام إلى اليهود. فلما توفي الرسول وخرج المسلمون من معاقلهم الأولى ودخلت في الإسلام شعوب جديدة ذات حضارات متنوعة، ظهرت الحاجة إلى من يشرِّع. ومنذ البداية اختلف الصحابة في فهم القرآن لتفاوت معرفتهم بالعربية، ولتنوُّع علاقاتهم بالرسول بين من كان يلازمه، وبين من لم يقابله طوال حياته، أو كان طفلاً، ولاختلافهم في علاقاتهم باليهود والنصارى. ويمكن أن نعد اختلاف المواقف من حروب الردة مثالاً على هذه التفاوتات.
وكانت مصادرُ التفسير بادئ الأمر التفسيرَ المنقول أو التفسير المأثور، وهو ما نُقل عن الرسول نفسه، كتفسير الصلاة الوسطى بصلاة العصر، ويوم الحج الأكبر بيوم النحر، ثم تفسيرات الصحابة.
إلا أن هذه التفسيرات لم تعد كافية مع تطور الحياة الاجتماعية؛ فلجأ المفسرون إلى التراث اليهودي التوراتي؛ فحين يقول القرآن في سورة يوسف وقصته ﴿ قال قائل منهم لا تقتلوه ﴾ (يوسف 12 /10) فمن هو القائل؟ إن اسم هذا الآمر يأتي من التوراة، وكذلك اسم " عزيز مصر "وزوجته، وأخبار سفينة نوح. وقد تضخم هذا النوع من التفسير حتى غدا قسماً قائماً بذاته يسمى " الإسرائيليات ".
- ولم يكن بد من التفسير اللغوي والعقلي، وهذا أحد أسباب وضعِ علم النحو وعلم المعاجم. واختلف هذا التفسير فيما بعد باختلاف الأسس الفكرية والمنهجية للمفسرين، من تفسير بياني (الزمخشري)وتفسير باطني (الشيعة) وتفسير رمزي (الصوفية)…
- ثم كيف يمكن فهْم دلالات النص القرآني؟ كيف يمكن مثلاً أن نفهم الآية ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغنْ عندك الكبَر أحدُهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما … ﴾ (الإسراء 17 / 23) فهل يُفهم أن ضربهما غير ممنوع لأن ظاهر نص القرآن لم يتعرض للضرب؟ وعى هذا كان المذهب الظاهري الذي اندثر في العراق، ثم تجدد في الأندلس، أم يُفهم أنه ممنوع قياساً إلى منع التذمُّر (أف) منهما؟ وكذلك عندما يقول القرآن ﴿ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق﴾ (المائدة 5/ 6) كيف نفهم معنى الواو؟ أتفيد الترتيب أم مطلق الجمع؟
إن هذا المزيج من علم اللغة والنحو والمنطق ألف فيما بعد علم أصول الفقه الذي يختلف قليلاً أو كثيراً بين مذهب وآخر. وكان سبباً في ظهور "علم الدلالة " في العربية وهو علم يبحث في مثل الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمشترك، وهل في القرآن ألفاظ غير عربية، وفي دلالات الألفاظ من حيث الوضوحُ وعدمُه.
لا خلاف بين فقهاء المسلمين في أن المصدر الأول للتشريع هو القرآن، والثاني هو السُّنّة النبوية، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة والوضوح دائماً؛ إذ ليس القرآن قانون عقوبات مكتوباً بوضوح وتفصيل. ونجد هنا موقفاً متميزاً للشافعي مقابل موقف أبي حنيفة: يرى الشافعي أن ألفاظ القرآن كافة ألفاظ عربية، وما يُظن أنه غير عربي هو المشترك بين لغات مختلفة، وهو أحد موقفين متوسطين بين من يراها كلها عربية صِرفاً، وبين من يرى أن فيه ألفاظاً غير عربية كالسندس والإستبرق (نوعان من الحرير). والموقف الوسط الآخر هو أنها بسبب استعمال العرب لها طويلاً قبل دخولها في النص القرآني أصبحت عربية. ومستَنَد نظرية الشافعي هو أن القرآن نفسه يقول ﴿ إنا أنزلناه قرآناً عربياً ﴾ (يوسف 12 / 2) و ﴿ بلسان عربي مبين ﴾ (الشعراء 26 / 195)؛ فكيف نوفق بين عروبة القرآن والألفاظ غير العربية؟
إذن ألفاظ القرآن كلها في رأي الشافعي عربية، وسبب جهلنا بالألفاظ التي نظنها غير عربية هو اتساع اللغة العربية حتى لَتستحيلُ الإحاطة بها إلا للأنبياء؛ ولذا فمهمة تفسيره مهمة عسيرة. ولا يمكن لغير العربي أن يفهمه(القرآن) أو يفسره.
