مصرع تموز
مريم غير العذراء،حبيسة الحمام منذ الصباح، حين تمكنت من الوقوف على أصابع قدميها الحافيتين والارتقاء إلى الكُوّة المشرفة على فضاء خنقته أبنية كبيوت النمل الإفريقي، أطلت على عالم آخرَ تراءى لها طويلاً في ساعات وعيِها كلما انتهت طقوس الحب بينها وبين زوجها غير المعلن، في بيت يؤويهما بضع ساعات في الأسبوع، فتحاصرها وهي عائدة إلى حصن أعمامها، عبْر سيارة الأرياف الخانقة، رؤى مصيرها القادم مع سُحبِ كانون السوداء.
يستهلان أصبوحة العسل التي منحتها لهما، دون قصد، ظروف عملها بفطور لا يكتمل: يلتقيان على المائدة سافرَين. تتأمل معالم وجهه ويتأمل. يتقصّى منابت شعر رأسها. يهيم في بياض العنق الدقيق وصفاء العينين اللتين انتفى منهما كل شكٍّ في صدقِهما.تستقبل بفرح صلوات زوجها فتمسّد شعر ذراعيه، وتحضن بأصابعها وجهه النحيل. تمتدّ يداه فوق المائدة إلى ما تبدّى من حواء... ثم ما تخفّى. وتمتد يداها، فيغفوان بثيابهما، يبقى قدحا الشاي مترعَين.
تنهض متكاسلة لتضع لمسات الزوجة على البيت الذي ستُخْليه بعد ساعات، فتشرع ترتّب وتنظف وتمسح. ولكن آدم يظل يلاحقها، من الغرفة، إلى المطبخ، إلى الحمام. يمر بالشفتين على عنقها وهي تجلي الصحون، يضمها إلى قامته، فما تكاد تغسل آخِر صحن حتى تستسلم لمعابثاته.
وحين يجرف الماء والصابون آخِر عبق الحب الإلهي تنتهي السكرة وتأتي الفكرة. فيعودان مرغمَين إلى ما يهربان منه دون جدوى. يعرفان سلفاً أنهما فأران في مصيدة مهما اتّسعتْ. ومع ذلك تظل تقول له " دعنا نسافر إلى مكان لا تظلله رايات القبيلتين؛ وإلا فغامِرْ وأعلِن زواجنا! يقول لها " ولكنك من عرب الشمال وأنا من عرب الجنوب. الدم الذي في عروق الأسلاف خالَطَه من الثقافات والسفاهات، والمحللات والمحرمات، ما جعل امتزاجهما مستحيلاً. فتضرع إلى ربها " إلى متى يا ربّ ستبقى الشاهد الوحيد على حبنا؟! "
بعد آخِر لقاء، وفيما هي تغسل آثار الحب عن جسدها، راعها أن تموز الذي في رحِمها يتأهب للتمرد حتى غدا من المستحيل أن يخفى طويلاً عن العيون.ناشدت زوجها ولاسيما أنها مقبلة على عطلة إجبارية ستحرمها موسمين من مواسم الحب أن تنقذه من غضب الرب القابع في البيت، والذي جعله دفْقُ المال بين يديه قديراً على كل شيء، ناشدتْه أن يفعل شيئاً يُنجيها من القدر المحتوم. غير أن المسكين ما كان بيده حيلة إلا أن يواسيها:" بالصبر يا مريم وبالإصرار! لابد أن يضعهم هذا الإبداع الإلهي أمام الأمر الواقع".