ومقابل الرأي القائل إن العرب كانوا يتكلمون لهجات (لغات في مصطلح ذلك العصر)، وإن القرآن "نزل على سبعة أحرف كلها كافٍ شافٍ "وهو حديث نبوي. ويعني الحرف القراءة التي تخالف الشرط الثاني من شروط القراءة الصحيحة، وهو الاتفاق مع الرسم (الإملاء) القرآني، من نحو ﴿ إن كانت إلا زقيةً واحدة ﴾ بدلاً من " صيحة " (يس 36 / 29)، والشرطان الآخران هما الرواية عن النبي بالسند المتواتر، والاتفاق مع وجه من وجوه العربية الصحيحة. ومثل هذه القراءات كان مرخَّصاً بها في صدر الإسلام تسهيلاً على قبائل العرب، مقابل هذا الرأي، يرى الشافعي أن القرآن كله بلغة قريش، وهذا ما كان ثبَّته الخليفة الثالث عثمان بجمع القرآن في نسخة واحدة، وإحراق المصاحف الأخرى، ثم بفرض رواية حفص عن عاصم. إذن فالدفاع عن عروبة القرآن دفاع عن قرشيته. وهو موقف عربي قرشي متعصب كما هو واضح، تعضده مواقف تصب في الهدف نفسه كمنع قراءة القرآن إلا بالعربية.
ويرى الشافعي أن القرآن يدل بطرق مختلفة على حلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت أو يمكن أن تقع في الحاضر أو المستقبل، وهو موقف كثير من المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين يبحثون عن كل شيء من الذرة إلى الحاسبات إلى علوم الفضاء … في القرآن، وهو في الوقت نفسه ما جعل العقل العربي تابعاً يقتصر دوره على تأويل النص واشتقاق الدلالات منه، ثم في متابعة الكشوف والاختراعات المعاصرة لتتبُّعها في القرآن دون أن يسألوا أنفسهم: لماذا لم نجدها في القرآن قبل أن يكتشفها الأوربيون أو الأمريكان؟. وكان هذا رأيَ الأمويين الذين رفعوا المصاحف على الرماح وطلبوا الاحتكام إلى القرآن، ورأيَ الخوارج الذين قالوا لا حَكَم إلا الله. وهو عكس رأي علي بن أبي طالب الذي رأى أن الكتاب (القرآن) لا ينطق بل ينطق به الرجال، وحذّر وفده المفاوض إلى التحكيم من أن القرآن "حمّال أوجه ".
ويرى الشافعي أن السنة النبوية لغة ثانوية تساعد في إطار اللغة العامة (اللسان العربي) على إمكان فهْم النص القرآني؛ فالسنة النبوية أنواع:
- منها ما هو تكرار للخطاب القرآني.
- ومنها ما هو تفسير وبيان له، كتخصيص العام وتفصيل المجمل (طريقة إقامة الصلاة).
- ومنها ما ينفرد بالتشريع بوصفه نصاً مستقلاً، ولكن لهذا النوع أصوله في الكتاب، مثل البيوع لأن الله قال ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾(البقرة 2 / 188) و﴿ أحل الله البيع﴾ (البقرة 2 /275). وعليه فقد جعل الله لمحمد أن يسنّ فيما ليس فيه نص كتابي، ولم يسن قط إلا وله أصل في الكتاب. وجاءته رسالة الله فأثبتت أن سنته بفرض الله، وقد ألقى في رُوعه كل ما سنّ. وسنته هي الحكمة التي ذكر القرآن كثيراً أنه آتاها الأنبياء؛ فهناك وحيان إذن: وحي عن طريق جبريل، ووحي عن طريق الإلقاء في الرُّوع.