لم تميز مريم في إطلالتها التي كلّفتها طاقتَها إلا عَماءً أشبهَ بالثقوب السوداء التي تبتلع النجوم. في السماء غيوم ماردة تندفع إلى الشرق، ونجوم خجلة سرعان ما تبتلعها كآبة الليل. أدركت مريم أنها لن تستطيع حتى لو اتسعت لها الكوة أن ترمي نفسها رغم أنها فكرت طوال الليل أن تستغل غياب الرقابة لتجرب مقاييس التهوية. شعرت بالخوف من هاوية تمتد خمسة طوابق مع قناعتها بان هذه السقطة أرحمُ من البشر، كما لو كانوا سيتلقونها بأحضانهم. سرتْ قشعريرة لم تدرِ أهي رجفة برد أم رجفة خوف. عصفت هبة ريح بالطبقات الأربع الخالية مهدِّدة بأن تحمل الطبقة الوحيدة المسكونة، فتهاوت على أرض الحمام المبللة.
مريم لدى عودتها إلى هذا الحصن المحمول على أربعة هياكل يسكنها الجن كمعتقل وسط الصحراء توجست من غياب أمها. حاصرت عيون أعمامها الخُزْرُ تموز الثاوي في أعماقها: " أنّى لك هذا يا مريم؟ " قالت " هو من عند الله " " لا إله إلا الله؛ ولكن كيف؟ مازلْتِ مخطوبة وخطيبك من يسأل" قالت " على سنة الله ورسوله؛ ألا تؤمنون بشريعته؟! " ولكنك على سنة العشيرة والأسرة" انصفق الباب المطل على العالم الخارجي، وأُعلنت حالة الطوارئ: لا دخول إلى البيت ولا خروج، لا ضيوف، حتى يقضي الله أمراً كان مكتوباً فيسقطَ تموز، وأنت إلى لعنة العنوسة الأبدية!"
" إلى الحمام يا فاجرة! "
وتبعتها الأحذية والقبضات. انهالت على كل موضع إصبع في جسدها الذي اغتسل من آخر آثار الحب قبل يومين، متقصدة ظهرها وبطنها" " يجب أن يسقط تموز المتشبث بهذا الظهر ". عشرات الركلات واللكمات انهالت على تموز الثاوي في أعماقها. تألم تموز وتألم، ولكنه تجلّد. تعرق الجلادون ثم تفرقوا مهددين: " إلى متى سيقاوم ابن الحرام هذا؟ "
تكومت مريم كتلة من اللحم المزرقّ ضامّة تموزها في أعماق أعماقها. وسرعان ما تناست آلامها. فقدتْ وعيَها للحظة ثم أفاقت مذعورة خوفاً من أن يخرّ تموز صريعاً على بلاط الحمام. ربتت على رأسه: " سنقاوم يا تموز؛ إياك أن تستسلم. نحن اقتحمنا هذا الكون، وعلينا إخضاعه "
داعب تموز سُرّتها. ابتهجت لدبيب الحياة في أعماقها. وسرعان ما تناست آلامها في انتظار الفرج الذي لابد قادم: " أنت يا تموز هِبة الخالق حتى لو كانت أمك آثمة، وهي ليست كذلك؛ فكيف يتخلى عنك وأنت ابن شرعي؟"
حين عادت الأحذية والقبضات كان دم كثير قد نزف. غير أن تموز ما زال عصياً. خبطوها، بل خبطوا ظهرها العنيد، وسرّتها، بكل ما يهتدي إليه الذهن: بحافة الحوض، بحافة الباب، بخافة المغسلة... تصببوا عرقاً من جديد، ثم انصرفوا مهددين: " سنرى إلى متى سيصبر هذا اللعين؟ "
عكست مربعات البورسلين التي تطْبق على مريم عشرات الصور لها وهي تتهاوى على البلاط الرطب. رأت مئاتِ النساء متورماتِ الوجوه، دامياتِ الأنوف والشفاه حتى فقدن أشكالهن، منتفخات الأرحام، مزرقّات البطون والظهور.
أحاطت بها السبايا والبغايا والقديسات من كل زمان ومكان. تضرّعن إليها أن تحافظ على تموزها. ولكنهن تلاشين في لمح البصر أمام عملاق حل محلّهن انتصب أمامها بأنف أحول، وشفتين متدليتين، وشعرات سوداء انزرعت فوق أعلاها كأشواك صيفية، وعلى جانبي اللحية كحقل من قمح مجدب، وحذاء طويل العنق والنعل. نظر الولد إبراهيم تلميذ الإعدادية الخائب بعينين مستقيمتين، من قامة عالية حدباء نظرات لا معنى لها. تضرعت إليه وتضرع تموز، ولكن عينيه كانتا عمياوين، وصدره مقفلاً.
تفقد الولد أرض المعركة المبلولة بكل شيء إلا بدماء تموز. ثم عاد إلى أعمامه بتقرير خائب: لا أثر لتموز!
بعد توقف القصف لساعات طلب تموز الطعام. عصرت مريم بقايا دمائها. سكبت فيها بقايا الحب الذي اقتاتته آخر مرة في عالم الحرية. عصرت مريم وسكبت حتى خارت قواها، وغارت في غيبوبة دونها تسليمُ الروح.نبت لها جناحان حملاها إلى مرآة حمام الطفولة حيث كانت تنضج يوماً إثْرَ يوم معالمُ أنوثتها فتداعبها حالمة بالليلة التي ستُقطَف فيها هذه الفاكهة. ثم عادت إلى حمام زوجها، فتعرّى وتعرّت قطعة قطعة أمام الحمام، حتى عادا إلى التكوين الأول للخالق. عانقا الكون، وطارا به إلى فضاء العِتق المطلق. اشتعل الجسدان البدائيان واشتعل الكون. تعرّفا بالأصابع والشفاه المحمومة كل الخبايا حتى سرت النار فيهما، فاتحدا حتى أطفأا النار المقدسة.
أطلّ الله مرة أخرى على مريم وتموز.
ولكن السماء والأعمام وأغلال القرون حجبت شمس النهار. تشاور الجلادون: " كل هذا وتموز يأبى، ومريم تتشبث. لابد أن روح الشيطان حلت في الولد، يجب أن نغير السلاح "
_ إبراهيم! صرخ الأعمام. تعالَ خذ علبة الدخان هذه. لا داعي بعد اليوم أن تخفيه. أنت الآن رجل، مثلك مثلنا.
والولد إبراهيم الذي أكل عشرات " الكفوف" من وراء هذه السيجارة اللعينة، وتشفعت له أمه ومريم من عشرات أخرى، أسرع فتلقفها، ثم نفث قهره في وجه مريم:
" صار أعمامك خمسة!" "يا إبراهيم أنا وأنت خرجنا من رحم واحدة". " أنا الآن رجل، لم أعد ذلك الولد الأهبل الذي يزفه تلاميذ الابتدائي في طريق المدرسة ". " ومع ذلك يسري نسغ واحد في عروقنا "
" أنتِ أنثى، يجب أن تُكسر هذه الضلع " " يا إبراهيم أنا في مقام أمك " " يا إبراهيم أنت الآن رجل" " يا إبراهيم أنت أخو تموز الذي في أحشائي " " يا إبراهيم لا تضعف امام إلهك المذكر، سيدِ الأكوان، منذ انتصر على عشتار " " يا إبراهيم لا تهرب مني، من نفسك، من أمك، من أم الكون "
" المسدس سيد الأكوان! "
ستعرف يا إبراهيم جلالة هذا القاتل الأعور: ساحرٌ لا يكلف العشيرة أكثر من بعض المال؛ وما أكثره عند أعمامك، وبعض الصلات والمشورات. يندسّ القاتل القزم في حجرة تُطبِق عليه. تتحرك بضعة نوابض فتختزل حضارة الرجل منذ حمل أول حجر في وجه أخيه، منذ قتل قابيل هابيل. يقف شامخاً على ذرا عصر الحديد والبرونز والفضاء. يطوي في لحظة ما أبدع الكون في دهور. يسلب الروح من مليارات الخلايا، تماماً كما نظمها المبدع في غمضة عين.