لا يختلف أبو حنيفة عن الشافعي في اعتبار السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع؛ إلا أن السنة تنقسم حسب طريقة ورودها إلى:
1 - المتواتر: وهو نقل جماعة لا يمكن أن يتواطؤوا على الكذب عن جماعة.
2 - المشهور: وهو نقل عدد قليل من الصحابة عن الرسول ثم ينقله عنهم عدد كبير، أي يبدأ بعدد صغير وينتهي بعدد كبير.
3 ـ الآحاد: وهو نقل فرد عن النبي.
يقبل الشافعي كل هذه الأنواع، ويسوِّغ النوع الثالث منها بأن النبي كان قد أرسل صحابة منفردين إلى الأمصار لنشر الإسلام، وهؤلاء هم مصدر هذا النوع من الأحاديث.
أما أبو حنيفة فيرى أن دلالة القرآن قطعية، ودلالة السنة عدا السنن المتواترة والمشهورة ظنية. والثابت بالقرآن من الأوامر فرض، وعكسه حرام، والثابت بالسنة الظنية واجب وعكسه مكروه.
ويقدم أبو حنيفةَ القياسَ على سنة الآحاد لأن القياس يعتمد على "المقاصد الكلية للشريعة" كالحديث المروي عن أن رجلاً أعتق عبيده الستة ولم يبق له شيء من المال، فأقرع الرسول بين عبيده المعتقين، فأعاد اثنين إلى الرق؛ فيرى أبو حنيفة عدم الأخذ بهذا الحديث لأن الأصل في الإنسان أن يكون حراً، لا عبداً.
وأبو حنيفة من أصل فارسي أو إيراني، ولد جده في كابول [ أفغانستان الآن]، وولد هو بالكوفة حوالي عام 80 هـ، ومات ببغداد عام 150 هـ؛ وعلى هذا فقد عاصر الدولتين الأموية والعباسية، وشهد أحداثاً كثيرة متغايرة، كحكم الحجّاج القاسي، وعدالة عمر بن عبد العزيز، وشهد العصبية القومية العربية في حكام العراق. توجه في بداية حياته العلمية إلى علم الكلام، ثم انصرف عنه لخطورته ولكونه علماً نظرياً، إلى الفقه؛ غير أنه استفاد من دروسه الكلامية مهارة في الجدل ومرونة عقلية خلافاً لأنصار مدرسة الحديث. ويتصل نسبه العلمي، وهو الأهم، بعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب. ويبدو فيه ميل إلى العلويين ضد العباسيين في أثناء حركة محمدِ بن عبد الله النفسِ الزكية. بالإضافة إلى تشدده في قبول الحديث،وهو ليس موقفاً معادياً للرسول طبعاً، بل شكٌ في صحة نقل كلامه، فهو يقف موقفاً نقدياً أيضاً من أقوال الصحابة فيُعمل عقله فيما ورد فيه قولان أو أكثر. أما التابعون فلا يعتد بهم، ورأيُه: لي أن أجتهد كما اجتهدوا.
يبقى القياس الأساس الأهم في التشريع بعد القرآن. و يجيب أبو حنيفةَ على كل سؤال دون تحرُّج. ويسخر من الناس الذين يقولون " لا أدري ". وقد أحصوا له نحو مئتي مسألة خالف فيها الحديث، من نحو " كان النبي يُقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر " فقال أبو حنيفة " القرعة قمار ". وجاء في الحديث " البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا " فقال هو " إذا وجب البيع فلا خيار ".
إذن هو مذهب جديد فيه حرية العقل بكثرة استعمال الرأيِ والقياسِ والاستنباطِ، وشجاعةٌ في مواجهة المسائل دون التهرب من الجواب بقولهم " الله أعلم " أو ما شابه ذلك.