" المسدس يا إبراهيم! "
لم تعد أهبل يا إبراهيم. أنت الآن الرجل الذي سيبتر الضلع القاصر من ضلوعك. ستنسى متى أطبقت كفك الغضة على حديده البارد، وستنتصب قامتك العوجاء. وأصابع تلاميذ الابتدائي التي كانت إلى الأمس تزفّك بالهتافات ستشير إليك مبهورة: هاهو القاتل؛ لقد أصبح رجلاً!
المسدس يا إبراهيم بيدك، والسيجارة تنفث بقايا ضعفك. لم يبق بينك وبين استواء الرجولة إلا أن تحرك سلامية واحدة. تستريح بضعة أشهر، وربما أيام، في السجن، مصنع الرجال. وقد تعفيك منها ثروة أعمامك المتنامية كالسرطان. ستكون أمثولة حتى في سجنك: لقد استرد الشرف المسفوح؛ فيحق لك أن تخرق بمسدسك الآخر، وبرعاية الأعمام، مثلث الشرف الذي يُعنْوِن كل رجولة.
بالمسدس يا إبراهيم ترتاح من المدرسة وأوجاعها، تسبح في ثروة أعمامك. انظر ما جنته مريم من عملها ومن شهادتها! سينبت شاربا القبيلة في وجهك. وينطبع وشمُها على جبينك. وتنعقد رايات عرب الشمال وعرب الجنوب في ديارك. بين عينيها يا إبراهيم. إياك أن تضعف! سيحاسبك النصف المذكر من الخليقة. ستتخطى عتبة الطفولة إلى سماء الرجولة. لا تضعف، اترك الرحمة للنساء!
" انظري يا مريم؛ ها أنذا رجل بمسدسين! "
لم تستطع مريم أن ترفع قامتها مرة أخرى إلى كوة الحرية. توسلت إلى الحياة الكامنة في أعماقها. وتوسلت هي إليها. خاطبت الرب الذي زرع الحياة في أعماقها فلم تسمع جواباً. لم تستطع أحشاؤها أن تغذي الرشيم الكامن في الأعماق. تلمّظت شفتا الطفل المحتمي بأدفأ زاوية في الكون. تلمّستا النهدين لعل ماء الحياة يتدفق. خرمشت البورسلين الصقيل بأظفارها، ولكن الجناحين اللذين حملاها في الليل انكسرا.
" بين العينين أيها المسدس! "
" انظري يا مريم؛ لا ترفعي العينين! "
حسناً أيها القاتل. انزل شبراً، شبراً واحداً، واقطع وتر الحياة من جذره فلا يكون بعدُ حبٌّ ولا رعب!"
وأنت يا إبراهيم سترى بعينيك كيف يتدفق العار من القلب فيعمّد رجولتك، ويغسل شرف العشيرة. الدم يا إبراهيم خلاصة الحياة وعنوان الشرف.
الدم يا إبراهيم!
...
عظيم يا إبراهيم أصبحت بطلاً!
ولكن لا دم، ولا خلجة على وجه مريم، ولا نأمة في أعماقها سوى رجّة الصدمة.
الدم، الدم؛ ولكن لا أثرَ لدم!
ثبّت عينيك في الصدر: النهد الذي كان سيرضع تموز لابد سينبجس دماً يرويك.
إياك! ثبّت عينيك. ماذا؟ ترى مريم مريمين؟ وترى تموز انبجس من السماء؟!
حقاً لأمر مؤسف أن تغسل عارك بلا دم! ولكن لا بأس؛ فسيشهد الجيران أنك غسلته بالدم، وتشهد بصماتك، وتغفر لك الثروة، وتشير إليك الأصابع.
وسيحمل مريمَ وتموزها بضعةُ مأجورين، في شاحنة صغيرة أو كبيرة، ملفوفَين بخرقة لا نفْعَ فيها وكأن الدم يسيل منهما، إلى الأرض التي تلد الجميع، وتبتلع الجميع.
الأسبوع الأدبي العدد 567 28 /6 / 1997