ويكتمل المذهب الحنفي بمنهج القاضي أبي يوسف الذي طعّم الحنفية ببعض الحديث وبشيء من المالكية، وخالف أبا حنيفة أحياناً. وبمحمد بن الحسن الشيباني الذي هو مضرب المثل في معرفة العلل، والذي هو حلقة اتصال بين فقهاء الرأي وفقهاء الحديث.
ويتحرى مالك جيداً صحة الحديث دون أن يشترط الشهرة فيه، وهو في هذا يشبه أبا حنيفة. غير أنه يعتمد كثيراً في التشريع على عمل أهل المدينة لأنهم أدرى بالسنة وبالناسخ والمنسوخ؛ فإذا اتفق أهل المدينة على عمل مسألة، واتفق مع العمل علماؤها، فهذا العمل حجة يقدَّم على القياس؛ بل على الحديث الصحيح. أما عمل الأكثرية فهو أيضاً حجة يقدَّم على خبر الواحد إذا جاء خبر من واحد يخالفهم إذ الأرجح حينئذ أنه منسوخ. ويجب التفريق بين إجماعهم على العمل النقلي والعمل الاجتهادي. والنقلي مثلُ محل منبر النبي وقبره؛ فلا خلاف في حجيّته، أما الاجتهادي من نحو بطلان خيار المجلس فهو موضع خلاف، والعمل بقول الصحابي إن صحت نسبته إليه وكان من أعلام الصحابة. إن مسألة الاعتماد على أهل المدينة وعلى أقوال الصحابة وأعمالهم قد غذّيا فقه مالك بآراء كثيرة ضيّقت دائرة الرأي. وكتابه المشهور " الموطّأ " هو كتابُ حديثٍ نبويٍّ فيه آراء فقهية.
وباختصار يقال: إن هناك مدرستين في الفقه: مدرسة الرأي، ومدرسة الحديث. موطن الأولى في العراق لأن مصدرهم هو عبد الله بن مسعود، وهو شبيه عمر بن الخطاب في الاعتداد بالرأي، ومنه تعلّم (ربيعةُ الرأيُ) الذي حمل هذا اللقب لشهرته بالعمل به. وكان الحديث في العراق قليلاً لأن أكثر رواته في الحجاز. والعراق قطر متمدن بالمدنية الفارسية واليونانية، والمدنية تطرح على المشرِّع جزئيات كثيرة لا تلزم المجتمع البدوي. وقد أخذ أبو حنيفة العلم عن حمّاد بن سليمان الذي أخذ عن النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود. وتطور الرأي وانتظم فيما يعرف فيما بالقياس. أما مدرسة الحجاز فمن أصولها العباس والزبير وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس. وهذه المدرسة سبب غير مباشر في وضع الحديث.
ما العلاقة بين علم الأصول وعلم الفروع؟
يبدو ظاهرياً أن لا علاقة بينهما إذ أن الأول يبحث في أصول الإيمان وقاعدتِه، وأساسُه الآيات المتشابهات. والثاني في التطبيقات العبادية والقانونية، وأساسُه الآيات المحكمات. غير أن وراء معالجة هذا الفرع أو ذاك من العلم عقلاً هو في المحصلة تقليدي أو عقلاني قياسي. لذا ليس من الغريب أن يكون أبو حنيفة أقرب إلى الاعتزال، وأن يتعاصر ونشوءَ علم عقلي آخر هو علم النحو على يد المعتزلة العقلانيين. ونقطة الانطلاق المشتركة للنحو وللمذهب الحنفي هو القياس، أي الاعتماد على العقل. ويُلحظ أن ابن جني في كتاب الخصائص يهاجم الحنبلية مراراً بصفتها مكبحاً للعقل، ويأتي على ذكر محمد بن الحسن الشيباني مثالاً على حسن التعليل. وقد ذهبت الحنفية إلى رأي المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين، وصارت هذه المسألة من مسائل أصول الفقه. ويلحظ لدى الحنابلة موقف معارض لرأي المعتزلة في التعطيل، وهو التشبيه.